مقدمة

تعدّ مسألة يهودية دولة إسرائيل التي طرحها قادة إسرائيل في الآونة الأخيرة من خلال تصريحاتهم، من أخطر القضايا المطروحة في منطقة الشرق الأوسط، لأنها تهدد مصير القضية الفلسطينية برمّتها، بخاصة إذا ما وضع هذا الطرح محل التنفيذ الفعلي على الأرض، وأصبح أمراً واقعاً.

وللحقيقة، فإن طرح «يهودية الدولة» لم يكن وليد هذه التصريحات، بل سبقها في التاريخ الحديث تصريحات للعديد من القادة اليهود، وتحديداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأيضاً ما صدر عن الساسة الإنكليز خلال النصف الأول من القرن العشرين (وعد بلفور عام 1917).

وتكمن خطورة تصريحات القادة الإسرائيليين في ما يتعلق بيهودية «الدولة»، في أنها ستؤدي إلى إلحاق الأذى بالقضية الفلسطينية برمتها، وكل ملفاتها، وإفراغها من مضمونها، وستجعل من الفلسطينيين ومن دولتهم المنتظرة مجرد رقم ثانوي لا قيمة له في منطقة الشرق الأوسط.

ويكتسب الحديث عن «يهودية دولة إسرائيل» أهميته من تكرار حديث قادة دولة إسرائيل عن يهودية دولتهم، وحق اليهود بأن تكون دولتهم دولة يهودية خالصة من أي جنس عرقي أو ديني مغاير لليهودية؛ أو بمعنى أخر، فإنهم يبتغون دولة عنصرية تماماً لا يشاركهم فيها أحد.

ومهما يكن من أمر، فإن مصطلح يهودية الدولة ليس بالجديد، بل هو قديم/جديد، إن جاز التعبير، فهذا المصطلح ظهر بداية مع رواد الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، ثم أكده الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى منحت الحكومة البريطانية تصريحاً لليهود سمّي باسم «تصريح بلفور» عام 1917، يقضي في حقهم في أن يكون لهم وطن قومي على أرض فلسطين، وخلال فترة انتداب بريطانيا على فلسطين[1]، أقرّت الحكومة البريطانية تقرير اللجنة الملكية (تقرير لجنة بيل) عام 1937، الذي ينصّ على تقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما عربية، والأخرى يهودية، أي أن هذا التقرير وضع مسألة الدولة اليهودية لأول مرة في بؤرة الاهتمام الدولي، وذلك بعد أن كان صك الانتداب على فلسطين ينصّ على ضرورة تنفيذ ما صدر في تصريح بلفور من إقامة وطن قومي لليهود. أما القرار الدولي الرقم (181) لعام 1947، الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد كان القرار الرسمي لتطبيق تقسيم فلسطين فعلياً إلى دولتين: عربية ويهودية، واعتبر هذا القرار ملزماً للجميع، ولا يجوز رفضه آو نقضه[2].

ومع بداية إرهاصات التسوية السلمية لقضايا الحل النهائي عام 2007، بدأت إسرائيل في التهرب من استحقاقها عبر تسويقها لمسألة خطيرة، هي ضرورة الاعتراف الفلسطيني والعربي بيهودية دولتها، وشاركها الرؤساء الأمريكيون المتتالون تنفيذ ذلك المطلب.

أهمية الدراسة

تنبع أهمية الدراسة من خطورة هذا الطرح (يهودية الدولة) في المحافل الإقليمية والدولية، لما سيترتب عليه من مخاطر جسيمة على القضية الفلسطينية، ينتفي معها حق الفلسطينيين بالمطالبة بعودة اللاجئين إلى ديارهم، لأن مصطلح «يهودية الدولة» يحمل في طياته توجهاً إسرائيلياً لطرد الفلسطينيين من وطنهم بزعم الحفاظ على نقاء الدولة اليهودية، ويستوي في ذلك فلسطينيو 1948 و1967.

منهج الدراسة

اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، نظراً إلى قلّة المراجع التي تتحدث عن مسألة يهودية دولة إسرائيل، أو الدولة اليهودية بشكل مفصّل.

أولاً: الاعتراف بيهودية إسرائيل
اعتراف بالشرعية الصهيونية

لا شك في أن الهدف العملي لهذا التحول من تعريف ذاتي إلى مفهوم في العلاقات الدولية، وفي ما يسمّى بـ «عملية السلام»، هو إقصاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين تماماً، وإسقاطه قبل مناقشته، ومراجعة شرعيته الدولية، بوضع مبدأ آخر متفق عليه بين الفرقاء، هو مبدأ «دولتين لشعبين»، فوق مبدأ حق العودة.

وطبعاً، يترتب على مثل هذا الاعتراف تفهم مخاوف إسرائيل الديمغرافية حتى من المواطنين العرب، كما يعني قبول يهودية الدولة، وإقصاء دولي وعربي لمبدأ «الدولة لجميع مواطنيها» الذي تحدّى مسألة يهودية الدولة داخلياً، ووضعها في حالة تناقض وصراع مع فكرة المساواة والديمقراطية.

ولكن الأمر الأعمق هو طموح إسرائيل إلى أن يتحول الاعتراف العربي المنشود بها، من اعتراف بدولة قائمة، إلى اعتراف بالصهيونية، وبشرعيتها التاريخية. وبالتالي يتحول الاعتراف العربي من اعتراف «تسووي» واقعي إلى اعتراف مبدئي بحق تاريخي، وهو لا يعني إلا أنها كانت تاريخياً على حق، والعرب كانوا تاريخياً على خطأ بشأن فلسطين. وفي ما عدا نفيه لحق العودة، فإن مثل هذا الاعتراف إذا حصل هو إنجاز سياسي معنوي ثقافي، يعادل إقامة دولة إسرائيل، ليس في الواقع الملموس، بل في الثقافة والفكر والخطاب السياسي.

1 ـ التوقيت المناسب

اليوم تجد «إسرائيل» الفرصة سانحة أكثر من أي وقت مضى لجعل كيانها يهودياً خالصاً، ولمَ لا، وهي تنظر إلى الوطن العربي يشتعل بالفتنة والحروب والدمار في ظل ما يسمّى «الربيع العربي»، الذي يمثل أكبر خديعة تقع فيها الشعوب العربية، وتنسى قضيتها الأساسية «فلسطين».

ولمزيد من التحقيق عن أبعاد الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، نجد أنفسنا أمام تساؤلات عديدة: لماذا الإصرار على صفة أو طبيعة الدولة، أي على يهوديتها؟ وهل القصد من وراء ذلك يقتصر على وضع عقبات أمام المفاوضات بغية نسفها، تهرّباً من الاستحقاقات المتأتية عنها؟ وما هي الأهداف الكامنة وراء الاعتراف العربي أو غيره، في تعريف إسرائيل لذاتها، وفق فهمها هي بأنها دولة يهودية؟

ولعلّ السؤال الأهم، والأبسط في الوقت نفسه يتمثل بالتالي: هل يحق لصاحب القرار الفلسطيني المخوّل الاعتراف بيهودية الدولة، وفق تعريف أو مفهوم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لها[3]؟

2 ـ أبعاد يهودية الدولة على عرب الداخل

إن مجرد كون إسرائيل دولة الشعب اليهودي يعني أنها دولة لجميع أبناء القومية اليهودية، حتى وإن لم يكونوا مواطنين في الدولة. وهذا يشعر عرب الداخل بأنهم مواطنون ليسوا متساوين في «دولتهم»، لأن هنالك مؤسسات قومية خاصة تعمل من أجل المواطنين اليهود، مثل «الوكالة اليهودية». كما أن دولة إسرائيل تخصص أموالاً من أجل تعميق التربية اليهودية ـ الصهيونية بين اليهود المنتشرين في العالم.

3 ـ قانون القومية

في «إسرائيل» هناك التباس دائماً بين الدين أو القومية اليهوديّة. والحركة الصهيونية قامت بتحويل الدين إلى قومية، وهذه ليست من الفكر السياسي الأوروبي الذي كان يفصل بين الدين والقومية، بينما في أوروبا الشرقية فكان الجمع قائماً بينهما في ظلِّ النشاط الصهيوني. وغاية الحركة الصهيونية هي تحويل اليهود من مواطنين في دولهم إلى قومية. وبهذا المعنى، راحت الحركة الصهيونية تطالب بإنشاء وطن قومي لليهود، لأنهم وصّفوا اليهود قومية. والكثير من اليهود رفضوا توصيفهم بذلك، وكل ما كانوا يريدونه المجيء إلى فلسطين للعبادة. وبعض اليهود رفض العودة إليها، ويرون أن العودة لن تتم إلا بعودة مخلّصهم نفسه.

وكانت هناك أحزاب عمالية اشتراكية، ففي روسيا مثلاً قال «حزب العمال اليهودي» إن على اليهود النضال في بلدانهم من أجل المساواة، وإنهم ضد إنشاء وطن قومي لليهود. ولكن في النهاية انتصرت فكرة الصهيونية بسبب ارتباطها بالإمبريالية، وتحديداً مع الإنكليز آنذاك. وبانهزام الدولة العثمانية، وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، فتح الطريق أمام الصهيونية كي تصبح قوة حقيقية في الوسط اليهودي، وانتصرت على الاتجاه العام لدى اليهود، وتالياً ضعفت الاتجاهات اليهودية المعادية للصهيونية.

وبالعودة إلى قانون المواطنة، نرى أنه: «يعطي حقوق المواطنة كاملة لليهودي، في حين لا يعترف للعربي بأدناها. وهناك خلاف لدى المشرّعين والسياسيين الإسرائيليين حول هل يحق للعرب الذين تفيد جوازاتهم بأنهم عرب إسرائيل أن يتساووا مع اليهود؟!.. طبعاً لا، لا يتسلّمون وظائف حساسة مثل الأمن والجيش أو في الترتيب الإداري للدولة الإسرائيلية. ويوجد لديهم في الهوية خانة باسم القومية، إذ يكتب فيها لليهودي يهودي، وللدرزي درزي، وللعربي عربي، سواء كان مسيحياً أو مسلماً. وهذا ما يثبت أنه ليس هناك من ديمقراطية، ولا مساواة في الكيان الإسرائيلي».

وهنا حقيقة لا بد من أن تقال، وهي أن عرب 1948 يرفضون الخدمة في الجيش الإسرائيلي. وهذا تعدّه إسرائيل ممسكاً قانونياً ضدهم، وتطالبهم في المقابل بمنطقة «المثلث» العربية، وهي عبارة عن مجموعة قرى يسكنها عرب في شمال الضفة الغربية، وفق اتفاقية الهدنة في عام 1948، وأن الكيان الإسرائيلي يريد التخلّص منهم، ولكنه لن يقدر على ذلك من دون عملية تسوية تاريخية.

ثم هل يبدأ الفلسطينيون بالانفصال عن الجليل وبقية المناطق العربية؟!.. هذه إشكالية أخرى. أيضاً قانون المواطنة لا ينطبق تماماً على الفلسطيني مثل أي يهودي يستطيع الزواج من أي امرأة في العالم، ويحضرها إلى فلسطين المحتلة، ويسكنانِ فيها، ولكن العربي إذا تزوج بامرأة من الضفة الغربية، مثلاً، لا يستطيع وفق التعديلات الأخيرة أن يجلبها معه إلى بلدته، والسبب في ذلك كي لا يزيد عدد الفلسطينيين. من هنا أُعيد إحياء فكرة ما يسمّى بيهودية الدولة منذ عدة سنوات، وأعاد طرحها نتنياهو في المفاوضات شرطاً بحيث لا يمكن التوصل إلى أي اتفاق إلا باعتراف الطرف الفلسطيني بيهودية الدولة.

وهذا يعني أن العرب في فلسطين المحتلة الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، لن تكون لهم حقوق في الدولة اليهودية مهما صار عددهم. وهذا يأتي في القانون الإسرائيلي بحال الاعتراف الفلسطيني، ومن ثم الاعتراف العربي. وإسرائيل تستخدم هذا الشرط حماية لوجودها من التزايد الديمغرافي الفلسطيني وتضعه ثانيا عائقاً رئيسياً بحال لا تريد الوصول بالمفاوضات إلى نتيجة، كونه شرطاً تعجيزياً. ويهودية الدولة تعني أيضاً خضوع الجميع للقوانين اليهودية، ولا يمكن للعرب المسلمين والمسيحيين في الداخل ألا يطبقوا هذه القوانين العنصرية. وما تخشاه إسرائيل، أن يتحول العرب إلى قوة قادرة على التصدي، إضافة إلى تزايدهم، الأمر الذي يقطع الطريق على هذا الاحتلال أمام أية مطالبة جدّية بيهودية الدولة.

ثانياً: إبراز كيان الأقليات يعزز يهودية إسرائيل

في قراءة ثانية بعمق حول أبعاد تحقق يهودية الكيان الإسرائيلي، هناك جملة أبعاد مخيفة ترسم حول هذا الأمل الصهيوني، وأخطرها أن لإسرائيل دوراً خفيّاً في ما يجري حالياً من أزمات في المنطقة العربية عموماً، لتعزز قيام كيانات مستقلة على أساس قومي أو عرقي أو ديني، ما يبرر له قيام دولتها على أساس ديني، ويضمن لها تالياً بقاء الوطن العربي الكبير مفتّتاً ليمدّ طويلاً في عمرها.

ويتمحور حول هذا:

* بعد ديني: فريق يجمع التكتلات والتيارات على أساس روحي مقابل للأساس الديني للدول أو القوى والتيارات العربية والإسلامية المعادية للكيان الصهيوني. * إحراج عرب 1948: التهويد أو الذوبان في الكيان اليهودي، أو إخراجهم من أرضهم التاريخية. * إرساء قواعد النموذج العنصري ـ الديني للدولة اليهودية لإغراء الأقليات في المنطقة كي تقيم كيانات شبيهة، قد تشعل صراعات أهلية مديدة، تريح الكيان وتؤّمنه من شر أعدائه.

وهذا بعض ممّا يحدث حالياً في بعض الأقطار العربية: * تثبيت العزلة الاختيارية للكيان اليهودي، بعد فشل مشروع «إسرائيل الكبرى» أو «إسرائيل» العظمى، وصولاً إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد: الانكفاء القسري[4].

1 ـ القرار الدولي الرقم (181) وتثبيت مصطلح «الدولة اليهودية»

ولمَّا كانت علاقة اليهود وممثليهم في المنظمة الصهيونية العالمية قد ترسّخت مع الإدارة الأمريكية خاصة في فترة حكم الرئيس «ترومان»، فإنهم كانوا مؤيدين بشدة للقرار البريطاني، برفع القضية إلى المؤسسة الدولية الأولى، وبصرف النظر عن الخدمات الجليلة التي قدمها «ترومان» للمشروع الصهيوني، فقد دخلت القضية الفلسطينية منعطفاً خطيراً عام 1947.

ويبقى لنا أن نتساءل عن الدافع وراء إصرار الدول الكبرى على إصدار الأمم المتحدة نصاً صريحاً، يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما يهودية، وأن نتساءل كذلك عن السبب الذي دعا الحركة الصهيونية إلى قبول ذلك القرار، والسبب وراء تسمية تلك الدولة باسم «دولة إسرائيل».

ومع ذلك يبقى القرار الرقم (181) الأهم والأخطر، لأنه حمل صفة قانونية ملزمة من الأمم المتحدة لتطبقه على أرض الواقع، رغم ما فيه من ظلم بحق الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، الذين بات من حقهم فقط ـ طبقاً لقرار التقسيم ـ 45 بالمئة من فلسطين ليقيموا عليها دولة؛ هذا إن صدقت نوايا المخطّطين للقرار الرقم (181). فالقرار ينصّ على تقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما عربية، والأخرى يهودية، ففي ما يخصّ الدولة العربية، لم يذكر القرار صراحة أن مسؤولية الحكم فيها للفلسطينيين، وإنما تعمّد واضع القرار استخدام صيغة مبهمة قابلة للتأويل، فلم يحدد القرار جنسية تلك الدولة العربية، ولا جنسية رئيسها، وهذا أمر لا يجوز في القانون الدولي. وفي ما يخصّ تسمية الدولة الأخرى التي شملها قرار التقسيم بالدولة اليهودية، فالأمر لا يحتاج لكثير من التفسير لبيان أن بريطانيا ووريثتها في حكم منطقة الشرق الأوسط، الولايات المتحدة الأمريكية، دأبتا معاً على تنفيذ مخططات الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر، بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود أولاً، ثم إلى دولة يهودية ثانياً[5].

ومن المعلوم أن ثمة فرقاً قانونياً بين مصطلحي: الوطن القومي، والدولة؛ فالأول يسمح بالإقامة فيه لأناس من دون الحق لهم بامتلاك السلطة، أما الآخر فهو عبارة عن أرض وشعب وسيادة كاملة غير منقوصة.

أ ـ بريطانيا القوة المنتدبة على فلسطين

أرادت بريطانيا أن تنهي انتدابها بعد أن رسخت أقدام اليهود في فلسطين، من خلال فتحها باب الهجرة على مصراعيه أمامهم، ومن ثم وضع حجر أساس الدولة اليهودية، كفكرة يمكن التعاطي معها. وهذا ما يظهر جلياً من خلال تقرير لجنة بيل، وبذلك تكون بريطانيا هي صاحبة الدور الأول والأهم في تحقيق مأرب الحركة الصهيونية، في المطالبة بدولة يهودية، بدلاً من وطن قومي يهودي، كما سبقت الإشارة.

ب ـ الولايات المتحدة

بحكم تبنّي الإدارة الأمريكية ومؤسساتها التشريعية للمخططات الصهيونية، ونفوذ وسائل الإعلام واللوبي الصهيوني فيها، فقد عمدت منذ بداية الحرب العالمية، وحتى صدور قرار التقسيم الدولي الرقم (181)، إلى جعل الحلم اليهودي بخلق دولة يهودية من العدم حقيقة واقعة على الأرض، وبالتالي بالإمكان اعتبار جهود الرئيس «ترومان»، في هذا الصدد، المعلم الرئيسي لتنفيذ ذلك الحلم. ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن انتماء بريطانيا إلى المذهب الأنغليكاني، والولايات المتحدة إلى المذهب البروتستانتي، اللذين يؤمنان بضرورة إعادة اليهود إلى فلسطين، ومن ثم خلق دولة يهودية على أراضيها، قد أدى دوراً مهماً وبارزاً في هذا المضمار، وبالتالي فإن العامل الديني أدى دوراً واضحاً في التنسيق بين الطرفين مع الحركة الصهيونية التي استفادت من دعمهما، على الرغم من أن نظامي الحكم في الدولتين علماني، وليس ثيوقراطياً.

ج ـ الاتحاد السوفياتي

على الرغم من أن دور الاتحاد السوفياتي لم يكن بارزاً كبريطانيا والولايات المتحدة، لكنه أراد من استصدار قرار التقسيم الدولي الرقم (181) وتحقيقه أموراً عديدة منها:

  •  عدم قيام دولة قومية لليهود، لأنه أصلاً لا يعترف بالقوميات، وبخاصة أنه كدولة مبنية على قوميات متعددة الإثنيات، كان هدفه صهر تلك القوميات في بوتقة واحدة هي بوتقة الفدرالية الروسية. لذا فإنه أراد للدولة اليهودية أن تكون دولة إثنية لا قومية.
  •  التخلص من الأقلية اليهودية الموجودة على أرضه، بتشجيعها على الهجرة إلى تلك الدولة المقترحة.
  •  لم يكن الاتحاد السوفياتي وقتذاك قد دخل مرحلة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي لم تكن له مصالح سياسية واقتصادية مع الأقطار العربية، فكان بذلك من أوائل الأقطار التي اعترفت بقرار التقسيم[6].

وفي ما يخصّ السبب الذي دعا الحركة الصهيونية إلى قبول ذلك القرار، والسبب وراء تسمية تلك الدولة بدولة إسرائيل، فقد وجدت تلك الحركة من المفيد الاستفادة من الظروف الدولية الجديدة في ظل تطور الموقف الأمريكي الجديد في التعامل مع دول المنطقة من جهة، وتناغم سياساتها مع الدول الأوروبية ومنظومة الدول الكبرى من جهة أخرى. لذا وجدنا موقف اليهود مما دار قبيل انتهاء لجنة تقصي الحقائق (يونسكوب) من أعمالها، موقفاً متقدماً وإيجابياً في التعامل مع أعضائها. فقد قدمت الوكالة اليهودية مذكرات عدة إلى تلك اللجنة، ثم أوفدت شخصيات صهيونية عديدة للاجتماع مع أعضائها. فقد أشار «هليل سلفر» (Hillel Silver)، أحد هؤلاء الأشخاص الذين قابلوا اللجنة، إلى بيان، ذكر فيه اقتناع الوكالة اليهودية بجدوى اهتمام هيئة دولية بمشكلة فلسطين، وادّعى أن الوكالة مفوضة بموجب صكّ الانتداب التحدث باسم يهود العالم في أمور الوطن القومي اليهودي، وأوضح أنه بينما ما زال الوطن القومي تحت التأسيس، فإن المجتمع الدولي يتطلع إلى استكمال الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وخلق الدولة اليهودية فيها.

د ـ المصطلح القديم/الجديد

ليس مصطلح «يهودية الدولة» مصطلحاً جديداً تشكّل مع مشروع «السلام» في الشرق الأوسط الذي أُعلن في مؤتمر مدريد عام 1991، أو بمطلب تعجيزي طرحه «الإسرائيليون» خلال مفاوضات التسوية الجارية بينهم وبين الفلسطينيين لأجل ابتزازهم، إنما هو عبارة عن فكرة قديمة قدم المشروع الصهيوني، كونها ظهرت منذ مؤتمر الصهيونية الأول في مدينة بال السويسرية، والذي عقد برئاسة عراب المشروع ثيودور هرتزل عام 1897، لا بل إن كتاب هرتزل الذي يتناول تأسيس الحركة الصهيونية، والمنشور عام 1896 حمل عنواناً لافتاً، هو دولة اليهود. لهذا فإن «يهودية الدولة الإسرائيلية» ركيزة أساسية في المشروع الصهيوني، الذي يريد لـ «إسرائيل» أن تكون حكراً على اليهود، وأن يتم طرد كل الفلسطينيين العرب منها، لا بل نسف تاريخهم وإظهارهم هم بمظهر الغاصب والمحتل.

غير أن هذا المشروع الاستعماري محكوم بخطط خبيثة، ومحدد بمراحل زمنية تراعي الوضعين العربي والدولي معاً، ويتم تنفيذها وفق معطيات الواقع بكل اعتباراته السياسية. واليوم، يبدو الواقع السياسي، ولا سيما العربي، أكثر من مريح بالنسبة إلى «إسرائيل» لإعادة طرح هذه الفكرة بزخم أقوى، كونها تلمس مدى التخاذل والاستهتار بحقوق الفلسطينيين من قبل من يسمّون «المفاوضون العرب»[7].

هـ ـ الاستراتيجيا الخبيثة

وفق استراتيجيا خبيثة، دأبت «إسرائيل» على رفع سقف المطالب وخلق المشكلات أمام عملية السلام، ثم اعتبار تقليص تلك المطالب، وحل تلك المشكلات، تنازلاً لا بد من أن يقابله المفاوض العربي والفلسطيني بتنازل أكبر. وبعد موافقة الوفد العربي الذي اجتمع بوزير الخارجية الأمريكي جون كيري أخيراً على «معادلة تبادل الأرض»، لم تجد «إسرائيل» رادعاً أمامها لطرح ضرورة قبول الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة في «إسرائيل». وكانت هنا الخطورة والكارثة التي تساوي في حجمها الاحتلال «الإسرائيلي»، لأن الاعتراف بيهودية دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين التاريخية يعني ببساطة أن أرض فلسطين حق يهودي وملك لشعب «إسرائيل»، وأن الاحتلال ما هو إلا استرداد هذا الحق، وبهذا يكون إلغاء تاماً لفلسطين الأرض والتاريخ والشعب، وتصفية كاملة وشاملة للقضية وللحقوق الفلسطينية، بما تحميه من حق عودة، المقدسات وتقرير المصير، والتعويضات وغيرها، كما أن الاعتراف يعني أن المقاومة كانت عبثاً، وأن دماء الشهداء وآلام الأسرى والمعتقلين ذهبت أدراج الرياح، وهو أيضاً يشكّل خضوعاً لإرادة «إسرائيل» بطرد فلسطينيي 1948 و1967، ويعتبر الاعتراف بيهودية الدولة بمنزلة حلم لـ «إسرائيل»، خصوصاً أن فلسطينيي الـ 1948 وعرب «إسرائيل» عموماً، يشكّلون في نظر الدولة العبرية خطراً ديمغرافياً مؤكداً وثابتاً على الصبغة اليهودية ـ الصهيونية للدولة.

لقد حاول البعض التهوين من عملية الاعتراف بيهودية الدولة، باعتبار أن لا جديد فيها، إذ وردت في وعد بلفور تحت عنوان «إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين»، كما في قرار هيئة الأمم المتحدة الرقم (181) لعام 1947 بتقسيم فلسطين تحت عنوان إقامة دولتين: دولة يهودية، ودولة عربية، والحجة الثالثة تقول إن «إسرائيل» دولة يهودية من دون حاجة إلى إضافة «يهودية» عليها[8].

لكن الحقيقة، إن أول ما استهدفته إضافة «اليهودية» على «دولة إسرائيل»، هو اعتبارها دولة لليهود فقط، وبهذا يصبح غير اليهود من مواطني فلسطين الأصليين وأصحاب الحق الحصري في وطنهم، غرباء أو زائرين أو مهاجرين «مقيمين» في الدولة، التي يجب أن تكون وطناً حصرياً لليهود فقط، الأمر الذي سيؤدي إلى تهجيرهم منها حتماً.

أما الاستهداف الثاني من هذه الإضافة ذات المحتوى الخطير، فهو إغلاق الباب نهائياً أمام حق العودة وإسقاطه من أساسه، وليس لاعتبارات ضيق المكان، أو تغيير توازن السكان أو البحث عن حل بديل، كالتعويض والتوطين والوطن البديل، ولكن ببساطة لأن «إسرائيل» باتت تمتلك الحق في إرساء يهودية دولتها وعدم «استضافة» غير اليهود.

على أن الهدف الثالث، وهو الأخطر من الهدفين المذكورين، فيرمي من إضافة «اليهودية» لدولة الكيان، بمعنى لليهود فقط، إلى الإقرار بزعم الحق اليهودي في فلسطين، وهو ما ألمح إليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما منذ عام 2010، حين اعتبر «فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي»، الأمر الذي يتضمن إسقاط كل الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين، فتنتقل عدالة الصراع والحق في فلسطين من الخندق الفلسطيني إلى جانب المستوطنين اليهود المعتدين الذين جاء بهم المشروع الاستعماري الصهيوني إلى فلسطين بحماية الحراب البريطانية، ووفر لهم شروط الاستيطان والتسلح، وتشكيل الجيش، وإقامة الدولة بالقوة المسلحة، وفرض بقائها من خلال تلك القوة، وبدعم دولي غير متناهٍ وسيطرة مقابلة على الأقطار العربية، أو شلها من كل قدرة على المقاومة والممانعة[9].

2 ـ تدويل موضوع «يهودية الدولة»

احتلت مقولة «يهودية الدولة» في السنوات الماضية أولوية مطلقة في الخطاب السياسي «الإسرائيلي»، إذ برزت بقوة على طاولة المفاوضات المباشرة التي دارت بين الوفود «الإسرائيلية» والفلسطينية في واشنطن وشرم الشيخ والقدس. وقد اشترطت سلطات الاحتلال الاعتراف بـ»إسرائيل دولة يهودية» أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين وشرطاً لها، وهي مطالبة محمومة تعود تشريعياً إلى عام 2000 بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودي وأغلبيتها اليهودية بالقانون، مقابل إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم التي هجروا منها قسراً بفعل العدوان الصهيوني عام 1948، وحرمان المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 من حق الإقامة في وطنهم، وإضفاء الشرعية على القوانين العنصرية «الإسرائيلية» ضدهم.

وتسعى الدبلوماسية «الإسرائيلية» إلى تدويل موضوع «يهودية الدولة» من خلال مطلب الاعتراف الفلسطيني بها شرطاً لاستئناف المفاوضات، وإكساب العبارة شرعية دولية بالاتفاقيات والأعراف الدولية السائدة، وفي القانون الدولي. وقد حضر هذا المطلب أثناء قمة كامب ديفيد الثانية عام 2000 تحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، وحضور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء «الإسرائيلي» السابق إيهود باراك، الأمر الذي أصابها بالفشل، ليس بسبب الموقف الفلسطيني المتعنّت، كما تزعم سلطات الاحتلال، إنما بسبب اللاءات «الإسرائيلية» بشأن اللاجئين والقدس وإزالة المستوطنات، حيث عرضت «إسرائيل» تنازلات رمزية تختزل قضية حق العودة في إطار «جمع شمل العائلات» ضمن شروطها ومعاييرها، وتوطين اللاجئين في أماكن وجودهم، وإضافة بند إلى الاتفاق يفيد بوضع حدّ للصراع من شأنه أن يحررها من كل مطلب مستقبلي بشأن تلك القضية، وهو ما يعني دفن أية مسؤولية لها عن اللاجئين. وقد ترافق ذلك الموقف «الإسرائيلي» مع خطة خريطة الطريق لعام 2003 بإيراد 14 تحفظاً بشأن رفض حق العودة، وتقسيم القدس، وإزالة المستوطنات. كما تكرر مع رفض المبادرة العربية للسلام، ووضع شرط الاعتراف بـ «إسرائيل كدولة يهودية» أمام «المؤتمر الدولي حول السلام في الشرق الأوسط» في أنابوليس تحت الرعاية الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، الأمر الذي أفشله[10].

ثالثاً: الاعتراف بدولة يهودية
يعني الاعتراف بدولة دينية عنصرية

تسعى «إسرائيل» إلى الترويج ليهودية الدولة بهدف مضمر، وهو توجيه دعوة مباشرة إلى كل اليهود في العالم للمجيء إلى دولتهم الحصرية، على اعتبار أن الدولة اليهودية هي دولة من هم خارجها، أي جميع يهود العالم، إذ يستطيع أي يهودي في العالم أن يهاجر إلى «إسرائيل»، ويصبح مواطناً فيها بين ليلة وضحاها، وهي ترمي من ذلك إلى التخلص من عرب «إسرائيل» الذين شكّلوا عبئاً عليها خلال العقود الماضية.

لقد شكّل بقاء 150 ألف فلسطيني داخل «إسرائيل» إثر حرب 1948 نوعاً من الأعجوبة التاريخية، فبعد تهجير 800 ألف فلسطيني من بيوتهم وأرضهم ووطنهم، اعتبر من تبقّى من الفلسطينيين في «إسرائيل» بأن الحظ أنقذهم وساعدهم على البقاء في أرضهم، فبقوا على مضض، وإن فرضت عليهم الجنسية «الإسرائيلية»، وشعروا بالتمييز وبالمخططات الخانقة ضدهم. ومن جهة أخرى، عندما وجدت «إسرائيل» نفسها مع انتهاء المعارك في عام 1948 دولة تزيد مساحتها على تلك التي أقرّها لها قرار التقسيم، ومع ربع السكان الفلسطينيين داخلها، احتفلت بهذا الإنجاز، لأنه فاق أي سيناريو إيجابي كان يحلم به مؤسسو الدولة العبرية.

ولذلك، فإن منح الفلسطينيين الباقين في وطنهم المواطنة «الإسرائيلية» شكّل نوعاً من الهدنة، أو الحل الوسط، وإن كانت إسرائيل قد خضعت له على مضض. وفي الحقيقة، لم يكن أي من الطرفين مرتاحاً: «فالدولة الإسرائيلية والمواطنة الإسرائيلية فرضتا على الفلسطينيين»، في حين فُرض الفلسطينيون على «الدولة الإسرائيلية»، لكن الفلسطينيين لم يعتبروا الدولة دولتهم، ولم يأخذوا المواطنة بجدّية، والدولة من طرفها لم تعتبرهم مواطنيها، بل إنها مارست ضدهم كلّ أشكال التمييز والاضطهاد، وعاش الفلسطينيون على هامش الدولة الغاصبة تماماً من دون أن يكونوا جزءاً منها.

كان العرب يشكّلون أغلبية ساحقة في منتصف القرن الماضي في فلسطين، وحالياً وبعد جولات التهجير والترحيل، فإنهم لا يقلون عن 20 بالمئة من عموم السكان داخل «إسرائيل» نفسها، أي من دون احتساب سكان قطاع غزة والضفة الغربية، إلا أنهم يعاملون معاملة عنصرية كمواطنين من الدرجة الثانية، على الرغم مما نصّت عليه وثيقة الاستقلال، من أن للعرب الحق في المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية … وجنسية كاملة ومتساوية وتمثيل عادل في كل مؤسسات «إسرائيل» الدائمة والمؤقتة.

والجدير بالذكر، في هذا المجال، أن ديباجة قانون العودة الذي أقر في عام 1950 تنصّ على أنه «يحق لكل يهودي الهجرة إلى البلاد»، بينما تتمثل أهم المظالم اللاحقة باللاجئين الفلسطينيين في عدم قدرتهم على فعل الأمر نفسه، وذلك بحرمانهم من العودة إلى أرزاقهم ومنازلهم التي عاشوا فيها لأجيال وأجيال، بل حتى أن العرب الذين لم يغادروا فلسطين قط، ومكثوا فقط لأيام قليلة عند أقربائهم في قرى مجاورة بانتظار زوال خطر القتل والموت في أثناء حرب العام 1948، ما يزالون يصنفون الآن كـ»غائبين حاضرين» وما تزال بيوتهم وممتلكاتهم في حيازة ما يسمّى «حارس أملاك الغائبين» الذي يضع هذه الأرزاق في تصرف عامة اليهود.

إن مطلب الاعتراف لليهود بدولة يهودية، يعني الاعتراف لها بكونها دولة دينية عنصرية صهيونية، مع ما يترتب على ذلك من مقتضيات وتداعيات أخرى، مثل إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعددهم أربعة ملايين نسمة، إلى موطنهم، لأن الدولة الجديدة لن تكون الدولة التي نزحوا عنها، ومنها التخلي عن المطالبة بتقرير المصير الفلسطيني، إلى حدّ التخلي حتى عن المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ومنها ترحيل العرب «الإسرائيليين» الذين يوصفون بأنهم سرطان داخل جسم الدولة اليهودية، من أماكن إقامتهم داخل «إسرائيل»[11].

رابعاً: الدولة اليهودية من وجهة نظر إسلامية

1 ـ إسرائيل، وخلط الدين بالقومية

يتبنّى اليهود فكرة شعب الله المختار التي يعتقدون أنها تمنحهم حق إنكار حقوق الآخرين طالما أنهم ليسوا على دينهم، والشاهد على ذلك هو الكانتونات، التي تعني مقاطعةً أو إقليماً صغيراً نسبياً من حيث المساحة والسكان، والتي تستخدمها إسرائيل فعلياً عندما تقسم فلسطين إلى أجزاء من خلال الجدار العازل الذي لا يمكن النظر إليه إلا من هذه الزاوية العقائدية لديهم، وما هو إلا ترجمة حيّة وتفعيل للمبدأين الأساسيين اللذين يقوم عليهما الفكر اليهودي الإسرائيلي، وهو ما يصرّ عليه كبار القياديين الإسرائيليين في مفاوضاتهم، وهو الاعتراف بهذه اليهودية، وبالتالي توابعها. ومن تبعات اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل ما يلي:

ـ جعل الفلسطينيين في «إسرائيل» أسرى في أرضهم.

ـ شمول الضفة الغربية وغزة باعتبارها أرضاً إسرائيلية يعيش عليها العرب.

ـ أي كيان فلسطيني يجب أن يكون محكوماً بدولة إسرائيل.

ـ الحدود الآمنة تبقى في يد الاحتلال، ونهر الأردن، وحدود غزة مع مصر، والجولان. على أرض الواقع، هذه مقاتل، ليست فقط للفلسطينيين وحدهم، وإنما للدول والشعوب المحيطة، وإن أحداً لا ينازع في اختيار أي شعب لدينه، فهناك بوذيون، ومسلمون، ومسيحيون، ويهود، في هذا العالم. وإذا اختار الباكستانيون أن يسمّوا دولتهم باكستان الإسلامية، أو اختار الإيرانيون تسمية دولتهم بإيران الإسلامية، فذلك شأنهم، ولا أحد في هذا العالم يخالفهم خياراتهم، وفي كل الأقطار العربية ـ كلها تقريباً ـ تنصّ دساتيرها على أن دين الدولة الإسلام.

كما يمكن أن يختار الإسرائيليون اسم دولتهم، ودينها، وهم لا يحتاجون إلى اعتراف أحد، لكننا نقف عند يهودية الدولة، فنفسّر ذلك كما فسّرناه آنفاً. وهذا تفسير واضح لا يمكن لعربي قبوله، أو الاعتراف به، للوصول إلى إطار سلام نعرف جميعاً أن إسرائيل ستفسّره بعد عام واحد تفسيراً لا يغيّر شيئاً من الاحتلال الذي فشل طيلة ثلاثة أرباع القرن في جعله حقيقة مقبولة في الشرق الأوسط.

2 ـ البعد القومي وما يترتب عليه من حق

من خلال الإطلالة على تصريحات وخطب ومقابلات القادة اليهود بشكل واضح، يمكننا معرفة ما يرمون إليه من رفع لافتة يهودية الدولة وإضفاء الطابع القومي، ليس فقط على الدولة كتجسيد، وإنما على الدولة ـ المشروع كفكرة أيضاً، وما يترتب على ذلك من حق، وفق الفهم الصهيوني.

لقد تساءل «نتنياهو» أمام الكنيست (11/10/2010) بنوع من التذاكي، إذا ما كانت القيادة الفلسطينية مستعدة لتقول لشعبها إنها على استعداد للاعتراف بإسرائيل كـ «دولة قومية للشعب اليهودي» مثلما نحن على استعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية كـ «دولة قومية للشعب الفلسطيني». وقد درج على تكرار مقولته هذه مرات عديدة وفي مناسبات مختلفة[12].

من الواضح أن تساؤله هذا ينطوي على مغالطة أساسية، بتصويره المطلب الفلسطيني كأنه يكمن في ضرورة اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية كدولة قومية، مع إدراكه بعدم وجود مطلب فلسطيني من هذا النوع. فالمطلب الفلسطيني واضح لا يكتنفه غموض: حق العودة الذي تكفله الشرعية الدولية، وإزالة الاحتلال الإسرائيلي، بشكليه العسكري والاستيطاني، من الأرض الفلسطينية المحتلة في عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، لكي يكون بالإمكان إقامة «دولة فلسطين» على مساحة تشكّل 22 بالمئة فقط من مساحة فلسطين التاريخية، ومن ثم الاعتراف بها، من دون أن تكون حاملة لأية صفة قومية أو غيرها، وهو اعتراف كواقع، كمعطى قائم، كما هو متّبع ومألوف لدى سائر الدول.

إن ما يسعى إليه بنيامين نتنياهو ويرمي إليه من المطالبة بإشهار يهودية الدولة هو إضفاء الطابع القومي عليها، لتصبح «دولة قومية للشعب اليهودي» حيثما وجدوا، سواء داخل دولة إسرائيل أو خارجها، والاعتراف بما يترتب على ذلك من حق، أو كما ذكر أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة خلال حديثه عن الرفض الفلسطيني للاعتراف بيهودية الدولة، وتعليله له، أن يهودية الدولة تعني، كما ورد على لسانه «زخوت عام يسرائيل عال إيرتس يسرائيل»، أي، حق شعب إسرائيل على أرض إسرائيل، وصولاً إلى القول إن الفلسطينيين يرفضون الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، لكونهم يرفضون هذا الحق «زخوت» بالذات.

هنا نجد أنفسنا أمام السؤال: ما هي «أرض إسرائيل»؟ وما هي تخومها؟ هل سبق لقبائل بني إسرائيل أن سكنتها، أو هي مجرّد وعد إلهي لشخص أسطوري «أب» ليملأها نسله من بعده بالأبناء؟ وهل كان من المألوف في تلك الأزمنة الغابرة أن تقوم الآلهة (يهوه، كموش، ملكولم… إلخ) بمنح أتباعها ومريديها أراضي ومناطق؟

إن مفهوم «أرض إسرائيل»، الذي تبنّته الحركة الصهيونية، وهو مفهوم توراتي، كان، ولا يزال، مدار جدل بين مختلف التيارات الصهيونية، لجهة حدود تخوم تلك الأرض، ما حال دون اتفاقها على تعيين حدود نهائية ثابتة للمشروع الذي تعمل على تحقيقه، وأبقى الحدود النهائية رهن صراع ثلاثة مفاهيم:

أ ـ يكتفي بحدود الخريطة الفلسطينية، كما تبلورت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، ويقف إلى جانبه، في شكل عام، التيار العمالي.

ب ـ يرى أن حدود «أرض إسرائيل» هي حدود الإثني عشر سبطاً (سبط تعني قبيلة. والمقصود أبناء يعقوب إسرائيل الاثنا عشر ابناً وفق الأسطورة التوراتية)، أي أنه يضيف إلى فلسطين مناطق من سورية ولبنان وكامل شرق الأردن («للنهر ضفّتان، هذه لنا، وتلك لنا». إنه شعار رفعه رئيس التيار التصحيحي في الحركة الصهيونية الأب الروحي لحزب الليكود الذي يقوده بنيامين نتنياهو).

ج ـ ينطلق في منظوره من الحدود التوراتية، وينقسم إلى فريقين: فريق يرى أن الحدود التوراتية تمتد من نهر مصر (وادي العريش في سيناء) وحتى الفرات. وآخر يرى أنها تمتد من نهر مصر (النيل) وحتى الفرات.

ويقف إلى جانب الفهمين الثاني والثالث، التيارات اليمينية والدينية.

هنا، نجد أنفسنا ثانية أمام تفسير بنيامين نتنياهو ليهودية الدولة، كما ورد على لسانه: «حق إسرائيل على أرض إسرائيل»، وأمام مطالبته الطرف الفلسطيني الاعتراف بهذا الحق، أي حق إسرائيل في أراضي بلدين عربيين بالكامل، ومناطق من خمسة أقطار عربية أخرى تقع ضمن تخوم «أرض إسرائيل»، كاشتراط للتقدم في عملية السلام.

بيد أن علامة استفهام كبيرة تطرحها آفاق «أرض إسرائيل» واسعة الأرجاء، حول ما إذا كان صاحب القرار الفلسطيني يملك حق الاعتراف بالحق الذي يريده صاحب القرار الإسرائيلي؟.

قبل الإجابة عن ذلك، سنقف حول مرامي وأهداف الجانب الإسرائيلي من وراء مطالبته الطرف الفلسطيني الاعتراف بطابع إسرائيل كدولة يهودية.

إذا استثنينا عامل الرغبة في المماطلة والتسويف في المفاوضات، وصولاً إلى عرقلتها أو نسفها، تهرباً مما قد تتمخّض عنه من استحقاقات يخشاها الطرف الإسرائيلي، نجد أن رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، إلى جانب مسؤولين إسرائيليين آخرين، يرمي من وراء ذلك إلى تحقيق أهداف أربعة، وهي الأخطار المتأتية عن الاعتراف بيهودية الدولة، اثنان منها مكشوفان، وتعرّضا لأضواء ساطعة من قبل أشخاص عديدين، وهما:

ـ التعرّض لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الذي كفلته الأمم المتحدة وفق القرار الرقم (194)، والسعي إلى الالتفاف حوله لإفراغه من مضمونه.

ـ مسّ مكانة المواطنين العرب في إسرائيل، سواء عن طريق الطرد، أو عبر التبادل السكاني، علماً أنهم مواطنون في دولة، تخرجهم هي من إطارها بتعريفها لذاتها كـ «دولة اليهود»، هذا فضلاً عن شرعنة الواقع التمييزي الذي يتعرّضون له منذ قيام هذه الدولة.

والآخران مستتران، لم يحظيا بأضواء ساطعة، وإن كانت بعض الأضواء الخافتة قد لامستهما وهما:

ـ الاعتراف بالفكرة الصهيونية.

ـ الاعتراف بالرواية الصهيونية لموضوعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

لا يمكن للطرف الفلسطيني، ومن المتعذّر عليه، تلبية ما يطالب به رئيس الحكومة الإسرائيلية، لكون «الحق» الذي يطالب به نتنياهو، يشمل الأراضي الفلسطينية جميعها، والأردن بكامله، فضلاً عن مناطق تابعة لخمسة أقطار عربية أخرى؛ ذلك، حتى لو افترضنا أن الطرف الفلسطيني يتمتع باستقلال كامل ناجز، وأراد تلبية هذا الحق راضياً مرضياً، فإنه سيجد نفسه لا يملك حق منح حقٍ لفرض «الحق» على أراض لبلدان عربية أخرى.

خاتمة

حاولت الدراسة بيان تداعيات إعلان إسرائيل ليهودية دولتها، وأثر ذلك في القضية الفلسطينية والمنطقة العربية من خلال تحليل المصطلح وأبعاده السياسية والدينية.

ففي الوقت الذي تقوم ديباجات الدساتير الحديثة ـ في عمومها ـ على أساس خطاب حقوق الإنسان، فإن بيان إعلان قيام دولة إسرائيل مغرق في الإثنية والذاتية، وبخلاف ديباجات الدول الديمقراطية التي تتحدّث بالنيابة عن كلِّ المواطنين أو بالنيابة عن الأمة باعتبارها المقرّرة في الدول الديمقراطية، يتحدّث إعلان قيام دولة إسرائيل باسم ممثلي الشعب باعتبارهم الشعب اليهودي.

وخلصت الدراسة إلى أنه رغم انشغال إسرائيل منذ إقامتها وحتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين بصياغة حدود الهوية الداخلية من خلال مناقشة من هو اليهودي، ومن يحق له الهجرة، ومن لا يحق له، فـ «إن سنوات الثمانينيات شهدت بدايات تحويل النقاش من المسار الداخلي (إشكالية علماني ـ ديني) إلى المسار السياسي ـ القومي العام (إشكالية فلسطيني ـ إسرائيلي)، إذ بدأت تطغى على سؤالي: من هو اليهودي؟ وكيفية إقامة وتنمية فكرة الدولة اليهودية»؟

كما خلصت الدراسة إلى خطورة تحويل هذا المصطلح إلى واقع حقيقي، لما يمثله من تداعيات كبيرة جداً على القضايا الفلسطينية والعربية، وعلى رأسها حق العودة للاجئين، وكذلك على حدود الأقطار العربية الأخرى.

كتب ذات صلة:

القضية الفلسطينية والمشكلة الإسرائيلية: رؤية جديدة

القضية الفلسطينية: بقعة ضوء في واقع عربي مظلم