مقدمة

ينصرف الحديث عن الإعلام إلى كل الوسائل التي يمكن أن تصل إلى قطاعات عريضة من الجماهير في الوقت نفسه، ومنها وسائل الإعلام التقليدية كالصحافة والإذاعة والتلفزيون، ومنها الحديثة كالإنترنت والوسائط الإلكترونية. وبطبيعة الحال فإن وظائف كليهما لا تختلف، وإن اختلفت كيفية أداء هذه الوظائف؛ فكلاهما ينقل المعلومة وينشر الخبر، وكلاهما يتولى مهمة التثقيف والتسلية، وكلاهما يعرض الأحداث ويسرد القصص، وكلاهما يؤثر في الرأي العام، ويكوّن الوعي، ويغرس القيم، ويصيغ الذوق، إلى غير ذلك من المهمات.

والمقصود بالأمن القومي هو حماية كيان الدولة والمجتمع، واستقلالهما، وتعزيز القدرة على أداء الوظائف الحيوية، وتهيئة الظروف التي تساعد على استمرار مسيرة الحياة وتطويرها. ومن ثم فاستثمار الموارد، وصون الاستقرار، وتحقيق الرفاهية، والحفاظ على وحدة النسيج الوطني، وتعزيز التماسك الاجتماعي، ما هي إلا علامات على خريطة الأمن القومي- تشكل قضاياه وأهدافه.

لذلك يجد الإعلام نفسه أمام قضية الأمن القومي وجهًا لوجه، كما تجد قضية الأمن نفسها تحت سطوة الإعلام؛ فالإعلام يتعامل مع الأحداث والأزمات والتهديدات التي تشكل خطرًا على الأمن القومي، وينقلها إلى المواطن بطريقة معيَّنة، وهو الذي يفك شفرة هذه الأحداث. معنى ذلك أن الإعلام هو الذي يرسم مبادئ الأمن القومي ومسلماته في وعي المواطن. ومن ثم فالسؤال هو: ما هو تأثير الإعلام في قضية الأمن القومي، وما دوره في حماية هذا الأمن؟

الحقيقة أن الإعلام يمثل رقمًا مهمًا في حسابات الأمن القومي، وفي معادلات هندسة هذا الأمن، بمثل ما هو رقم كبير في الحياة السياسية والاجتماعية عمومًا. ففي حسابات الأمن القومي يمثل الإعلام ركيزة أساسية في ميزان القوة الشاملة للدولة، فالإعلام الناجح يضيف إلى رصيد قوة الدولة. وفي معادلات منظومة الأمن يدخل الإعلام في باب التهديد والأخطار، كما يدخل ضمن آليات الحماية.

معنى ذلك أن تأثير الإعلام في قضايا الأمن القومي وأبعاده المختلفة، قد يكون إيجابيًا، وقد يكون سلبيًا؛ فهو آلية جيدة وضرورية لحماية هذا الأمن، وفي الوقت نفسه هو سيف – قد نجده – مصلتًا على مناطق الضعف في جسد هذا الأمن، ولا سيّما عندما يُساء توظيفه. ورغم أن ذلك يتوقف على كثير من الأمور السياسية والقانونية والأخلاقية والفنية، إلا أن الراجح هو أن قدرة الإعلام على تهديد الأمن القومي لا تقل – في ضراوتها – عن قدرته على حماية هذا الأمن؛ ولعل ذلك يعني أنه ليس مجرد رقم عادي في المعادلة الأمنية، بل نظنه – بهذا الدور المزدوج – بمنزلة الرقم القياسي فيها[1].

ومن ثم يصبح السؤال: متى يكون الإعلام آلية ناجحة – وناجعة – لحماية الأمن القومي؟ ومتى يفرض تهديدًا أو يصبح خطرًا على هذا الأمن؟ بعبارة أخرى، إذا سلمنا بأن هناك «مناطق تماس» بين الإعلام والأمن القومي؛ فإن السؤال هو: كيف يؤدي الإعلام دورًا حيويًا في تعضيد الأمن القومي أو تهديده، أو كيف ينصر قضية الأمن أو ينتصر لها، وكيف يخذلها، أو يتخاذل إزاءها؟

هذه الدراسة هي مجرد تنويه يدلل على أولوية هذه القضية على المستوى الإعلامي، وفي الوقت نفسه تحاول أن تفتح أفقًا لما يمكن أن يثار من أسئلة في هذا الصدد. والدراسة هنا تشيد بجهود مجلة المستقبل العربي في تناولها لقضايا الإعلام العربي في الكثير من إصداراتها، وتؤكد سبق المجلة في هذا المضمار.

أولًا: أسس العلاقة بين الإعلام والأمن القومي

وسائل الإعلام متعددة ومتنوعة، لكن ما يمكن التعويل عليه منها – في التأثير في الأمن القومي – هو كل أدوات الاتصال ذات الطابع الجماهيري، أو بالتحديد هو «كل الأدوات التي يمكن أن تحقق التواصل مع قطاعات عريضة من الجماهير في الوقت نفسه – أي في وقت واحد»[2].

ينطبق ذلك على الوسائل التقليدية كالصحافة والإذاعة والتلفزيون بقنواته الفضائية التي توصف بالجماهيرية – كما تُنعَت بأنها «السلطة الرابعة». ويصدق كذلك على الوسائل الحديثة أو الوسائط الإلكترونية واسعة الانتشار التي تسمى وسائل التواصل الاجتماعي، المتمثلة بشبكة الإنترنت والوسائط المتعددة، التي تدخل في باب الإعلام الحديث. وجميع وسائل الإعلام، قديمها والحديث، تستخدم الكلمة المطبوعة والمسموعة، وتستخدم الصورة والتسجيل المرئي (Video)، والرسم، والرمز، وتستخدم الإشارة والإيحاء والإغراء، وتستخدم التلميح والتصريح، وتمارس التسييس، كما تزاول التدليس. لكن الوسائل التقليدية ترسل أكثر مما تستقبل، وتحدد مضامينها من ناحيتها، في حين أن الحديثة تجمع الناس والمعلومات معًا – على منصة واحدة، وبطرائق عفوية وتفاعلية[3].

معنى ذلك أن وسائل الإعلام تعد «المنبر الأكبر» لنشر الخبر والمعلومة، وأكبر آلية تستخدم كل أوجه التعبير وعلاماته وأماراته. وهي الأقدر على التغلغل في المؤسسات كافة، وفي كل أرجاء المجتمع وثناياه، كما في تضاعيف كل القضايا والموضوعات. وكذلك هي من أكبر الأدوات الضليعة في الاستحواذ على عقول الجماهير، والضالعة في استقطاب مشاعرهم، واستهواء نفوسهم، واقتحام مساكنهم، والعيش معهم على مدار الساعة.

إذًا، يتعانق الإعلام مع الأمن القومي، هذا العناق قد يبدو أحيانًا وكأنه تعبير عن علاقة حميمة، ويبدو أحيانًا أخرى وكأنه شجار أو عراك بينهما، فأين الحقيقة؟

الحقيقة بطبيعة الحال ناصعة، وهي أن وسائل الإعلام تمثل آلية لحماية الأمن القومي، وفي الوقت نفسه تمثّل تهديدًا وتفرض خطرًا على هذا الأمن… تمثل تهديدًا لأسباب واضحة ومعروفة، منها ضعف الإعلام وتهافته أو تفاهته، ومنها انحرافه أو توظيفه لحساب اتجاه معين، ومنها أن وسائل الاتصال – ولا سيما حديثها- متاحة للجميع؛ متاحة لمن يحمي الأمن وينافح عنه، ومتاحة لمن يعبث بالأمن ويهدده. والحقيقة كذلك أنه مع وسائل الاتصال الحديثة أصبح تأثير الإعلام في الأمن أكثر فظاظة وأشد فجاجة، فإذا كانت الوسائل التقليدية قابلة للتحكم فيها أو مراقبتها، فإن الأخيرة يستحيل رصدها وتوجيهها. ومن ثم لم يعد الإعلام يتجاذب أطراف الصراع مع الأمن القومي فقط، ولا عاد يتعلق بأهداب التعاون مع قضايا هذا الأمن فقط، ولكنه أصبح طرفًا لاعبًا- أو لاهيًا- في ساحة هذا الأمن بأبعاده كافة[4].

ثانيًا: دور الإعلام في تعضيد الأمن القومي

تتمثل وظائف الإعلام بتزويد الجماهير بالأخبار والمعلومات والمواد المتنوعة التي تؤثر في وعي المتلقي، وتثير لديه ردود أفعال معينة. هنا نجد أن وسائل الإعلام مسؤولة عن توجيه الرأي العام، وعن تهذيب الذوق العام، وإرشاد الجماهير وتعليمها وتوعيتها بقضايا أمتها.

كذلك يرسم الإعلام الصورة السياسية، لأنه يحدد القضايا التي تهتم بها الجماهير، ويعرضها بطريقة تشكل إدراك الجماهير لها، ويصيغ وعيها بهذه القضايا، وبالتالي مواقفها منها. ومن ثم لا يمكن لأي أجندة سياسية أن تلاقي نجاحًا من دون أن تمهد لها قوة الإعلام الكاسحة[5].

يمارس الإعلام أيضًا الرقابة على أعمال الحكومة بغرض الحؤول دون انحرافها عن خط المصالح العليا للوطن، والتأكد من حفاظها على ماهية المصلحة العامة، وحرصها على تحقيق الأهداف والقيم الكبرى للمجتمع. من أجل ذلك يسهم الإعلام في بلورة معنى المصالح الوطنية ومضمونها، وخلق إجماع حولها، ويوفر سياقًا لتمكين المواطن من تقييم ممارسات الحكومة وأدائها، وتمكينه كذلك من توصيل ردود أفعاله على سياساتها[6].

ومثلما يباشر الإعلام دوراً مهمًا في تقوية أواصر التفاهم ودعائم التواصل بين الحكومة والمواطنين، فهو يعمل بمنزلة «منتدى وطني للحوار المستمر حول مختلف القضايا»، ومن ثم فبقدر ما يجتهد في  تبصير المواطنين بما يجرى حولهم من شؤون وأحداث، يجاهد من أجل تقديم البدائل واستكشاف آليات التصحيح لممارسات الحكومة؛ تلك البدائل والآليات التي تتمخض عن تعدد آراء المواطنين واتجاهاتهم المتباينة[7].

ثم إن الإعلام يصون القيم الأساسية، التي تعني الحرص على استقرار المجتمع، وعلى المكتسبات الوطنية، وعلى التماسك الاجتماعي، وعلى المنجزات الحضارية، وعلى ترشيد الاستهلاك، واحترام الممتلكات العامة، والحفاظ على البيئة… إلى غير ذلك من القيم. وذلك من خلال تقديم المعلومة الصحيحة، والتوجيه الرشيد، والتصدي لأي محاولات مشبوهة من جانب الآخرين. بعبارة أخرى فإن الإعلام يسكب معايير الامتثال ويزكيها، ويلفظ مظاهر الانحراف وينكرها… إنه قابض على جمر القيم النبيلة[8].

تزداد أهمية الإعلام في عصر المعلومات؛ فهنا يصير الإعلام سيد الموقف، ليس فقط لأن القسم الأعظم من المعلومات التي يمكن الحصول عليها تأتي من وسائل الإعلام، ولكن لأن وسائل الإعلام الحديثة أيضًا هي الأسرع في نقل المعلومة، وهي الأكثر انتشارًا اليوم، بل هي صارت متاحة للجميع. كذلك صارت أقدر على تلوين المعلومة، وعلى تزيينها، وتزييفها، وتشيينها، وتحريفها، وتوظيفها، وتسويقها، وتسويغها. من هنا يحمل الإعلام الحديث – القائم على تكنولوجيا الاتصال - أهمية خاصة في الدول كافة، ولا سيّما في ظل انتشار وسائله، ومع تزايد حساسية المواطن أو قابليته للتأثر. ويؤكد البعض أن تأثير هذا الإعلام في الأمن القومي لا يقل عن تأثير الوضع الجغرافي أو الموارد الاقتصادية أوالقدرات العسكرية. هنا قد نتحدث- مجازًا- عن الإعلام الكاسح أو بالتحديد عن إعلام «التأمين الكامل»، أو إعلام «التدمير الشامل»[9]!

ثالثًا: الإعلام إذ يشكل تهديدًا للأمن القومي

قد تنحرف وسائل الإعلام عن مسار وظائفها الأصيل، وقد تنجرف إلى ممارسات لا تتوافق مع نبل الهدف من وظائفها. ومن ثم فإن الإعلام قد يشكل تهديدًا للأمن القومي؛ وأسباب ذلك متعددة؛ قد تلخصها هذه المقولة – وهي مقولة صافية، بقدر ما هي صافعة – ومفادها أن «قوة تأثير الإعلام هي مكمن ضعفه»:

فمن ناحية، إن قوة تأثير الإعلام هي التي تغري الإعلام بالتجاوز، ويبدو أن هناك علاقة طردية بين قوة تأثير الإعلام من جانب، وارتفاع معدلات التجاوز من جانب آخر. فالإعلام إذ يجد نفسه مصدر إثارة، فقد يدفعه شغفه بالإثارة إلى التحريض والتضليل بدلًا من التحليل الموضوعي والتوجيه الصحيح. بعبارة أخرى فإن الأمر يتوقف على «طيف الإعلام وصوته» أو بالأحرى على «سيف الإعلام وسوطه»، وفي كلا التعبيرين وصف لسطوة الإعلام وبطشه، وإلى استخدامه من ألوان التوهُّج ما يخفي حقيقة لونه الأصيل والمشروع. كان الإعلام يوصف بأنه «يؤنس الوحدة، ويشبع الفضول، ويروح عند الملل…» ثم أصبح يُنعَت بأنه «صديق السوء… وأنه بارود في أيدي الطغاة». والحقيقة أنه «موسوعة من المرح والأسى، ومن النجاح والفشل، ومن الأمانة والخيانة، ومن الدعابة والابتزاز، ومن الحقيقة والزيف، ومن التوعية والتضليل…»[10].

من ناحية ثانية إن قوة تأثير الإعلام تغري أطرافًا متعددة باستغلاله لتحقيق أغراض هي تعرفها جيدًا، ونحن نعرفها أيضًا. فأصحاب الغرض السياسي لا يتورعون عن أن يسيطروا على هذه «السلطة النافذة والنفاذة» التي تتاح لوسائل الإعلام في مواجهة الجماهير المنكشفة. هم يريدون أن «يملأوا صفحات عقول الجماهير – إذ هي بيضاء – بما يريدون… يريدون الاستئثار بهذه العقول، والاستفراد بتلك الضمائر، والاستحواذ على هذه الأذواق… يشكلونها، ويصيغونها، ويصبغونها بالحقيقة أو بالزيف، بالجد أو بالسخرية، بالأفكار أو بالأوهام، بالجمال أو بالقبح، بالأمان أو بالرعب، بالحب أو بالكراهية…»، هكذا كان تعبير البعض، وهو التعبير الأوقع في وصف مقتضى الحال[11].

ومن ناحية ثالثة توجد نظريات متعددة في بيان تأثير الإعلام وتفسيره، فهناك النظرية «التكنولوجية» التي ترى أن الإعلام يعلّم الجماهير كيف تفكر وكيف تنظم شؤون حياتها. وهناك النظريات الحرجة (Critical) التي ترى أن الإعلام يزيف الوعي بالواقع، وتزييف الوعي بالواقع يعني مجازًا تزيين الواقع – أي أنه يعظ بجودة الواقع، فالنظريات الحرجة ترفض فكرة أن يمارس الإعلام التغيير. والمعنى الضمني فيها هو أن الإعلام يعيد استنساخ الوضع الراهن، أو يتغاضى عن ذكر الطرائق البديلة في التفكير والسلوك. ثم هناك النظريات «السيكولوجية» التي تذهب إلى أن الإعلام يشكل المشترك الثقافي بين الجماهير، حيث يمارس مهمة تنقية الأفكار من المغالطات وانتقاء السلوكيات التي تشذ عن المجرى العام ويبرز مدى قبحها أو انحرافها. والحقيقة أن كل هذه النظريات إنما تمجد في قوة دور الإعلام، ومن ثم فهي تدعو- من حيث لا تدري – إلى أهمية السيطرة عليه واستغلاله[12].

هذا وربما يمكن فهم تهديد الإعلام للأمن القومي بصورة أوضح نظرًا إلى طبيعة الإعلام من جانب، وإلى بنية معمار الأمن من جانب آخر، ثم إلى طبيعة العلاقة بينهما؛ فالإعلام بطبيعته كيان شُرِه للمال، أو كما وصفه البعض بأنه صنعة «صناعة المال» (Money- Making Industry)، أي أنه النشاط المهني الذي يحترف صنع الأموال. والإعلام بطبيعته كيان فضولي متطفّل يتخصص في التلصص، أو يتخصص في كل شؤون البشر، ويتلصص على كل مكامن الخطر، لذلك فهو يرقص على دفوف المال وطبول السلطة وألحان المصالح، والمعنى المستتر هو قابليته للتوظيف واستعداده لأداء أي دور ما دام هناك مقابل[13].

وبنية معمار الأمن تقع مكوناتها في مرمى إحداثيات الإعلام، فالحفاظ على الوجود، وعلى كيان الدولة، واستقلال إرادتها، وعلى وحدة النسيج الوطني، والاستقرار السياسي، والانسجام الاجتماعي، والمواطنة، وتحمل المسؤولية، وجودة الأداء العام… كل ذلك يشكل عناصر في بناية الأمن القومي، ويشكل في الوقت نفسه مجالات خصبة للممارسة الإعلامية، أو أهدافًا جيدة في مرمى نيران الإعلام.

وفي مفاصل العلاقة بين الإعلام والأمن القومي تكمن شياطين التفاصيل التالية:

– أولًا في ظل غموض مفهوم الأمن القومي – وهو غامض حقيقة – تزداد الحاجة إلى توضيحه وترسيخه. وفي ظل غموضه تتسع فرص تسويغه أو تسويقه بأشكال معينة، وفي ظل غموضه تتراجع مساحة الاتفاق العام حول مضمونه وآلياته. هنا يبرز دور الإعلام – بوظائفه – في استجلاء الغموض حول المفهوم، وفي تجديده بصورة مستمرة، وترسيخه في الوعي العام، وخلق إجماع وطني حول مكنونه ووسائل حمايته. والحقيقة أن غموض المفهوم قد يجعل توظيفه «تجارة» تتولاها جهات كثيرة لتحقيق أغراض معينة وبصور متعددة؛ فكل طرف يتوسل به أو يستحضره كيفما شاء، وهنا يتعاظم خطر الإعلام[14].

ثانيًا، المعنى الموضوعي لمفهوم الأمن هو تحرير القيم العزيزة على المجتمع من أي تهديد، والقيم تشتمل على معاني الوجود والموارد والحريات والرخاء والاستقرار… وغيرها. هذا المعنى تتم ترجمته إلى شعور ذاتي لدى المواطنين، وفي هذه الحالة يصبح المعنى الأهم للأمن عند الناس هو الإحساس بالأمان أو بانتفاء الخطر أو بعدم وجود ما يهدد حياتهم وقيمهم. وحين يتعلق الأمر بمدى الشعور وسبل الإدراك، تتسع المساحة للتأثير الإعلامي، الذي يمكن أن يبعث برسائل تبث الطمأنينة أو تحمل على الخوف لدى المواطنين. بمعنى آخر فإن الأمن القومي يمثل «سلعة أو خدمة عامة» يقدمها الإعلام إلى الجماهير، يقدمها – ليس بمعنى أنه ينجزها، ولكن بمعنى أنه يصورها لهم وينقل إليهم حيثياتها[15].

ثالثًا، دور الإعلام في أوقات الأزمات هو خطورة بذاته؛ ففي ظروف الأزمة تتطلع الجماهير إلى الإعلام تستقي منه الأخبار والمعلومات، التي على أساسها يتكوّن وعي المواطن بطبيعة الأزمة، وتتحدد إلى حد كبير ماجريات كثير من الأمور. ويؤكد البعض أن العلاقة بين الإعلام والأمن القومي تكون على أشدها في أوقات الحروب والأزمات، أو تكون أوضح – من حيث بصمتها في الرأي العام - في هذه الأوقات[16].

رابعًا، فإن للإعلام باع – قد يكون طويلًا – في صوغ إدراك هؤلاء الذين يصيغون السياسات، ويختارون بدائل تحقيقها. وهذا هو المعنى نفسه المقصود من أن الإعلام يصنع الأجندة الوطنية، فهو يضع خطوطها بصورة مباشرة من خلال تأثيره في مدركات صانع القرار، وبصورة غير مباشرة من خلال تأثيره في الرأي العام، الذي يؤثر بدوره هو الآخر في تلك الأجندة. يشكل الإعلام الرأي العام ويصيغ توجهاته، ويخط مدركات الجماهير ويرسم اتجاهاتها[17].

رابعًا: خطورة الميديا الحديثة

في هذا الصدد يرصد المراقبون الدور الحيوي والحاسم لماكينة الإعلام في التعامل مع الأخطار والتهديدات إيجابًا أو سلبًا. ويقر الجميع أن الإعلام في زمن العولمة قد صار سلاحًا فتاكًا (Lethal Weapon) في وجه العدو – كما في خاصرة الوطن. لقد أصبحت الكاميرا والكمبيوتر من أسلحة الحرب… في ميادين الإرهاب، وفي أوقات الأزمات والكوارث، وفي ساحات الجريمة، كما في ظروف عدم الاستقرار السياسي والقلاقل والاضطرابات، كما هي خطيرة في الظروف العادية؛ فهي غالبًا تداعب عواطف الجماهير، وتدغدغ مشاعرها، كما قد تستثيرها، وربما تستفزها (17).

فقد نلاحظ أولًا أن ظهور الميديا الحديثة قد أدى إلى اعتماد كثر عليها في معرفة الأخبار، وحيث إنها تتسم بقدر كبير من اللامركزية، وبقدر أكبر من العشوائية؛ فقد تعني البلبلة وتضارب المعلومات؛ ولا سيما أن لديها مساحة أوسع في التركيز على الأحداث الغريبة وتلوينها من أجل استقطاب المتلقي.

ثانيًا، قد تتيح الميديا الحديثة لجماعات الإرهاب التواصل مع قطاعات كبيرة من الجماهير واستقطاب الكثير منهم وتجنيدهم، وتبادل المعلومات معهم، والحصول على معلومات قد تكون سرية أو ضمن ما هو محظور[18].

ثالثًا، تركز الميديا الحديثة على نقل الجريمة وتكرارها وتصويرها بمشاهد مفزعة، ويرى البعض أنها «تتاجر بالجريمة» (Crime Sell). وتتفق أغلب الآراء على أن هذا الترسيل يترك أثرًا نفسيًا سلبيًا في المجتمع؛ يتمثل ببث الرعب وإشاعة الهلع لدى المواطنين.

رابعًا، تستخدم منظمات الجريمة الميديا الحديثة، تستخدمها كأدوات للتواصل والتنسيق لممارسة أنشطتها المجّهلة. هذه الأنشطة المجّهلة تنطوى على نوعين من الجرائم؛ الأول معلوماتي غالبًا، وهو من قبيل نشر الإباحية، وسرقة المعلومات، وانتحال الهوية الشخصية أو الاعتبارية، وبث الفيروسات. والثاني من الجرائم التقليدية، مثل تجارة البشر، وتجارة المخدرات ومواد الإدمان، والسطو الإلكتروني على الأعمال، والنصب والاحتيال، وتداول وثائق التجسس.

خامسًا، تشكل الميديا الحديثة قاعدة كبيرة الأهمية لحركات الاحتجاج والتمرد؛ فالجماعات الثورية والمتمردة تستخدم هذه الأدوات في حشد الجماهير وتحفيزها وتنظيم التظاهرات وأعمال الاحتجاج وإدارة العمليات الميدانية المرتبطة بها.

سادسًا، يتعاظم في الميديا الحديثة خطر إفشاء المعلومات التي تتعلق بالأمن القومي، وقد اتضح ذلك في قضية التسريبات الشهيرة (ويكيليكس) التي دشنها جوليان أسانج، والتي حظيت باهتمام واسع، وأثارت جدلًا. لكن معظم الآراء توافقت على أن إفشاء معلومات أمنية – أو تسريب وثائق – لا يقل خطورة عن الجاسوسية، ومن ثم يجب تجريمه، وأن ذلك يستلزم تصنيف المعلومات التي تدخل في نطاق حماية الأمن القومي[19].

لا شك في أن ثمة اتفاقًا على أن الميديا الحديثة تشكل أداة مهمة في التغيير السياسي والاجتماعي، وبالتحديد هي أهم الأدوات في تغيير خريطة الواقع السياسي الآن، لكنها بكل تأكيد لا تقدم استراتيجية للتغيير المنشود ولا تحدد ملامح الخريطة الجديدة أوالمطلوبة. لقد كانت الميديا الحديثة وراء الكثير من الاضطرابات السياسية والاجتماعية في مصر وتونس، وأحداث الشغب في لندن وفي الولايات المتحدة الأمريكية. لكن دورها انحصر في التعجيل بالاضطرابات، وتيسير حدوثها، وتوصيل أسبابها، ونشر هذه الأسباب وشحن المواطنين بها، فهي – بكل تأكيد – لم تخلق الأسباب[20].

في مواجهة هذا الخطر لجأت الحكومات التي شهدت اضطرابات إلى إغلاق الميديا الحديثة، لكن هذا الإجراء لم يكن صحيحًا؛ فقد كانت له آثار عكسية على المدى القصير، ونتائج سلبية على المدى الطويل. وعمومًا فإن قطع الاتصالات لا يوقف الاحتجاجات، بل قد يلهبها، كما أنه يوحي بأن السلطة في حرج، وهو انتهاك لقوانين يجب أن تحميها السلطة، وله مردود اقتصادي يترجم في خسائر كبيرة في تعاملات البنوك والتجارة الإلكترونية والأعمال التي تنجز من خلال الإنترنت[21].

ولعلنا ندرك أن الميديا الحديثة بمثل ما هي تهديد كامن، فإنها تمثل فرصة لحماية الأمن، فمن الممكن استخدامها كوسائل دفاعية أو هجومية؛ دفاعية من قبيل الوقاية والتحذير والاستبطان أو الاستبصار – أي التكهن المسبق، وهجومية مثل التأثير والدعاية والخداع، وذلك على النحو التالي:

تستخدم الميديا الحديثة في التحذير والاستبصار، أي كأدوات للتوقع والاستشراف المستقبلي، وهو ما يقلل من أثر فجائية التهديدات من ناحية، ويحسن قدرات الاستعداد لمواجهة الأحداث الطارئة من ناحية أخرى. والواقع أن تصور المستقبل أو توقعه علميًا مسألة ليست سهلة وليست دقيقة؛ لكن الميديا الحديثة يمكن أن تؤدي – في هذا الصدد – وظيفة استخبارية مهمة وغير مكلفة، بوصفها مصدرًا لجمع المعلومات التي تفيد أجهزة الأمن كما تفيد الأجهزة المدنية، فالمستخدم يترك علامات تدل على هويته وميوله وقدراته وتحركاته واتصالاته، هذه المعلومات يمكن تجميعها وتحليلها.

كذلك فإن المراقبة المستمرة والعميقة للميديا الحديثة تفيد في التحذير ضد الأخطار الحالية والمستقبلية التي تهدد الأمن؛ فمنظمات الجريمة، والعناصر المتطرفة، والدول المعادية… كل هؤلاء يستخدمون الميديا الحديثة. من أجل ذلك فإن تحليل أجهزة الاستخبارات لما يحدث عبر هذه الأدوات يفيد في «التحذير المبكر»، فالمعلومات والرسائل التي يتداولها المتمردون لتنظيم تظاهرة أو احتجاج تكون بادية للعيان، وكذلك المنظمات التي تمارس الإجرام تترك علامات أو إشارات يُفهَم منها أنها تنوي ارتكاب جريمة معينة. والفيديوهات التي تُنشَر يمكن تحليلها واستنباط الأساليب التي تستخدمها العصابات الإجرامية وقدراتها وأماكن وجودها واتصالاتها ومؤيديها.

كذلك يمكن استخدام الميديا الحديثة في التحذير الاستراتيجي، وهو التحذير المتوسط المدى وطويله؛ فعن طريق تحديد اتجاهات الجماعات المناوئة وفحص خياراتها، وتحليل المدونات والمناقشات التي تحدث على مواقع التواصل الاجتماعي بينها، يتوافر كم كبير من المعلومات المهمة حول التوجهات المستقبلية لكثير من الأطراف المقصودة وعن طبيعة الأحداث العامة[22].

كذلك تستخدم الميديا الحديثة كأدوات للتأثير والدعاية والخداع، بمعنى التأثير في إدراك الآخرين وصوغ أفكارهم وتحديد خياراتهم كما في تكوين الرأي العام. ويمكن توظيفها في التدخل في صنع القرار لدى الخصوم بصورة مباشرة من خلال السيطرة على المعلومات وعلى أطر التحليل الخاصة بهم أو التأثير في المقربين من صناع القرار. أو بصورة غير مباشرة عن طريق التأثير في الجماعات التي تؤثر في الرأي العام كالتنظيمات السياسية والاتحادات التجارية والعمالية وغيرها. دول كثيرة على رأسها الولايات المتحدة انتهجت دعم برامج للدعاية والتأثير، ففي معظم دوائر الخارجية الأمريكية يوجد فريق عمل صغير لهذا الغرض، كذلك توجد مراكز بحوث لهذا الغرض في كل من الهند وكوريا الشمالية وفي إسرائيل.

وعمومًا فإن الأمر يتوقف على كيفية استخدام الميديا الحديثة، والأغراض التي تُستخَدم فيها، وبمدى قدرة الحكومات على استقطار فوائد هذه الأدوات التي تمثل سلاحًا ذا حدين. بعبارة أخرى، يتوقف الأمر على قدرة الحكومات في تنضيد منصات تتغلغل في كل الوسائط، وتتفاعل مع كل الأوساط، تنثر المصداقية، وتصحح الأخطاء، وتدحض الشائعات، وتنتقد الرديء، وتقدم المواد الراقية، وتشكل مرجعية حين تكثر الأقاويل[23].

خاتمـة

الحقيقة أن «بانوراما» تأثير الإعلام تقتضي النظر إلى الإعلام بوصفه «مؤسسة» لها كامل مواصفات المؤسسة، من هياكل تنظيمية، ووظائف، وتقاليد، وأدوار، وعلاقات مع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى، ومن ثم فإن تحليل تأثير الإعلام يتضمن خمسة وجوه:

تحديد طبيعة هذا التأثير، وهل يعزز الواقع أم يتوخى تغيير هذا الواقع؟

تحديد موضوع التأثير أو مجاله، وهل هو الرأي، أم الهياكل والبنى الاجتماعية؟

تحديد المستهدف بالتأثير، وهل هو الفرد أم الجماعة أم الدولة (الأمة)؟

تحديد المدى الزمني لرد الفعل، بين القصر والطول؟

تحديد الطراز أو اللون أو الطيف الإعلامي؛ وهو نوعية القالب الذي تقدم فيه المادة الإعلامية – فنيا وتكنولوجيا – والسياق الذي تجرى فيه.

وحتى يكون تأثير الإعلام إيجابيًا، ينبغي ملاحظة ما يلي:

– المواطنة الجيدة تساوى التبصير الجيد بماجريات الأمور، والتبصير الجيد أشراطه الصدق والموضوعية والأمانة.

– تحتاج وسائل الإعلام إلى ميثاق شرف أو مدونة سلوك، تفرض عليها الالتزام بالمعايير الأخلاقية، والتي تتمثل في دقة نقل المعلومة، والمصداقية في تحري أصولها، واحترام الخصوصيات، وعدم التحريض على العنف، وتجنب الإباحية (Obscenity)، وتجنب الفتنة.

– الإعلام يجب أن يقدم التحذير في وقته – من دون تهويل أو تهوين، وأن يوفر المعلومة الصحيحة، وأن يصحح الشائعات، وأن ينسق مع الجهات المعنية، وأن يسهم في تقديم الحلول.

كتب ذات صلة:

السلطة السياسية والإعلام في الوطن العربي

نظم وسائل الإعلام العربية