مقدمة:

التنمية العربية هي أنشودة الستينيات من القرن العشرين، وقاعدة العمل الاقتصادي العربي المشترك في السبعينيات حتى مُستهَل التسعينيات، وأمنية الحالمين والمُهمَشين في ما تبقى من الزمان.

هل هناك تنمية عربية حقاً؟ وما هي مواصفاتها، وحجم منجزاتها، وآثار نِعَمِها على العباد والبلاد؟

كيف بدأتْ؟ وبيد مَنْ قياد عِنانِها؟ وأين حَلَ رحالها بعد مسيرة طويلة اُنفِقَتْ فيها الأموال وكُمِمَتْ الأفواه وعُطِلَتْ الحدود؟ حول هذه الأسئلة، تدور رحى دراستنا. لم نَتبِعْ في استشراف مستقبلها ما يُسميه (كاسيدي) «الخزعبلات الرياضية»، بل تَبَنَينا منهجية المَشاهِد المنطقية، حيث تُوزَن مغانم الاستراتيجية ومغارمها وواقعيتها وإمكانيات تطبيقها، وذلك للتعرف إلى نتائجها في الآفاق.

يثير شيوع ارتفاع مستوى المعيشة في بعض البلدان العربية، على الرغم من عدم توافرها على المعايير العلمية للتنمية، إشكاليات في الفهم وضلالة في الحُكم ولغطاً في التفكير، يقتضي العودة إلى الاستدلال المنطقي لتمييز حقيقة الظواهر من تجلياتها المُتغيرة. استناداً إلى هذا الفهم، أضحى هدف البحث الاستقصاء عن المحمولات لتحديد المفهومات تحديداً كافياً، كما يقول أصحاب المنطق.

لقد نهجنا في دراستنا هذه منهجاً استقرائياً لتوفير قاعدة البيانات عن المشكلة وتحليل مسارات تطورها، بُغية رسم المشاهد التنبؤية لمستقبل التنمية العربية، مُعتمدين في قراءتنا الوقائع، على المصادر العلمية الرصينة، الرسمية وغير الرسمية، فضـلاً عن كتابات المفكرين الذين نثق بمصداقيتهم العلمية وملاءتهم الفكرية.

أخيراً، يُمكننا القول، إن التصدي لدراسة هذا الموضوع الحيوي ليس تَرفاً فكرياً، بل جاء نتيجة شعور بالمسؤولية تجاه ما آلت إليه الأحوال، وما ستصير عليه في بلادنا، وإنّ عِدتَنا لإنجازه، نية صادقة وجهد حثيث.

أولاً: فلسفة التنمية وإشكالياتها في الفكر الاقتصادي

يُقصَد بفلسفة التنمية الرؤية المُستنِدة إلى قراءة متأنية للتاريخ وسياقات تطوره، والمُفضية إلى توافر قواعد علمية، يُمكن الركون إليها في الإجابة عن الأسئلة المحورية التي تدور حولها، وفي إطارها، عملية النهضة الشاملة.

وحتى هذه اللحظة لم تحظَ إجابة حول أي من تلك الأسئلة بالإجماع؛ فالسرد النظري بخصوصها ظل يدور في دائرة الإشكاليات، بمعنى الأحكام «التي يكون الإيجاب والسلب فيها ممكناً، وتصديق العقل فيها مبنيّاً على التحكم، أي مقرراً من دون دليل»‏[1].

ومهما كان الأمر، لم يُثِرْ التخلف الذي يلف بلدان العالم الثالث الاهتمام، وهو النقيض المكافئ لظاهرة التنمية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الوقت، تَصطرع الأفكار معاً؛ لا يظهر رأي إلا لينقضه آخر، حتى اختلطت المفاهيم وتاهت الرؤى وطُوي المفهوم الحقيقي للتنمية، لتحل محله مفاهيم أخرى هي، وإن كانت لازمة للتنمية، إلا أنه لا يَصح عَدّها بديـلاً تاماً، حيث أصبحنا أمام ثلاثة مُصطلَحات؛ كلّ منها يُستخدَم كمعادل موضوعي للآخر، وهي:

1 – النمو الاقتصادي، الذي يكاد يُجمع التنمويون على أنه الزيادة في الدخل القومي بغض النظر عن مصدر هذه الزيادة، أي أنه ظاهرة كمية مَحضة، لا يُفضي إلى ولا يستوجب أي تغييرات نوعية‏[2].

2 – التحديث، ويشير إلى تجديد البُنى الاجتماعية والإدارية والسياسية للمجتمع، التي لا يمكن الاستغناء عنها لإنجاح برامج التطوير الاقتصادي؛ فالتخلف باعتقاد أنصار هذا التوجه، ليس قضية اقتصادية، بل هو قضية اجتماعية – ثقافية حَصراً، تتجسد في صورة اختلالات بنيوية شاملة، إذْ يرى عالِم الاجتماع بارسونز أن المجتمعات المتخلفة تمتاز بكون عاملَي الكفاءة والإنجاز ليسا هما المعيار للحصول على المركز الاجتماعي أو السياسي بل الانتماء الأسري والإثني والعشائري والطائفي، فضـلاً عن الولاءات الشخصية؛ فالأسرة تُورث أبناءها الدور مثلما تُورثهم المال والجاه. كما أن العُرف الاجتماعي، بما يقود إليه من سيادة للمحسوبية، هو الذي يُنظم الحياة الاجتماعية، ويحكم بدلاً من القانون، السلوك الاجتماعي العام، وتسود في المجتمعات المُتخلفة الدوافع العاطفية بدلاً من العقلانية، كموجهات لنمط التفكير واتخاذ المواقف، فضـلاً عن عدم بلوغ البلدان المُتخلفة عَتبَة التخصص الوظيفي. لذلك، تتداخل الأدوار وتتشابك فيها، بما يؤدي إلى حرمان المجتمع من منافع التقسيم الاجتماعي للعمل. إن هذه الصورة الاجتماعية المعقدة هي التي تفرض «اشتراط» التحديث، كمقدمة ضرورية لإنجاز عمليات التحول النوعي‏[3].

3 – التنمية: وتعني النهضة الشاملة، أي إنها نهاية الطريق وليس أية محطة من محطاته المُتلازمة، فهي النتيجة لا السبب، إذْ إن المجتمعات المُتحضِرة هي تلك التي تنمو، وتنضج مؤشرات الحضارة فيها، كما تواضع عليها المجتمع الإنساني.

خلاصة القول: إن التنمية هي عملية طويلة المدى، شاملة، هي تغيير جذري للواقع، أي (صيرورة تاريخية) تنطوي على عمليتي النمو والتحديث معاً، من دون أنْ تَسفر عنهما حَتماً.

ثانياً: واقع التنمية العربية

إن الحديث عن «التنمية العربية» هو رصد علمي لحادثة واقعة، سواء كان الحصاد العربي منها إيجابياً أو سلبياً، ولكن الثابت أن سياق هذه الظاهرة قد بدأ، قبل التبشير بالعولمة واتساع دائرة التنظير لأهدافها ومقتضيات تجسيدها موضوعياً، وذلك بسبب العلاقة الخاصة التي ربطت معظم البلدان العربية بمراكز الرأسمالية العالمية في الغرب الصناعي، وهي من دون مناورة ولا مداورة، علاقة احتواء لم تترك فسحة للتطور المستقل في الوطن العربي، أي إن السعي إلى تحقيق التنمية في هذا الحيز الجغرافي الحيوي والمهم قد بدأ مُستقطَباً ومُعولَماً، وتتجلّى مصاديق ذلك بمجموعة من المؤشرات الاقتصادية هي:

1 – الانكشاف الاقتصادي: بلغت نسبة التجارة العربية إلى الناتج المحلي الإجمالي (GNP) مَديات تَجاوزتْ الحدود الآمنة لأي اقتصاد يطمح أصحابه بالتوافر على قَدْر معقول من الاعتماد الذاتي، وقد تراوحت معدلات الانكشاف الاقتصادي العربي بين 52 بالمئة سنة 1997 و82 بالمئة سنة 2011، مقارنة بـ 25 بالمئة في الولايات المتحدة، و19 بالمئة في اليابان و17.2 بالمئة في الاتحاد الأوروبي‏[4]. يعني هذا، أن العرب ينتجون للأسواق الخارجية ويستوردون ما يحتاجون إليه من هذه الأسواق أيضاً، وبذلك يُرتَهَن الاقتصاد العربي للقوى الاقتصادية الدولية الفاعلة، ويصبح مرسى ومصباً لأزماتها التجارية الدورية.

2 – التركز الجغرافي للتجارة العربية: بَلغتْ الصادرات البينية أعلى معدل لها 10,7 بالمئة في عام 2009، ثم انخفضت إلى 8 بالمئة في عام 2011 و10.6 في عام2013‏[5]، مقارنة بنظيرتها في الاتحاد الأوروبي 36.8 بالمئة عام 2003؛ ثم انخفضت إلى 12.7 بالمئة عام 2011 لأسباب تتعلق بالتطورات التي اكتنَفتْ اقتصادات دول الاتحاد، ومن أهمها ترشيد استهلاك الوقود الحفري وإيجاد بدائل محلية (النرويج وبريطانيا) للنفط العربي، ويمكن حصر أسواق الصادرات العربية وفق أهميتها بـ: السوق الأوروبي، السوق الأمريكي، السوق الياباني والجنوب شرق آسيوي، ومن الواضح أن هذا السوق هو امتداد للسوقين السابقين عليه.

أما من ناحية الاستيرادات، فلم تتجاوزْ معدلاتها البينية 13.7 بالمئة عام 2005، انخفضت إلى 12,3 بالمئة عام 2011، ولو جمعنا معدلات الاستيرادات العربية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لناهزت الـ 50 بالمئة وأكثر في بعض السنوات‏[6]، وهذا يؤكد الحقيقة التي انطلقنا منها في تحليلنا لهذا الموضوع، وهي أن التطور الاقتصادي العربي ظل أسير إطاره السياسي التاريخي الأوروبي – الأمريكي، ولم تتمكن البلدان العربية من فك عرى الارتباط مع هذا الإطار لأسباب تتعلق بالإرادة، وبالاختلالات البنيوية التي طبعته، نتيجة اعتماده على نمو اقتصادات المركز الرأسمالي، التي يمكن البسط لأنواعها على الوجه الآتي:

أ – الأحادية والازدواجية، فالاقتصادات العربية اقتصادات غير مُتجانسة ولا مُتكاملة، يمكن التمييز داخلها بين قطاعين، أحدهما متطور من الناحية التقنية والإدارية، مرتبط مباشرة بالسوق الخارجية، حيث لا يستوعب الاقتصاد المحلي من منتجاته إلا النَزَر اليسير، لذلك يُعَد الممول الرئيس للاقتصادات العربية بالعملة الأجنبية، الذي ينعكس أي خلل في أدائه أو أية مفارقة تعترض اتجاهات نموه، على النشاط الاقتصادي كله. هذا القطاع، هو قطاع الوقود والمعادن.

يقول جورج قرم في هذا الخصوص: «إن الاقتصادات العربية تتميز جميعها بدرجات متفاوتة بالاتكال على مصادر ريع مختلفة، وعلى رأسها تصدير المواد الأولية وبوجه خاص النفط والغاز والفوسفات وبعض المنتوجات الزراعية، إضافة إلى الريوع العقارية وتلك العائدة على طرق المواصلات، إضافة إلى المساعدات الخارجية وتحويلات المغتربين»‏[7].

وتكفينا نظرة إلى هيكل الصادرات والاستيرادات العربية للتأكد من صِدقية هذا التوصيف، فقد مَثلَتْ سلع القطاع الريعي في هيكل الصادرات العربية 82,9 بالمئة عام 1996، انخفضتْ بانخفاض الكميات المُصدَرة من النفط إلى 73.6 بالمئة عام 2011، وتُقابل هذا الوضع الشاذ هيمنة منتوجات الصناعة التحويلية على هيكل الاستيرادات العربية، إذْ بلغتْ نسبتها 62.9 بالمئة عام 1996، ارتفعتْ إلى 64 بالمئة عام 2011‏[8]. ما يدعم هذه القناعة العلمية بصورة أوضح، هو اختلال هيكل الإيرادات العربية، حيث بلغتْ قيمة الإيرادات النفطية 724.4 مليار دولار من مجموع الإيرادات العربية الكلية البالغة 1010.4 مليار وبنسبة 71.6 بالمئة في سنة 2013‏[9].

ب – تدني نسبة مساهمة الكتلة السكانية الحيوية في النشاط الاقتصادي، نتيجة ارتفاع معدلات النمو السكاني بوصفه انعكاساً لـ «ارتفاع معدل الخصوبة المصحوب بانخفاض سريع في معدلات الوفيات، مما أدى إلى اتساع القاعدة الفتية من السكان، إذْ اصبحتْ نسبة مَنْ هم دون 15 سنة، 35 بالمئة. وتمثل الفئة 15 – 65 وهي الفئة النشطة اقتصادياً 35 بالمئة من مجموع السكان العرب»‏[10]، ارتفعت إلى 33 بالمئة عام 2011 مقارنة بالمتوسط العالمي والبالغ 62,15 بالمئة ومع المتوسط في شرق آسيا 70 بالمئة‏[11].

ج – انتشار البطالة التي بلغ معدلها 17.4 بالمئة من إجمالي القوة العاملة عام 2013، وهو يُعَد المعدل الأعلى في العالم مقارنة بالمتوسط الدولي البالغ 5,7 بالمئة‏[12].

د – ضآلة نسبة مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي المديني، بسبب التحيز ضد عمل المرأة، نتيجة ثقافة انطباعية متأصلة تدور حول قناعة مُصطنَعة مفادها أن المرأة أقل كفاءة فكرية ونفسية وعضلية من الرجل؛ فالتنافس على فرص العمل المحدودة أصـلاً، يصب في مصلحة الرجال على حساب النساء. لذلك، لم تَزِدْ نسبة النساء العاملات من إجمالي القوة العاملة على 31 بالمئة في عام 1990، مقارنة بـ 29 بالمئة في عام 2010‏[13].

هـ – انتشار الفقر المُزمِن في أغلب الأقطار العربية، نتيجة التفاوت في توزيع الثروة الريعية بين هذه الأقطار والنمو غير المتوازن لاقتصاداتها، والمحدودية النسبية لناتجها المحلي الإجمالي ومماهاته لمعدلات النمو السكاني، لا بل تأخره عنه في بعض السنوات؛ ففي عام 2002 كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العربي 1.8 بالمئة، مقابل معدل نمو سكاني 2.3 بالمئة، وفي عام 2011، تعادل المعدلان عند حدود 2.4 بالمئة لكل منهما‏[14].

إن معدلات الفقر العالية في منطقة غنية بثرواتها الطبيعية والبشرية، تعود في الجزء الأكبر منها إلى اعتماد معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي «على التغيرات الخارجية مثل أسعار النفط، تساقط الأمطار، العائدات السياحية، تحويلات المغتربين، المساعدات الخارجية، وهذا ما يجعل معدل نمو الناتج المحلي شديد التقلب»‏[15]، إضافةً إلى «نزوح الأدمغة، إذْ تشير الدراسات إلى أن هجرة 450 ألف دماغ من الوطن العربي كلف البلدان التي هاجروا منها أكثر من 200 مليار دولار، إضافة إلى المستوى المنخفض جداً للإنفاق على البحوث والتطوير وغياب نظام وطني لدعم الابتكار»‏[16].

إن تحليل مشكلة الفقر على الصعيد الكلي يخفي التباينات على الصعيد القطري، فمتوسط الدخل الفردي في بلد صغير المساحة مثل قطر يبلغ 92246 دولاراً بمعدل نمو 25.1 بالمئة سنوياً في حين لا يتجاوز نصيب الفرد من الدخل الوطني 2928 دولاراً في أكبر بلد عربي مثل مصر، وبمعدل نمو سنوي لا يتجاوز 5,5 بالمئة‏[17].

إن مثل هذا التفاوت هو الذي عزز نزعة الانكفاء والانعزال لدى البلدان الصغيرة الغنية، وولّد لدى مواطنيها وقادتها قناعة الاستغناء عن الاندماج بالوطن العربي، وتعزيز مسيرة العمل الاقتصادي المشترك داخل إطاره الأكبر.

3 – الاختلالات الهيكلية، وتتجلى من خلال:

1 – استحواذ القطاع الريعي على النسبة العظمى من الناتج المحلي الإجمالي؛ فهو قد ارتفعتْ مساهمته من 35.5 بالمئة سنة 1990 إلى 42.2 بالمئة، فضـلاً عن تَدنِّي نسبة مساهمة الصناعة التحويلية التي انخفضت من 12.5 بالمئة عام 1990 إلى 9.2 بالمئة فقط، وذلك عام 2013. أما قطاع الخدمات، فعلى الرغم من ارتفاع نسبة مساهمته إلى 40.5 بالمئة‏[18]، إلا أنه يُعَد قِطاعاً غير مُنتِج، يُهيمن عليه الطابع الوظيفي الحكومي المُتخَم بالبطالة المُقنّعة.

2 – غَلبَة الإنفاق الاستهلاكي على الهيكل الاقتصادي العربي، الذي بلغتْ نسبته 76.8 بالمئة في 1990، استقرتْ عند 59.2 بالمئة عام 2011، مقابل 23.5 بالمئة للإنفاق الاستثماري‏[19].

ولكن على الباحث المُدقِق الذي تستوقفه فقرة الاستثمار الإجمالي في الجدول أعلاه ألا يتجاهل الإنفاق العسكري الذي تجاوزت معدلاته أضعاف معدلات نظيره في الدول العظمى؛ فالدول العربية الغنية أنفقت بالمتوسط 34.3 بالمئة عام 1995 صعوداً إلى 35.9 بالمئة عام 2000 من ناتجها المحلي الإجمالي على القطاع العسكري، وهي بلدان لا يُشكِل عدد سكانها أكثر من 12 بالمئة من إجمالي السكان العرب. أما على الصعيد الإجمالي، فقد ارتفع الإنفاق العسكري العربي من 25.5 بالمئة عام 1990، إلى 27.4 بالمئة عام 2000‏[20].

ج – ارتفاع نسبة العاملين في القطاع الريعي على الرغم من طاقته الإنتاجية المحدودة؛ فقد بلغت تلك النسبة 28.9 بالمئة عام 1995، ثم 33,6 بالمئة عام 2011، مقارنة بالقطاع الصناعي الذي لم تتجاوز نسبة العاملين فيه 16,9بالمئة عام 2010. الملاحظ، أن قطاع الخدمات – وهو في أغلبية نشاطاته لا يضيف قيمة حقيقية للناتج المحلي الإجمالي – يستوعب الجزء الأكبر من القوة العاملة العربية، وبواقع 49.2 و54.2 بالمئة لعامي 1995 و2010 على التوالي‏[21].

د – تراجع مؤشرات التنمية البشرية (التعليم، الصحة، متوسط الدخل) مُقارنة بالتكتلات الاقتصادية الدولية المُتقدمة والمتوسطة النمو؛ فقد بلغتْ قيمة دليل التنمية البشرية في البلدان العربية 0,65عام 2012، مقابل 0,9 للبلدان ذات التنمية البشرية المرتفعة جداً، و0,75 للبلدان ذات التنمية المرتفعة، و0,74 لبلدان أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وهي دول فتية لا تزال تعاني إرث الماضي المُضطرِب القريب الحافل بالصراعات الإثنية والسياسية والنمو الاقتصادي التابع. وإذا دقّقنا بمؤشرات الدليل فُرادى، نجد أن متوسط سنوات الدراسة في الوطن العربي، يتدنى إلى مستوى أقل حتى من الدول ذات النمو المتوسط الفقيرة، 6 سنوات مقابل 6,3 سنة. والأمر ينسحب على متوسط الدخل الفردي، فهو لم يبلغ مستوى الدخل حتى في دول أمريكا اللاتينية 10,6 مقابل 11,5 ألف دولار سنوياً‏[22].

خلاصة القول: إن النتائج المترتبة على نمط النمو الاقتصادي التابع والمشوّه في البلاد العربية يمكن ترتيبها وفق أهميتها وخطورتها كالآتي:

1 – التفاوت الصارخ في توزيع الثروة المادية والبشرية بين الأقطار العربية، وتباين معدلات نموها بما يمنع اندفاعها الصادق والحثيث نحو التكامل والاندماج، بوصفه ركيزة الخلاص والتطور، فضـلاً عن تقسيم المجتمعات العربية إلى مجموعتين، إحداهما صغيرة وغنية، والأخرى التي تمثل الأغلبية الساحقة فقيرة، ومُثقَلة بمشكلاتها الاقتصادية الخانقة.

2 – الاختلالات البنيوية الخطيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

3 – التبعية المُطلَقة للمراكز الرأسمالية على الصعد كافةً (التجارية والعلمية والتقنية).

4 – التأخر الصناعي الذي أبقى الأقطار العربية في دائرة البلدان المُتخلفة، لأن التصنيع هو جوهر النمو الاقتصادي الحقيقي، ومن دون إنجازه، لا تكاد تستطيع هذه البلدان بلوغ مرحلة الوصيف للأمم الصناعية الجديدة.

5 – من الصعوبة رسم مسارات نمو طويلة المدى في البلدان العربية، لاعتمادها في تمويل ميزانياتها العامة على حصيلة صادرات سلعة أو سلعتين أوليتين من جهة، وعدم ثبات أو استقرار أسعار المواد الخام في الأسواق الدولية، من جهة أخرى.

6 – تفاقم أزمة المديونية الخارجية العربية، إذ ارتفعت قيمة الدين من 143,8 مليار دولار عام 2000، إلى 176,2 مليار دولار عام 2011. أما الدين العام، فقد ناهز 590.6 مليار دولار عام 2013. وبذلك «ارتفعت نسبته إلى الناتج الإجمالي لتبلغ حوالى 52.5 بالمئة، مقابل 48 بالمئة عام 2012»‏[23].

تكمن المُفارقَة في تراكم الاحتياطيات النقدية لمجموعة محدودة من البلدان العربية في المصارف الأجنبية، التي تشكل أضعافاً مضاعفة للدين العربي؛ فهي قد بلغت 102,7 مليار دولار عام 2000، تضاعفت لتصل إلى 1,114,7 تريليون دولار سنة 2011‏[24].

يمكن تعليل تفاقم المديونية العربية، وبخاصة في البلدان ذات الموارد الريعية الكافية، بالأسباب الآتية:

أ – الحروب العبثية التي اشتعلتْ في المنطقة ابتداءً من الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، مروراً بحرب الخليج الثانية 1991، وانتهاءً بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والأموال التي أهدِرَتْ في هذه الحروب، والأصول الإنتاجية التي تَعرَضَتْ للتدمير والاهتلاك.

ب – الإنفاق الاستهلاكي المُبالَغ فيه بسبب توافر القدرة على الوصول إلى الائتمان الدولي الرخيص الذي يقود إلى ارتفاع أسعار الفائدة عندما تنخفض أسعار الموارد الطبيعية، وبذلك ازدادتْ أعباء خدمة الديون لتصل إلى 15.2 مليار دولار سنة 2013. هناك، كما يذهب الكثير من الدراسات الاقتصادية الدولية، علاقة ارتباط قوية بين الصادرات النفطية، وتدفق الديون الخارجية إلى البلدان المصدرة للنفط‏[25].

وقد حصل ذلك نتيجة ضعف الرقابة الشعبية على كيفية التصرف بالموارد الوطنية النادرة والناضبة، وعلى وجهة إنفاق عوائد الصادرات منها.

أي أن هذه البلدان قد وقعت ضحية «لعنة الموارد» التي، كما يقول تيري لين، «تجعل من حُكام الدول غير خاضعين للمُساءَلة، حيث يصبحون خارج نطاق دائرة المحاسبة، لأن إيرادات الموارد تجنبهم زيادة الضرائب لتوفير الرعاية والخدمات الاجتمــــاعيــة، كمـــا أن مــؤسسات الدولـــة تضعــف لأنــها لا تتطـــور عَبر معايير الجدارة»‏[26].

هذه هي ثمار ما يُسمى «مسيرة التنمية العربية» طيلة ستة قرون من الزمان، يَصحُ معها وصف الاقتصادي البرازيلي فورتادو بأنها «تنمية للتخلف».

ثالثاً: السيناريوهات المُحتمَلة للتنمية العربية

«السيناريوهات» هي إضاءات تنبُّئية لما ستكون عليه الظاهرة محل الدراسة، أي هي محاولة معرفة مستقبل الظاهرة والنتائج المترتبة على تطوّرها. وهذا التعريف يوحي بالانطواء على مُقاربتين مترابطتين هما:

1 – الديمومة بمعنى عدم انقطاع النشاط الذي يتطلبه استمرار تدفق مُخرجات العملية الاقتصادية.

2 – التناغم بين الشروط الذاتية والموضوعية التي تُشكِل البيئة الاقتصادية لنمو الظاهرة، فحتى لو توافرتْ الإرادة لدى النخب العربية والقدرات الذاتية للاقتصاد العربي، يبقى العامل الخارجي فاعـلاً ومؤثراً، عند نقطة البداية ونهايتها.

في ما يتعلق بسياقات النمو الاقتصادي في البلدان العربية، يمكن التواضع على أربعة مَشاهِد، لكل منها شروطه ونتائجه، هي:

المَشهد الأول: مشهد الانغلاق والانكفاء على الذات ويستلزم ذلك:

أ – فك الارتباط مع المراكز الرأسمالية الدولية على صعيدي التجارة والاستثمار، وهو ليس بالأمر الممكن ولا الواقعي في المَدييَن، القصير والمتوسط.

ب – التكتل الجماعي، أي تفعيل آليات العمل الاقتصادي العربي المشترك، وهو هدف ليس واقعياً فحسب، بل ضروري في كل الأحوال، ولكن معوقاته تكمن في صعوبة تَبنيه من قبل النخب الحاكمة والمُتحكِمة بمفاتيح الاقتصاد العربي (التجارة، التمويل، الاستثمار). لذلك أضحتْ مسيرته، منذ انطلاقتها الأولى في الخمسينيات من القرن الماضي مُتعثِرة، ولا تزال حتى هذه اللحظة في طورها الجنيني.

ومع هذا، فإن تحقيق هذا المشهد ينطوي على مخاطر جوهرية هي:

1 – فقدان مَيِزات الانفتاح والتفاعل مع عالم يقفز قفزات لافتة للنظر في مجالات العلم والتقنية اللذين تَغيرتْ صورة الاقتصاد تغييراً جذرياً وفقهما، فلم تعدْ الثروات الطبيعية، ولا رؤوس الاموال المادية، هي الطاقة الحيوية للتطور الاقتصادي، بل أصبح الإنسان نفسه هو القوة المُنتِجة، الذي تحتاج عملية إعداده وصقل مواهبه إلى احتكاك وتفاعل حقيقيين مع أقرانه من البشر الآخرين الذين تتوافر فيهم الموهبة والمعرفة وفنون الإدارة.

2 – انخفاض مستوى الرفاهية كما تواضع عليها أبناء المنطقة، وتغيير محتواها، لأن تغيير مسارات التطور تتطلب ابتداءً إعادة النظر بنمطي الإنتاج والاستهلاك، أي التحوُّل من الإنتاج الأولي إلى النشاط الصناعي والعلمي، وتزامناً مع ذلك، التخلص من كل الحلقات الزائدة في دائرة الاستهلاك، مثل التنوع السلعي غير الُمبرَر ومحاكاة الآلة الصناعية الغربية باستحداث مفردات استهلاكية ليست ضرورية لإشباع الحاجات الاجتماعية، بُغية ترشيد الاستهلاك من جهة، وعَقلَنة الجهاز الإنتاجي من جهة أخرى؛ فالرفاه لا يعني إغراق الأسواق بالسيارات الفارهة والمشروبات الفاخرة والأغذية المُجمَدة، وبناء المؤسسات التي لا يحتاج المجتمع في مرحلته التطورية الحاضرة إليها. تبقى النتائج المُنعكِسة عن إحداث هذه القطيعة رهناً بقوة الإرادة السياسية والاستجابة المجتمعية التي هي دلالة على تزايد الوعي الشعبي بضرورات التغيير.

وتُفضي هذه السياسة، إذا ما تحققت مقترباتها، إلى تجاوز عَتبَة التخلف بمعالجة أهم مرتكزات تجدده وهي: الأحادية والازدواجية والاختلالات البنيوية، كما بسطنا لها في المباحث السابقة.

المشهد الثاني: مشهد التكامل الأفقي مع الاقتصاديات الغربية، والنجاح النسبي فيه، وإنْ كان محل شك وريبة بناء على معطيات التجربة التاريخية، يتطلب الآتي:

1 – تطوير المجالات التي يتوافر العرب فيها على ميزات نسبية مثالية، ذلك لأن محاكاة الدول الأخرى في نجاحاتها من دون دراسة أسرار تجاربها، يجعلنا نتخبّط كالعميان وسط الظلام الدامس؛ فبلدان جنوب شرق آسيا التي يحتج فيها الكثير من الاقتصاديين لإثبات إمكان تحقيق التنمية مع التبعية، قد وفرت عوامل ميزتها التنافسية قبل انفتاحها على السوق الدولية، والتي تتلخص بـالأيدي العاملة الرخيصة والماهرة والنشيطة، طبقة من رجال الأعمال ذكية وحيوية ومتفاعلة، طبقة سياسية مُتناغمة مع حاجات مجتمعاتها. هذه العوامل كلها، لا يزال بين العرب وبين امتلاكها، بون شاسع.

2 – إن النجاح في الانفتاح يقتضي أنْ يكون هناك تجانس قيمِي بين أطرافه المتنوعة، وبخاصة على الصعيد السياسي؛ فالعلاقات الاقتصادية هي الأساس المادي للعلاقات الدولية التي تُدار وفق منظور سياسي، وما دام العرب يتكاملون مع مركز الديمقراطية الغربية، وهي التي أضحَت عقيدة العصر، فلا بد من أنْ يكونوا ديمقراطيين، لكي يضمنوا الحفاظ على مصالحهم من خلال تنشيط الرقابة الشعبية، وشيوع الشفافية، وتحقيق مبدأ التكافؤ في التعامل مع الأطراف الدولية الأخرى.

ويترتب على الأخذ بهذه الاستراتيجية:

1 – ضياع الهوية، إذْ إن الثقافة والسياسة والاقتصاد حزمة واحدة لا تتجزأ، ولا يمكن تحقيق إحدى مفرداتها من دون الأخرى؛ فعندما يُرسي العِلم الاقتصادي الغربي بناءاته الفكرية على مقولة «إن الهدف النهائي للإنتاج هو الاستهلاك»، لا يطرح إشكالية قابلة للنقاش، وإنما يُشخِص قيمة حضارية، ولا شك في أن هذه القضية ليست أطروحة اقتصادية، بل يقين وسلوك يُنطلَق منه ويُبنى عليه، فضـلاً عن أن السلطة هي إدارة للشأن العام، مقياس نجاحها تحقيق المصالح الاقتصادية للدولة ومواطنيها. وهكذا، فنحن ندور في دائرة واحدة؛ كل نقطة على محيطها تُفضي إلى الأخرى من دون قطيعة ولا انقطاع.

2 – النمو المشوّه والمتنافر للاقتصادات العربية، مع تجذير لظاهرة التخلف بتعميق معالمها الجوهرية (الاختلالات البنيوية والانكشاف الاقتصادي)، وبخاصة إذا ما عرفنا أن التخلف ليس قضية مُطلَقة بل هو ظاهرة نسبية، يُقاس تطورها زمنياً، أي مقارنة سير تطور المعالم الحضارية عبر المراحل التاريخية، كما يُقَدَر مقارنة بالشواخص الحضارية القائمة فعـلاً. وهنا، يأتي النموذج الغربي ليكون دليـلاً يُقاس عليه مدى الإنجاز الاقتصادي لأية أمة من الأمم؛ فإذا تجاوز الغربيون الثورة الصناعية الأولى، وشارفوا على إنجاز الثورة الصناعية الثالثة (الأتمتة والحاسوب والصناعات الفضائية)، وظل العرب مُتحجرين عند حدود الثورة الصناعية الأولى، فهذا يعني أنهم ضاعفوا الفجوة الحضارية بينهم وبين شركائهم الغربيين، وبذلك تتجذر ظاهرة التخلف التي تكتنفهم بدلاً من حلحلتها تمهيداً لعلاجها والخلاص من شباكها.

وتبقى الميزة الوحيدة لهذه الاستراتيجية هي تعريف العرب وتذكيرهم دائماً بتأخّرهم وتبعيتهم ما قد يعمل كدافع للبحث عن السبل الحقيقية للنجاة، وهو عامل قد سلط الأضواء عليه الاقتصادي الأمريكي روستو عندما عَدّ الاستعمارحافزاً للشعوب المُستعمَرة على العمل الجاد لتوفير الشروط المؤهِلة للانطلاق الاقتصادي؛ فوفق مذهبه يتجاوز المجتمع النامي «مرحلة المجتمع التقليدي عندما يقع تحت السيطرة الاستعمارية ويبدأ شعوره بالهوان يعمل كحافز للانعتاق من مأزق التخلف»‏[27].

المشهد الثالث: مشهد الانفتاح الاقتصادي وفق شروط منظمة التجارة الدولية وطرائقها، التي تسعى إلى إحياء مبدأ حرية التجارة وإزالة العوائق الكابحة زيادة معدلات نموها. وهنا، ستكون البلدان العربية أمام كتل اقتصادية متباينة من حيث درجة تطورها وقوّة اقتصادها، ولكن كلها من دون أدنى شك تمتلك من عوامل القوة الاقتصادية والرقي الحضاري ما لا تصح مقارنته مع الوطن العربي، وبخاصة الكتل التجارية الكبرى التي يمكن تمييز ثلاث مجموعات داخلها هي:

1 – كتلة المراكز الصناعية العريقة (الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان).

2 – كتلة الدول الصناعية التي تتوافر فيها قوة الدفع الذاتي والأسواق الوطنية الواسعة (الصين، الهند، روسيا).

3 – كتلة الدول الصناعية الجديدة التي اعتمد نجاحها أساساً على فتح الأسواق الدولية أمام بضائعها الرخيصة والمتنوعة (جنوب شرق آسيا، البرازيل).

إن النتيجة النهائية للانفتاح بلا قيود على عالم يتشكل من كيانات اقتصادية كهذه، هي إما تأبيد التبعية العربية للمراكز العريقة أي نادي الدول الاستعمارية، وإما أن تصبح أطرافاً للأطراف القديمة (المراكز الثانوية الجديدة)، ذلك لأن التعامل في كلتا الحالين، هو تعامل غير متكافئ، لا يحصد فيه الطرف الضعيف سوى المَغارِم. أما المَغانم، فسيتأثر بها الطرف القوي ذات الاقتصادات المُتنوعة والمرنة والمتطورة تقنياً.

المشهد الرابع: مشهد الانفتاح والتعامل المُبرمَج مع العالم الخارجي؛ فالعرب لا يعيشون في جزيرة معزولة أو كوكب آخر، لكي يختاروا ما يشاؤون ويرفضوا ما لا يرغبون، ولكنهم ليسوا محكومين أيضاً بالحتمية القاهرة، إذ يتوفر لديهم هامش من الحرية في التعامل مع المتغيرات الدولية، وبخاصة الاقتصادية منها. من هنا، لا بد من بلورة استراتيجية لا تتقاطع مع الآخر، ولكنها لا تستسلم لسطوته، فمثلما تَلمَستْ دول جنوب شرق آسيا، انطلاقاً من مبدأ «اعرف نفسك قبل أنْ تطرحها للآخرين»، طريقها التنموي، يمكن للعرب أنْ يفعلوا ذلك ببناء استراتيجية تقوم على الأركان الآتية:

1 – بناء فضاء اقتصادي عربي يُتاح فيه للقطاع الخاص ممارسة نشاطه الذي يتناسب مع حوافز المبادرة الفردية وغاياتها؛ فالسوق العربية أرض مَوات، يمكن أنْ يُحييها رجال الأعمال ليزرعوا فيها ما يشاؤون.

2 – الموازنة بين الأبعاد الدولية والإقليمية والعربية في العلاقات الاقتصادية؛ فلا يجوز المحاباة في اختيار الشركاء الاقتصاديين، أو تحكيم العوامل السياسية في رسم مسارات العلاقات الاقتصادية القُطرية مع المحيط الدولي أو الإقليمي على حساب الفضاء العربي.

3 – بناء خطة اقتصادية تتضمن مشروعات تتناسب مع الميزات النسبية لكل قطر عربي، وإزالة التنافرات بين مكوناتها، والحرص على تكامل مفرداتها، ومن ثم طرحها للاستثمار الدولي والعربي، وتنفيذها وفق الأسس الاقتصادية المُتعارَف عليها في العالم.

إن تَبني استرايتيجية، كالتي ألمحنا لأسسها آنفاً، سوف تنعكس منه المغانم الآتية:

أ – إعادة استثمار الأموال العربية الفائضة داخل الكيان العربي، بما يوفر لها الأمان وكفاءة التشغيل معاً؛ فمعدلات الأرباح في البلدان العربية هي أعلى من نظيرتها في البلدان المتقدمة، وذلك لأن اقتصاداتها لا تزال فتية، تحتاج إلى مدة طويلة لكي تبلغ مرحلة النضوج.

ب – التكامل التلقائي بين الاقتصادات العربية؛ إذْ إن التطور العَفوي غير المُصمَم، إذا ما توافرت شروط استمراره وديمومته، يكتمل بمعدلات أسرع من نظيره المُصمَم، بسبب العراقيل التي توضع في عجلة دورانه، والهواجس التي تمنع من الحرص على بلوغ محطاته النهائية.

ج – الحفاظ على الهوية العربية التي نَخرَتْ بها عوامل الضعف والتشتت، من احتواء للإرادات السياسية، وغزو للثقافة الأمريكية العالمية، ونزاعات داخلية دامية مدعومة ومتزامنة مع إحياء النزعات الانفصالية الإثنية – العرقية والطائفية، بسبب خفوت وهج الجامع الشامل، وهو الثقافة العربية المُضيَعة، نتيجة ترهل الحامل المادي لها، وهو الأمة من حيث كونها بشراً وارضاً وسلوكيات.

الاستنتاجات

خلصنا من دراستنا التنمية العربية في ظل العولمة إلى النتائج الآتية:

أولاً: مع تقدم مسيرة العولمة، لم يَعُد هناك من خيار لأية دولة أنْ تنمو وتتطور حضارياً خارج دائرة العالم الموحد بمؤسساته المُهيمنة (الأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير)، وسياساتها الهادفة إلى دمج الكيانات الاقتصادية الدولية في سوق واحدة. لذلك، لا يمكن للبلدان العربية، وهي المُندمِجة اندماجاً كامـلاً بالنظام العالمي قبل أنْ يتعولم، إلا الاجتهاد لإيجاد مُقاربات جديدة تقوم على مبدأ «التغذية العكسية»، أي مُبادلة ما يتوافر من موارد مادية وبشرية بتوطين التكنولوجيا والمؤسسات العلمية والأساليب الإدارية الكفوءة.

ثانياً: يدخل العالم بمراكزه الرئيسة (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، اليابان، الاتحاد الروسي، الصين) والثانوية (الهند، كوريا الجنوبية، البرازيل) مرحلة الثورة الصناعية الرابعة، والبلدان العربية في ظل منهجها التنموي القائم على التكامل رأسياً مع العالم الغربي لا تزال تُراوح في دائرة الثورة الصناعية الأولى، حيث ظل الطابع العام لاقتصاداتها ريعياً، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن أفضل المواقع التي ستحتلها هو موقع الأطراف في جسد المراكز الاقتصادية الثانوية، وأقصى الفوائد هو «زبد البحر» من «اقتصادات الرغوة».

ثالثاً: إن العمل الاقتصادي العربي المشترك الحاضر في السرد النظري العربي والغائب عملياً، ليس بَطراً ولا شعارات تُرفَع عندما تضيق بالسياسيين سبل النجاة، بل هو المحرك الفعلي للنمو الاقتصادي العربي الذي لا يتضرر منه أحد ولا تستأثر بمغانمه أطراف معيّنة من دون أخرى، فهو الحاضن للمال المُغامَر به في الأسواق المالية الدولية، والقوى العاملة المُضيَعة والمٌفرَط بها، كما أنه الحامي للاقتصادات العربية الضعيفة من مخاطر المديونية الخارجية، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى الحدود الحرجة التي تُديم الفقر، وتزيد من دائرة الفقراء العرب.

رابعاً: لا يمكن الحديث عن نمو اقتصادي حقيقي من دون تحقيق معدلات تصنيع متزايدة ومضطرَدة، لأن الصناعة هي الحلقة الأولى في مسلسل التحول الحضاري الشامل، ومن دونها، من حيث الكم والنوع، يظل الحديث عن النمو والتحديث والتنمية ضَرباً من الرياضات الفكرية، والثرثرة النظرية التي ملأتْ بطون الكتب والمجلات والجرائد، بعد أنْ وَقرَتْ الآذان عَبرَ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.

خامساً: إن توزيع عناصر القوة الاقتصادية بما هو متفاوت بين الأقطار العربية، يصب في صالح العمل الاقتصادي العربي المشترك، ولكن استئثار الأقلية العددية بمصادر الثروة الرائجة (النفط والغاز) شَكّل عائقاً أمام التكامل الأفقي في الوطن العربي، وفرض خيار التكامل العمودي مع العالم الصناعي الغربي. لذلك، فإن إعادة استثمار فوائض الأموال النفطية في الأقطار الغنية برأس المال البشري لتحقيق هدف تنويع مصادر الدخل وتصحيح الاختلالات البنيوية، هو الكفيل بإعادة التوازن في العلاقات الاقتصادية البينية، ما يجعل نقطة الانطلاق في العمل التنموي بوابةً حقيقيةً للتطور الاقتصادي الشامل.

التوصيات

أولاً: الشروع بتوطين الصناعة في الوطن العربي وبنائها على أسس اقتصادية بعيداً من الحسابات الجهوية والهواجس السياسية، وذلك من خلال الدمج بين سياستي «التصنيع من أجل التصدير» بالنسبة إلى الموارد الطبيعية المتوافرة، مثل الصناعات البتروكيميائية، صناعة المشتقات النفطية وغيرها، وإحلال الاستيرادات للتعويض عن السلع الاستهلاكية والإنتاجية التي أغرقت الأسواق العربية.

ثانياً: إحياء مسيرة العمل الاقتصادي العربي المشترك، وتجاوز عقدة الاستثناءات في التجارة العربية البينية من خلال صندوق خاص للتعويضات.

ثالثاً: رفع القيود عن حركة القوة العاملة العربية، سواء كانت القانونية منها أو السياسية، لاستيعاب دفق العقول العربية المُهاجرة، وكذلك الأيادي العاملة الرخيصة.

رابعاً: ترشيد نمط الاستهلاك البذخي، المُفرِط في عدد مفرداته التي لا تُشكِل سلعاً ضرورية في السلة الاستهلاكية العربية، وكذلك عقلنة النمط الإنتاجي بإعادة بناء المنشآت الإنتاجية، والتخلُّص من المؤسسات غير الكفوءة، وتحقيق التكامل أو على أقل تقدير التنسيق بين المنشآت المُتجانِسة.

خامساً: بناء جدار جمركي عربي، أسوة بالتكتلات الاقتصادية الأخرى، للحد من القدرات التنافسية للسلع الأجنبية في السوق العربية.

 

قد يهمكم أيضاً كتاب التنمية العربية الممنوعة: ديناميات التراكم بحروب الهيمنة الصادر عن المركز في آب/أغسطس 2020

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التنمية_العربية #التنمية #النمو_الاقتصادي #العمل_العربي_المشترك #الفكر_الاقتصادي #السوق_العربية #الاستهلاك_البذخي #التنمية_في_البلدان_العربية #الاقتصادات_العربية #الصناعات_العربية