مقدمة
تنتهج حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة منذ احتلالها الشطر الشرقي لمدينة القدس عام 1967 سياسة إقصائية لأي تخطيط استراتيجي للمدينة، وهذا بدوره أدى إلى الإهمال التام للأحياء الفلسطينية والحد من البناء السكني، وإضعاف الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمدينة، فضلًا عن تشييد الجدار العازل حول المدينة عام 2002 وعزل ثمانية أحياء عربية عن المدينة من الناحية الشمالية. وهو ما أدى إلى تغيير مكانة القدس من مدينة اقتصادية مركزية بالنسبة إلى الضفة الغربية إلى محيط فقير يعتمد حصريًا على النظامين الاقتصادي والسياسي الإسرائيليين.
ومع صعود حكومات اليمين المتطرف، وبغرض فرض سيطرتها على مدينة القدس، طرحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي استراتيجيات ومخططات متعددة تسعى من خلالها إلى ترسيخ سيطرتها على شرق القدس، وفرض هيمنة استعمارية إحلالية جغرافية وديمغرافية، وهيمنة فكرية وأيديولوجية على المدينة وسكانها الفلسطينيين.
كانت آخر هذه المخططات القرار الذي اتخذته حكومة الاحتلال الإسرائيلي في أيار/مايو 2018 تحت عنوان خطة «تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية» أو ما يسمى الخطة الخمسية.
تعرض هذه الورقة في طياتها الخطة الخمسية وبنودها، وأهدافها، ودوافعها، ونتائجها، ومآلاتها على الواقع الفلسطيني، والعقبات التي تعترض تنفيذها، وتحاول في قسمها الأخير تقديم تصورات مستقبلية لمدى إمكان تطبيق الخطة وتحقيق أهدافها. تستند الورقة إلى قراءة معمقة في وثائق صادرة عن حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بلدية القدس، ومراكز بحثية إسرائيلية.
إشكالية البحث: تكمن إشكالية البحث في الاستراتيجيات الاستعمارية الإحلالية التي تنتهجها حكومة الاحتلال الإسرائيلي لإحكام سيطرتها على مدينة القدس وعلى سكانها الفلسطينيين، والتي تجلت في اتخاذ حكومة الاحتلال الإسرائيلي القرار الرقم 3790 «تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية» أو ما يسمى الخطة الخمسية، التي تهدف إلى تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين في مدينة القدس. تطرح الخطة في أهدافها المعلنة مخططات تُعنى بالتعليم، والرفاه وتشغيل الفلسطينيين في المدينة، بهدف دمجهم في المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين.
يقودنا هذا إلى تساؤل رئيسي هو: ما هي نتائج ومآلات قرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي الرقم 3790 «تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية» أو الخطة الخمسية على واقع مدينة القدس ومستقبلها وعلى سكانها الفلسطينيين؟
أهمية البحث: تكمن أهمية البحث من منظور دراسة تحليلية استشرافية في فحوى خطة مصيرية (الخطة الخمسية) غير موثقة وغير مدروسة لدى الجمهور العربي بمختلف مستوياته الأكاديمية والحكومية والشعبية، والمتعلقة بمستقبل السكان الفلسطينيين في الشطر الشرقي لمدينة القدس.
أهداف البحث: يهدف البحث إلى التعرف إلى الخطة الخمسية وبنودها، وأهدافها، ودوافعها، ونتائجها، ومآلاتها على واقع مدينة القدس ومستقبلها من النواحي الجغرافية والديمغرافية والفكرية الثقافية. ويهدف أيضًا إلى تقديم تصورات مستقبلية لمدى إمكان تطبيق الخطة وتحقيق أهدافها.
منهجية البحث: تطلب مسار البحث اتباع أكثر من منهجية علمية، إذ تم استخدام المنهج الوصفي التحليلي، الذي يقوم على وصف الاستراتيجية الاستيطانية الصهيونية التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس من جراء إقرارها الخطة الخمسية من الناحية النظرية والمعرفية؛ ثم تحليل النتائج والآثار الناجمة عن هذه الخطة على سكان مدينة القدس. إضافة إلى استخدام المنهج الاستشرافي، لاستقراء مستقبل مدينة القدس في ظل الخطة الخمسية الساعية إلى تغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي في المدينة في المدى المنظور.
الإطار النظري: يمثّل منظور الاستعمار الاستيطاني إطارًا تفسيريًا يمكن من خلاله فهم الصراع العربي – الإسرائيلي. تشير نظرية الاستعمار الاستيطاني إلى أن الأرض هي العنصر الأهم في عملية الاستيطان وأن المستعمر المستوطن جاء ليبقى. يقوم الاستعمار الاستيطاني على منطق الإبادة لأهل البلاد بكل أشكالها المادية، والمعنوية، والسياسية، والثقافية. لذلك لا ينتهي الاستعمار الاستيطاني في زمان أو مكان، فهو مشروع متحرك ولا رجعة عنه، ولا يلتزم بمنطقة جغرافية محددة.
يتصف الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بالعنصرية، ويسعى إلى البقاء في الأرض واستغلال مواردها، واضطهاد سكانها الأصلانيين وطردهم وترحيلهم من طريق أعمال العنف والقتل والتشريد والتطهير العرقي. لكن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يعاني في الوقت نفسه معضلة استمرار الصراع العربي – الإسرائيلي الذي لا يزال قائمًا على مدى أكثر من سبعين عامًا ولم ينتهِ بعد بسبب عدم تمكن المستعمِر الصهيوني من إبادة كل السكان الأصلانيين والسيطرة عليهم، الذين ما زالوا يقاومون ويطالبون بحقهم في تقرير مصيرهم.
أولاً: خطة تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية في الشطر الشرقي من مدينة القدس
هذه الخطة هي خطة حكومية شاملة مدتها خمس سنوات نفذت بين عامي 2018 و 2023، تم إقرارها من خلال اتخاذ حكومة الاحتلال الإسرائيلي في الثالث عشر من أيار/مايو 2018، القرار الرقم 3790 وعنوانه «تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وتطوير الاقتصاد في القدس الشرقية» أو الخطة الخمسية.
تشتمل الخطة الخمسية على ست مجالات رئيسية هي: التعليم/ التعليم العالي، الاقتصاد والعمالة، وسائل النقل، تحسين الخدمات المدنية ونوعية الحياة (البنى التحتية والترفيه)، الصحة، التخطيط وتسجيل الأراضي. وقد تم رصد ميزانية كبيرة وغير مسبوقة لتنفيذ القرار 3790 (الخطة الخمسية) تبلغ 2.1 مليار شيكل أي ما يقارب 550 مليون دولار. وقد وزعت مخصصاتها على النحو التالي:
وسائل النقل: 585 مليون شيكل؛ التعليم: مليون 445 شيكل؛ التعليم العالي: 273 مليون شيكل؛ الاقتصاد والتوظيف: 309 مليون شيكل؛ جودة الحياة والترفيه: 136 مليون شيكل؛ المياه ومياه المجاري: 260 مليون شيكل؛ البنى التحتية والتخطيط والأرض: 50 مليون شيكل؛ الصحة: 30 مليون شيكل[2].
ثانيًا: بنود الخطة الخمسية
1- التعليم
الهدف الأساسي للخطة الخمسية تحت بند التعليم هو تحويل جميع المدارس العربية في الشطر الشرقي من القدس إلى تدريس المناهج الإسرائيلية، وتمكين الطلاب الفلسطينيين من إتقان اللغة العبرية؛ ومن أجل تحقيق ذلك سيتم بناء 660 فصلًا دراسيًا مخصصة لطلاب الصفوف الابتدائية الأولى بحيث يتم تدريس المنهج الإسرائيلي فيها، إضافة إلى بناء دور حضانة على مدى خمس سنوات.
وقد بلغت الميزانية المخصصة للاستثمار في مجال التعليم 445 مليون شيكل، تم تخصيص 43.4 بالمئة منها حصريًا للمدارس التي تدرس المناهج الإسرائيلية. أما المدارس التي تدرس المنهاج الفلسطيني فلم تشملها ميزانية الخطة[3].
2 – التعليم العالي
بحسب الخطة الخمسية فإن التعليم العالي هو أحد الأدوات الرئيسية للتغيير الاجتماعي والاقتصادي؛ حيث كان الهدف هو مضاعفة عدد طلاب شرق القدس الذين يدرسون في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
صاغت لجنة التعليم العالي مخططًا لبرنامج أطلق عليه «برنامج رواد» يقوم بتنظيم دورات تحضيرية لطلاب المرحلة قبل الأكاديمية في شرق القدس لتشجيع المتفوقين منهم على الدراسة في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية، بهدف دمجهم في الوظائف المتقدمة والمناصب المهمة في القطاع العام الإسرائيلي[4].
طورت مؤسسات التعليم العالي وصناع السياسات في الوزارات الحكومية المختلفة برنامجًا أطلق عليه برنامج «البشير» بهدف دمج الطلاب المتخرجين من المؤسسات الفلسطينية للدراسات العليا في نظام التعليم العالي الإسرائيلي[5]. يهدف برنامج «البشير» إلى تشجيع الشباب الفلسطيني على الالتحاق بالدراسات الأكاديمية الإسرائيلية، والاندماج في سوق العمل الإسرائيلي؛ حيث يتم إلحاقهم ببرنامج غير أكاديمي ودورات تدريبية، لإعدادهم للاندماج في التوظيف بحسب مجال دراستهم. ويستمر خريجو البرنامج بتلقي التوجيه من أجل بلورتهم كمجموعة مؤثرة تقود التغييرات داخل أماكن العمل[6].
3 – الاقتصاد والعمالة
يهدف هذا البند إلى زيادة الإنتاجية في الاقتصاد الإسرائيلي، وزيادة دخل بلدية القدس، إضافة إلى دمج سكان شرق مدينة القدس في دائرة التشغيل، وزيادة الدخل لكل أسرة. تعمل هذه الخطة على تحقيق أهدافها من خلال القيام بما يلي:
أ – تقليص الفجوة بين معدل توظيف النساء المستوطنات في الفئة العمرية 25-64 عامًا في شرق القدس، ومعدل توظيف النساء العربيات في الفئة العمرية نفسها، بحيث يصل معدل توظيف النساء العربيات في شرق القدس بحلول عام 2023 إلى 75 بالمئة على الأقل من العمالة. ولتحقيق ذلك أنشأت وزارة العمل والرفاه والخدمات الاجتماعية مركزًا إرشاديًا لطالبي العمل يطلق عليه «مركز ريان» يعمل على توجيه وتنسيب العمال من الشطر الشرقي من القدس، ويقدم برنامجًا يتضمن الدراسات والتدريب المهني بما في ذلك الدراسات العبرية وأجهزة الكمبيوتر، والتحضير لعالم العمل؛ بهدف زيادة الأمن الشخصي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في القدس لمصلحة جميع سكانها[7].
ب – ورد في أهداف الخطة الخمسية بند تشجيع الأعمال الاقتصادية الريادية؛ منها ريادة الأعمال في مجال التكنولوجيا العالية، الذي تم تطويره بالتعاون مع شركات محترفة، وهو يستهدف رواد الأعمال ورجال الأعمال المبتدئين المهتمين باستكشاف الترويج لفكرتهم وتحويلها إلى شركة ناشئة.
سيتم إنشاء مركز لرواد الأعمال في شرق المدينة كجزء من مسار الخطة الخمسية، وسيتم وضع خطة حكومية لدعم الأعمال والتنمية المادية للمراكز التجارية والمناطق التجارية في أحياء شرق القدس[8]. ومن أهم المشاريع التي سيتم بلورتها ضمن الخطة الخمسية «مخطط وادي السيليكون»[9].
أعلنت بلدية الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2020 عن موافقتها على المخطط الرئيسي لوادي السيليكون في المنطقة الصناعية في حي وادي الجوز الواقع إلى الشمال من البلدة القديمة في القدس. يهدف المخطط إلى تحويل منطقة وادي الجوز إلى منطقة مركزية عالية التقنية (وادي سيليكون) على غرار وادي السيليكون الأمريكي، بهدف تحقيق الرخاء لسكان القدس. سينفذ المخطط على مساحة تقدر بـ 250 ألف متر مربع؛ تخصص لمراكز التوظيف الصناعية العالية التقنية، ومراكز تسوق، وفنادق. وكجزء من المخطط سيتم هدم 200 منشأة فلسطينية، ومصادرة 2000 دونم من أراضي حي وادي الجوز.
4 – المواصلات
لتعزيز تحقيق مشاريع المواصلات سيتم إنشاء شبكة مواصلات عامة في الشطر الشرقي لمدينة القدس وربطها بشبكة النقل العام من طريق نظام متكامل متعدد الخطوط في شرقي القدس. من أهم هذه المشاريع «الطريق الأمريكي»[10].
هذا الطريق هو مشروع مواصلات واسع النطاق في شرق القدس من المتوقع أن يكلف أكثر من ربع مليار دولار. وهو جزء من الخط الاستثماري لبلدية القدس ووزارة النقل شرق المدينة. يمتد هذا الطريق بمختلف مقاطعه على مسافة 12 كم، بدءًا من حاجز مزموريا بالقرب من صور باهر جنوب شرق القدس حتى يصل شمالًا إلى منطقة الطور، وتحديدًا عند حاجز الزعيم العسكري من الجهة الشرقية للمدينة. سيخدم هذا الطريق مستوطنات الأغوار والمستوطنات الجنوبية، كذلك سيربط مستوطنات شرق القدس والمستوطنات الجنوبية ليسمح بالوصول السريع لسكان مستوطنات غوش عتصيون ومعاليه أدوميم من القدس وإليها[11].
5 – تخطيط العقارات وتسجيلها
تنص الخطة الخمسية في بند تسجيل العقارات على استثمار ما يقارب من 50 مليون شيكل لتسوية الأراضي في الشطر الشرقي لمدينة القدس بهدف تسوية 50 بالمئة من الأراضي حتى نهاية عام 2020، واستكمال تسجيل 100 بالمئة من الأراضي نهاية عام 2025.
ستتم عملية التسوية التي بدأت عام 2018 بناء على قانون الغائبين وقانون تسوية الحقوق المتعلقة بالأراضي لعام 1969 الذي يقضي أنه على كل جهة، سواء كانت من الأفراد أو من الجمعيات، أن تثبت أنها تعمل في الأرض أو تقيم عليها على نحوٍ مستمر، ويسقط حق المدعي إذا مرت مدة خمسة عشر عامًا من دون أن يقوم باستغلال الأرض التي يقيم عليها[12].
ثالثًا: دوافع اتخاذ القرار 3790 (الخطة الخمسية)
كان لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي عند اتخاذها القرار الرقم 3790 دوافع كثيرة من أهمها:
1 – الدافع الأمني
مثّل الدافع الأمني عاملًا أساسيًا لاتخاذ القرار الرقم 3790، وتم الربط بين الوضع الأمني والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردّي للسكان الفلسطينيين القاطنين في الشطر الشرقي لمدينة القدس، بعد استشهاد الطفل محمد أبو خضير، إذ تصاعدت عمليات المقاومة الفلسطينية في القدس وبخاصة بين فئة الشباب. وفي عام 2015 انطلقت انتفاضة السكاكين. عزت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سبب تصاعد عمليات المقاومة التي تزعزع أمن الاحتلال الإسرائيلي إلى الوضع الاقتصادي المتردي للفلسطينيين، لا بسبب ممارسات الاحتلال القمعية[13].
2 – الدافع الاقتصادي
هدفت الخطة الخمسية إلى تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي في مدينة القدس من طريق توظيف المرأة وتعزيز ريادة الأعمال، وتشجيع الأعمال الصغيرة وغيرها. على فَرَض أن تحسين الوضع الاقتصادي للسكان العرب وتوسيع قطاع الأعمال سيكونان قادرين على المساهمة في زيادة العائدات من الضرائب لخزينة دولة الاحتلال وبلديتها، وتقليل مدفوعات التحويل المدفوعة من خلال التأمين الوطني.
كذلك أدى بناء الجدار العازل حول مدينة القدس إلى عودة أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى المدينة للحفاظ على حقهم في الإقامة فيها، وهو ما مثّل عبئًا اقتصاديًا على سلطات الاحتلال في جوانب كثيرة كالتأمين الوطني والتأمين الصحي والتعليم[14].
3 – الدافع السياسي
دفعت أسباب سياسية كثيرة إلى اتخاذ القرار 3790، فمع صعود تيار اليمين المتطرف في حكومة الاحتلال تعززت فكرة أن السيادة الإسرائيلية على شرق القدس تعني تحمل المسؤولية عن الجزء الشرقي من المدينة، وتعزيز مكانتها الاجتماعية والاقتصادية. وفي ظل انهيار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في مرحلتها الرابعة عام 2014 وغياب دور السلطة الفلسطينية الفعّال لمواجهة إجراءات الاحتلال الإسرائيلي في القدس وبالأحرى انعدام هذا الدور، وإغلاق المؤسسات الفلسطينية العاملة في القدس، مثلت هذه العوامل حافزًا لحكومة الاحتلال الإسرائيلي للعمل على فرض سيادتها على مدينة القدس وإحكام سيطرتها عليها والتوضيح بأنه لا يوجد أفق لتسوية سياسية مع السلطة الفلسطينية في ما يتعلق بوضع مدينة القدس، وأنها بأكملها عاصمة موحدة للكيان الإسرائيلي؛ كذلك اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي شجع حكومة الاحتلال على اتخاذ القرار 3790 أو الخطة الخمسية عشية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس[15].
رابعًا: عقبات تنفيذ الخطة الخمسية
من البديهي أن يواجه أي مخطط عقبات في طريق تنفيذه؛ وبالنسبة إلى الخطة الخمسية هناك عقبات من الجانب الفلسطيني وعقبات من جانب الاحتلال الإسرائيلي، يمكن إيرادها في ما يلي:
1 – عقبات من الجانب الفلسطيني
– يقف وجود معارضة سياسية ومقاومة شعبية لممارسات الاحتلال في مدينة القدس عائقًا أمام سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ مخططاتها.
– يعارض الكثير من أولياء أمور طلاب المدارس الذين يدرسون المناهج الفلسطينية التحاق أبنائهم في البرنامج الدراسي الإسرائيلي.
– هناك معارضة في المجتمع العربي الفلسطيني بالنسبة إلى مسألة التكامل التعليمي، ودمج طلاب شرق القدس الفلسطينيين في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية وبخاصة الجامعة العبرية.
– سيكون هناك صعوبات لدى المعلمين الفلسطينيين الذين يدرسون المناهج الإسرائيلية في مسألة تدريس مادة «المواطنة الإسرائيلية» للطلاب الفلسطينيين سكان شرق القدس.
– يمثل انخفاض مستوى اللغة العبرية لدى الطلاب الفلسطينيين حاجزًا أمام الطلاب الفلسطينيين لاندماجهم في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
2 – عقبات من الجانب الإسرائيلي
– التسلسل البيروقراطي في خطوات التنفيذ واتخاذ القرارات والتنسيق بين الهيئات الحكومية المتعددة، إذ يوجد سبعة وعشرون جهة تشارك في تنفيذ القرار، وهو ما يزيد من صعوبة اتخاذ القرارات التنفيذية.
– إن 58 بالمئة من الحاصلين على تعليم عالٍ في شرق القدس درسوا في المؤسسات الفلسطينية في كثير من الحالات لا تعترف دولة الاحتلال الإسرائيلي بالشهادات التي تم الحصول عليها من هذه المؤسسات، وبالتالي لا يمكن للخريجين الاندماج في سوق العمل في المجال الذي درسوا فيه.
خامسًا: ما تم إنجازه من الخطة الخمسية حتى عام 2022
– وفقًا لتقارير مشروع مراقبة القرار الحكومي 3790، تشير البيانات إلى أن التنفيذ في مجال التعليم قد تحقق بدرجة عالية من خلال الوضع التفضيلي الممنوح للنهوض بالمنهج الإسرائيلي، حيث تم استخدام ميزانيات التعليم بالكامل[16]. ويشير التقرير إلى أن ما يقارب من نصف ميزانية التعليم تم تخصيصه لنقل الطلاب الفلسطينيين إلى المناهج الإسرائيلية. وبحسب الدراسة، توجد زيادة بنسبة 34 بالمئة في عدد الطلاب الذين يدرسون المناهج الإسرائيلية ويقتربون من شهادة الثانوية الإسرائيلية. ويبين التقرير أن 8 بالمئة من الطلاب في عام 2018 درسوا وفق المنهاج الإسرائيلي. في حين أنه في عام 2022 ارتفعت نسبة الطلاب لتصل إلى 14.7 بالمئة. كذلك يوجد ارتفاع في نسبة الطلاب في البرنامج الإسرائيلي في الصف الأول من 6.5 بالمئة في عام 2018 إلى 16.5 بالمئة في عام 2022.
– ارتفاع عدد الطلاب في التعليم التكنولوجي، وهو شبه معدوم في البرنامج الفلسطيني، من 1,950 طالبًا إلى 2,499 طالبًا، وارتفعت نسبة الطلاب الذين يحق لهم الحصول على الشهادة التكنولوجية من 37 بالمئة عام 2018 إلى 51 بالمئة عام 2022 [17].
– تحقيق نسبة نجاح 100 بالمئة في عام 2022 لبرنامج «البشير» الذي يقوم على تأهيل الطلاب الفلسطينيين للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية المتخصصة بالتكنولوجيا العالية، إذ التحق 600 طالب فلسطيني في البرنامج.
– تضاعف عدد الطلاب الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية ما بين عامي 2018 و2022، إذ التحق 388 طالبًا فلسطينيًا بالجامعات الإسرائيلية في عام 2018 مقابل 899 طالبًا التحقوا في عام 2022 [18].
– حقق برنامج «رواد» الأهداف المرجوة منه على نحوٍ ملحوظ. على سبيل المثال، تحدد في العام الدراسي 2019-2020 عدد المسجلين في البرنامج 500 طالب، بينما على أرض الواقع التحق في البرنامج 638 طالبًا[19].
– يضع الفصل المتعلق بالاقتصاد والتشغيل من الخطة الخمسية إدماج سكان القدس في دائرة التشغيل الإسرائيلية هدفًا مركزيًا مع التركيز بوجه خاص على إدماج المرأة في سوق العمل الإسرائيلي؛ ففي عام 2022 كانت نسبة مشاركة المرأة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلي 27 بالمئة في حين كانت نسبة العمالة الفعلية في السنوات التي سبقت القرار 5.24 بالمئة[20].
– في عام 2019 تم دمج 63 بالمئة من العمال الفلسطينيين الذين تقدموا بطلبات إلى مركز ريان، حيث تقدم 496 فلسطينيًا بطلبات تشغيل إلى المركز منهم 301 امرأة، و171 رجلًا، ولكن بحسب وزارة القدس والتراث فإن 60 بالمئة من النساء اللواتي دُمجن بالتشغيل يتقاضين أقل من الحد الأدنى للأجور مقارنة بما تتقاضاه المستوطنات العاملات؛ بحيث أصبح الحد الأعلى من الأجور للعاملات الفلسطينيات يعادل الحد الأدنى من الأجور للمستوطنات العاملات[21].
– نُفذ الجزء الشمالي من الطريق الأمريكي وتم استثمار الميزانية المخصصة لتخطيط وإنجاز هذا الجزء من الطريق[22].
– صودق على مشروع وادي السيليكون في نيسان/أبريل 2022. وصدرت أوامر إخلاء لأصحاب العقارات في المنطقة الصناعية بمنطقة وادي الجوز[23].
سادسًا: نتائج ومآلات تنفيذ الخطة الخمسية على الواقع الفلسطيني
بلغ معدل انتشار الفقر في عام 2016 بين سكان القدس الفلسطينيين 72.9 بالمئة مقارنة بـالمستوطنين الذين سجل معدل انتشار الفقر بينهم 29.8 بالمئة، أي أن الفجوة في معدل الفقر عند الأسَر الفلسطينية في القدس أعلى بمرتين ونصف المرة من معدل الفقر عند أُسَر المستوطنين. ربط المحللون الإسرائيليون الجانب الأمني بالجانب الاقتصادي والاجتماعي، ورأوا أن التردّي في الوضع الاقتصادي الفلسطيني قد يسفر عن احتجاجات وحراكات ضد الاحتلال الإسرائيلي[24].
بالرغم من التركيز على توظيف نسبة عالية من النساء العربيات، وتشجيع خلق فرص عمل جديدة للاندماج في مؤسسات العمل الإسرائيلية فإن أجور العمالة الفلسطينية متدنية مقابل أجور المستوطنين في العمل نفسه، ومن اللافت للنظر أن ارتفاع نسبة النساء العاملات لا ينسجم مع الانخفاض بنسبة الفقر. يعود ذلك إلى أن الوظائف التي يعمل فيها الفلسطينيون، وبخاصة النساء المقدسيات، تتميز بأجور منخفضة، ووظائف بدوام جزئي، وفي كثير من الأحيان بشروط توظيف مهينة وبلا ضمانات تشغيل[25]. بالتالي لا يوجد هناك أفق للتقدم الاقتصادي والاجتماعي للعاملات المقدسيات.
إن الإصرار على إدماج النساء في سوق العمل، الذي يتطلب بصورة أساسية تعلم اللغة العبرية، والتحاق أطفالهن بدُور رعاية إسرائيلية، سينعكس سلبًا على وعي الأسرة وعلى تربية الأطفال لتقبّل المستعمِر الصهيوني بجميع أوجهه الاستعمارية الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية على أنها أمر واقع يجب تقبّله والتعايش معه.
سعت سلطات الاحتلال أيضًا من خلال الخطة الخمسية إلى دمج سكان الشطر الشرقي من مدينة القدس في قوى عاملة منظمة، من خلال تشجيع التعليم العالي في المجالات التي من شأنها تعزيز النمو الاقتصادي في المجال الإلكتروني، وهو ما سيؤدي إلى تشكيل طبقة من الموظفين العرب المؤهلين للعمل في مجال التكنولوجيا الإسرائيلية العالية، وهذا سيحقق أرباحًا مرتفعة لأصحاب العمل الإسرائيليين مقابل رواتب زهيدة للعاملين العرب[26].
تعمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي على إرغام المدارس الفلسطينية على تدريس المنهاج الإسرائيلي من طريق حرمانها أي امتيازات أو مخصصات من ميزانية الخطة. إضافة إلى سحب تراخيص بعض المدارس كما حدث في آب/أغسطس 2022 حيث تم سحب التراخيص الدائمة لمدارس الإيمان ومدرسة الكلية الإبراهيمية واستبدالها برخصة مؤقتة بسبب رفض هذه المدارس الإذعان وتدريس المنهاج الإسرائيلي. في المقابل أصدر أولياء أمور الكلية الإبراهيمية بيانًا أعربوا فيه عن تأييدهم لموقف المدرسة وأعلنوا عن رفضهم تدريس أبنائهم للمنهاج الإسرائيلي[27]. وهنا يظهر جليًا استخدام حكومة الاحتلال الإسرائيلي القوة لتدريس المنهاج الإسرائيلي في المدارس الفلسطينية.
يتضح من إصرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرضُ تدريس المنهج الإسرائيلي وتعليم اللغة العبرية للفلسطينيين في مدينة القدس والتشديد على ضرورة إشراف وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، ووزارة الخارجية في المدارس التي تدرّس المناهج الإسرائيلية للحد من التحريض ضد الاحتلال الإسرائيلي[28]. بالتالي ستستخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي الثقافة والأيديولوجيا كأداة للسيطرة على الفلسطينيين لانتهاك وعي الطلاب الفلسطينيين وثقافتهم وهويتهم؛ وفرض الأيديولوجيا الصهيونية الحاكمة على مؤسسات التعليم، على أساس أن المدرسة هي الأداة التي يتم فيها تطوير المفكرين في المجتمع من مختلف المستويات، فيتعلم الطلاب كيفية اتباع القواعد، وطاعة السلطة، والتصرف وفقًا للمعايير الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفرضها السلطات الإسرائيلية وكأنها أمر طبيعي لا مفرّ منه.
كذلك تشير الأعداد المتزايدة للطلبة الملتحقين بالتعليم التكنولوجي، ومضاعفة أعداد الطلاب الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية أن هناك توجهًا لدى فئة الشباب للانخراط في سوق العمل الإسرائيلي، وهو ما يهيئ إلى بوادر اندماج في المجتمع الإسرائيلي.
أما فيما يتعلق ببند تسجيل الأراضي، ففي ظاهر القرار أنه يهدف إلى خلق مستقبل أفضل لسكان شرق المدينة وتحقيق مصالحهم وأنه سيكون في إمكانهم ترسيخ حقوقهم في السجل العقاري، إلا أن هذا بعيد من الواقع. فمن أهم المشاكل التي تواجه السكان الفلسطينيين أثناء تقديمهم الوثائق المطلوبة لإثبات تسلسل الملكية في إطار إجراء التسوية. ففي الكثير من الأحيان، تكون الوثائق المطلوبة موجودة إما في الأردن وإما في تركيا، ومن الصعب، بل من المستحيل، تحصيل هذه الوثائق. تواجه الفلسطينيين مشكلة أخرى في شرق القدس تتعلق بتطبيق قانون أملاك الغائبين أثناء النظر في تسلسل ملكية العقارات؛ لذلك سيعمل الاحتلال الإسرائيلي على استغلال قرار تسجيل الأراضي لمصادرة الأراضي الفلسطينية لمصلحة حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وهذا سيمثّل هدفًا استراتيجيًا لتعزيز عملية الاستيطان في مدينة القدس؛ فقد قرر الصندوق القومي اليهودي في بداية عام 2022 الدفع في اتجاه خطوة واسعة النطاق لتسجيل أراضٍ كان قد تملكها قبل عام 1948 باسم الصندوق، وهي تدار من جانب الوصي العام. تشتمل هذه الأراضي على ما مساحته 2500 دونم من أراضي شرق القدس، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع شديد في أعداد الفلسطينيين الذين سيواجهون دعاوى الإخلاء[29].
في إطار تطبيق بند تسجيل الأراضي من الخطة الخمسية تبين أن هناك استغلالًا وسوء استخدام في التطبيق؛ حيث تم استخدام منظومة تسوية الأراضي في إطار الخطة الخمسية والقيام بتسجيل أراضٍ في منطقة أرض النقاع، أو «كبانية أم هارون» في حي الشيخ جراح، يملكها فلسطينيون بأسماء مستوطنين صهاينة يدّعون ملكيتها قبل عام 1948. وجدير بالذكر أنه يقام على أراضي «منطقة أرض النقاع» 40 مبنى يقطنها 45 عائلة فلسطينية. أصبحت هذه العائلات مهددة بخطر الطرد والتهجير، ولكن نتيجة للحراك الجماهيري والهبّة الشعبية والإعلامية التي قادها أهالي حي الشيخ جراح في أيار/مايو 2021 وما رافقها من ضغط دولي وإقليمي أرجأت المحكمة العليا النظر في قضية تسوية أراضي «منطقة أرض النقاع» ولكنها لم تسقطها[30].
من تداعيات تنفيذ الطريق الأمريكي أن هذا الطريق سيصبح ممرًا التفافيًا جديدًا يربط المستوطنات الإسرائيلية الشمالية والجنوبية من القدس على حساب الأراضي الفلسطينية التي تتم مصادرتها في منطقة جبل المكبر وصور باهر، وهدم المنشآت القائمة عليها وتهجير سكانها، إضافة إلى أنه سيفصل مدينة القدس عن شمال الضفة الغربية وجنوبها.
أما خطة وادي السيليكون فمن أهم تداعياتها أن الخطة تنص على توسعة ثلاثة طرق رئيسية، لذلك ستقوم بلدية الاحتلال بمصادرة الأراضي المحددة للمشروع لغرض توسيع الطرق وهدم المباني القائمة عليها، التي تعود ملكيتها إلى الفلسطينيين، وكمعظم أراضي شرق القدس، لم تخضع أراضي وادي الجوز لتسوية ملكية الأرض، وهو ما يمثِّل تهديدًا بمصادرة هذه الأراضي. كذلك سيقوم المخطط بتدمير المنطقة الصناعية بوادي الجوز والتي تشتمل على مئات المحال التجارية والمرافق الخدماتية؛ علمًا أن أراضي حي وادي الجوز والممتلكات القائمة عليه هي ملكيات خاصة لعائلات فلسطينية سيتم نزع ملكيتها من السكان الفلسطينيين من دون تعويض، وسيقوم المستأجرون وأصحاب المحال التجارية بالانتقال إلى مناطق أخرى مثل العيساوية وأم طوبا.
سابعًا: تصورات مستقبلية
بعد الانتهاء من المدة المحددة لتنفيذ قرار الحكومة الإسرائيلية الرقم 3790 الذي يحمل عنوان «تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية» أو الخطة الخمسية، لم تحقق الخطة أهدافها على النحو الكامل والمطلوب، لذلك لجأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلى اتخاذ قرار حكومي جديد (الرقم 3791) لتمديد الخطة الخمسية لخمس سنوات جديدة من عام 2023 إلى عام 2028 وبميزانية تبلغ 3.2 مليار شيكل (نحو 830 مليون دولار). وقد تمت المصادقة على القرار الجديد في أيار/مايو 2023 [31].
بما أن المدّة المحددة لتنفيذ الخطة الخمسية لم تنتهِ بعد، وبما أن نتائجها لم تكتمل، نرى أن هنالك ثلاث تصورات يمكن تنبثق من نتائج تحقيق الخطة الخمسية لأهدافها:
التصور الأول: أن تحقق الخطة الخمسية أهدافها بصورة كاملة تؤدي إلى تعرض سكان القدس الفلسطينيين إلى تطهير عرقي صامت يتحقق باتجاهين متوازيين: الأول، إقصاء السكان الفلسطينيين عن مدينتهم من خلال تجريدهم من ممتلكاتهم ومقوماتهم ومواردهم الاقتصادية وإمعان تبعيتهم للاقتصاد الإسرائيلي. الثاني، التطهير الأيديولوجي للعقل الجمعي الفلسطيني من طريق دمج الفلسطيني في المجتمع والاقتصاد والتعليم الإسرائيلية، وبالتالي تجريده من الهوية الفكرية والانتمائية الفلسطينية بحيث يصبح منتميًا إلى اللامكان، واللافكر. وتسعى سلطات الاحتلال الإسرائيلية إلى تحقيق ذلك من خلال تدريس اللغة العبرية في رياض الأطفال وتدريس التاريخ الإسرائيلي والتراث اليهودي في المدارس العربية؛ فيدرس الطالب الفلسطيني بلغة المحتل ويتشبع بثقافته ويتقبله كأمر واقع وأنه جزء من المجتمع وليس مغتصبًا محتلًا.
التصور الثاني: عدم تمكّن السلطات الإسرائيلية من تحقيق أهداف الخطة مجتمعة بمعنى آخر أن تتحقق أهداف الخطة نسبيًا؛ لأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي هي المستعمِر وهي من يمتلك مصادر القوة وبالتالي هي من يدير القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والصحية ويتحكم فيها بصورة كاملة وهي من يسنّ القوانين وينفذها بما يتلاءم ومصالحها الاستعمارية الاستيطانية.
على صعيد آخر لم تشمل الخطة الخمسية ثمانية أحياء في منطقة شمال القدس شيدت خلف الجدار الفاصل على أراض تابعة لبلدية الاحتلال في القدس ويقيم فيها نحو 40 بالمئة من سكان الشطر الشرقي لمدينة القدس من الحاصلين على بطاقات الإقامة الدائمة، وتُركت هذه الأحياء خارج الجدار مهملة من دون خدمات وبنية تحتية. وقد فاقم الإهمال المرتفع من بلدية الاحتلال في تقديم خدماتها لهذه الأحياء، والنمو السكاني المتزايد بنسب مرتفعة، إلى ارتفاع معدلات الفقر المدقع وانعدام الأمن وزيادة معدل الجريمة؛ لذلك فإن استمرار إهمال هذه الأحياء سيؤدي إلى تفاقم الوضع الديمغرافي والاجتماعي والأمني، وهو ما سيؤثر بالضرورة في الاحتجاجات والحراكات والأحداث الأمنية في مدينة القدس وسيجعل سكان هذه المناطق عبارة عن قنبلة موقوتة من الممكن أن تنفجر في أي وقت. وستصطدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإشكالية الكتلة الديمغرافية الفلسطينية المقاومة التي ستقوض نسبة نجاح الخطة الخمسية وتحقيق أهدافها بالكامل.
التصور الثالث: ألا تتمكن الخطة من تحقيق أهدافها، وتفشل كما فشلت مخططات حكومية سابقة مثل قرار الحكومة الرقم 1175 لعام 2014، والقرار الرقم 2684 لعام 2017. إضافة إلى أن الخطة الخمسية تواجه الكثير من العوائق التي لن تمكنها من تحقيق أهدافها سواء كان على المستوى التنفيذي، أو على المستوى الشعبي الفلسطيني الذي يعارض بنودًا رئيسية من بنود الخطة؛ بحيث يؤدي إلى تعميق الصراع في القدس.
إضافة إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تناقض نفسها في ما يتعلق ببنود الخطة الخمسية، فعلى الرغم من اتخاذها الإجراءات القانونية والاقتصادية والاجتماعية كافة لإنجاح الخطة، ومن أنها تهدف إلى تحقيق الرخاء والتنمية للمجتمع الفلسطيني، فهي في النهاية السلطات نفسها التي تسلب الفلسطينيين حقوقهم وأراضيهم وتمارس شتى أنواع القمع والإقصاء والتهميش بحقهم؛ حيث يرى الصهيوني أن الفلسطيني هو الآخر والأجنبي المقيم على أرضه والذي يجب التخلص منه، لأن صراعه مع الفلسطيني هو صراع وجودي، لذلك فالتطهير العرقي والطرد هي نتيجة حتمية لهذا الصراع.
في المقابل يرى الفلسطيني أن الصهيوني هو المستعمِر الذي يمتلك القوة التي سلبته أرضه ومكتسباته وحقوقه. وهو ما أدى إلى تأسيس ثقافة مقاومة لدى الفلسطيني للخلاص من هذا المستعمِر. وتصاعد المقاومة الفلسطينية والحراكات الشعبية مثل عملية سيف القدس وهبة باب الأسباط وهبة باب الرحمة وعمليات المقاومة الفردية التي ينفذها الشبان المقدسيون ضد الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي يقوض فاعلية القرارات التي تتخذها سلطات الاحتلال تجاه الفلسطينيين، ويجعلها تعيد حساباتها فيها.
ترى الباحثة أن التصور المرجح هو التصور الثاني المتمثل بأن الخطة الخمسية ستحقق أهدافها، ولكن على نحوٍ نسبي؛ أو تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية على نحوٍ جزئي، لأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمتلك القوة والعوامل التي تؤهلها لتنفيذ مخططاتها وتحقيق أهدافها، وتتبع سياسات استراتيجية مستقبلية ممنهجة ومتدرجة في تنفيذ مخططاتها.
فتزايد أعداد الطلاب الملتحقين بالمؤسسات التعليمية الإسرائيلية بمختلف مستوياتها والإقبال المتزايد على تعلم اللغة العبرية، يشير إلى تقبل فئة من الشباب الانخراط والاندماج في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الإسرائيلية[32].
لذلك ستسعى سلطات الاحتلال الإسرائيلي من خلال الخطة الخمسية إلى تكوين طبقة اجتماعية فلسطينية مثل مديري المدارس، ولجان الآباء، وأعضاء المجالس التجارية، ووجهاء منظمين من المجتمع المحلي الفلسطيني تدعم مسار الاندماج في المجتمع الإسرائيلي وتعمل على إعادة صوغ الهوية الوطنية للمقدسيين ليصبحوا أقلية عربية تعيش في القدس «عرب القدس» وليسوا فلسطينيين أصلانيين أصحاب البلاد على غرار أهالي فلسطين المحتلة عام 1948. وسعيًا لتطبيق أهداف الخطة الخمسية تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتعيين مديرين ومعلمين موالين للمؤسسة الإسرائيلية ينفذون السياسات التعليمية الإسرائيلية بحذافيرها ومن يحيد عن هذه السياسات يفقد وظيفته. ذلك فضلًا عن التكلفة العالية لتحقيق أهداف الخطة والفجوات الكبيرة بين السكان الفلسطينيين في القدس وبين المستوطنين بحيث لا يمكن تقليص هذه الفجوات إلى حد تتمكن فيه الحكومة الإسرائيلية من تحقيق أهدافها بدمج الفلسطينيين كليًا في المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي.
على الصعيد الآخر، هناك تناقضات في آلية تنفيذ الخطة الخمسية، ففي الوقت الذي أقرّت حكومة الاحتلال الخطة الخمسية الجديدة وأقرت ميزانيتها قام وزير المالية سيمترتش بحجب المخصصات المالية المتعلقة بالتعليم العالي بحجة أن تعليم الفلسطينيين يؤهلهم بأن يكونوا إرهابيين. إضافة إلى البند المستحدث في الخطة الجديدة الذي يقضي بتعزيز الوجود الأمني في مدينة القدس؛ وهو ما سيؤدي إلى مزيد من المواجهات والعمليات الفلسطينية المقاومة.
على الجانب الفلسطيني ما زال الفلسطينيون موحدين على أن القدس هي عاصمة دولتهم المنشودة ومن الصعب أن يتخلوا عنها، وهناك معارضة شعبية لبنود الخطة من الممكن أن تؤدي إلى عمليات تصعيد وعنف، وخصوصًا فيما يتعلق بفرض المنهاج الإسرائيلي في المدارس العربية، وهذا ما حدث فعلًا في قضية الكلية الإبراهيمية التي بدأت باحتجاج أولياء أمور طلبة الكلية الإبراهيمية ضد تدريس المنهاج الإسرائيلي، وهو ما تحول إلى حراك شعبي. وعلى صعيد آخر توجد حراكات ميدانية وتظاهرات واعتصامات في منطقة جبل المكبر في القدس، خرجت احتجاجًا على تنفيذ مشروع الطريق الأمريكي الذي سيتسبب بمصادرة أراضٍ وهدم منازل وتشريد سكان البلدة.
خلاصة
تهدف بنود الخطة الخمسية في ظاهرها إلى العمل على تحقيق المصالح الفلسطينية في شتى مجالات الحياة الفلسطينية؛ ولكنها على أرض الواقع لا تصبّ إلا في مصلحة الاحتلال الاقتصادية والأمنية والديمغرافية.
وعلى الرغم من التطورات البطيئة للخطة الخمسية فإن حكومة الاحتلال مصرة على المضي قدمًا في تنفيذ بنودها؛ وفي حال نجاحها فإن ذلك سيؤدي على المدى البعيد إلى ترسيخ السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس، وإحكام قبضتها على الشطر الشرقي منها وفرض التبعية والهيمنة على سكانها الفلسطينيين في مناحٍ متعددة، وإجبارهم على قبول الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس كأمر واقع. كذلك ستعمل الخطة على إخضاع الإدراك الجمعي الفلسطيني، وصهر ثقافته وهويته الوطنية بهدف الهيمنة عليه وإخضاعه لأحكام الأيديولوجيا الصهيونية، وهو ما سيشكل حالة استعمارية صهيونية تعمل على إحداث انشطار في شخصية المستعمَر بحيث يتخبط بين هويتين ومجتمعين، ويبدأ بالشعور بالدونية والتنازل وإعطاء مبررات مقنعة لقبول الظلم وإهانة الكرامة، ومن ثَم الانخراط والتماهي مع المستعمِر، واستخدام لغته ومصطلحاته على أساس أن المستعمِر يمثل أقصى درجات الحضارة. لذلك تعدّ الخطة خطوة على طريق التطهير العرقي للفلسطينيين ولكن بسياسات ناعمة لا بقوة السلاح كما حدث عام 1948.
وعلى الصعيد الفلسطيني فإن صمود سكان القدس الفلسطينيين وتمسكهم بأراضيهم وحقوقهم، وحراكاتهم الشعبية ومقاومتهم للمحتل، سيحول دون تطبيق الخطة الخمسية ونجاحها، ومن الممكن أن تؤدي عمليات المقاومة المستمرة إلى انهيار تحقيق أهداف هذه الخطة □
كتب ذات صلة:
الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة
تهويد القدس: محاولات التهويد والتصدّي لها من واقع النصوص والوثائق والإحصاءات
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 538 في كانون الأول/ ديسمبر 2023.
[1] سحر بهجت أبوغربية: باحثة في العلوم السياسية – الأردن.
[2] “موقع رئيس الحكومة: قرار الحكومة رقم 3790 تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية،” <https://www.gov.il/he/Departments/policies/dec3790_2018> (تم الاسترجاع بتاريخ 5 آب/أغسطس 2022).
[3] المصدر نفسه.
[4] دافيد كورين وريجف وتسيون، نظام التعليم في القدس الشرقية: البيانات والرؤى (القدس: معهد القدس لدراسة السياسات، 2021).
[5] نوعة داغوني، مراقبة قرار الحكومة رقم 3790 للاستثمار في القدس الشرقية، تقرير التنفيذ (القدس: مؤسسة عير عميم، 2020)
[6] Noa Dagoni, Monitoring Government Decision 3790 for Investments in East (Jerusalem: Ir amim, 2020), <https://t.ly/_EI1D>.
[7] Ibid.
[8] موقع رئيس الحكومة: قرار الحكومة رقم 3790 تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية».
[9] أسعد أحمد عز الدين، من وادي الجوز الفلسطيني إلى وادي السيليكون الإسرائيلي الاستعمار والتطبيع والبروباغندا (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020).
[10] موقع رئيس الحكومة: قرار الحكومة رقم 3790 تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية».
[11] Yaron Toren, Transportation and Infrastructure (Jerusalem: Jerusalem Institute for Policy Studies, 2022).
[12] نوعة داغوني، رصد تطبيق القرار الحكومي 3790 للاستثمار في القدس الشرقية: التقرير السنوي 11 للعام 2021- تسجيل الأراضي (القدس: مؤسسة عير عميم، 2021).
[13] Elran, Hadad and Lavie, «Israel’s Plan to Reduce Socioeconomic Gaps in East Jerusalem,» pp. 8-10.
[14] رامون أمنون، اكتشاف القدس الشرقية: العمليات التي أدت إلى تغيير السياسة الإسرائيلية والقرار 3790 (القدس: معهد القدس لدراسة السياسات، 2021).
[15] Elran, Hadad and Lavie, Ibid.
[16] Erez Wegner, Noa Dagoni, and Gaal Yanovsky, Three Years since the Implementation of Government Decision 3790: Monitor Report (Jerusalem: Ir amim, 2022).
[17] تقرير اللجنة الدائمة للخطة الخمسية للعام 2022، <https://t.ly/LSqGQ>.
[18] المصدر نفسه.
[19] كورين ووتسيون، نظام التعليم في القدس الشرقية: البيانات والرؤى.
[20] تقرير اللجنة الدائمة للخطة الخمسية للعام 2022، مصدر سابق.
[21] نوعا دجوني وايرز فاجنر، «استكمال التعليم ومواءمة التشغيل تقرير مراقبة – قرار الحكومة 3790،» فصلية أيار/مايو 2021.
[22] تقرير اللجنة الدائمة للخطة الخمسية للعام 2022، مصدر سابق.
[23] «تطوير أحياء الابتكار في مدينة القدس قرار رقم 1367،» <https://www.gov.il/he/departments/policies/dec1367_2022>.
[24] Shweiki and Turner, Decolonizing Palestinian Political Economy: De-Development and Beyond.
[25] Wegner, Dagoni, and Yanovsky, Three Years since the Implementation of Government Decision 3790: Monitor Report.
[26] افرات ساعار، اندماج سكان شرقي القدس في سوق العمل الإسرائيلي: التعلم من النجاحات (القدس: معهد القدس لدراسة السياسات، 2021).
[27] سعيد أبو معلا، «»لجنة أولياء الطلبة» في الكلية الإبراهيمية تكشف أبرز التحريفات في المنهاج الذي يحاول الاحتلال فرضه على المقدسيين،» القدس العربي، 19/8/2022، (<https://t.ly/PeTJ1> تم الاسترجاع بتاريخ 25 آب/أغسطس 2022).
[28] نوعة داغوني وايريز فاغنر، مراقبة قرارا لحكومة رقم 3790 للاستثمار في القدس الشرقية تقرير فصلي أيلول 2020 (القدس: مؤسسة عير عميم، 2020).
[29] تسوية الأراضي في شرقي القدس، بوصفها وسيلة لنزع ملكية الفلسطينيين (القدس: مؤسسة عير عميم، 2022).
[30] المصدر نفسه.
[31] موقع وزارة القدس والتراث، «الحكومة الإسرائيلية تصادق على خطة خمسية جديدة لتطوير القدس الشرقية،» <https://www.gov.il/he/departments/news/56jerusalemdaygovernmenteast20232028>
[32] أعدت هذه الدراسة قبل عملية طوفان الأقصى وما تبعها من تداعيات كبرى على الساحة الفلسطينية لم تظهر كل نتائجها حتى لحظة نشر هذه الدراسة (المحرر).
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.