ليس من قبيل المبالغة القول إننا والعالم وسط انعطافات مؤثّرة في مسارات وتدافعات القوى الكونية، وفي أوزان وتجاذبات القوى الإقليمية، تجد طريقها إلى النور، وتقوم بإعادة تكوين حاسمة للنظام الدولي، تشبه في أهميتها سابقتَي عامَي 1944 و1989. ولعل واحدًا من أهم دوافعها غلبةُ قراءة شعبو – قومية لدور الولايات المتحدة الكوني، لحظَت جملة متغيّرات حاكمة، وخطّت سبل التكيّف معها وتثميرها لمصلحته.
نقطة البدء فهمُ التحوُّل التركيبي والنسيجي لبنيان الرأسمالية الأمريكية الجاري الآن، فمن تعولمها مطلع التسعينيات مصحوبًا بصعود شريحتها المالية السريع صوب ذروتها، عبورًا بتسبّبها – الرأسمالية الأمريكية – في أزمة كادت تودي بها في عام 2008، وبخسارة 22 تريليون دولار، لولا إنقاذ دولتها لها بحُقن دَين متعاظم ارتفعت من مقدار 9 تريليونات دولار عام 2008 إلى 37 تريليونًا الآن، ووصولًا إلى تسيّد الرأسمالية المالية تلك قمة المنظومة عبر تملّكها أنصبةً في شركات كل قطاعات الاقتصاد الأخرى، بالتوازي مع ارتفاع مقام رأسمالية التقانة الفائقة عمّن سواها من شرائح المنظومة، ومع نزول نصاب المجمّع الصناعي العسكري عن سابق شاهقه.
ما معنى هذا التحول البنيوي جيوستراتيجيًا؟
إن اعتبارات الوطنية الاقتصادية الحمائية متلازمةٌ، وبالتوازي، مع حاجات العولمة المالية، برغم بعض تناقض بيني؛ فمثلًا، وبما خصّ المنطقة، نجد بيوتات الاستثمار الأمريكية الكبرى، وعلى رأسها Black Rock كمثال، تملك أنصبة بـ11 تريليون دولار وتدير محفظة استثمارية من 22 تريليون دولار (State Street, Vanguard)، تفتح أذرعها لانضمام الرساميل الخليجية، إليها؛ وهو ما جعل من الأخيرة شريكةً جونيور للكبير الأمريكي. وفي السياق، اجتاح النسق الغالب في المنظومة الرأسمالية تلك بنيان الدولة الإدارية – لا الأمنية فحسب – فخرجت فيه الدولة من قطاعات رئيسة كالإعلام والتعليم والمعونات الخارجية وحفظ البيئة ورقابة الشركات ورعاية محدودي الدخل الصحية وهلمّ جرّا. في المقابل، نرى قوة الدولة، قبالة رأس المال الخاص، راسية في كل من الصين وروسيا.
إن حاجات رأسمالية التقانة الفائقة، بل والإنتاجية العسكرية، فضلًا عن استفحال الدَين العام، تستلزم وضع اليد على موارد طبيعية، وفي الصدارة منها المعادن الثمينة؛ ومن ثم نيات وضع اليد على غرينلاند، وطلب نيل حصص منها – المعادن – في القطب الشمالي والجنوب الأفريقي وأوكرانيا.
إن ما كان وصْفُه الغربَ الجماعيَّ قد تحلّل، وباتت أوروبا، برسمياتها التقليدية، في أمسّ الحاجة إلى بناء عسكرياتها، ما دام الغطاء الأمريكي التقليدي لها على طريق التقلّص، إن لم يكُن التبخّر. ولمّا كانت قاعدة إنتاجها العسكري ضعيفة في المقابل فهي ملزمة بشراءٍ كثيف للسلاح الأمريكي يعوّض منتجيه من خسارتهم في بلادهم. الأهم، أن التحلّل واصلٌ إلى بنيانها؛ لتغدو عدّة أوروبات بأجندات متنافرة.
أن تخفّف الولايات المتحدة من أثقال الحماية الأوروبية يشمل سحب معظم قواتها من المسرح الأوروبي، باستثناء مقتربات الشمال الإسكندنافي، وتركيز قواتها في الداخل الأمريكي وفي الغلاف الفضائي. يعني ذلك إحكام السيطرة على نصف الكرة الغربي برمّته، بما يتضمّن إخراج الصين وروسيا منه، وبالأخصّ من أمريكا اللاتينية. هو «مبدأ مونرو» مكبّر، تزاول به الولايات المتحدة، من البحر والجو والفضاء، تفوّقها الكوني، مركِّزة، من خلال تلك الأقانيم الثلاثة، جهدها الميداني نحو أية بقعة رأت له ضرورة. أَضِفْ أن سعي واشنطن محموم كي تحوز تفوّقًا راجحًا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والعام منه، بل ولاحقتها الكوانتومية الحسابية، لِما لهما من دور حاسم في التفوّق العسكري.
إن ذلك لا يعني انسحاب الولايات المتحدة من قلب العالم وملتقى قاراته وحوضه اللاهوتي؛ أي ما سُمّي «الشرق الأوسط»، بل توضيبه كي يكون ركيزة الاستناد، من جهة، والتوجّه حيثما وحينما شاءت، من جهة أخرى. عنى ذلك تمكين إسرائيل، القائم بأعمال الإقليم، من فرض استتباع «الشام» التام لها بالجملة والمفرّق؛ أي فرض الصلح بالقوة على مكوّناته، بما هو من تطبيع، وخسران أرض، ونزع سلاح، وضمّ لفلسطين المحتلة – 67 من دون ثقلها الديمغرافي… والحقّ أن ما كان من ناظمٍ لتفكيري في المسألة الأمريكو – إسرائيلية، ولزهاء عقود خمسة تلت هزيمة 67، ومفاده أن واشنطن هي سيدة اللعبة في «الشرق الأوسط»، وأن تل أبيب ما هي سوى ربيبتها التابعة، قد ارتجّ حتى الأعماق منذ 7 أكتوبر، بتبيين زلزاله الحقيقة الغائبة، وهي أن الحال معكوس، إلى حدّ أن سيدة قرارها في سائر أرجاء المعمورة تقف عند تخوم عالم العرب/إسلامدار لتُسلّم اللوبي الإسرائيلي العتيد زمام أمره؛ وهو من بلغ شأوه في زمان «ماجا» الترامبية الذرى، سطوةً وغلوًّا وتوحّشًا.
إن مقصد واشنطن التاريخي في غرب آسيا هو استرداد إيران، سلمًا أو حربًا.. أي اختراقًا بالضغوط القصوى أو إخضاعًا بالقوة. فيْصَلُ الأمرِ قدرة إيران على الدفاع عن نفسها بالقوة من عدمها، ما دام المراد قسرُ نظامها على تغيير نهجه جذريًا، أكان نوويًا أم صاروخيًا أم فضائيًا أم نفوذيًا، وإلّا فتليين إرادة ثباته عنده بالقوة العارية، حتى لو استدعى ذلك قبول مخاطرة إيذائه مصالح أمريكية أو صديقة في الإقليم؛ بحسبانها محسوبة، أي محدودة. الانصياع للمراد، أكان تحت الضغط أم لاستعمال القوة، يعني تغيير النظام حتى لو لم يسقط، لِكم هناك من تعويل على غياب الوداد بينه وبين قرابة نصف المجتمع؛ ما يفتح على فرصة نفاذ إلى حشايا الداخل. والحاصل أن سؤال القدرة من عدمها عسير الإجابة، ولا سيَّما في ضوء ضعف الدفاع الجوي الإيراني وجسامة فعالية تطبيقات الذكاء الاصطناعي، العادي منه والعام، الميدانية.
(أفتح هنا قوسًا لأنوّه أن سبب لهاث ترامب وراء سرعة إبرام تسوية للحرب الأوكرانية لمصلحة روسيا – لا التسوية بذاتها – هو مقايضتها بامتناع الأخيرة عن إسناد إيران بالسلاح والخبرة والاستخبار إذا ما ذهبت واشنطن إلى امتشاق السلاح في وجهها. عندي أن روسيا والصين تريدان إيران عفيّة، ولكن غير نووية، ثم إن الصين بالذات ترى في سقوط إيران توطئةً للتثنية بها).
وعليه، فاحتمال توافرها – القدرة – يفتح على إمكان قيامها بردود مكلفةٍ قياسًا على مردود العنف ضدها؛ أَضِف أن رغبة الخليج بالتوصّل إلى صفقة كبرى قد تعزّزت بتضاؤل مخاوفه من إيران، على وقع مفاعيل 7 أكتوبر.
إن استسلام عبد الله أوجلان الذكيّ فتح السبيل أمام إمكان تصدّع نسخته السورية، وبعلم أن الهيمنة الكردستانية على شرق سورية، بأغلبيته العربية، من أفعال اللامعقول. من هنا سعي الولايات المتحدة لتسوية كردية تُبقي «قسد»، ركيزةً «سورية» لها. قبالة ذلك، هناك، وبمنطق الجيوستراتيجيا، استحالة رضا تركيا بهيمنة إسرائيلية على سورية، ولا بتأثير عرطلي للكردستانية السياسية فيها. تلك نقطة حرجة في ميزان واشنطن: هي من جهة، راغبةٌ في تمكين هيمنة إسرائيل على «الشام»، ومن جهة أخرى، مضطرة إلى مراعاة مصالح تركيا الجيوستراتيجية فيه، ولا سيَّما أن حاجتها إلى الاتّكاء عليها ضامنةً للجم قيامة داعش في الداخل السوري، وضابطةً لإيقاع إسلاميي دمشق الحاكمين، ودارئةً لنكس إيراني، بارزة. عندي أن الـتدافع التركي – الإسرائيلي، في «الشام» وعليها، بات أمر اليوم.
إن زلزال 7 أكتوبر لم يصل إلى خواتيم مفاعيله؛ ترنّح محور الممانعة بشدة، بل لم يعد محورًا – هذا إن كان في الأساس – لا بسبب النجاحات الإسرائيلية في الشمال ونحو إيران فحسب، فضلًا عن إبادية مفاعيلها في غزة، بل بسبب تهاوي نظام الأسد أيضًا وما خلّفه من احتراب قديم – جديد انضاف على كومة النزاع المذهبي عبر عقدين. لذا، تحتاج مكوّنات ذلك المحور الباقية إلى صوغ علاقة صحية، ولو غير تحالفية، مع سورية الحاضر.
إن مقاربة منظومة «ماجا» الترامبية للشأن الروسي متعدّدة المناحي: اليقين باستحالة هزمٍ غربيٍّ لروسيا في أوكرانيا؛ تواضع القوة الروسية عن أن تكون مهدّدة جدّيًا، سواء في أوروبا أو في آسيا؛ توافر فرص تعاون هائلة في عدة مواضع، من أول مكتنزات الشرق الروسي البعيد إلى جوائز القطب الشمالي إلى انسيال الغاز الأوروبي [ملكية واشنطن للأنابيب الناقلة للغاز الروسي]. في الخلفية تلمّظ واشنطن لفكّ أواصر الشراكة الروسية مع الصين. عندي أن ليس لذلك من سبيل، فقد ضربت تلك الشراكة المتنامية جذورها في الأرض عبر ثلث قرن، وبالأخصّ عشرِه الأخير. ثم إن القياس على نيكسون – 1972 غير دقيق؛ فالشقاق الصيني – السوفياتي بدأ منذ عام 1960، وليس بفعل نيكسون، فضلًا عن أن لا ضمان لدوامية الانفراج الأمريكي. ولعل من آثار الانفراج الأمريكي – الروسي الجانبية وقف مسيرة نزع الدولرة، على خلفية رفع العقوبات.
إن «ماجا» الترامبية في مقاربتها الشأن الصيني ترنو إلى مزاوجة الوصول إلى صفقة اقتصادية كبرى مع الصين تحت سيف الحواجز الجمركية المصلَّت، وخانوق «ملقا» الملتفّ حول عنقها، وضغوط تعويق حزام وطريق الحرير الممارسة على مشتركيه… وكلّه مع خفض، إن لم يكن سحب، القوات الأمريكية من الشرق البعيد. لقد غدا سمت عالم الشمال ثلاثي الأقطاب: هو تقاسمٌ غير متساوٍ لمناطق النفوذ في العالم بين أمريكا والصين وروسيا؛ فيه الأولى الأقوى بين متساويين.
إن سمت المرحلة، لجهة عالم الجنوب، هو تعدد الانحياز لا عدم الانحياز؛ أي أن تستطيع مصادقة أضداد في آن من دون تعريض صلتك بأي منها، أو صلة طرف فيها بآخر، بسببك؛ تركيا مثال. إن الانتقال من عالم ثلاثي الأقطاب إلى متعدِّد الأقطاب أمرٌ في وسع عالم العرب/إسلامدار، من نيجيريا إلى إندونيسيا، إحرازه؛ ولا سيَّما في لحظة إعادة التموضعات الكونية تلك. هنا جدلية التحدي والفرصة شاخصة.
إن الترامبية ترى في تنظيم تراجع مضطر، بصخب ظاهري الغطرسة (Hubris)، واجب اليوم. تناقضُ الهدف والأسلوب يبعث على فوضى السلوك وما يبدو من عبثيته؛ لكن لبّ المسألة عندها هو: كيف نحدّد خسائر التراجع، وكيف نبدو للآخرين أشدّاء بما يردع ويُهاب؛ في آن.
مطلع أيلول/سبتمبر الفائت كتبتُ أن الشهور الممتدة مذّاك وحتى آخر أيار/مايو القادم ستشهد انقلاب أحوال منطقتنا عاليها سافلها، ولعلّي لم أجانب الواقع.
كتب ذات صلة:
دور عائلة روتشيلد في إنشاء دولة “إسرائيل”
الهيمنة الأمريكية على الأمم المتحدة ومستقبل الصراع الدولي دراسة في فلسفة السياسة
المصادر:
هذه هي افتتاحية العدد 554 من مجلة المستقبل العربي لشهر نيسان/أبريل 2025.
كمال خلف الطويل: كاتب وباحث عربي.
كمال خلف الطويل
طبيب أشعة زاول مهنته لثلث قرن في الولايات المتحدة، وساكنٌ في التاريـخ ومسكونٌ به قبل وبعد. ولد في 16 أيار/ مايو 1952 في بيت لحم، على كونه من البيرة - فلسطين، ثم عاش ودرس في دمشق منذ عام 1956، وتخرج فـي كليتها الطبية عام 1975، ليغادر بعدها للاختصاص في الولايات المتحـدة. تقلد هناك مناصب ذات صلة: رئاسة الجمعية الطبية العربية الأمريكية؛ رئاسة جمعيـة الخريجين العرب الأمريكيين؛ رئاسة جمعية البيرة - فلسطين؛ وعضو مجلـس أمنـاء اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز العنصري. انضم لعضوية المؤتمر القومي العربـي عام 2000 وانتخب عضوًا فـي أمانته العامـة 2003-2010. وهو عضو اللجنة التنفيذيـة لمركز دراسات الوحدة العربية وعمل مديرًا له في عام 2015. الشغف بالتاريـخ والسكنى في إهابه باتا نصًا من أقانيم ثلاثة، أراد منه صاحبه أن يكون صلة وصل لأجيال بازغة مع ماض ليس ببعيد كان فيه العرب ذوي شأو... أو هكذا بدا...

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.