يشكل هذا النص فصلاً في القسم الثالث من كتاب “تفكيك الرأسمالية: بحث في تقويض المشترك البيئي الإنساني” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في كانون الثاني/يناير 2023. 

سنحاول أن نخصص هذا الفصل لانهيار أوروبا وإعادة الإعمار في ظل التسابق بين المعسكرين الغربي والشرقي على مناطق النفوذ (أولًا) ومعادلة التعاون والإغراء، بمعنى هل استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تعزز النمو الاقتصادي بأوروبا الشرقية؟ أم أنها قدّمت إغراءات من أجل احتواء الشيوعية (ثانيًا)؟

أولًا: انهيار اقتصادات أوروبا وزاوية إعادة الإعمار

خرجت أوروبا واليابان من الحرب وقد دمرت بنيتهما الأساسية، وهدمت معظم صناعاتهما، وواجهتا بالتالي مشكلة إعادة التعمير وبناء القدرة الاقتصادية لهما لمواصلة الحياة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945). وكان حجم التدمير والخراب الذي أصاب بعض الدول، بخاصة ألمانيا واليابان وروسيا، كبيرًا وهو ما تطلب استثمارات هائلة لاستعادة نشاطها الاقتصادي المنهار بسبب الحرب العالمية الثانية.

ومع انتهاء الحرب كانت ذكريات الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) لا تزال ماثلة في الأذهان، وبوجه خاص فقد استخلص الحلفاء مدى قصر نظر سياسة الانسياق وراء غرائز الانتقام والتشفي من المهزومين، وبالتالي بذر بذور العداء والرغبة في الانتقام العكسي ومحو العار.

استفاد الحلفاء من هذه التجربة، ولم يحاولوا فرض أي عقوبات اقتصادية في نهاية الحرب العالمية الثانية كتلك التي فرضت على ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى. وكان لا بد من تفكير جديد، ومع ذلك لم يكن ذلك كافيًا لمنع احتمالات التوتر وعدم الاستقرار في المستقبل على مستوى المحاور والتكتلات السياسية والعسكرية.

كذلك جاءت نهاية الحرب العالمية الثانية بخطر جديد كان لا بد من مواجهته، وهو خطر الشيوعية الذي بات «يُهدد» أوروبا المنهكة من الحروب. فقد جلبت نهاية الحرب العالمية الثانية معها، ضمن ما جلبت، إحياء المواجهة والتنافر بين الشيوعية من جهة والليبرالية من جهة أخرى. وكانت الأحزاب الشيوعية قد حققت لنفسها مواقع قوية داخل معظم الدول الأوروبية، وبخاصة في فرنسا وإيطاليا، حين أصبحت هذه الأحزاب أهم الحركات السياسية المناهضة للفاشية.

وقد استفادت هذه الأحزاب من نشاطها في المقاومة خلال الحرب ضد الألمان، فضـلًا عما وجدته من دعاية وتأييد من الاتحاد السوفياتي (البائد) بسبب الانتماء العقائدي، وممالأة من الدول الغربية لهذه الأحزاب بسبب ظروف الحرب والعدو النازي المشترك.

ونُضيف إلى ذلك أوضاع ألمانيا غداة الحرب وهي ممزقة تمامًا، اقتصاديًا، فضـلًا عن اقتسامها بين احتلال سوفياتي لألمانيا الشرقية، واحتلال غربي لألمانيا الغربية وهو ما زاد من احتمالات التوتر والمواجهة‏[1].

وفي مثل هذه الظّروف كان استمرار الأوضاع الاقتصادية المنهارة لأوروبا هو إذكاء وتدعيم لحركات الشيوعية النّشطة التي وجدت في هذه الظروف المضطربة بيئة مناسبة لدعوتها. ومن هنا كان تحرك الولايات المتحدة الأمريكية التي أخذت زمام المبادرة في زعامة ما أطلق عليه العالم الحر فأعلن وزير خارجيتها آنذاك جورج مارشال في محاضرة في جامعة هارفرد في 5 حزيران/يونيو 1947، مبادرة مهمة، هي ما عرف فيما بعد باسم «مشروع مارشال»(*). لقد ذكّر مارشال في محاضرته (في 15 حزيران/يونيو 1947 بجامعة هارفارد)‏[2] بالوضع العالمي المتأزم وحاجة أوروبا إلى إعادة البناء بالنظر إلى حجم القتلى، وتدمير المدن والمصانع والمناجم الذي أدى إلى شلل الاقتصاد إذ تراجعت العلاقات الاقتصادية الدولية وأغلقت المؤسسات البنكية ومؤسسات التأمين. فإعادة إعمار أوروبا يتطلب وقتًا طويـلًا ومجهودات كبرى؛ ولذلك اقترح مارشال وضع برنامج خاص لمساعدة أوروبا اقتصاديًا [والذي تجسد في ما يعرف بمشروع مارشال] مبينًا أهمية إعادة إحياء الاقتصاد الأوروبي، وطالب جميع الدول الأوروبية، وكانت الدعوة تشمل أيضا الاتحاد السوفياتي السابق، بالتعاون فيما بينها لوضع خطة لإعادة التعمير. حيث أشار في هذه المحاضرة إلى استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للمساهمة المالية في مثل هذا البرنامج لكن مع ضرورة تقدم الدول الأوروبية، أو عدد منها، بطلب في هذا الشأن في شكل برنامج للتعاون فيما بينها‏[3].

وإذا كان الخطر الشيوعي هو أحد الأسباب الأساسية وراء دعوة مارشال، فلا بد أن نتذكر أيضًا أن الاقتصاد الأمريكي كان بحاجة إلى مثل هذا المشروع. فقد دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية في نهاية 1941، وساعدت هذه الحرب على إنعاش الاقتصاد الأمريكي الذي عانى رُكودًا شديدًا منذ الأزمة العالمية للعام 1929، ولم يستعد عافيته إلّا بقيام الحرب العالمية الثانية.

فمع الاستعداد للحرب، أضيفت إلى الاقتصاد الأمريكي طاقة إنتاجية كبيرة لأغراض هذه الحرب بخلاف معظم الدول المحاربة الأخرى، التي اضطرت إلى تحويل جزء من اقتصادها المدني إلى المجهود الحربي. فقد نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في أن تضيف إلى طاقاتها الإنتاجية طاقات جديدة لأغراض الحرب دونما أي تأثير ملموس في إنتاجها المدني القائم. فكان اقتصاد الحرب الأمريكي يمثل إضافة إلى الاقتصاد المدني وليس اقتطاعا أو تجزيئًا منه كما وقع في الاقتصاديات الأخرى.

وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وبدأت تصفية اقتصاد الحرب وتحويله من الإنتاج العسكري إلى الإنتاج المدني، كان هذا الاقتصاد مهددًا بخطر الانكماش من جديد. فبعد نهاية المجهود الحربي، كان لا بد من تحويل الموارد المستخدمة للأغراض العسكرية، إلى أغراض مدنية.

وفي الوقت نفسه فإنه مع خروج أوروبا محطمة ومقيدة من ويلات الحرب العالمية الثانية كانت قدرتها على الاستيراد من الولايات المتحدة الأمريكية منعدمة أو شبه منعدمة أو ضعيفة جدًا. فأسواق العالم الخارجي التجارية كانت شبه مغلقة وموصدة أمام الاقتصاد الأمريكي الذي خرج من الحرب أقوى مما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية. ومع توقف المجهود الحربي (الأمريكي) كان قطاع مهم من الاقتصاد الأمريكي مهددًا بنقص الطلب عليه من الداخل والخارج.

ثانيًا: الولايات المتحدة الأمريكية بين
المساعدة المحتومة والإغراء المشروط

لا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تُعان مشاكل إعادة البناء، التي عرفتها الدول المحاربة؛ فبحكم جغرافيتها البعيدة عن أوروبا حيث دارت أغلب المعارك، لم تتعرض الولايات المتحدة الأمريكية في أراضيها لأي إصابات أو تدمير مما قد يحتاج إلى مجهود جديد بالغ القوة، في مواجهة عالم بالغ الضعف من حيث القدرة على الإنتاج والتبادل. ومن هنا كانت الدعوة إلى تعمير أوروبا خدمة للاقتصاد الأمريكي وأهدافه، بتوفير أسواق جديدة له في مرحلة التعمير لأوروبا المدمرة، وبعث شريك له في المستقبل عندما تتم إعادة تعمير الاقتصاد الأوروبي والحد من انتشار المدّ الشيوعي السوفياتي السابق. وهو ما حصل بالفعل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إذ تم ربط جل الدول الأوروبية بالاصطفاف بجانب الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة واحتواء الكتلة الشيوعية.

وفي ضوء مبادرة مارشال المشار إليها سابقًا اجتمعت ست عشرة دولة أوروبية‏[4] في باريس، وكونت ما عرف بالمنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية الاقتصادية (Organization of European Economic Coperation (OECD))، للنظر في دفع النمو الاقتصادي لهذه الدول، وتوفير الاستقرار المالي، وتدعيم التعاون الاقتصادي فيما بينها، ومع طلب المساعدة من الحكومة الأمريكية.

وفي الوقت نفسه جرت على السّاحة الدولية بعض التطورات السياسية التي أكدت الاستقطاب بين «العالم الشيوعي» وما أطلق عليه اسم «العالم الحر». وقد أعلنت الأحزاب الشيوعية تنشيط الدعوة إلى الاشتراكية العالمية (أو الأممية) من أجل مزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية على مناطق النّفوذ ولا سيّما في القارة الأوروبية. كما أن القارة الآسيوية وأمريكا اللاتينية والقارة الأفريقية لم تغب عن ذهنية صانعي السياسات الدولية في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي سابقًا.

ولم يلبث أن لحق ذلك خضوع تشيكوسلوفاكيا السابقة للحكم الشيوعي في شباط/فبراير1948، وبذلك سكتت الأصوات الداعية للانعزال في الولايات المتحدة الأمريكية، ووافق الكونغرس الأمريكي على مشروع مارشال لمساعدة أوروبا تحت اسم قانون «الإنعاش الأوروبي» (The European Recovery Act)‏[5] في الثالث من نيسان/أبريل 1948، وأنشئت إدارة التعاون الاقتصادي (Administration Econimic Co-operation – ECA) – في الإدارة الأمريكية لتنفيذ هذا البرنامج.

دخل مشروع مارشال (التنموي) حيّز التطبيق في الثالث من نيسان/أبريل 1948؛ وقد تضمنت هذه المعونات هبات نقدية وعينية فضـلًا عن قروض ميسرة. وبلغ حجم التمويل المتاح لهذا المشروع خلال الحقبة الممتدة بين 1948 و1951 (وهي آخر سنة في مشروع مارشال) نحو ثلاثة عشر مليار دولار بمساعدة تقنية.

لسنا هنا محل تقويم مدى نجاح مشروع مارشال في إعادة إنعاش أوروبا، إذ يرى البعض أن هذا المشروع حقق نجاحًا لا مراء فيه، وذلك باستعادة القدرة الإنتاجية لأوروبا وضبط مخاطر التّضخم وإحياء التجارة الحرة بين الدول الأوروبية.

فمع نهاية المشروع في عام 1951، زاد الإنتاج الأوروبي بنحو الثلث على ما كان عليه عند بدايته الأولى وتعافيه من تداعيات الحرب العالمية الثانية. ويرى البعض الآخر أن نجاح المشروع قد رجع بالدرجة الأولى إلى القدرات الأوروبية. وأن الجهود المحلية للدول الأوروبية راوحت بين 80 وَ90 بالمئة من حجم الاستثمارات في معظم الدول الأوروبية، ولم يكن مشروع مارشال سوى عامل مساعد وميسِّر‏[6].

ومع ذلك، فإنه لا خلاف على أنه مع الاعتراف بالدور الحيوي الذي تحقق بالجهود الذاتية للدول الأوروبية، فقد كان مشروع مارشال فعّالًا في الإسراع بتحقيق هذه النتائج الإيجابية، وبوجه خاص فقد كان الأخذ بهذا المشروع النّواة التي ساعدت على توجيه التطورات الاقتصادية اللاحقة لأوروبا في اتجاهات حرية التجارة والتعاون الإقليمي والأخذ باستراتيجية النمو الاقتصادي.

ولعل الأمر الأكثر أهمية في مشروع مارشال هو ما ترتب على تنفيذه من توجهات في السياسة والمؤسسات الاقتصادية. فعند خروج الدول الأوروبية من الحرب وفي ظل اقتصادات الحرب كان من الممكن أن تتجه أوروبا عند إعادة البناء إلى الاستمرار بالأخذ بسياسات التقييد والرقابة التي عرفتها طوال سنوات الحرب العالمية الثانية.

قام مشروع مارشال على أساس العمل على الإسراع بتحرير التجارة وإزالة القيود، وبذلك ساهم في وضع أساس النظام الاقتصادي العالمي القائم على حرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال. وترتب على الأخذ بمشروع مارشال أن عمدت الدول الأوروبية إلى تكوين اتحاد للمدفوعات الأوروبية في ما بينها.

ساعد ذلك على أمرين كان لهما أبلغ الأثر في التطورات الاقتصادية اللاحقة: الأمر الأول هو تدعيم فكرة التجارة المتعددة الأطراف والابتعاد عن فكرة المقايضة واتفاقات الدفع. والأمر الثاني هو دفع فكرة التّعاون الإقليمي والتّنسيق في السياسات المالية والاقتصادية للدول الأوروبية المشتركة، ثم الاتحاد الأوروبي.

وبذلك فقد ساعد تنفيذ مشروع مارشال على الأخذ بسياسات حرية التجارة المتعددة الأطراف، وتحرير القُيود على انتقال رؤوس الأموال، والأخذ بقابلية العملات للتحويل (Convertibility)، وهي أمور كان قد خطط لها الحلفاء عند وضع أسس النظام الاقتصادي الدولي الجديد مع اتفاقية بريتون وودز (1944).

كذلك فقد كانت المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي مقدمة لإرساء أساس التعاون الاقتصادي فيما بين الدول الأوروبية، فضـلًا عما أدت إليه من رسم معالم السياسات الاقتصادية والتي أصبحت تهدف إلى تحقيق معدلات مناسبة من النمو الاقتصادي، مع شيء من سياسات التدخل، تتراوح بين تأميم القطاعات الرئيسية أو الأخذ بنوع من التخطيط التأشيري.

فالسياسة الاقتصادية أصبحت تهدف إلى تحقيق نُمو مُستمر للاقتصاد. وهو تغيّر مُهم في التوجهات الاقتصادية. فقد كان هدف السياسة الاقتصادية لحقبة ما بين الحربين هو مقاومة البطالة. وبعد الحرب واجهت الدول مشاكل اقتصادية مختلفة تمامًا عما كان يشغلها في فترة ما قبل الحرب، سواء من حيث الحاجة إلى إعادة التعمير وارتفاع الأسعار.

وهكذا فإن إعادة تعمير أوروبا وطرح قضايا اقتصادية جديدة في مقدمتها النمو الاقتصادي، جاءت كمؤشر أساسي على النجاح، وضرورة السيطرة على التضخم وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي، وتدعيم اتجاهات التعاون الإقليمي بين الدول الأوروبية.

وعرفت أوروبا والعالم الصناعي ربع قرن مجيدًا من النمو الاقتصادي من 1945 إلـى 1970، وبعدها بدأت الأزمات الاقتصادية: أزمة الغذاء 1972؛ أزمتا النّفط الأولى 1973 والثانية 1979 – 1980؛ وأزمة المديونية 1982 (مع إطلاق برامج التكيف الهيكلي) وبعد ذلك توافق واشنطن (كتحرير أسعار الفائدة، وتحرير التّجارة وإطلاق العنان لمُسلسل الخصخصة).

كتب ذات صلة:

التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي: الكتاب السنوي 2022