نتناول في هذه الدراسة مسيرة قائد ومفكر حافلة بالإنجازات الفكرية والسياسية على الرغم من استهدافه وعزله المستمر من قبل مصلحة السجون، حيث اعتقل قبل اتفاق أوسلو ورفضت إسرائيل إطلاق سراحه على مدار أربعة عقود، مثلت حياته في السجون تجربة فريدة من نوعها، حيث تزوج ورُزق بطفلة وهو في السجن، واستشهد في السجن، وما زالت إسرائيل ترفض الإفراج عن جثمانه.

أولًا: حياته الشخصية والتنظيمية

وُلد وليد نمر أسعد دقة في الأول من كانون ثاني/يناير عام 1961، من باقة الغربية في منطقة المثلث شمال فلسطين المحتلة، وتتكون عائلة وليد من الوالد الذي توفي سنة 1998 وهو في الأسر، ومن والدته الحاجة الطاعنة بالسن (توفيت لاحقاً بعد إعداد الدراسة في تموز 2024)، وله ستة أشقاء وثلاث شقيقات[1]. تعلم وليد في مدارس المدينة، وأنهى دراسته الثانوية فيها، وعندما لم يحالفه التوفيق في إكمال تعليمه والالتحاق بالجامعة، انتقل إلى العمل في إحدى محطات تسويق المحروقات، وعمل في ورش البناء والمطاعم والفنادق[2].

اعتُقل وليد برفقة إبراهيم ورشدي أبو مخ، وإبراهيم بيادسة في 25 مارس/آذار 1986، حيث اتهموا بالانتماء إلى الجبهة الشعبية، واختطاف جندي وقتله في أوائل عام 1985، وحكم عليهم بالسجن المؤبد مدى الحياة [3]. وفي ضوء اتفاق أوسلو، وما أفرزه من وقائع سياسية جديدة، اختار وليد أن يكون عضوًا في التجمع الوطني الديمقراطي، وقد انتُخب غيابيًا عضوًا في اللجنة المركزية للتجمع في سنة 2000[4].

لم يستسلم وليد، وراح يحول ظلمة الزنزانة إلى نور يسري مداده في نفسه ونفوس الأسرى في السجون التي يتنقل بينها. كان مشعل الضوء ووهج الصمود لهم[5]، واكتسب وليد وهو في السجن خبرات واسعة في حياته الاعتقالية، وقدرات ثقافية عالية وتمكن من مواصلة تحصيله الأكاديمي في المعتقل ملتحقًا بجامعة تل أبيب المفتوحة لدراسة العلوم السياسية، ومنها حصل على شهادة البكالوريوس في عام 2000، واستكمل الدراسات العليا في الجامعة ذاتها، وقد اختار دراسة الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان ليحصّل درجة الماجستير في عام 2008[6]، وحصل على ماجستير ثان في دراسات إسرائيلية من جامعة القدس في عام 2014[7]، ويعدّ من أبرز مفكري الحركة الأسيرة، وله عدة مؤلفات وبحوث مهمة أبرزها صهر الوعي، وحكاية سر الزيت رواية لليافعين، التي حصدت جائزة الاتصالات الإمارتية لأدب اليافعين[8].

ثانيًا: الاعتقال والإضراب والعزل

1- الاعتقال من جانب الاحتلال الإسرائيلي

اعتُقل وهو في الخامسة والعشرين من عمره، إثر انتمائه إلى الجبهة الشعبية وإدانته ورفاقه بالعضوية في خلية نفذت عملية خطف وقتل جندي إسرائيلي، بهدف مبادلته بأسرى فلسطينيين، وأصدرت المحكمة بحقه حكمًا بالسجن المؤبد، ورفضت إسرائيل الإفراج عنه في أي صفقة ماضية، بحجة خطورته على إسرائيل[9].

ويصف وليد لحظة اعتقاله بقوله “إن الاعتقال صدمة للعقل والجسد، فهو اللحظة التي تنتقل فيها من لحظة أنت بها حر جسدًا، إلى حياة جسدك مسيطر عليه من آسرك، وأنا في هذه اللحظة كان عقلي، وربما روحي، تتأمل هذا الجسد الذي أُسر من خارجه كأنه جسد شخص آخر، أو ربما أيضًا سلم عقلي بعقلانية باردة بأن الجسد الممدد في سيارة الجيب مقيدًا لم يعد من مسؤوليته، لأنه مهما أجهد خلاياه فلن يكون قادرًا على أن يمنع ما قد يلحقونه به من ألم”[10].

وفي هذا الإطار يقول وليد “السجن مكان حقير، وهو فعلًا أسوأ اختراع صنعه الإنسان، ولكن الأسر هو الأخطر من السجن كمكان، أي السجن كعقلية أو ثقافة، فهذا الذي بين أكتافنا يمكن بسهولة أن يتحول إلى زنزانة يسجن صاحبها، رغم أن جسده حر طليق، … وللتغلب على السجنين، سجن المكان والعقل، لا بد من الوعي والتثقيف، وهذا ما كانت تبذل الحركة الأسيرة فيه جهدًا… فهناك فرق كبير بين التحرر والحرية: الأولى هي النضال ضد الخارج، والثانية هي النضال الداخلي الأصعب، لبناء المجتمع والدولة”[11].

وفي سنة 2006 قدم وليد طلبًا إلى رئيس هيئة أركان الجيش في حينه دان حالوتس، ضد الحكم الذي صدر بحقه في المحكمة العسكرية في اللد، وتم رفض تحديد عقوبة السجن المؤبد، بعد هذا القرار توجه وليد باستئناف إلى المحكمة العليا ضد قرار حالوتس، وتأجل صدور القرار في العليا عدة مرات، حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2008، حيث قررت المحكمة استنادًا إلى رفض حالوتس، أن ترفض الاستئناف بدورها، واقترحت رئيسة المحكمة على محامي وليد سحب الاستئناف، وذلك حتى لا يصدر قرار برفضه، ولكي تبقى الفرصة القضائية متاحة لتقديمه في ظروف مغايرة[12].

وفي 27 آب/أغسطس 2012، قرر الرئيس الأسبق شمعون بيرس ووزير القضاء الأسبق يعقوب نئمان المصادقة على توصية لجنة الإفراجات التابعة لإدارة السجون القاضية بتحديد فترة السجن المؤبد الصادرة ضد سبعة أسرى منذ عام 1948 من 30 -45 سنة، ومنهم وليد بتحديد المؤبد بـ 37 سنة[13]. وأضاف الاحتلال سنة 2018 على حُكمه سنتين ليصبح 39 سنة[14].

وفي هذا الخصوص يبين وليد على المستوى الشخصي، أن للروابط الأُسرية دورًا كبيرًا في تعزيز قدرته على تحمل عبء سنوات الأُسر الطويلة، ولا سيما أمه فريدة، وزوجته سناء التي ربطت مصيرها بمصيره، فهذا الحب الكبير الذي أحاطته به سناء، لم يعزز فقط قدرته على الصمود، بل منحه حبها القدرة على إعادة إنتاج ذاته كتابة وإبداعًا، ويضيف وليد بأن أسوأ ما في الزمن داخل الأسر، دائريته المملة والمتكررة إلى حد اللزوجة تمامًا، كباحة السجن التي يدور فيها الأسرى حول لا شيء[15]. وفي أيار/مايو2018، أصدرت المحكمة حكمًا بإضافة سنتين إلى سنوات أسر وليد، إثر الادعاء بضلوعه في قضية إدخال هواتف نقالة للأسرى، وهي القضية ذاتها التي سجن بموجبها النائب السابق باسل غطاس مدة سنتين[16].

أ- زواجه وهو في السجن

تعرف وليد على سناء سلامة من مدينة اللد عام 1996، حين زارته في سجنه لتكتب عن الأسرى ومعاناتهم كونها كانت تكتب لصحيفة الصبار التي تصدر في مدينة يافا، وعقدا قرانهما في 10 آب/أغسطس 1999، وقد تقدما بطلب لعقد القران في السجن، وأن يسمحوا لعائلتيهما إضافة إلى 22 أسيرًا من أصدقاء وليد في المشاركة، في البداية رفضت إدارة السجون، ولكنها بعد ذلك وافقت على أن يشارك 9 أسرى فقط، وفعلًا تزوجا على الورق، الأمر الذي مثّل سابقة في تاريخ الحركة الأسيرة[17].

رفض الاحتلال منح الزوجين فرصة التواصل الطبيعي لإنجاب طفل، واستمر وليد وسناء بنضالهما القانوني من دون أن يفضي إلى أية نتيجة إيجابية، حيث رفضت إدارة السجون للزوجين الاجتماع سويًا، وذلك بحجة تشكيل خطر على أمن الدولة[18]. طالب وليد من سلطات السجون السماح له بإنجاب الأطفال منذ عام 2004 إلا أن سلطات السجون رفضت ذلك بحجة أنه مصنف أمنيًا وأن لقاء زوجته عن قرب سيشكل ضررًا على أمن الدولة، وفي 2008 التمس إلى المحكمة في مدينة الناصرة لإلغاء قرار سلطة السجن، والسماح له بإنجاب الأطفال إلا أن المحكمة المركزية رفضت التماسه في 21 أيلول/سبتمبر 2009، ومن ثم تقدم بالتماس إلى المحكمة العليا في مدينة القدس ولم ترد المحكمة العليا على التماسه[19].

بعد الرفض المتكرر من سلطات السجون تحت ذريعة التصنيف الأمني، هرب وليد نطفة إلى الخارج[20]. وأعلنت زوجته على الملأ، في بلدتها باقة الغربية، أنها حامل، وأنها تستعد لإنجاب ابنة من زوجها، بعد أن تمكنت من تهريب نطفة منه خلال زيارتها له[21]. فبعد انتظار دام 21 عامًا رزق الأسير بابنته ميلاد البكر في الثالث من شباط/فبراير 2020، وذلك بعد حمل زوجته عن طريق النطفة المهربة، وميلاد هو اسم رواية أصدرها وليد وتحدث فيها عن طفله حيث كان يحلم أن يكون أبًا في يوم من الأيام بعدما أهدر الاحتلال أجمل أيام شبابه[22]. وأعلنت سناء بمنشور على حسابها، أنها وضعت مولودتها في مستشفى الناصرة، كما أكدت أن “اليوم حطمت ميلاد جدران السجن وحررت والدها من قيده مبشرة بميلاد الحرية، ميلاد التحدي.. اليوم جاءت ميلاد إلى الدنيا في مدينة البشارة – الناصرة لتكون ميلادًا للبشارة، حاملة نور المحبة والسلم”.[23]

ففي رسالة من داخل سجنه سنة 2011 عنونها “لطفل لم يولد بعد”، جاء فيها “أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق، أكتب لأي طفل كان أو طفلة، أكتب لابني الذي لم يأتِ إلى الحياة بعد، أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا”[24]. وفي هذه المناسبة، أطلقت الأسيرة المحررة والشاعرة دارين طاطور قصيدة بعنوان “ثورة الحب ميلاد” قصيدة مهداة لوليد وسناء بمناسبة ولادة طفلتهما ميلاد[25].

وفي هذا السياق، يبين رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين عبد الناصر فراونة، بأن فكرة تهريب النطفة وزراعتها بالأنابيب كانت تناقش بخجل بين عدد قليل من الأسرى وزوجاتهم، إلى أن نجحت أول عملية تهريب نطفة للأسير عمار الزبن المحكوم بالمؤبد، لتنجب بعدها زوجته في 2012 وهو داخل السجن، وبعد ذلك سار على دربه العديد من الأسرى. وتعبر ظاهرة تهريب النطفة عن الهم الإنساني الذي يعانيه الأسرى، فقد لجؤوا إلى هذه الطريقة بسبب أحكامهم العالية[26].

وعليه، تقوم إدارة السجون بفرض إجراءات انتقامية بحق الأسرى الذين يقدمون على تهريب النطف، وذلك إما بعزلهم كحال وليد، أو زيادة فترات سجنهم، أو فرض غرامات مالية باهظة بحقهم، وأحيانًا الانتقام من زوجاتهم بإخضاعهن للتفتيش شبه العاري وللتحقيق، كما ترفض إسرائيل الاعتراف بأطفال النطف المهربة فهم من وجهة نظر إسرائيل أطفال غير شرعيين، وبالتالي تحرمهم حق زيارة آبائهم داخل السجون[27].

يقول الشيخ عماد حمتو، في اتجاه آخر، أحد علماء الأزهر الشريف “لا يتعارض تهريب النطفة الخاصة بالأسرى مع الشريعة الإسلامية، فهو يحقق مبدأً شرعيًا وفقًا لشروط ينبغي بها أن تكون واضحة وثابتة من الناحية الشرعية والطبية، بحيث يتأكد الطبيب الذي يقوم بزرع هذه النطفة من شهادة الشهود وحلف اليمين من أن هذه النطفة تعود للأسير المراد زراعة هذه النطفة في زوجته، حتى لا يتسرب أي مفهوم من مفاهيم الشبهة في هذه القضية، وأن المسألة من الناحية الدينية تتناسب معها من الناحية الوطنية، فالأسرى هدفهم هو مقاومة الاحتلال، فهذا الشيء يعمل على زراعة الأمل في نفوس الأسرى من أجل الصمود ومواصلة النضال”[28]. وقد وصل عدد سفراء الحرية – الأطفال الذين تم إنجابهم من النطف المهربة- خلال عام 2020 إلى 95 طفلًا، وهو ما رفع أعداد الأسرى الذين خاضوا التجربة إلى 67 أسيرًا[29].

وما زال الاحتلال عاجزًا عن اكتشاف كافة طرق تهريب النطف من داخل السجن، وإن كان تعرف إلى بعض الطرق، إلا أن الأسرى يبدعون في إيجاد بدائل لاستمرار صراعهم مع المحتل، الذي يحاول قتل روح الأمل والحياة في نفوسهم، ويعتبر الأسرى استمرار عمليات تهريب النطف من داخل السجون رغم الإجراءات والعقوبات ضدهم انتصارًا معنويًا وأملًا في الحياة لا ينقطع[30].

لم يعد غريبًا على الشارع الفلسطيني سماع نبأ مولد ابن أو ابنة لأسير، هؤلاء الذين جاؤوا عبر نطف مهربة، وبات يطلق عليهم سفراء الحرية، لكن الحالة تختلف مع “ميلاد” ابنة وليد، الذي لطالما أزعجتهم نصوصه التي هربها كما نطفته[31]. يقول المحامي حسن عبادي “التقيت وليد في ذكرى يوم اعتقاله السادسة والثلاثين، لكن السنين لم تحبط عزيمته. تحدثنا عن ميلاد وحرقته بعدم السماح له بلقياها، وعدم السماح بتسجيله كوالدها في السجلات الرسمية ووصفها بسخريته السوداوية القاتلة “زي السيارة المسروقة”[32].

ب- وضعه الصحي

تعرض وليد لعدة مشكلات صحية، وماطل الاحتلال في إجراء الفحوص اللازمة له أو عرضه على طبيب، حيث تم إجراء فحوصات له سنة 2015، تبين أنه يعاني من مرض بوليسيثيميا، وهو مرض تكثف الدم من كثرة كريات الدم الحمراء، الأمر الذي يتطلب إجراء عمليات فصد بمعدل مرتين أسبوعيًا وبشكل منظم ودائم[33]. وكان بحاجة لمتابعة طبية حثيثة لحالته الصحية، وإلى تلقي دوائه بشكل منتظم وشرب مياه معدنية، وبسبب حرمان وليد من الكانتينا يضطر للشرب من مياه الصنبور غير المناسبة لحالته الصحية[34].

وفي هذا الإطار، تقول زوجته “في الزيارة لوليد، لم أقابله، بل قابلت نصف جسد، جسد منهك، كذاك الشاب الذي خرج للتو من إضراب طويل عن الطعام، مما يعانيه من ظروف قاهرة في العزل”، مشيرة إلى أن هناك العديد من الأطباء والحقوقيين فشلوا في تحديد موعد ليزوروا وليد للاطمئنان على حالته الصحية.[35]

ج- العزل الانفرادي والإضراب عن الطعام

تلجأ إدارة مصلحة السجون للعزل الانفرادي في زنزانة إما لأسباب أمنية أو كسياسة عقاب، دون أن تقدم لهم العلاج المناسب وبخاصة الذين يقضون فترات طويلة في العزل. ويخول فرض هذه العقوبة لكل من مدير مصلحة السجون أو مدير السجن لمدة لا تتجاوز 14 يومًا غير متواصلة. كما يخول القانون لمحاكم الاحتلال بإصدار قرار يقضي بحجز المعتقل في العزل لـ6 أشهر في غرفة لوحده و12 شهرًا في غرفة مع معتقل آخر، وتخول المحكمة بتمديد عزل المعتقل فترات إضافية ولمدد لانهائية.[36] في 25 كانون الثاني/يناير 2017، نقلت إدارة السجون وليد إلى قسم العزل الانفرادي في سجن ريمون، بذريعة مراسلة محاميه، وفي الثاني من شباط/فبراير رفض وليد تلقي العلاج من طبيب السجن احتجاجًا على عزله دون إعلامه بتفاصيل أو مدة العزل، ولعدم ملاءمة العلاج في عيادة السجن.[37]

وفي هذا الإطار، يبين فروانة أن الأسير وليد “من أبرز المثقفين والمؤثرين داخل السجون، وسياسة العزل الانفرادي سياسة للقمع والتنكيل بحق الأسرى، وأن ما يرتكب بحق القائد وليد هي سياسة ممنهجة للنيل منه ومن فكره، ومن فلسفة التفكير التي يملكها، وبخاصة في ظل الحراك النضالي المُستمر داخل السجون”[38]. كما تعرض وليد للعزل الانفرادي في أزمة النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي غطاس الذي اتهمه الاحتلال بتهريب أجهزة هواتف خلوية للأسيرين وليد وباسل البزرة خلال زيارة قام بها إليهما في السجن[39] .

وفي كانون الأول/ديسمبر2019، نقل وليد إلى زنزانة العزل الانفرادي بعدما حرضت جماعات إسرائيلية متطرفة على زوجته سناء إثر إعلانها أنها حامل من نطفة محررة لزوجها، وطلبت إدارة مصلحة السجون من وليد التوقيع على ورقة بأنه لم يهرب النطفة، لكنه رفض، وإثر ذلك تم عزله.[40] وفي الثامن عشر من شباط/فبراير 2020 نقل وليد إلى عزل جلبوع في إثر إنجاب زوجته، حيث صودرت جميع كتبه وأوراقه قبل عزله، كما حرمته إدارة السجن من الكانتينا، وتعمد إدارة المعتقل إلى تمديد عزله كل 48 ساعة[41].

ثالثًا: دوره النضالي في السجون ورفض إطلاق سراحه

1-على المستوى الاعتقالي العام

لقد برز وليد قائدًا في جميع نضالات وإضرابات الأسرى، يجيد إدارة المعارك مع إدارة السجون، وموقعه دائمًا في مقدمة المعارك التي يخوضها الأسرى مع السجانين[42]. لا يخشى وليد على الحركة الأسيرة من القوانين الإسرائيلية، إنما الخطر الحقيقي من وجهة نظره هو الانقسام، ففي سياق النضال الوطني المشترك، تتبلور القيم الجامعة التي تمثل البنية التحتية للهوية الوطنية، وعندما تصبح هناك في ظل الانقسام مشاريع وطنية، وليس مشروعًا وطنيًا، لا يفرز هذا النضال قيمًا جامعة، بل تتعزز قيم الفصيل، وتتفكك الهوية. ويبين وليد أن الحركة الأسيرة كانت المعقل الأخير لإنتاج مثل هذه القيم، ولكن في السنوات الأخيرة لم يعد نضالها مشتركًا، وهناك تهديد لمركباتها[43].

2- رفض إطلاق سراحه

رفضت إسرائيل الإفراج عن وليد بعمليات تبادل الأسرى التي جرت بعد اعتقاله، كما رفضت أي حديث عنه وعن أسرى من الداخل الفلسطيني من قبل المفاوض الفلسطيني، وبالتالي تجاوزته إفراجات العملية السلمية[44]. فقد كان من المفروض أن يتم الإفراج عنه ضمن الدفعة الرابعة والأخيرة في 30 آذار/مارس 2014 في إطار التفاهمات الفلسطينية-الإسرائيلية برعاية أمريكية، لكن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، تراجع قبل أيام من موعد الإفراج عن الأسرى وخرق التفاهمات[45].

وفي هذا الصدد، يصف وليد شعوره بقوله “تسألني عن شعوري فيما الآلاف من الأسرى يطلق سراحهم، أما أنا وأقراني باقون في السجون، ما هو شعورك وحركة التحرر، التي ناضلت في صفوفها، تدير لك ظهرها، وتعقد اتفاقية سلام دون أن تأتي على ذكرك، إلا لاحقًا كعنوان وكموضوع عام، تاركةً لإسرائيل أن تقرر التفاصيل والأسماء، فهذه الاتفاقية، كما جزأتنا كشعب، جزأتنا كأسرى”[46].

ويضيف وليد “ياسر عرفات، من وافق على أوسلو، يتحمل مسؤولية بقائنا في السجون، فهو لم يشترط الإفراج عن الأسرى، لأنه امتداد لعقلية وثقافة النظام العربي، الذي لا يقيم وزنًا للإنسان، وهذا، لا ينتقص من رمزيته، فهو لم يجد تعارضًا أو حرجًا بين عودته وبقاء الآلاف من المناضلين في السجون، فلماذا يحرج أبو مازن اليوم من الاستمرار بالتفاوض أو العودة إليها دون اشتراطها بالإفراج عن جميع الأسرى”[47].

رابعًا: إنتاجه الأكاديمي والروائي والثقافي الغزير

يعد وليد من أبرز مفكري الحركة الأسيرة، وله العديد من المقالات والكتب التي تدرس في عدة جامعات أبرزها الدولة والدولتين، جنين تقاوم، وصهر الوعي، وحكاية سرّ الزيت، رواية لليافعين، التي حصدت جائزة اتصالات الإمارتية لأدب اليافعين[48]. وتدور أحداث حكاية سر الزيت حول صبي فلسطيني يحاول ابتكار طريقة للتمكن من زيارة والده في السجن، فوليد يخوض رحلة في عقل طفل فلسطيني يريد أن يزور والده الأسير فيختبئ داخل شجرة زيتون سيتم نقلها إلى الداخل، ومن هناك، وعبر الاختفاء بوساطة “زيت الزيتون المقدس”، يستطيع الطفل دخول السجن للزيارة، وحين يخير السجين بأن يتم إخراجه عبر “الزيت المقدس”، يختار أن ينقل الطلاب الذين لا يستطيعون الوصول إلى جامعاتهم بقوة دفع هذا الزيت العجائبية، مقدمًا تعليمهم على حريته[49].

يستمد وليد، في روايته، من شجرة الزيتون العريقة كل عوامل الصمود والإرادة، ويدعو إلى العودة إلى القيم الوطنية والأخلاقية والوحدة وترتيب الأولويات، فقدان العقل والأخلاق وعمومية الجهل هو أخطر من السجن، وهو بذلك يخشى في حكايته من أن الشعب الذي قاتل ضد الاضطهاد في مرحلة من المراحل، نراه مع المعركة الطويلة والمستمرة من أجل الحرية يتآزر مع أعداء الحرية من خلال الامتيازات والمصالح الضيقة والفئوية[50]. إضافة إلى نص الزمن الموازي الذي يصف من خلاله وليد حالة السجناء ونظام حياتهم داخل الزنازين، وتم تحويله إلى مسرحية قُدمت على مسرح الميدان في مدينة حيفا المحتلة، فأربك سلطات الاحتلال، التي أخذت تبحث عن كيفية تسريب النص المسرحي خارج السجن، وكيف تتجرأ فرقة مسرحية فلسطينية بتحويله إلى عمل مسرحي وتقديمه للجمهور.[51]

وفي هذا الإطار، يصف الروائي الأسير كميل أبو حنيش إبداعات وليد الأدبية بقوله “ولا يملك المرء إلا أن ينحني أمام هذه الإرادة الشامخة، وعطاء قلمه النابض بالفرح والأمل والسخرية الجميلة التي تنطوي على كل ما هو إنساني ومبدأي وجميل، وما يميز كتابات وليد المتنوعة، أنها كتبت في محطات مختلفة أثناء رحلته المتعبة في السجن، كما أنها تمتاز بالعمق والسلاسة والانسيابية والروح النقدية والشغف والتلقائية”[52].

يكتب وليد حتى يحرر نفسه من السجن على أمل أن يتحرر السجن منه، رافضًا الانصهار في واقع السجن، ليكون بقلمه وعقله ورؤيته فاعلًا من داخل السجن وليس خاضعًا لأفعال السجن والسجانين، فهو اعتقُل ليحرر لا ليتحرر[53]. فيبين وليد أن الهدف من كتاباته هو الصمود في الأسر، ويضيف وليد “خيالي العقلي ينشأ واقعًا آخر يتجاوز أسوار السجن، والكتابة عملية تسلل خارج السجن أحاول أن أمارسها يوميًا، وهي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية”[54].

خامسًا: الموقف من القضايا السياسية على الساحة الفلسطينية والعربية

1- الانتماء الوطني والانتماء الحزبي الفلسطيني

يبيّن وليد في ما يخص الانتماء الوطني والحزبي بوجه عام، بأنه يعتبر انتماءً حديثًا نسبيًا نشأ مع نشوء الدولة القومية الحديثة، وما حملته للمجتمعات البشرية من آثار وتداعيات على رؤية المجتمعات لأنفسها وإدراك الفرد في المجتمع الغربي لنفسه في سياق محاولاته في الإجابة عن السؤالين من نحن؟، ومن أنا؟ ولما كانت الحداثة قد فككت أو صهرت، مجمل الأطر الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية القائمة في فترة الإقطاع القائمة على الانتماءات الأولية وسكبتها في قوالب (الانتماءات) جديدة منهيةً تلك الانتماءات كرابطة الدم والعشيرة والقبيلة أو حتى الطائفة الدينية، ولما أصبح مطلوبًا للفرد أن يجيب عن السؤال من أنا؟، فقد انتمى طوعًا للمجتمع المدني الممثل بالأحزاب والنقابات وغيرها[55].

ويرى وليد في الانتماءات الوطنية في الوطن العربي بأنها نتاج تقسيمات وحدود قررها الاستعمار في تقسيمه للوطن العربي في سايكس بيكو، أن تبلور هذا الانتماء الوطني وأن تشحنه بقيم من خلال مؤسسة التربية والتعليم ومؤسسة الجيش بصفاتها المؤسسات الأكثر قدرة على بلورة الانتماء الوطني لدى هذه الشعوب. فإسرائيل التي تعدّ نفسها أنها نشأت في نفس السياق، كان للمؤسسة العسكرية دور مركزي في بلورة الانتماء الوطني، عندما نقارن بين ما أنجز إسرائيليًا وما لم ينجز عربيًا فإننا نجد بأن السبب في فشل الأنظمة العربية الحديثة في بلورة الانتماء الوطني هو أنها لم تمتلك الأداة الديمقراطية الداخلية الذي يعتقد بأنها الأداة المركزية لحل التعارضات بين مركبات المجتمع وتحويلها من طاقة هدم إلى تعددية بناءة تغني المجتمع والدولة[56].

ويضيف وليد بأن الحالة الفلسطينية مختلفة، ولا سيما أن النكبة مزقت النسيج الفلسطيني وشتتته وخصوصًا الروابط العشائرية التي توزعت على مجموعة من الدول ومخيمات اللجوء، كما أجهزت على الطبقة الوسطى الناشئة وحالت دون تبلور الانتماء الوطني كما في السياق العربي أو الأوروبي، النكبة كحدث مؤثر تبلورت حولها منظمة التحرير التي قامت ببلورة وشحن الهوية الوطنية وأصبح هذا الانتماء خلال العشرين عامًا الأولى من انطلاقة المنظمة تمثل الكل الفلسطيني في الوطن والشتات[57].

كانت المنظمة تغذي الهوية والانتماء الوطني بقيم الكفاح والتضحية والفداء، وهذه القيم مثلث البنية التحتية للانتماء الوطني، وأنهت حالة الانقسام ما بين مجلسين وحكوميين، ولكننا أعدنا إنتاج هذه الانتماءات في إطار فصائل وأحزاب بالشكل الحديث، ولكنها من حيث المحتوى إعادة إحياء العشائر في داخلها خاصة عندما أصبح لنا سلطة في طريقها إلى الدولة تم إحياء المجلس العشائري لا للتقاضي فحسب وإنما كأداة سيطرة سياسية ومفتاح للتوظيف والمشاركة السياسية، في المقابل تم إضعاف منظمات المجتمع المدني والصحافة والنقابات التي تساهم في بلورة الشعور للانتماء للوطن[58].

إن الأخطر من وجهة نظر وليد هو النضال والكفاح المسلح في الانتفاضة الثانية، الذي تحول من أداة لمواجهة الاحتلال إلى أداة تجنيد، فأصبحت القدرة على تجنيد الناس من حول الفصيل أهم من العملية المسلحة، عندما تغيب الديمقراطية الداخلية في الفصيل ولا يتم شحنه بالروح الشبابية تتكلس مفاصله ويتحجر عقله القيادي، هذه الحالة حالة عامة في جميع فصائل المنظمة، عندها يتحول الفصيل لغاية، وعندما يصبح الفصيل ووجوده غاية يصبح الوطن والانتماء الوطني وسيلة[59].

أ- الانقسام الفلسطيني

يرى وليد أن القيادة الفلسطينية، ومعها الفصائل، جزءًا من الأزمة وليسوا جزءًا من الحل، فالقيادة أصبحت عقبة أمام الإرادة الشعبية في إنهاء الانقسام، والأزمة تبدأ في الوضع الداخلي للفصائل، التي تحول دون تجديد كوادرها واستيعاب القطاع الشبابي في صفوفها القيادية، وتستخدم لهذا الغرض تأجيل المؤتمرات وتهندس نظمها الداخلية، لإبقاء الوضع القيادي عليه، والنتيجة أن هذه القيادة عطلت داخليًا إمكانية تجديد الخطاب عبر مراجعة المواقف ونقدها، وعطلت الإرادة الشعبية، وبالتالي، غيبت المؤسسة الوطنية[60].

ويضيف وليد أن الفصائل والقيادة الفلسطينية، لا يمثلون عنوان التغيير والخروج من الأزمة، هذه الأدوات النضالية، التي أدت دورًا تاريخيًا منذ ستينيات القرن الماضي انتهى دورها التاريخي بصيغتها التنظيمية والسياسية القديمة، وقد حولها تَكلُّسها وتعطيل قدرتها على التجدد إلى أجسام ليست ذات صلة بهموم وقضايا الشعب الفعلية. فوليد لا يستطيع استيعاب أولئك الذين يخونون بعضهم بعضًا، ثم يعاودون الجلوس على طاولة واحدة والتفاوض على الشراكة والمصالحة، فإما أنهم يكذبون على شعبهم وعلى أنفسهم عندما خانوا، وإما يكذبون على الفلسطينيين في موضوع إنهاء الانقسام. فوليد لا ينتمي، للذين يصفون القيادة بـالقيادة الحكيمة، ولا لأولئك الذين يرونها خائنة، فهو يرى بأنها قيادة فاشلة وضعيفة ومتكلسة، وتجاوزها الواقع[61].

ويبين وليد أن هناك سبيلين للخروج من أزمة المشروع الوطني، تغيير رأسي من داخل الفصائل وعبر حوار وطني، أو تغيير قاعدي من أسفل عبر قوى ونضالات شعبية ناشئة، تتجاوز الأطر والفصائل[62]. وفي هذا الإطار يقول وليد “للأسرى مكانة سامية في ضمير الشعب وتضحياته، ويحملون رسالة تضحية ونضال عبّروا عنها في وثيقة الوفاق الوطني، داعين قوى الشعب للوحدة والتلاحم الوطني، لأنهم يعون جيدًا أن الانقسام والتجزئة في النضال والجغرافيا قد غيّب وأضر بمسيرة النضال ضد الاحتلال”[63].

ب- موقفه من ترشح مروان البرغوثي

يعتقد وليد بأنه في حال جرت الانتخابات الرئاسية، سيرشح البرغوثي نفسه، ولكن الأهم من وجهة نظره هل تشكل الانتخابات فرصة للخروج من الأزمة؟، فالمأزق الوطني الذي يعيشه الشعب لا يحتمل دخوله في نفق أزمات ومناكفات جديدة عادة ما تنتجها الانتخابات، وبخاصة إذا قدمت الكتلتان الكبريان على الساحة الفلسطينية، فتح وحماس، مرشحين عنهما، بهذه الحالة المرشح المنتصر في الانتخابات سيكون منتصرًا ليس بشعبه وإنما على شعبه، وسيبقى الفلسطينيون في نفس دائرة الانقسام والأزمة، ولا سيما أن ثلث الشعب الفلسطيني لن يشارك في انتخابات تعيد إنتاج الأزمة. فالانتخابات، إن جرت، يجب أن تشكل الخطوة الأولى نحو تهيئة الأجواء للخروج من الأزمة، ولكي تكون كذلك، يجب أن لا يكون مرشح الرئاسة مرشح فصيل، وإن كان منتميًا لفصيل لم تلوثه سنوات الانقسام، وأن يمتلك رصيدًا نضاليًا قادرًا من خلاله على مخاطبة الأطراف جميعها، والبرغوثي، يحظى في هذه المرحلة باحترام وتقدير كبيرين في أوساط الفصيلين[64].

ويضيف وليد أنه لو كان مكان حماس، لتوافق مع فتح أو مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، على الأقل، على دعم البرغوثي كمرشح، ولو كان مكان فتح لأبعد شبح الصراعات الداخلية وبورصة الأسماء المقلقة المرشحة للرئاسة، ولدعم البرغوثي كمرشح توافقي مع الفصائل عبر إعلانها خطوة إعادة اللحمة الفلسطينية في الطريق للخروج من الأزمة[65].

2- استهداف قضية الأسرى

وجه وليد رسالة للبنوك الفلسطينية التي رفضت صرف رواتب الأسرى بالقول “نحن لمن لا يعرف في الزمن الموازي قابعون به قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوڤياتي، نحن قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، قبل مدريد وأوسلو وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية، عمرنا في الزمن الموازي من عمر هذه الثورة وقبل انطلاقة بعض فصائلها،… بل نحن قبل اختراع الجهاز النقال وانتشار أنظمة الاتصالات الحديثة والإنترنت.. نحن جزء من تاريخ، والتاريخ كما هو معروف حالة وفعل ماضٍ انتهى، إلاّ نحن ماضٍ مستمر لا ينتهي نخاطبكم منه حاضرًا حتى لا يصبح مستقبلكم”[66].

يرى وليد بأن الحركة الأسيرة هي امتداد وانعكاس للحركة الوطنية خارج السجون، وعندما تكون الحركة الوطنية متماسكة موحدة، فإن الأسرى بالتأكيد سيكونون موحدين، ولما كانت حركة التحرر قد غابت، وتحولت من مقاومة إلى فصائل تتبنى ما يشبه خطاب المقاومة، فإن الحركة الأسيرة استبدلت تدريجيًا صفة الحركة في سلوكها، التي تمثل العمل الجماعي المنظم، وحلت مكانها، عمليًا، الفصائل الأسيرة، لتقوم بما يشبه نضال الحركة الأسيرة[67].

وفي ما يخص القوانين الإسرائيلية والإجراءات القمعية ضد الأسرى، يؤكد وليد أنها ليست جديدة، ولكن الجديد هو الإطار الأيديولوجي والعقائدي التوراتي الذي اشتدت تأثيراته في مواقف المسؤولين الإسرائيليين، فما ينطق به الحاخام يترجم لإجراءات يشعر بها الأسرى في حياتهم[68]. فالاحتلال يتفنن في التنغيص على الأسرى تارة بقرصنة رواتبهم من أموال المقاصة التي يتلقونها من السلطة، وتارة أخرى بتشريعات وقوانين كان آخرها مشروع قانون بادر إليه عضو الكنيست الإسرائيلي آفي ديختر، والذي بموجبه سيكون لوزير داخلية الاحتلال سلطة حصرية لسحب جنسية أي مواطن فلسطيني من أراضي الـ48 والقدس نفذ عمليات ضد الاحتلال ويحصل على راتب من السلطة، وعلى إبعاد أي أسير يحمل الجنسية الإسرائيلية أو الإقامة في حال إطلاق سراحه من إسرائيل لأراضي السلطة[69].

وبخصوص الدعم الشعبي لقضية الأسرى، يرى وليد أن التحرك الشعبي لدعم الأسرى ضعيف، وإذا كان هناك تحركات جامعة، فهم من القلة القليلة ممن يؤمنون بأنه لن تقوم للشعب قائمة إلا بالوحدة[70]. ويقول وليد في إحدى رسائله، أن إدارة السجون منعت إدخال الصحف العربية بما فيها الصحف الصادرة في الداخل 48، وخصوصًا الصحف الحزبية والسياسية، من أجل التشويش على وعي وثقافة الأسرى.[71]

لقد تناول وليد الواقع المؤلم والصادم الذي اجتاح الحركة الأسيرة منذ منتصف التسعينيات وذلك في كتابه صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب وفي مقالة بعنوان “الكابو الفلسطيني…”، لذلك يعَدّ وليد أول من تناول بالنقد واقع الأسرى، وأسباب انهيار النظم الاعتقالية الوحدوية في صفوفهم، وسيادة النزعات الفردية والشخصانية والبلدية، وتراجع المؤسسة الاعتقالية والروح النضالية الجماعية والثقافية[72].

حذر وليد في كتاباته من المخطط الصهيوني الخطير الذي يستهدف الأسير، والذي أسماه مخطط صهر الوعي، فلم يعد السجن مجرد احتجاز وعقاب ولم يعد التعذيب بالقمع والضرب وتشديد الإجراءات، وإنما أصبح نظام السيطرة داخل السجون يستهدف العقل والإرادة والروح الوطنية للأسرى، وتحويلهم إلى مجرد أشياء بلا قيمة إنسانية ووطنية؛ ليبقى دون الهوية والقيم الوطنية الجامعة ونزع روح الثورة والمقاومة والتحدي التي كانت تمثلها السجون على مدار السنوات السابقة[73].

وفي هذا الإطار، يبين وليد أن السيطرة على الأسرى هو سيطرة على الرمز والنموذج الوطني والقيم العليا، والتي تعَدّ جزءًا من مكونات الثقافة والذاكرة الجمعية الفلسطينية، ويربط في نصوصه بين ما يجري على أرض فلسطين من إعادة هندسة الجغرافيا وإقامة الجدران وسياسة الفصل العنصري وعزل الناس في تجمعات متنائية بما يجري بداخل السجون، بحيث أصبح السجن مختبرًا للسياسة الكولونيالية الإسرائيلية التي تنفذ على الأرض الفلسطينية، فما يجري في السجون هو انعكاس للسياسة الإسرائيلية الهادفة إلى تكريس الأبرتهايد، ومقايضة الحقوق السياسية والوطنية بمشاريع الرفاهية الاقتصادية[74].

في ما يخص ظاهرة رجال الكابو، يقول وليد بأنهم الأداة لتنفيذ نظام السيطرة والمراقبة داخل السجون نيابة عن السجّان، وهم أشخاص أصبحوا مسلوبي الإرادة، مدجنين، ينفذون تعليمات إدارة السجون، تتنازعهم الدوافع السلطوية والمادية، وهم عبارة عن ظاهرة تستهدف تقويض الوطنية لدى المعتقلين، ظهرت نتيجة عوامل وإرهاصات عديدة مرت بها الحركة الأسيرة، منها حالة التفسخ والإحباط بين المعتقلين بعد اتفاقية أوسلو والانقسام، وأسر أجيال جديدة في الانتفاضة الثانية ذات ثقافات وميول مختلفة، لم يستطع نظام الأسرى القديم دمجهم في قوانينه وأنظمته، مما خلق فجوة في البناء الاجتماعي للحركة الأسيرة[75].

يستعرض وليد ظاهرة الكابو كوسيلة للسيطرة على الأسرى وانعكاسها على الحياة الداخلية من خلال سياسة فصل أو تعميق الفصل بين الأقسام داخل السجن الواحد وعزلها بعضها عن بعض، وفقًا لتقسيمات واعتبارات جغرافية، ثم تقسيم الأقسام على معازل وأقسام جغرافية أصغر( مدينة قرية مخيم بلدة) بحيث تحول التقسيم الجغرافي إلى انتماء جغرافي يلغي الانتماء الوطني، وهو ما يجعل عملية السيطرة أسهل وأكثر شمولًا، إضافة إلى إلغاء العمل بلجنة الحوار أو لجنة ممثلي الأسرى واستبدالها بناطقين باسم كل قسم ومنطقة جغرافية، ويجري تعيين هذا الناطق من قبل إدارة السجون، وبهذا أفرغت إدارة السجن التمثيل الاعتقالي من محتواه الوطني بحيث أصبح أقرب إلى الكابو منه إلى ممثل أسرى[76].

وفي هذا السياق، يقول وليد “ظهر الكابو منتميًا كليًا لمشروع السجان خلال إضراب الكرامة 2017، فقد كشف الكابو القناع عن وجهه من خلال التحريض على الإضراب وتشويه أهدافه، والاعتداء على الأسرى المضربين وإرهابهم، واستخدام نفس وسائل إدارة السجون في محاولات إجهاض الإضراب وكسره، كون الإضراب عرّى هؤلاء أمام شعبهم، وكشف حجم تورطهم مع إدارة السجن”.[77]

ويدعو وليد مؤسسات حقوق الإنسان لتناول ظاهرة الكابو كسياسة عقاب وتعذيب وإعدام سياسي يتعرض له الأسرى وجزء من الانتهاكات والجرائم التي تمارس بحقهم، ويطالب وليد التنظيمات والقيادات في السجون إلى تدارُك مخاطر نظام الكابو كسياسة موجهة وحرب صامتة تجري على حياتهم وعقولهم ومواجهة ذلك بإعادة الاعتبار للنضال الجماعي والوحدة الوطنية والقيم الوطنية الجامعة[78].

3- المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية

يعزو ليد تشرذم الشعب الفلسطيني وبالتالي الأسرى إلى اتفاق أوسلو، ويضيف “فمن يتحدث عن دولة في الضفة وليس وطنًا، يتنازل تلقائيًا، حتى لو ادعى غير ذلك”، ويبين وليد بأن أسرى الداخل كانوا جزءًا من منظمة التحرير وفصائلها، فالمنظمة كانت ترى نفسها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بمن فيهم فلسطينيو الـ48، ثم عندما كفّت عن تمثيلهم، لم يعد أسرى الداخل الذين كانوا جزءًا من القضية جزءًا من الحل، فكل قائد من القيادات التي عادت إلى فلسطين، وليس فقط من وقع على الاتفاقية، من دون استثناء، كرس أسرى الداخل في الأسر لعقود، فمن استفاد من صفقات التبادل التي قبلت استثناء أسرى الداخل، إنما استدخل على عقليته وفهمه السياسي مناخات صنعتها أوسلو، حتى لو ادعى أنه يملك برنامجًا سياسيًا مغايرًا بعدما دخل مسارها السياسي ترشيحًا وانتخابًا ثم صراعًا على السلطة[79].

أما صفقة القرن، فيطالب وليد بإعلان حالة طوارئ وطنية لتجنيد كل طاقة، جماعية كانت أو فردية، لإسقاطها، الأمر الذي يعني تجاوز كل الخلافات السياسية التي أنتجت وغذت الانقسام الفلسطيني، والإسراع في عقد لقاء قمة بين الفرقاء ينبثق عنه تشكيل لجنة طوارئ قيادية دائمة الانعقاد من كل الفصائل. أما على المستوى الفلسطيني في الداخل، خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة تحت شعار ذاهبون للتصويت لإسقاط صفقة القرن وحكومة اليمين عبر رفع نسبة التصويت للقائمة المشتركة. ويضيف وليد “نحن لا نملك رفاهية اليأس، علينا – رغم صفقة القرن المشؤومة – أن ننهض من تحت ركام الانقسام والاستيطان”[80].

4- المقاومة الفلسطينية ومستقبل الصراع مع إسرائيل

يؤكد وليد أن الشعب الفلسطيني حي يرفض الذل، حتى لو كانت قواه السياسية منقسمة وفي أسوأ حالاتها، وأن لدى هذا الشعب طاقات واستعدادًا للتضحية، فعدد كبير من الشبان أعلنوا رفضهم أن يُنسبوا إلى أي فصيل، فقد صوتوا بأجسادهم لرفض الحالة السياسية الفلسطينية بقدر رفضهم للاحتلال، ويتساءل وليد لماذا منذ 71 سنة لم تستطع المقاومة تحرير حتى شبر واحد من فلسطين باستثناء الانسحاب الأحادي من غزة؟[81].

لقد بَنَت الحركة الصهيونية قدرتها من قبل النكبة، وأنشأت الجامعة العبرية في القدس، والتخنيون في حيفا، ومحطة توليد الكهرباء في عشرينيات القرن الماضي، وامتلكت الحصة الأكبر من معامل الفوسفات في البحر الميت، أرادت الصهيونية أن تنهض في حلقات السلسلة الاقتصادية والعلمية السياسية كافة ثم العسكرية[82]. فالصهيونية فلسفيًا، رغم علمانيتها المعلنة، تجري مصالحة بين قول العقل وقول الروح، جامعة بين الشيوعي والقومي، وبين العلماني والمتديّن الحريدي، في إطار دولة المؤسسات، كل هذا لأنها أدركت باكرًا أنه يستحيل إنتاج القدرة إن لم يحوَّل الاختلاف من طاقة هدم وتحارب إلى طاقة بناء؛ فاستفادت من تعدديتها، لكنها أيضًا زرعت بذور تفككها وخرابها عندما أقامتها على أساس عرقي ورابطة الدم[83].

ويقول وليد في ما يخص القضية الفلسطينية “أننا نحتاج مقاومة شاملة لأننا نواجه ليس احتلالًا شاملًا، بل شموليًا بكل ما تعنيه الكلمة من تفاصيل، يطال أدق تفاصيل حياتنا في فلسطين، إن ما يمكنه أن يبدد أو يحول مركبات القوة العربية إلى قدرة شاملة هو النظام السياسي، وديموقراطية هذا النظام هي أهم توازن استراتيجي قد ينشئه العرب في مواجهة قضاياهم الداخلية والصهيونية”[84].

سادسًا: استشهاده واحتجاز جثمانه

لقد استشهد وليد في 7 نيسان/أبريل 2024، نتيجة سياسة الإهمال الطبي المتعمد بحق الأسرى. وكان وضع وليد الصحي قد تدهور بشكل ملحوظ، منذ آذار/مارس 2023، بعد إصابته بسرطان نادر يصيب نخاع العظم في سنة 2022[85]. وقد رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 الإفراج عن وليد رغم تدهور حالته الصحية[86]. وجدير بالذكر أن وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت رفض، في بداية أيار/مايو2024، الإفراج عن جثمان وليد[87].

وفي هذا الإطار، تقدّم مركز عدالة في 16 نيسان/أبريل 2024، بالتماسٍ للمحكمة العليا الإسرائيلية بالنيابة عن زوجة وليد وأخيه، لتسليم جثمانه إلى أسرته من أجل أن يوارى الثرى، وقال “عدالة” إن “الالتماس سلّط الضوء على سلسلة الانتهاكات التي تورّطت بها مصلحة السجون بمنع أسرة الفقيد من زيارته لأكثر من نصف سنة رغم معرفتها بأنه يعاني المرض العضال، ولم يوفّروا لهم إمكانية زيارته في ساعاته الأخيرة، حتّى أنها لم تقم بإبلاغ الأسرة بوفاته ولم تزودها بشهادة وفاة”. وأفاد مركز “عدالة” بأنه “تم هدم خيمة عزائه وتفريق الحاضرين بالقوة واعتقال بعضهم”[88]. واتخذ غالانت قراره بالتنسيق مع رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، وتوصية المسؤول عن ملف الجنود الأسرى والمفقودين نيتسان ألون، إذ أجمعوا على أن وليد أصبح “كنزًا استراتيجيًا” بالنسبة لإسرائيل بكل ما يتعلق في مفاوضات صفقة التبادل مع حركة حماس[89].

ووصف الأسير المحرر كريم يونس المعاملة القاسية التي تلقاها وليد وغيره من الأسرى”، مؤكدًا “ضرورة فحص جثث الأسرى والكشف عن الانتقام الذي يتعرضون له داخل السجون”. وأوضح يونس أن “التصريحات التي صدرت عن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بعد استشهاد وليد، والذي قال إنه كان يتمنى أن يموت وليد إعدامًا، تدل على نوعية المعاملة لوليد والأسرى”[90]. رحل وليد تاركًا خلفه رسالة كان قد كتبها، قائلًا فيها: “سأبقى أحبكم، فالحب هو نصري الوحيد والمتواضع على سجّاني”[91].

خاتمة

مثّل وليد نموذجًا في السجون على جميع الصعد وخارج السجون من خلال إنتاجه الفكري والسياسي والإنساني الغزير الذي شكل هاجسًا للاحتلال الذي لاحق رواياته وكتبه وكل ما كان ينتجه دقة، الذي أمضى في الأسر تقريبًا أربعة عقود وما زال جثمانه معتقلًا في ثلاجات السجون وترفض إسرائيل تسليم جثمانه لدفنه، استشهد الأسير دقة بسبب سياسة الإهمال الطبي المتعمد من قبل إدارة السجون التي تنتقم من الأسرى من خلال التعامل اللاإنساني ضد الشعب الفلسطيني وقيادته في السجون وخارجها، رحل وليد وترك لرفاقه وللشعب الفلسطيني ولجميع أحرار العالم مدرسة في النضال من أجل الحرية؛ فكانت ابنته ميلاد نتاج النضال المستميت لكسر جدران السجون ومواجهة الفاشية الاحتلالية في النطفة التي خرجت من السجون عنوة عن السجّان، لتحمل اسم المفكر دقة.

كتب ذات صلة:

صفحات من مسيرتي النضالية : مذكرات جورج حبش

القدس : التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي

من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق