ملخص:

تناقش هذه الورقة دور الأكاديمي الفلسطيني في المشروع الوطني المتمثل بالتحرر من الاحتلال وتقرير المصير في مرحلة ما بعد تأسيس السلطة الفلسطينية التي قامت على أساس اتفاق أوسلو 1993. تركز الورقة بشكل خاص على علاقة الأكاديمي بالسلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها الجهة الرسمية الحاملة للمشروع الوطني، وتجادل بأن هذا الدور قد تراجع بالمقارنة مع الدور التاريخي الريادي الذي لعبه الأكاديمي الفلسطيني في ظل الاحتلال المباشر في مرحلة ما قبل اتفاق أوسلو. ولذا تسأل الورقة إن كان الأكاديمي الفلسطيني قد تخلى عن دوره القيادي والمقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي وأصبح جزءًا من السلطة يتماهى معها ويدافع عنها ويطمح إلى الترقية في هياكلها، وهل عمل الالتحاق بالجهاز البيروقراطي للسلطة على ترويض الأكاديمي الفلسطيني على غرار انخراطه في برامج المنظمات غير الحكومية الدولية ذات التخصص المهني والفني الدقيق غير المرتبط بالضرورة بالمشروع الوطني المقاوم، أم أثبت الأكاديمي «قدرته على التغيير من الداخل» كما يفسر الكثير من الأكاديميين سبب التحاقهم بأجهزة السلطة الفلسطينية؟

كلمات مفتاحية: المشروع الوطني الفلسطيني، السلطة الفلسطينية، الأكاديميين، المقاومة الأكاديمية، الأكاديمي الناشط، تقرير المصير الفلسطيني، الاحتلال الاسرائيلي.

Summary

This paper discusses the role of the Palestinian Academics in the national project of self-determination and liberation from the Israeli occupation after 1993, the establishment of the Palestinian Authority based on Oslo Agreement. Particularly, the paper examines the relationship between Academics and the Palestinian Authority as the official entity representing the national project. It argues that this role has declined in comparison with the historical leadership role that Palestinian Academics played in the pre 1993 Oslo phase. The paper asks whether Palestinian Academics are abandoned their leadership and resistance role against the Israeli occupation, becoming part of the Palestinian Authority, identifying with and defending its performance and aspiring to be promoted in its structures. Furthermore, the paper discusses whether joining the bureaucratic apparatus of the authority worked to ‘tame’ Palestinian Academics in a similar way to that with their close involvement in international NGOs that focus on technical specializations, not necessarily in advancing the national project. Finally, the paper asks whether the Academics proved their ability to «change from within» as many of them justify why they joined the Palestinian Authority.

Keywords: Palestinian National Project, Palestinian Authority, Academics, resistance, scholar activism, Israeli occupation, Palestinian self-determination.

 

يُنظر إلى الأكاديميين على أنهم يمثلون شريحة رئيسية من المثقفين في أي مجتمع وذلك لأسباب تتعلق بمستوى تعليمهم الرفيع ولوجودهم في مراكز قيادية في العملية التعليمية والتربوية في مجتمعاتهم. من جهة أخرى، فعلاقة الأكاديمي المثقف بالسلطة حساسة، كما هي جدلية، حيث ينظر البعض فيها إلى المثقف على أنه يمثل ضمير المجتمع وصاحب الدور الرقابي والأخلاقي على السلطة وصوت من لا صوت لهم، في حين يرى آخرون أن بقاء الأكاديمي المثقف في بروج عاجية يؤدي إلى عزلته عن محيطه الاجتماعي والسياسي، بينما انغماسه في السلطة يمكّنه من إحداث التغيير المطلوب من الداخل، وهو ما يحتاج إليه المجتمع، وخصوصًا عندما تكون السلطة فاسدة وظالمة وقامعة للشعب. ولكن، وفي الوقت نفسه، فإن دخول المثقف إلى السلطة قد يؤدي به إلى التحول ليصبح جزءًا من هذا الواقع، ليس بالضرورة أنه يشارك السلطة فسادها ولكن فقط لعجزه عن إحداث تغيير في هذا المحيط لأنه وببساطة أقوى منه، كما أنه، وهذا الأخطر، يمكن للأكاديمي المثقف غير الفاسد أن يضفي نوعًا من الشرعية على هذا الواقع كونه أصبح جزءًا منه. وبما أن الأكاديمي المثقف يأخذ موقف الرقيب الأخلاقي والقيمي – أو هكذا يفترض – فلا بد له من أن يتبوأ مواقع متقدمة في الثورة وعملية التحرر كما كان عليه الحال في فلسطين عندما أخذ المثقف الأكاديمي دوره ضد الاحتلال الإسرائيلي وتعسُّفه فتعرّض للاعتقال والإقامة الجبرية والإبعاد.

تناقش هذه الدراسة دور الأكاديمي المثقف في المشروع الوطني الفلسطيني المتمثل بالتحرر من الاحتلال وتقرير المصير، في مرحلة ما بعد تأسيس السلطة الفلسطينية التي قامت على أساس اتفاق أوسلو 1993. تركز الدراسة بوجه خاص على علاقة الأكاديمي المثقف بالسلطة الوطنية الفلسطينية بوصفها الجهة الرسمية الحاملة للمشروع الوطني، وتجادل بأن هذا الدور قد تراجع بالمقارنة مع الدور التاريخي الريادي الذي أدّاه الأكاديمي الفلسطيني في ظل الاحتلال المباشر في مرحلة ما قبل اتفاق أوسلو. فهل تخلى الأكاديمي المثقف عن دوره القيادي والمقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي وأصبح جزءًا من السلطة يتماهى معها ويدافع عنها ويطمح إلى الترقية في هياكلها؟ وهل عمل الالتحاق بالجهاز البيروقراطي للسلطة على ترويض الأكاديمي المثقف، على غرار انخراطه في برامج المنظمات غير الحكومية الدولية ذات التخصص المهني والفني الدقيق غير المرتبط بالضرورة بالمشروع الوطني المقاوم؟ أم أثبت الأكاديمي «قدرته على التغيير من الداخل» كما يفسر الكثير من الأكاديميين سبب التحاقهم بأجهزة السلطة الفلسطينية؟

منهجيًّا، اطلعت هذه الدراسة على الأدبيات الخاصة بالموضوع من المصادر الثانوية. كما أجرى الباحث مجموعة من المقابلات مع أكاديميين فلسطينيين مهتمين بالشأن العام وبنهوض المشروع الوطني. إضافة إلى ذلك، تتبع الباحث تمثيل الأكاديميين الفلسطينيين في الحكومات الثماني عشرة للسلطة الوطنية ابتداءً من الحكومة الأولى التي تألفت بعد اتفاق أوسلو 1993، وانتهاءً بما أُطلق عليه «حكومة الفصائل» عام 2019، لدراسة مدى حضور الأكاديميين في السلطة ومؤسساتها الرسمية، وإذا ما كان من شأن ذلك احتواء دورهم السياسي داخل المجتمع الفلسطيني. وللوصول إلى تعريف إجرائي محدد للأكاديمي الفلسطيني فقد عدّته الدراسة أنه الشخص الحاصل على درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات المعترف بها محليًّا أو دوليًا وقد انتظم بالتدريس في إحدى مؤسسات التعليم العالي لفترة زمنية لا تقل عن عام واحد.

أولًا: أهمية الأكاديميا للعمل الوطني

تنبع أهمية دراسة دور الأكاديميين في الشأن العام – النهوض بالمشروع الوطني في الحالة الفلسطينية – وفي عملية التغيير الاجتماعي من مجموعة من العوامل الذاتية، المتعلقة بالدرجة الأولى بكونهم منتجين للمعرفة التي هي نوع من أنواع القوة الفاعلة في العصر الحديث، وما يترتب عن ذلك من امتيازات يمتلكونها وتجعلهم قادرين على أداء دور متميز يسهم في تحقيق التغيير المطلوب. يعزز قدرتهم على صوغ الرؤى للتحديات المجتمعية كونهم عاملين خارج إطار السلطة غير واقعين تحت تأثير ديناميات الحكم، والحاجة إلى الوصول إلى صيغ تحافظ على مصالحهم الخاصة، وعلى رأسها البقاء في الحكم. إذًا هي نسبيًّا ونظريًا رؤىً خالية من التضارب في المصالح (Conflict of Interest).

يملك الأكاديميون نوعًا مهمًّا من أنواع القوة داخل المجتمع تتمثل بقدرتهم على التأثير في الرأي العام المجتمعي وما يصاحب ذلك من نفوذ في الضغط على السلطة السياسية في الدولة. تنبع قوة الأكاديميين في هذا المجال من عاملين: يتمثل الأول بالمكانة الاجتماعية التي يتمتعون بها، والتي توفر لهم مستوىً معينًا من الحماية من بطش السلطات فتجعلهم أقدر على المجاهرة في تحدي السلطة ونقدها؛ والثاني بحكم إنتاجهم المعرفي الموجه للرأي العام معظم الأحيان. هذه القدرة على التأثير العمومي تساعد على خلق نوع من التوازن في علاقات القوة ما بين السلطة السياسية وقوى المجتمع المدني فيجعل التغيير أكثر احتمالًا.

تمنح المكانة الأكاديمية قدرات خاصة لأصحابها حيث تؤهلهم لمخاطبة المجتمع الدولي وللدفاع عن قضايا مجتمعاتها، بمستوى مختلف من حيث الأداء والفضاء المخاطب عمّا تقدمه السلطة السياسية. هو ليس بديلًا لما تقدمه السلطة السياسية، ولكن مكملًا في جوانب كثيرة لما لا تستطيع الأخيرة الوصول إليه. فلسطينيًا، أحدثت شخصيات أكاديمية اختراقات في الساحة الدولية في دفاعها عن عدالة القضية الفلسطينية، حيث لم يكن بإمكان منظمة التحرير الفلسطينية، أو السلطة الفلسطينية، القيام بها نتيجة لاختلاف تخصص كل منها. لقد أحدث أكاديميون فلسطينيون، مثل إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد وهشام شرابي ووليد ورشيد الخالدي وغيرهم كثيرون، تأثيرات ذات شأن حول عدالة القضية الفلسطينية في فضاءات دولية كثيرة، إذ لم يكن لقيادات فلسطينية رسمية أخرى الوصول إليها ليجادلها ويحدث التأثير المنشود لديها‏[1].

من جهة أخرى، فإن هناك قسمًا من الأكاديميين عادة يرفضون الانضواء في الأحزاب، وذلك لأسباب متأصلة (Inherent) في طبيعة كلا العملين الحزبي والأكاديمي. ففي حين يتوقع الحزب السياسي من أفراده الإيمان بمواقفه وتبنّيها والدفاع عنها حتى إن لم يكن الفرد مقتنعًا بها، يُتوقع من الأكاديمي العامل بإنتاج المعرفة الالتزام بالموضوعية والبحث عن الحقيقة والانحياز لها وحدها فقط، بغض النظر عن الحزبية. يؤدي المنهج الأكاديمي الموضوعي وظيفة مجتمعية مهمة، وبخاصة في أوقات الاستقطاب السياسي الحاد كونه يعمل خارجه، ويمكن لما يوصِل إليه من نتائج أن يكون أرضية لقاء لمن هم خارج هذا الاستقطاب أيضًا. وفي حالة وجود عمل أكاديمي جماعي منظم فإن من شأن ذلك أن يجعل من الأكاديميين طرفًا ثالثًا ضاغطًا يعمل ضد الاستقطاب.

وهناك أهمية أخرى لدور الأكاديميين في الشأن العام تتمثل بقدرة الأكاديميا الوطنية على الإسهام في تحسين عملية صنع القرار الوطني من خلال إغنائه بالمعلومة والبحث العلمي. وفي هذا الصدد يرى علي الجرباوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، بأن سببًا رئيسيًا في انخفاض مستوى الأداء السياسي في الوطن العربي بوجه عام هو الفجوة الكبيرة ما بين المعرفة والقرار السياسي‏[2]. فعملية صنع القرار السياسي لا تحوي إنتاجًا معرفيًّا كجزء أصيل من العملية نفسها. وعليه، يمكن للأكاديميين العاملين في إنتاج المعرفة المساهمة في سد هذه الفجوة من خلال خلق الآليات المناسبة لذلك، سواء كان بتأسيس مراكز الفكر (Think Tanks)، أو بالنصيحة المباشرة لصناع القرار السياسي، أو بإصدار موجز السياسات (Policy Briefs) أو حتى الندوات العامة وغير ذلك. وفي هذا تحديدًا ينبه الجرباوي إلى أنه يصعب على الأكاديمي التأثير بمفرده في عملية صنع القرار من خارج السلطة، إذ لا بد له من العمل من خلال مؤسسات، أو أحزاب سياسية، أو مجموعات ضغط، توفر له الإطار المناسب للتأثير، ويستدل بذلك على النموذج الغربي مثلًا؛ الذي وفّر مراكز فكر مثل مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومجلس العلاقات الخارجية وغيرهم الكثير، التي تحولت إلى رافد إضافي للتأثير المعرفي في القرار السياسي. وبالرغم من ذلك يقر الجرباوي بأن بعض الأكاديميين قد حققوا بصورة فردية مكانة دولية أهّلتهم ليكون لهم نفوذ (Leverage) وتأثير في العمل السياسي في مناطق تخصصهم.

أخيرًا، يبقى تأثير الدور الأكاديمي في الشأن العام حيويًّا، ليس فقط آنيًّا، ولكن على المدى الاستراتيجي أيضًا. فالأكاديميون هم من يشرفون على العملية التعليمية لعنصر الشباب الذي يؤدي عادة دورًا محوريًا في الثورات وحركات التغيير الاجتماعي. فالطلبة الجامعيون على تواصل مباشر مع أساتذتهم، ويقعون تحت تأثير ممنهج من جانبهم ولعدة سنوات، وهذا يعطي الأكاديميين دورًا مهمًّا في التأثير بالقيادة المستقبلية للمجتمع.

ثانيًا: دور الأكاديمي المثقف في الشأن العام

ليس كل أكاديمي مثقفًا ولا كل مثقف أكاديميًّا، بيد أنه يُتوقع مجتمعيًا أن يضطلع الأكاديمي بمهام المثقف، وعلى رأسها تبنّي قضايا مجتمعه والانحياز للجانب الأخلاقي في علاقة الدولة بالمجتمع، مجتمعه. كذلك هناك الأكاديمي الناشط الذي يضيف بعدًا جديدًا لهذه العلاقة؛ فهو يتماهى مع الأكاديمي والمثقف في جوانب ويتميز بجوانب أخرى. يوضح الشكل الرقم (1) العلاقة ما بين هذه التعريفات، وكذلك الحيز الذي تتقاطع به، والذي يعتبر نطاق اهتمام هذه الدراسة.

الشكل الرقم ( 1)
العلاقة ما بين الأكاديمي والمثقف والناشط

ولنبدأ أولًا بالمثقف، إذ يعتبر انطونيو غرامشي أن كل من يعمل في مجال يتصل بإنتاج المعرفة ونشرها مثقف (سعيد، 2006: 40). فالمثقف صاحب رسالة وله دور حيوي في الشأن العام المجتمعي. اختلف المنظرون على صورة هذا الدور، والطريقة التي يتم فيها التعبير عنه، حيث يدور الحديث عن أنواع مختلفة من المثقفين. فقد اعتبر جوليان بندا (Benda, 1969: 34) المثقفين «ضمير البشرية» في دراسته التي كتبها بعنوان «خيانة المثقفين» حيث يرفض هؤلاء المثقفين الذين يعيشون في بروج عاجية (كما يفعل قسم من الأكاديميين) والذين ينغمسون في الجدل حول قضايا غامضة فينعزلون عن الآخرين ويعيشون في عوالمهم الخاصة. فالمفكرون الحقيقيون أقرب إلى الصدق مع أنفسهم، وتدفعهم المبادئ السامية كالعدل والحق وفضح الفساد والتصدي له، والدفاع عن المستضعفين، كما أنهم يتحدون السلطة المعيبة أو الغاشمة (Said, 1996). وفي السياق نفسه أشار غرامشي في دفاتر السجن إلى «المثقف العضوي» (Gramsci, 1971: 3‑23) الذي عرّفه بأنه «ذلك المثقف (الحزبي أو غير الحزبي) القادر على إماطة اللثام عن الواقع الاجتماعي غير الطبيعي، وأنه يمكن تغيير ذلك الواقع بالقدرة على تحليل ثقافته ونقدها، وتحقيق الهيمنة الثقافية للمضطهدين» (بشارة، 2013: 5). يميّز غرامشي بين المثقف التقليدي المُترفِّع عن الواقع وعن عموم الناس من جهة، وبين المثقف العضوي الذي يُكابِد مع شعبه ويحمل هموم شعبه ويتبناها، فيصبح ذا شأن في عملية التغيير الاجتماعي.

تأثر إدوارد سعيد بوجه خاص برؤية بندا وغرامشي لدور المثقف في المجتمع وعلاقته مع السلطة، حيث يرى أن «المثقف ينهض بدور محدد في الحياة العامة في مجتمعه، ولا يمكن اختزال صورته بحيث تصبح صورة مهني مجهول الهوية، أي مجرد كفؤ ينتمي إلى طبقة ما يمارس عمله وحسب» (سعيد، 2006: 43 – 44). فالمثقف، حسب إدوارد سعيد، يحمل رسالة ويمثل موقفًا، أو فلسفة محددة، يفصح عنها ويدافع عنها ممثلًا لأشخاص وقضايا يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء، فهو فرد يصعب على الحكومات أو الشركات استقطابه حيث «يقوم بهذا العمل على أساس المبادئ العامة العالمية، وهي أن جميع أفراد البشر من حقهم أن يتوقعوا معايير ومستويات سلوك لائقة مناسبة من حيث تحقيق الحرية والعدالة… وأن أي انتهاك لهذه المستويات والمعايير السلوكية، عن عمد أو دون قصد، لا يمكن السكوت عليه، بل لا بد من إشهاره ومحاربته بشجاعة» (سعيد، 2006: 43 – 44).

آمن إدوارد سعيد بضرورة ابتعاد المثقف عن السلطة، وعدم الخدمة في أجهزتها أو العمل كمستشار لديها، حيث يرى أن المثقف ينتمي أصـلًا إلى مبادئ عالمية ويمثل المستضعفين ويدافع عنهم. ويروي سعيد عن نفسه أنه لم يكن يهتم بالاستشارات مقابل الأجور التي تقدّم من الحكومات «حيث تجهل في هذه الحالة أسلوب استخدام أفكارك أو الانتفاع بها في المستقبل». ويضيف بأنه كان يرحب على الدوام بالمحاضرات الجامعية ويرفض ما عداها، حيث لم يتوقف «عن قبول الحديث في المناسبات التي تتيح زيادة الجرعة السياسية في حديثي، وكنت ألبي – بانتظام ودون تردد – كل دعوة أتلقاها من الجماعات الفلسطينية، أو من الجامعات في جنوب أفريقيا لزيارتها والحديث المناهض للفصل العنصري والمناصر للحرية الأكاديمية» (سعيد، 2006: 150).

علاقة المثقف بالسلطة إذًا أخذت حيزًا كبيرًا من نقاش المثقفين بمن فيهم العرب الذين طرحوا ما أصبح يعرف بـ «تجسير العلاقة ما بين المثقف والسلطة»، وهي عبارة عن محاولة للمثقفين من ردم الهوة بين المثقف والسلطة وخلق نموذج للعمل المشترك تحت ترتيبات مختلفة. هدف المثقفون من هذا التجسير إلى محاولة ما أسموه «التغيير من الداخل» الذي يسمح لهم بالتأثير في السلطة ليس من الخارج أو على شكل «محاضرات إدوارد سعيد» ولكن من خلال النصح والتنوير، وأحيانًا القيام بمهام محددة للسلطة مع ترك بصماتهم كمثقفين عليها، والتي برأيهم إن لم يفعلها المثقفون سيفعلها أشخاص آخرون، فلسان حالهم يقول فلنفعلها نحن بالطريقة التي تخدم القضايا النبيلة والمبدئية التي نتبناها بفكرنا وندافع عنها كمثقفين. يُطلق عزمي بشارة على هؤلاء ما يسميه «المثقف الإصلاحي» حيث يجادل بأنه يستطيع التغيير ضمن ظروف محددة تتعلق بطبيعة النظام إلا أنه يشكك بقدرة هذا النوع من المثقفين على تحقيق التغيير في نهاية المطاف. يقول، المثقف الإصلاحي هو «الذي يحاول أن يؤثر في اتجاه تقديم التغيير عبر تسويات مدروسة، ويساوم في سبيل تغيير النظام من داخله، وليس عبر كسره بالثورة فيما يشاع عربيًا تحت صيغة «تجسير العلاقة بين المثقف والسلطة». وينجح هذا المثقف الإصلاحي في حالة أنظمة تستنتج ضرورة الإصلاح، والتكيف مع حركة التاريخ من أجل البقاء من دون تحجر. ولكن المثقف الإصلاحي يصل إلى طريق مسدود في نظام الاستبداد المطلق» (بشارة، 2013: 16).

يجد الأكاديمي المثقف نفسه أحيانًا وقد أصبح جزء من ظاهرة ما يسمى «التكنوقراط»، والتي تُعرّف عمومًا على أنها الإدارة العلمية أو الفنية لشؤون الدولة والقائمة على التخصص وليس الانتماء السياسي أو الفكري للعاملين فيها. تؤبف حكومات التكنوقراط عادة كحل لأزمات سياسية تعصف بالحكم وحين تعجز الأحزاب السياسية عن التوافق فيما بينها على إدارة شؤون الدولة، فيتم استدعاء أكاديميين متخصصين وخبراء فنيين من مؤسسات دولية قانونية واقتصادية مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وغيرها ليحلوا محل الحكومات السياسية في إدارة شؤون الدولة، وذلك حتى إجراء انتخابات جديدة أو الوصول إلى تسويات سياسية أخرى. وقد شهدت بلدان الربيع العربي تحديدًا ازدهارًا غير مسبوق لتبني حلول التكنوقراط لتجاوز أزماتها السياسية المتعاقبة.

في الوقت نفسه هناك «الأكاديمي الخبير» الذي يكرّس وقته وجهده واهتماماته للإنتاج المعرفي الفني المتخصص منعزلًا عن قضايا الشأن العام أو الوضع السياسي القائم. يتناقض «الأكاديمي الخبير» مع «الأكاديمي الناشط» وهو الذي لا يهتم فقط بالشأن العام وتبنّي قضاياه والدفاع عنها فكريًا في ما يعرف أحيانًا بالمثقف العام (Public Intellectual)، بل يتعدى لغة التفكير والنقد والتنظير إلى الفعل الاجتماعي أي إلى الانخراط في الواقع، يتبنى أهدافًا وقضايا محددة ويحشد لها على مستويات مختلفة لإحداث التغيير المنشود. يقود الأكاديمي الناشط الفعل الاجتماعي لإحداث التغيير المطلوب، ولا يكتفي بالكتابة عنه أو الحديث عنه في محاضرات تنظمها صروح أكاديمية متعددة. هو ينتقل من التفكير إلى العمل. فالأكاديمي الناشط، حسب جون ديوي، هو من «يقوم بتشكيل الواقع الذي يقود إلى أهداف اجتماعية إيجابية، لا أن يقف جانبًا في بيئة ذاتية فاضلة منعزلة عن الواقع» (Dewey, 1969‑1991). وقد عُرف عن الأكاديمي الناشط تاريخيًا بأنه صاحب مسؤولية ربط التفكير والمعرفة مع الفعل العملي على الأرض (Tilley and Taylor, 2014: 55). وفي هذا السياق، كتب غرامشي في دفاتر السجن «طريقة المثقف الجديد لم تعد مقتصرةً على الفصاحة اللغوية ولكن بالمشاركة الفاعلة في الحياة العملية كمنظم (Organizer) وبانٍ (Constructer) ومقنع (Permanent Persuader)» (Gramsci, 1971: 68). ما نطلق عليه هنا «الأكاديمي الناشط» يسميه غرامشي «المثقف الجديد»، ويحدد له أدوارًا مرتبطة بالفعل الاجتماعي كمنظم وبانٍ تتعدى ما عُرف عن المثقف العام، أو العضوي، الذي يكتفي بالجانب النقدي للسلطة والتنويري داخل مجتمعه.

تشرح جانيت كونوي دور الأكاديمي الناشط في المجتمع حين تقارنه بـ «الأكاديمي السياسي» (Political Scholar)، وهي تسمية أخرى للمثقف العام أو العضوي عند البعض، فتقول «الأكاديمي السياسي يكون ملتزمًا بقيم وأفكار سياسية تقدمية (Conway, 2004)، وكذلك يمكن أن يكون يمينيًا أو شعبويًّا أو محافظًا وغيره. ورغم أن الأكاديمي الناشط هو الآخر ملتزم سياسيًا، إلا أنه يختلف عن الأكاديمي السياسي بأنهم يعملون كناشطين مع ناشطين آخرين في فضاءات غير أكاديمية؛ وعليه لا يُعرفون فقط كأكاديميين وإنما كجزء من المجتمع الأوسع للمفكرين والناشطين يشاركونهم الرؤية الجماعية والهدف وفكرة التغيير أيضًا. أن تكون أكاديميًّا ناشطًا – تقترح كونوي – يعني أن تشارك في العمل اليومي وفي اجتماعات لا نهاية لها، ويعني أيضًا أن تقدر المساهمات الأخرى المقدمة للقضية (التي تؤمن بها)» (Tilley and Taylor, 2014: 55).

 

ثالثًا: دور الأكاديمي المثقف الفلسطيني في المشروع الوطني

للأكاديمي الفلسطيني دور تاريخي في الدفاع عن المشروع الوطني ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحديدًا في أوقات عصيبة مر بها المجتمع الفلسطيني عندما كانت قيادته الرسمية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية خارج الوطن، أي قبل اتفاق أوسلو عام 1993، وعندما كان الاحتلال يطْبق بقبضة حديدية على كل تفاصيل الحياة تحت الاحتلال. اضطلع الأكاديميون الفلسطينيون بدورهم الوطني، ليس فقط داخل صفوفهم الدراسية، وإنما أيضًا في مواقع قيادية للمشروع الوطني، متجاوزين النقد التاريخي للأكاديميين بوجه عام حينما ينعزلون في بروجهم العاجية مبتعدين عن الواقع ومكتفين بالنقد والتوجيه والتنوير. وفي ذلك يقول جابي برامكي، نائب رئيس جامعة بيرزيت السابق، «لم تمنحنا السلطات العسكرية الإسرائيلية أبدًا فرصة لإغلاق أنفسنا في برج عاجي. لم نتخيَّل أبدًا أن الجامعة يمكن لها أن تكون معزولة عن المجتمع المحيط بها» (Johnson, 1988: 118). تعدّت الجامعات الفلسطينية، هي الأخرى، كونها جامعات مقتصرة على التعليم لتصبح مراكز قيادة ونشاط سياسي لتصبح «جزءًا من البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية» (Sullivan, 1988: 54). حنا ناصر، رئيس جامعة بيرزيت، والذي أبعدته سلطات الاحتلال عنها نحو عشرين عامًا بسبب نشاطه السياسي في فلسطين، خاطب جمهور الطلبة والموظفين في كلمته بعد العودة إلى الجامعة عام 1993 قائلًا بهذا الصدد «لقد كان اعتقادي الشخصي لسنوات عديدة أن مفتاح تحرير فلسطين يمكن العثور عليه في التعليم العالي … بالنسبة لمجتمع يخضع للاحتلال ويعمل للانتقال إلى دولة مستقلة، فإن التعليم العالي كما هو في جامعة بيرزيت، لهو ضروري ليكن منتدى للتفكير النقدي والخبرة التقنية والقيادة المجتمعية» (Hammond, 2007: 268).

وصل الدور القيادي للأكاديميين في العمل الوطني في الداخل الفلسطيني – قبل اتفاق أوسلو 1993 – إلى مستويات متقدمة رد عليها الاحتلال باتخاذ إجراءات تعسفية واسعة؛ مثل تلك التي قام بها عام 1982 بإبعاد رئيس جامعة النجاح الوطنية، منذر صلاح، ومعه ثمانية عشر أستاذًا من الجامعة، بينهم عميدان وأربعة رؤساء دوائر علمية، إلى خارج الوطن. كذلك منع عشرة من أساتذة جامعة بيت لحم بالتوقف عن التدريس (وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، 2019).

الهجمة الإسرائيلية ضد الأكاديميا الفلسطينية وصلت في أحد مراحلها إلى الانتقال من استهداف الأشخاص، أي الأكاديميين أنفسهم، إلى استهداف مؤسساتهم ككل حين توصلت إلى قناعة بأن الجامعات قد أصبحت مراكز للمقاومة الوطنية الفلسطينية (Hammond, 2007: 267)، وأيضًا «يسرت (Facilitated) التطور السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية» (Zelkovitz, 2014: 387‑407)، فلجأت إلى إصدار قانون رقمه (854) لعام 1980‏[3]، والذي هدف إلى تقييد الحريات الأكاديمية ووضع الجامعات الفلسطينية تحت السلطة العسكرية، وهي خطوة أثارت ردود فعل دولية حادة تجاه محاولة إسرائيل فرض السيطرة العسكرية على مؤسسات أكاديمية فلسطينية.

أبعد من ذلك، فقد قامت السلطات العسكرية الإسرائيلية باستخدام سياسة إغلاق الجامعات الفلسطينية لإسكات أصوات أساتذتها وطلبتها، وحَيْد دورهم المشارك في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، أغلقت السلطات الإسرائيلية جامعة بيرزيت خمس عشرة مرة بين عامي 1973 و1988، أطول فترة بهذه الإغلاقات كانت بدايتها عام 1988 حيث استمر الإغلاق لمدة 1571 يومًا (1988 – 1992) (Birzeit University, 2019).

لم يقتصر الدور القيادي للأكاديميين في فلسطين المحتلة على مقاومة الاحتلال، بل أبعد من ذلك، فقد منحت القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني المتمثلة بمنظمة التحرير، وبفصيلها الأكبر آنذاك «حركة فتح»، والتي كانت تقيم خارج الوطن قدرًا من المساندة والدعم عندما احتاجت إلى ذلك من داخل الوطن المحتل. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، وفي قمة الأزمة التي عايشتها حركة فتح عام 1983 وتمرُّد تيار «فتح الانتفاضة» الذي كان يقوده العقيد «أبو موسى» على القيادة الرسمية لحركة فتح الممثلة بياسر عرفات، وعندما كان الأخير يخسر – تحديدًا في داخل الوطن المحتل وفي القواعد العريضة لحركة فتح وأصبحت قيادة عرفات تمر ربما بأصعب اختبار لها منذ تأسيس حركة فتح – عقد نائب رئيس جامعة بيرزيت جابي برامكي مؤتمرًا صحافيًّا في الجامعة معلنًا تأييده الواضح للرئيس عرفات (Zelkovitz, 2014). لقد عقد برامكي مؤتمره الصحافي، رافعًا الأعلام الفلسطينية وصور ياسر عرفات والتي كان يعاقب عليها قانون الاحتلال الإسرائيلي بالسجن آنذاك، متحدّيًا السياسات العسكرية الإسرائيلية والتي أغلقت في إثر ذلك جامعة بيرزيت لمدة شهرين متتاليين.

وعندما جاء اتفاق أوسلو وعادت القيادة الفلسطينية من الخارج إلى الداخل الفلسطيني، شارك الكثير من الأكاديميين، حسب ما يروي نبيل قسيس، رئيس جامعة بيرزيت السابق، في ترتيبات الانتقال من الحكم المباشر للاحتلال الإسرائيلي إلى ما سمي «ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي»، وذلك من خلال عملهم في الأطقم الفنية والاستشارية الملحقة بفريق المفاوضات في بيت الشرق في القدس، والتي جهّزت الكوادر اللازمة لإدارة أجهزة السلطة الوطنية اللاحقة، ونظمت عملها، ووضعت الخطط لانتقال المسؤوليات والصلاحيات إلى أجهزة السلطة. وقد أسهم ذلك في دخول عدد كبير منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية كوزراء ووكلاء وزارات ومستشارين وغير ذلك‏[4].

لم تتوقف السياسات الإسرائيلية التي تستهدف الأكاديميين الفلسطينيين، حتى بعد اتفاق أوسلو والبدء بعملية السلام مع القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فقد وجدت دراسة ميدانية صادرة عن المرصد الأوروبي لحقوق الإنسان عام 2012، أن السلطات الإسرائيلية اعتقلت ما يزيد على 430 أكاديميًا فلسطينيًا خلال العشر سنوات التي سبقت الدراسة، وأن معظم هذه الاعتقالات قد تمت ضمن ما تسميه «الاعتقال الإداري» الذي يعطي الحاكم العسكري الإداري الصلاحيات لتوقيع قرار الاعتقال حتى من دون توجيه أي تهم ضد المعتقل (Euro-Med Human Rights Monitor, 2012). حتى على مستوى الوصول إلى أماكن التدريس، فقد واجه الأكاديميون الفلسطينيون مضايقات إسرائيلية مستمرة؛ مثل إجبارهم على إظهار بطاقات هوية والتعريف بأنفسهم كلما أرادوا الدخول أو الخروج من بعض المدن الجامعية (Hammond, 2007: 266)، ناهيك بالمداهمات الفظّة (Ma’an News Agency, 2014) لبيوت الأساتذة والطلبة في الضفة الغربية والتي تقود أحيانًا إلى الاعتقال (Institute for Middle East Understanding, 2014).

من جهة أخرى، فقد صعدت السلطات الإسرائيلية إجراءاتها ضد العمل الأكاديمي في الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من أي وقت مضى في السنوات الأخيرة، حيث منعت العديد من الأكاديميين الأجانب من الوصول إلى الجامعات الفلسطينية، في محاولة للحدّ من قدرتها على إحداث تأثير فلسطيني في الساحة الدولية. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، منعت السلطات الإسرائيلية أستاذ اللغويات العالمي المشهور في معهد ماساشوسيتس (MIT)، نعوم تشومسكي، من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2010 لإلقاء محاضرتين في جامعة بيرزيت (Hass, 2010). وللغرض نفسه، رفضت السلطات الإسرائيلية تجديد إقامات أكاديميين دوليين عاملين في الجامعات الفلسطينية، بعض منهم كان يعمل لفترات زمنية طويلة، مثل أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت الأمريكي الجنسية روجر هيكوك، بعد نحو خمسة وثلاثين عامًا من التدريس في الجامعة. وفي عام 2018، كان هناك 15 حالة لأساتذة دوليين، في جامعة بيرزيت لوحدها، واجهوا المصير نفسه، فمنهم مَن رفضت السلطات الإسرائيلية تجديد إقاماتهم فاضطروا إلى مغادرة البلاد، ومنهم مَن أخّروا تجديد إقاماتهم لمدد طويلة‏[5].

رابعًا: دور الأكاديميين في المشروع الوطني الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو 1993 ونشوء السلطة الفلسطينية

يرى كثير من المراقبين للمشهد السياسي أن دور الأكاديميين في النهوض في المشروع الوطني الفلسطيني، سواءٌ كان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أو في الدفاع عن الحريات العامة، قد تراجع بصورة ملحوظة بعد قيام السلطة الفلسطينية. فالباحث عن دور أكاديمي وطني لشريحة الأكاديميين الفلسطينيين سيلاحظ أن الكثير من النشاطات التي قام بها أكاديميون فلسطينيون خلال هذه الحقبة الزمنية، سواء كانت على شكل أفراد أو جماعات، هي مهمة من حيث المبدأ، ولكنها متواضعة بعض الشيء، ومحدودة من حيث قدرتها على التأثير في المشهد الوطني ككل. لقد فقد الأكاديميون، كشريحة مجتمعية متعلمة، الكثير من دورهم القيادي الذي كانوا قد مارسوه تاريخيًا في التصدي لسياسات الاحتلال الإسرائيلي والمساهمة في حمل المشروع الوطني في الحرية وتقرير المصير.

من الأمثلة على المبادرات – المتواضعة – التي قام بها أكاديميون فلسطينيون للتأثير في المشهد الوطني قيام مجموعة، سمّوا أنفسهم «مجموعة الحوار الوطني الفلسطيني من المثقفين والأكاديميين» عام 2007، وبعد الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، بإصدار بيانات توضح رؤيتهم للحل وتؤكد جاهزيتهم كأكاديميين، موقّعين على هذه البيانات، أن «نضع أنفسنا وما نملك في خدمة الهدف الأسمى الذي تعبر عنه مبادرتنا هذه، وهو الوحدة الوطنية الفلسطينية عبر بوابة الحوار الوطني الذي يحقق الوفاق والاتفاق على الهدف المشترك وصوب المستقبل الفلسطيني الواعد» (مجموعة الحوار الوطني، 2007).

كذلك عقدت ورشة في غزة عام 2017 حول «دور الأكاديميين في المصالحة الوطنية الفلسطينية» تحدث فيها أحمد جميل عزم، مدير برنامج ماجستير الدراسات الدولية في جامعة بيرزيت، عن أهمية ودور الأكاديميا في المصالحة الوطنية الفلسطينية قائلًا «يجب علينا أن نفكر بتأنٍّ لإعادة البنية التحتية للعمل الأكاديمي … إننا نمر بحالة من الترهل والعجز منذ أكثر من 30 عامًا…إننا نملك أدوات لخلق رأي عام في الشتات وأراضي 48» (منظمة التحرير الفلسطينية، 2017). وأضاف وليد المدلل، رئيس قسم العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية، أن الأكاديميا لم تسْلم من الانقسام بصورة رأسية وأفقية وتضرر الجميع منه (منظمة التحرير الفلسطينية، 2017). من جهة أخرى، أطلقت مجموعة من الكتاب والأكاديميين والمفكرين بيان «ملتقى فلسطين» للتوحد في وجه الاحتلال، وقّعته مجموعة منهم، يدعون فيه إلى «توحيد كافة الكيانات والفصائل الفلسطينية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وإنهاء الانقسام وملء الفراغ السياسي الكبير، والذي أدى إلى تغوّل سلطة الاحتلال»‏[6]. وهناك أيضًا «المجموعة الأكاديمية لفلسطين» (Palestine Academic Group – PalAc) وهي مبادرة من عدد من أساتذة جامعات فلسطينيين في جامعات عربية ودولية للدفاع عن القضية الفلسطينية في محافل دولية مختلفة ومن مواقعهم الأكاديمية، كما تهدف إلى تشجيع العمل الأكاديمي الفلسطيني على الانخراط بصورة أوسع وأكثر فاعلية في العمل الوطني والسياسي في فلسطين‏[7].

هناك أيضًا «إعلان القدس» للحريات الأكاديمية وحرية التعبير في الجامعات الفلسطينية الصادر عن مؤتمر عقد لهذا الخصوص في جامعة النجاح الوطنية في نابلس في 2015، والذي أعاد التشديد على القانون الفلسطيني الرقم (11) لعام 1998 بشأن التعليم العالي، والذي يؤكد «استقلالية مؤسسات التعليم العالي وشخصيتها الاعتبارية وحصانة حرمها»‏[8]. وفي جامعة النجاح الوطنية في نابلس، عقد المؤتمر العالمي الأول للأكاديميين الفلسطينيين في المهجر عام 2013، بتنظيم من دائرة شؤون المغتربين في منظمة التحرير وجامعة النجاح نفسها، بهدف «بناء ائتلاف ينتظم فيه الأكاديميون الفلسطينيون في بلاد الاغتراب، ينظمون من خلاله أمورهم، ويوحدون كلمتهم، ويرفعون اسم بلدهم وقضيتهم عاليًا في كل مكان، الأمر الذي ينسجم مع المتغيرات على صعيد العولمة وثورة المعرفة والاتصال؛ وكذلك إزالة العقبات التي تحول دون التعاون بين الأكاديميين الفلسطينيين، والإفادة من تجارب الشعوب الأخرى» (جامعة النجاح الوطنية، 2013).

لقد بات واضحًا أن قسمًا لا بأس به من أكاديميي فلسطين قد توجه نحو الاندماج بالسلطة الوطنية الفلسطينية ما بعد أوسلو 1993 متخليًّا عن الدور التقليدي الذي أنيط بهذه الشريحة، والمتمثل بمقاومة الاحتلال، وعازفًا أيضًا عن دور الرقيب على السلطة والمتحالف مع القاعدة المجتمعية؛ وهو الدور الذي نصت عليه الكثير من أدبيات العلاقة ما بين المثقف والسلطة والتي تم التطرق إليها سابقًا بهذه الدراسة. رحبت السلطة، من جهتها، بهذا التوجه، فاتحةً الطريق أمام عملية ترويض واسعة لشريحة الأكاديميين التي بدأت تمارس دورها من داخل أجهزة السلطة بوصفها جزءًا منها لا من خارجها، وبكونها الرقيب والمحاسب لها.

للتعرف إلى مدى انخراط الأكاديميين بالسلطة راجعت هذه الدراسة الإحصاءات المتعلقة بحضورهم في قمة هرم جهازها البيروقراطي، أي مجلس الوزراء، للحكومات الفلسطينية الثماني عشرة والتي تألفت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 وحتى عام 2019، حيث تم تناول أربعة مؤشرات رئيسية: 1 – مستوى تمثيل الأكاديميين في هذه الحكومات؛ 2 – الجامعات التي قدموا منها؛ 3 – تخصصاتهم؛ 4 – النوع الاجتماعي (الجندر) لهم.

1 – مستوى التمثيل

يبين الشكل الرقم (2) مجموعة من الملاحظات، من أهمها أن الوجود الأكاديمي في الحكومات الفلسطينية المتعاقبة قد حافظ على تزايد مستمر منذ تأسيس السلطة عام 1994، عندما كان تمثيلهم يبلغ فقط 10 بالمئة، ليصل إلى 64 بالمئة عام 2009 أي أكثر من ستة أضعاف ما كان عليه الحال وقت التأسيس، وأن آخر اثني عشر عامًا، أي منذ 2007 وحتى الآن، لم يقل تمثيلهم عن 39 بالمئة من مجموع الوزراء. فالزيادة هنا ليست زيادة طارئة بل مستمرة، وهذا يشير إلى استيعاب ممنهج للكادر الأكاديمي في مؤسسات السلطة كما يبين وجودهم في الحكومات المتعاقبة.

لقد أصبح الأكاديميون هم السلطة، ويتضح ذلك في العشر سنوات الأخيرة في أمرين: أولًا، تعزز وجودهم منذ وصول حكومة سلام فياض 2009 إلى السلطة بأكثر من النصف وبصورة متواصلة، أي أنها لم تحدث لمرة واحدة غير متكررة، وإن هذا التعزيز لمدة عشر سنوات دون انقطاع يشير إلى أن الوجود الأكاديمي المكثف قد تحول إلى ظاهرة أو نموذج، وليس حادثًا عرضيًا. ثانيًا، يبين الشكل الرقم (2) أن رئاسة الوزراء في آخر سبع وزارات (2007 – 2019) قد تم تأليفها من التكنوقراط‏[9] (سلام فياض 12 – 14) وأكاديميين (رامي الحمد الله ومحمد أشتيه 15 – 18). وهذا يشير إلى أن الأكاديميين والتكنوقراط أصبح لهم دور رسمي في تقرير من يملأ مقاعد الوزراء في حكوماتهم ومن يدخل من السياسيين في وزاراتهم، وهذا مخالف لما كان عليه الحال في أول تسع حكومات عندما كانت رئاسة الوزراء بيد قيادة سياسية فتحاوية متمكنة – ياسر عرفات وأحمد قريع ومحمود عباس – تقرر هي كليًا من يدخل من الأكاديميين وغيرهم وتحدد لهم دورهم داخل هذه الحكومات.

الشكل الرقم (2)

نسبة تمثيل الأكاديميين في الحكومات الفلسطينية الثماني عشرة (1994 – 2019)(*)

(*) جميع الإحصاءات المتعلقة بالحكومات الفلسطينية الثماني عشرة تم الحصول عليها من الموقع الرسمي لمجلس الوزراء الفلسطيني. معلومات إضافية عن السير الذاتية للوزراء تم الحصول عليها من مصادر متعددة بما فيها المصادر الأولية التي لجأ الباحث فيها إلى التواصل مع معرفين للسؤال عن الخلفيات العلمية للوزراء وتخصصاتهم والجامعات التي قاموا بالتدريس فيها. الأشكال البيانية جميعها والتي تحتوي على تمثيل البيانات إحصائيًا هي من تصميم الباحث. الأرقام الصحيحة بين قوسين تمثل عدد الوزراء في كل حكومة. الأسماء الواردة في البيان هي لرؤساء الحكومات أو الرئيس.

تحديدًا بعد انتهاء عهد ياسر عرفات، حصلت «مصالحة أكاديمية – سياسية» (إن جاز التعبير)، فالوجود الأكاديمي حافظ على وجوده، حتى في ظل وجود حكومات سياسية خالصة، مثل حكومة إسماعيل هنية وفوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية، حيث يلاحظ اعتمادها على ما نسبته 33 بالمئة من وزرائها من الأكاديميين. صحيح أن هؤلاء الوزراء هم «حمساويون» أصلًا، ومع ذلك فإن مؤهلاتهم الأكاديمية في داخل الحركة قد أهّلتهم بقوة ليتم اختيارهم كوزراء في حكومة هنية. هذه المصالحة يمكن رؤيتها أيضًا في حكومة محمد اشتيه التي وصفت بأنها «حكومة فصائلية» (أي سياسية) وقد جاءت لتستبدل حكومات التكنوقراط والأكاديميا التي سبقوها بحكومة ممثلة لعدد من الفصائل السياسية لتضم هي الأخرى نسبة عالية تصل إلى 42 بالمئة منها كأكاديميين.

ارتبط صعود دور الأكاديميين في السلطة بضعف المشروع الوطني الفلسطيني، فيظهر الشكل الرقم (2) أن الصعود الأكبر للأكاديميين في الحكومات الفلسطينية قد ابتدأ وتعزز عام 2007 مع الحكومة الأولى لسلام فياض، وهي الفترة التي شهد المشروع الوطني الفلسطيني اثنتين من أكبر النكسات في تاريخه الحديث؛ الانقسام الفلسطيني الذي جاء على أنقاض فشل حكومة إسماعيل هنية، وانتهاء الانتفاضة الثانية من دون تحقيق إنجازات وطنية، رغم عِظم حجم التضحيات التي قدمها المجتمع الفلسطيني في هذه الانتفاضة.

يأتي فشل نظرية «التغيير من الداخل» ضمن هذا الإطار، حيث يلاحظ أنه ومنذ ذلك الحين – أي النكستين – لم تتبلور رؤية لمشروع وطني فلسطيني يقوم على أنقاض اتفاق أوسلو الذي كان فشله سببًا في اندلاع الانتفاضة الثانية. يثير غياب طرح مشروع وطني فلسطيني خلال هذه الفترة (2007 – 2019) تساؤلات حول الدور الذي يمكن للأكاديميين تأديته في مثل هذه الظروف، وإمكان إحداثهم للتغيير من الداخل الذي يُطرح عادةً كسبب لالتحام الأكاديمي المثقف بالسلطة. فقد سيطر الأكاديميون على أكثر من 50 بالمئة من مقاعد الحكومة ولفترة طويلة من الزمن، في حين يبدو أن دورهم قد اقتصر على جانب تقني خدماتي إداري لشؤون السلطة الفلسطينية، وليس قياديًّا في مجال التأثير في بلورة رؤية سياسية لمشروع وطني يعاني الفراغ.

2 – الجامعات التي جاء منها الأكاديميون

يظهر الشكل الرقم (3) أن أكثر من نصف الأكاديميين الذين التحقوا بوزارات السلطة الفلسطينية قد جاؤوا من جامعتي بيرزيت والنجاح (54 بالمئة). تاريخيًّا، أدّت الجامعتان دورًا محوريًّا في قيادة المشروع الوطني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبل اتفاق أوسلو، حيث تعرضتا لمجموعة واسعة من الإجراءات التعسفية، مثل الإغلاق لفترات طويلة واعتقال وإبعاد أساتذة ورؤساء الجامعتين. فقدوم الجزء الأكبر من وزراء السلطة الأكاديميين من هاتين الجامعتين قد يعدّ مؤشرًا على توجه الجسم الأكاديمي الفلسطيني للالتحاق بالسلطة والعمل من داخلها، عوضًا من أن يكون مراقبًا مصححًا للسلوك السياسي للسلطة التنفيذية. كما ويثير تساؤلًا في ما إذا كانت السلطة قد احتوت القيادة الأكاديمية الفلسطينية وهمّشت دورها وطنيًّا من خلال احتواء عدد كبير من الفاعلين في الجامعات القيادية. في الوقت نفسه، جدير بالإشارة إلى أن التحاق الأكاديميين بمشروع السلطة لم يكن حكرًا على جامعتين بل شمل جامعات أخرى عديدة.

الشكل الرقم (3)

نسبة تمثيل الأكاديميين في الحكومات الفلسطينية الثماني عشرة
(1994 – 2019) حسب الجامعة

3 – تخصصات الأكاديميين الوزراء

قد يبدو للبعض أن الأكاديميين من أصحاب تخصصات العلوم الاجتماعية هم أكثر انخراطًا في العمل السياسي، وبالتالي الالتحاق بالسلطة الفلسطينية. ولكن يُظهر الشكل الرقم (4) أنه لا توجد هناك فروق جوهرية بين من يأتون من التخصصات العلمية الطبيعية، كالفيزياء والرياضيات والهندسة والطب، وبين من يأتون من تخصصات علوم اجتماعية، مثل العلوم السياسية وعلم الاجتماع والتاريخ وغيرها، ولا سيَّما أنه قد تم احتساب من يأتون من التخصصات التجارية مثل إدارة الأعمال والمحاسبة والاقتصاد – وهم قلة بالمناسبة – مع العلوم الاجتماعية في هذه الدراسة. ومع ذلك فقد لوحظ وجود كبير نسبيًا لتخصصات العلوم الطبيعية في وزارت مثل الصحة والاشغال العامة والمواصلات والاتصالات والتكنولوجيا.

الشكل الرقم (4)

نسبة تمثيل الأكاديميين في الحكومات الفلسطينية الثماني عشرة
(1994 – 2019) حسب التخصص

4 – النوع الاجتماعي (الجندر)

يُظهر الشكل الرقم (5) أن هناك نسبة لمشاركة نساء أكاديميات في وزارات السلطة الفلسطينية، فالأمر ليس حكرًا على الرجال. هذه المشاركة تختلف عن مشاركة المرأة الفلسطينية بوجه عام، حيث إن تلك النسبة أعلى من ذلك كثيرًا. مع ذلك، من الواضح أن نسبة مشاركة المرأة الأكاديمية متدنية إلى درجة كبيرة مقارنةً بزميلها الرجل الأكاديمي، حيث مثلت النساء نسبة 12 بالمئة فقط من مجموع الأكاديميين الذين ساهموا في وزارات السلطة منذ تأسيسها. هذا الانخفاض هو انعكاس لعامل بنيوي في المجتمع الفلسطيني ككل الذي لم تحصل فيه المرأة الفلسطينية على كامل دورها في المشاركة الفعالة في مختلف الميادين.

ومع ذلك، يبقى السؤال في ما إذا كانت نسبة 12 بالمئة متناسبة مع وجود المرأة الفلسطينية ضمن الكادر الأكاديمي في الجامعات الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، تبلغ نسبة الإناث من الهيئة الأكاديمية في جامعة بيرزيت 31,4 بالمئة‏[10]، وهذا يعدّ أعلى كثيرًا من النسبة الحالية لمشاركة الأكاديمية الفلسطينية في وزارات السلطة. إضافة إلى العامل البنيوي في المجتمع الفلسطيني، فقد يكون لـ «تحيّز حقل العمل السياسي» لمصلحة الرجل على حساب المرأة دور في هذا الاختلال الكبير.

الشكل الرقم (5)

نسبة تمثيل الأكاديميين في الحكومات الفلسطينية الثماني عشرة
(1994 – 2019) حسب النوع الاجتماعي

5 – الحضور الأكاديمي: تمثيل بلا تأثير

أظهر التحليل السابق أن الأكاديميين قد اخترقوا السلطة على ثلاثة مستويات: 1 – التسلسل الهرمي، فوصلوا إلى قمة الهرم ليس فقط بمستوى وزراء ولكن رؤساء وزراء ولأكثر من مرة؛ 2 – النسبة، فقد شكلوا أقلية (10 بالمئة) في الوزارات الأولى، أي بعد أوسلو وفي عهد ياسر عرفات، ولكنهم حققوا نسبًا فاقت النصف حيث وصلت إلى 64 بالمئة في عهد سلام فياض. هذه النسبة الكبيرة، أو ما يطلق عليها «الكتلة الحرجة» (Critical Mass)، عادة ما تمثل سببًا رئيسيًّا للتغيير في أي واقع سياسي اجتماعي؛ 3 – الفترة الزمنية، التي امتد وجود الأكاديميين فيها وبحضور كبير لفترة طويلة من الزمن فاقت العشر سنوات (2007 – 2019).

إلا أنه، وبالرغم من توافر هذه الظروف على المستويات الثلاثة، يمكن القول إن الحضور الأكاديمي في السلطة قد فشل في إحداث التغيير أو الأداء النوعي المنشود الذي يمكن أن يميزه من أي مرحلة سياسية أخرى لم يكونوا ممثلين فيها أكثر فأكثر. لا بل على العكس من ذلك، إذ شهدت هذه المرحلة محطات فشل كبيرة؛ منها تعميق واستمرار الانقسام الفلسطيني وفشل نظرية بناء المؤسسات يقود إلى الاعتراف بالدولة. وأخيرًا وفي عام 2019، بدأت تتسرب أخبار عن ممارسات فساد شهدتها الحكومات السابقة من زيادة رواتب الوزراء سرًّا وصرف علاوات إقامة في مدينة رام الله وغيرها‏[11].

هذا الواقع يدعو إلى الاستنتاج بأن الاندماج بالسلطة قد عمل فعلًا على ترويض الأكاديميين، بحيث أصبحوا جزءًا منها تقاسموا معها أمراضها في البيروقراطية وضعف الأداء وربما الفساد في بعض الأحيان، بدل أن يحسنوا من هذا الواقع كما يجادل المؤمنون بنظرية «التغيير من الداخل». ومن الجدير ذكره، أن عملية الترويض لم تقتصر على الوزراء الفعليين الذين دخلوا مجلس الوزراء وغيرهم ممن التحقوا بمؤسسات السلطة الأخرى على مستوى وكلاء وزراء ومديرين عامين، بل أولئك الذين يمكن أن نسميهم «الوزراء الطامحون» (Aspiring Ministers) وهم الأكاديميون الناشطون غير الملتحقين رسميًا بأجهزة السلطة، ولكنهم يطمحون يومًا ما مستقبلًا أن يكونوا كذلك، فيحاذرون في انتقاد السلطة أو الاصطدام معها حتى لا يحرقوا جسورهم ويضيّعوا فرصًا مستقبلية للوصول إلى قمة الهرم السياسي الرسمي.

بالرغم من ذلك، لا يمكن القول بأن فشل هذه التجربة يمكن له أن يقيم الحجة على مبدأ دخول الأكاديميين في السلطة، فهذا موضوع آخر يتطلب معالجة أخرى تبحث في الأسباب التي حالت دون قدرة الأكاديميين على إحداث تغيير؛ فلربما كانت الأسباب موضوعية تتعلق بمحيطهم، أو ذاتية تتعلق بهم أنفسهم وربما في كليهما. فدخول الأكاديميين السلطة ليس بالضرورة خطيئة، ولكنّ الأداء يمكن له أن يكون كذلك، يمكن له أن يأخذ اتجاهًا مغايرًا تمامًا؛ فهناك الكثير من التجارب الدولية التي ترك أكاديميون التحقوا بالسلطة بصماتهم على نموذج الحكم والدولة والأداء في بلادهم وبقوا مؤثرين في رسم السياسات العامة، حتى بعد مغادرتهم مواقعهم الرسمية في أجهزة السلطة، منهم هنري كيسنجر وجوزيف ناي وجورج كينان وهانز مورجانثو وكونداليزا رايس. وبغض النظر إن كان تأثير هؤلاء إيجابيًّا أو سلبيًّا، إلا أنهم قادوا وأخذوا السلطة بما يتناسب مع رؤاهم؛ ومثلهم فلاسفة أيضًا، مثل فولتير، الذي آمن بإصلاح الاستبداد من خلال التنوير. فالتداخل ما بين النظرية الأكاديمية والممارسة السياسية ضروري وحيوي، ويمكن له أن ينتج تجربة فريدة تحتاج إليه الدولة والمجتمع.

لم يفشل الأكاديميون فقط في التأثير في أداء السلطة، بل إن استثمارهم في نظرية «التغيير من الداخل» قد جاء على حساب دورهم المشارك في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، الذي طالما قاموا بتأديته بمهارة عالية تحت الاحتلال الإسرائيلي وقبل اتفاق أوسلو 1993 وتأسيس السلطة الفلسطينية.

خامسًا: أسباب تراجع دور الأكاديميين في المشروع الوطني الفلسطيني

يعود تراجع دور الأكاديميين في المشروع الوطني إلى عدة أسباب أهمها:

1 – تغيير الأدوار

تمثل ذلك بتسنّم السلطة الفلسطينية عند تأسيسها عام 1993 الدور القيادي الرسمي للمشروع الوطني الفلسطيني داخل الوطن، بعدما كانت هذه القيادة موكلة إلى الهيئات المحلية المختلفة، ومنها القيادات الأكاديمية. وبهذا الصدد يعزي نبيل قسيس، الأكاديمي وعضو الوفد الفلسطيني المفاوض سابقًا، أحد أسباب التراجع في قيادة الأكاديميين أنه وقبل قيام السلطة الفلسطينية كان الأكاديميون يملؤون فراغًا من خلال عملهم في مؤسسات المجتمع المدني على اختلاف أهدافها وتوجهاتها، ولكن بعد نشوء السلطة الوطنية أخذت أجهزتها دورًا أدى إلى تقليص الحاجة إلى الكثير من مجالات العمل غير الرسمي التي انخرط فيها الأكاديميون في السابق.

2 – بسط نفوذ القوى الحاكمة

عملت كلٌّ من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وسلطة حماس في قطاع غزة على قمع وتحجيم قوى التغيير لبسط سيطرتها داخل مناطق نفوذها ومن ضمنها الأكاديمية، وأي أصوات أخرى حاولت مساءلة السلطتين. فقد أظهر تقرير صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تحت عنوان «الخنق مرتين: الممارسات القمعية لأجهزة الأمن الفلسطينية» أن الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية قامت بـ 1274 «اعتقالًا تعسفيًّا» عام 2015، كان من ضمنهم 35 صحفيًّا وناشطًا في حقوق الإنسان و476 طالبًا و67 بروفيسورًا/أستاذًا أكاديميًّا. في حين قامت الأجهزة الأمنية لحركة حماس في غزة في العام نفسه باعتقال 23 صحافيًا وناشطًا في حقوق الإنسان و24 طالبًا و5 أكاديميين (Euro-Mediterranean Human Rights Monitor, 2016). كذلك يروي عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح سابقًا، أن السلطة الفلسطينية اعتقلته 7 مرات منذ عام 1993‏[12]. حسب جورج جقمان، أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت، «الخطوط الحمراء أيام ياسر عرفات كانت واضحة وهي عدم المساس بياسر عرفات الرمز، أما الآن فالخطوط الحمراء غير واضحة، كما حصل هناك توسع لدور الأجهزة الأمنية كما يحدث في دول أخرى»‏[13].

3 – تراجع المشروع الوطني نفسه وغياب الرؤية

لأول مرة في العصر الحديث للقضية الفلسطينية تغيب الرؤية الوطنية عن المشروع الوطني الفلسطيني. عندما رفض قرار التقسيم، في عام 1947، كانت هناك رؤية تمثلت بالمحافظة على كامل التراب الفلسطيني، من النهر إلى البحر. وفي طرح البرنامج المرحلي عام 1974، حدث تحوُّلٌ في الهدف، ولكن بقيت هناك رؤية تقول بإقامة الدولة على الجزء الذي يتم تحريره. وفي عام 1993، وعلى الرغم من إشكالياته، إلا أن اتفاق أوسلو كان يمثل رؤية، بغض النظر اتفقنا معها أم لم نتفق، تتمثل بإقامة الدولة على حدود عام 1967. في عام 2000، أدرك عرفات أن «أوسلو» فشل، وأن المفاوضات لم تعد تصلح منهجًا للتحرير، فعاد إلى الكفاح المسلح ودفع حياته ثمنًا لذلك (فريحات، 2019). يكاد يجمع المراقبون السياسيون أن حل الدولتين لم يعد قائمًا وأنه انتهى فعليًا على الأرض. في الوقت نفسه، لم يتم تبني حل الدولة الواحدة أو أي حلول أخرى. بمعنى أن القيادة الرسمية قد عجزت حتى هذه اللحظة عن تقديم رؤية جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني، لا بل تحول المشروع الوطني من مشروع تحرري وتقرير مصير وخلاص من الاحتلال وسيادة على الأرض إلى نوع من الحكم الذاتي فاقد للسيادة ومدير لقضايا الصحة والتعليم وغيرها. هذا الانحدار بالمشروع الوطني تراجع معه ليس فقط دور الأكاديميين في الحياة السياسية، بل أدوار وطنية أخرى كانت فاعلة في مقاومة الاحتلال. وفي هذا المضمار يرى قسيس أن دور الأكاديميين قد تراجع مع تراجع أدوار جميع مكونات الشعب الفلسطيني، وذلك منذ أن أُعيد تعريف المشروع الوطني عام 1988 والاعتراف بقرار مجلس الأمن 242 وتغيير أدوات النضال. يتفق في ذلك بَاسم الزبيدي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، على أن مرحلة التحرر الوطني تسمح بدور واضح للأكاديمي المثقف، حيث إن هناك رؤية ومشروعًا وهدفًا وتحررًا. ويضيف، أما وقت السلطة الفلسطينية فقد تحول المشروع إلى موضوع جمع ضرائب ووزارات ومناصب في سلطة وهمية، وهذه مواضيع لا تروق كثيرًا الأكاديمي المثقف مما خلق نوعًا من الاغتراب له عن هذا العالم الجديد الذي ولد مع السلطة، فمن المنطقي إذًا أن يتراجع دور الأكاديمي المثقف كون خياراته أصبحت محدودة‏[14].

4 – غياب الوعي بالدور الذاتي

سبب رئيسي في تراجع دور الأكاديميين في المشروع الوطني الفلسطيني هو غياب الوعي بدورهم، وفي هذه المرحلة بالتحديد التي يفتقد فيها المشروع الوطني للرؤية لما بعد الفشل العملي لحل الدولتين. لقد حيَّد الأكاديميون الفلسطينيون أكثر فأكثر أنفسهم بهذه المرحلة لعدم رؤيتهم أنه ما زال لهم دور قيادي في المشروع الوطني بعد تبلور سلطة فلسطينية على الأرض، أخذت دورهم تارة وحدت من معارضتهم – كغيرهم من القوى الأخرى – تارة أخرى. فالمشكلة هنا ليست بالعوامل الموضوعية غير المشجعة لمشاركتهم، وإنما بالقوة الذاتية نفسها المتمثلة بحيْدهم لأنفسهم. يقول علاء الترتير، الأكاديمي الفلسطيني بالمعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف، «كثيرًا ما أتحدث إلى أساتذة جامعات فلسطينيين حول المشاركة في نشاط معين فيأتيني الرد «أنا أكاديمي» وكأن الأكاديمي ليس له علاقة أو ذو مهنة خاصة ليس لها علاقة بالشأن العام»‏[15].

ساعد على تغييب وعي الأكاديميين لدورهم الوطني التمايزات الفكرية والانتماءات الحزبية المختلفة لبعضهم. فالأكاديميون، كما يقول جورج جقمان، «غير منتظمين ضمن إطار ويعملون بشكل فردي». هذه التمايزات أضعفت القدرة على العمل المشترك أو الوعي به، فآثر الأكاديمي على العمل بمفرده. ساعدت الأجندة الفردية للأكاديمي المثقف في خلق نوع من عدم الثقة بالإطار المحيط به تحديدًا السياسي. «مشكلة المثقف أنه مثقف. فهو يعي الحسابات الانتهازية للسياسيين، وأن نضالاته ستتحول إلى ثمار يقطفها السياسي الانتهازي ولذا يؤثر الابتعاد»، يشرح باسم الزبيدي هذا العزوف عند الأكاديمي عن الثقة بالإطار السياسي الذي يحد من انخراطه بشكل فاعل أكبر بالمشروع الوطني.

شمل غياب الوعي بالدور الذاتي للأكاديمي جزءًا من أولئك الذين دخلوا المعترك السياسي، فتخلّوا عن الدور التاريخي للمثقف كناقد للمشهد محاولًا تصويبه وسلموا بالواقع كما هو، وبذلك تغيروا هم بدل أن يغيروا المشهد. هذا الوضع أدخلهم بنوع من الانتهازية السياسية التي لم تعد حكرًا على السياسيين. وفي هذا المضمار يروي هاني المصري، مدير مركز مسارات في رام الله والذي عمل طويلًا في مجال الوساطة بين حركتي فتح وحماس لإنهاء الانقسام الفلسطيني، أن المثقفين الذين كانوا يشاركونه في جلسات الحوار مع أطراف الانقسام كانوا «يجتمعون مع خالد مشعل فيمتدحونه ثم يلتقون بمحمود عباس فيمتدحونه أيضًا، حتى أن بعضهم كان يصلي وقت الصلاة مع جماعة حماس – وهم في الواقع غير ملتزمين بالصلاة – ثم يفسرون ذلك بالقول إنه «تم إحراجنا»»‏[16].

5 – ترويض الأكاديميين

العامل الخامس وربما يكون ذا التأثير الأكبر من حيث مساهمته في تراجع دور الأكاديميين الفلسطينيين في المشروع الوطني هو إنتاج عملية ترويض واسعة للأكاديميين جعلتهم يتساوقون مع إفرازات مرحلة ما بعد أوسلو، لا أن يشتبكوا معها بهدف التأثير فيها. وقد تمت عملية التطويع هذه على ثلاثة مستويات:

أ – استيعاب السلطة الفلسطينية للأكاديميين ضمن طواقمها ومؤسساتها

نظريًّا، يرى أحمد عزم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، أن دخول الأكاديمي المثقف إلى السلطة سيعمل على عقلنة طروحاته حيث إنه ينزل من برجه العاجي ويتعامل مع الواقع كما هو، إذ ليس من المجدي فقط التحدث من الخارج‏[17]. لكنه يشكك في قدرتهم على التغيير من الداخل، إذ إن دورهم يكون محصورًا في الأساس بالجانب التقني، وفي النهاية تبقى قدرته على التأثير محدودة. يوافقه في ذلك باسم الزبيدي، الذي يرى بأن السياسيين عمليًا يحتكرون السلطة ولن يسمحوا للأكاديمي المثقف أو غيره بتحريرها منهم. بمعنى آخر، أصبح الأكاديميون شركاء في السلطة لا في القرار السياسي السيادي الذي بقي حصرًا بأيدي المتنفذين سياسيًا من الرئيس وقيادة الأجهزة الأمنية. فالقرار السياسي السيادي هو شرط أساسي لعملية التغيير، وهو ما لم يمتلكه الأكاديميون رغم وجودهم المكثف ولفترة طويلة.

الخطورة في قرار الدخول إلى السلطة هو أن الأكاديميين قد يفقدون قدرتهم على التأثير عند العودة إلى مجتمعاتهم الأصلية لإحداث التغيير من الخارج، كما كان عليه الحال قبل دخولهم إلى السلطة. فالدخول إلى جهاز السلطة ليس بدون ثمن، فالأكاديمي المثقف قد يجد نفسه غير قادرٍ على التأثير من الداخل وبنفس الوقت قد خسر شعبيته، أو جزءًا منها، التي تمتع بها قبل الدخول إلى السلطة.

يمكن لعملية ترويض الأكاديمي المثقف أن تنتقل إلى مستويات أخرى أكثر تقدمًا، بحيث يصبح الأكاديمي هو نفسه السلطة، هو من يتبناها ويديرها ويقرر بشأنها ويصبح جزءًا أصيلًا من عملية صنع القرار فيها. وهنا تحدث عملية التحول الدائم فينقطع الأكاديمي عن مجتمعه الأصلي ويستثمر مستقبله المهني بصورة دائمة في جهاز السلطة، وهناك الكثير من الحالات التي سلكت هذا المنحنى، أي أنها ليست حالات منفردة ومعزولة. يفسر جورج جقمان هذه الحالة بأن الأكاديمي كغيره يعيش في مجتمع غير مستقر يبحث فيه عن الأمان الوظيفي وعن تأمين احتياجاته الفردية والأسرية من دخل مستقر وتأمين صحي وراتب تقاعدي. هذه الامتيازات وغيرها يمكن رؤيتها كأدوات للتطويع. يروي أحدهم أن أكاديميًّا تم تعيينه كوزير في إحدى حكومات السلطة الفلسطينية علق قائلًا «الحمد لله، فلقد جاءني راتب التقاعد من السماء»‏[18].

الحوافز المادية هي ليست وحدها أدوات الترويض، ولكن المكانة الاجتماعية ووضعية الفرد داخل المجتمع وما يمكن وصفه بـ «الجاه» هي الأخرى أدوات فاعلة في عملية التطويع. إضافة إلى ذلك، هناك «إغواء» السلطة الذي يمكن شرحه من نواحٍ سيكولوجية أكثر من أي شيء آخر. فالسلطة ببساطة لها بريق وتغوي، وليس من السهل مقاومتها، وربما يساعد ذلك على فهم ظاهرة تحول بعض الأكاديميين إلى السلطة نفسها.

ب – التحاق العديد من الأكاديميين بالمنظمات غير الحكومية (NGOs)

قسم من الأكاديميين الذين لم يلتحقوا بمؤسسات السلطة الفلسطينية لأسباب مختلفة قاموا عوضًا من ذلك بالالتحاق بالمنظمات غير الحكومية، إما من طريق الاستشارات أو إنجاز مهام محددة أو دوام جزئي أو أحيانًا الالتحاق بدوام كامل. نظريًا، يمكن القول بأن الوجود الأكاديمي المكثف في المنظمات غير الحكومية يمكن له أن يمنحهم خيارًا لتصويب العلاقة مع السلطة الرسمية، فهو منصة يمكن للأكاديميين استغلالها لممارسة حريتهم بالنقد دون أن يكونوا ضمن الجهاز الإداري للسلطة. فهو يساعد على العمل نحو التغيير من الخارج وكذلك يساعد على بلورة نموذج توزيع القوة داخل المجتمع وفي العلاقة ما بين المجتمع والدولة، وتوزيع القوة يساعد بدوره على إرساء مبدأ المساءلة ونمو المجتمع المدني.

ولكن اندماج الأكاديميين في العمل غير الحكومي قد يكون له ثمن أكبر من ذلك يحد أكثر فأكثر من أداء دورهم في المشروع الوطني. فقد أدى الاندماج إلى ازدهار ظاهرة الأكاديمي الخبير الذي يُعِد دراسات محددة ذات طبيعة فنية في تخصصه وضمن تعاقدات على أساس الاستشارات، وعادة ما تكون هذه الاستشارات ذات مردود مالي مريح. ذكر لي أحدهم أنه «يوفر كل راتبه الذي يتقاضاه من الجامعة التي يعمل بها بينما يعيش على ما يحصل عليه من عمله الآخر في مجال الاستشارات وإعداد الدراسات الفنية». وفي هذا السياق، يرى جميل هلال أن ارتباط المنظمات غير الحكومية بقنوات التمويل قد أدى إلى تغييرات في الهياكل المفاهيمية والمؤسسية حيث تولت إدارتها نخب جديدة عابرة للحدود (هلال، 2006) تقيم صلات مع نخب معولمة (Hanafi, 2010)، أي لا تعمل بالضرورة ضمن أجندات محلية، وضمن رؤى متعلقة بالنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني؛ فهي منظمات «متموضعة محليًا ضمن القنوات التنموية والشبكات التي تعمل على صعيد عالمي» (Hanafi, 2010: 248). هذا بطبيعة الحال أدى إلى تراجع كبير في دور الأكاديميين في التغيير وفي قيادة المشروع الوطني، وجعل الأكاديمي في هذا الإطار أسير محددات عمل قطاع المنظمات غير الحكومية، لا بل أصبح يحمل جزءًا من أعبائها وخصوصًا ذاك المتعلق بالتمويل الغربي وأزمة الصدقية الشعبية.

ثانيًا، يرى باسم الزبيدي أن بعض الأكاديميين قد دخلوا إلى قطاع الـ NGOs بحكم الضرورة – المالية والعمل – وليس لتطور متعلق بفكرهم أو برامج عملهم. يلاحظ بوجهٍ خاص، أن اليسار الفلسطيني الذي يأتي من خلفيات اشتراكية شمولية، والذي لم يلتحق بصورة ملحوظة بأجهزة السلطة الفلسطينية قد توجه عوضًا من ذلك إلى الـ NGOs، وهنا تكمن المشكلة، إذ كيف لليساري ذي الخلفية المركزية الاشتراكية الشمولية أن يتحول فجأة – ومن دون تطور طبيعي – إلى الإيمان بفكر المجتمع المدني وتقاسم السلطة والشراكة السياسية والتعددية والليبرالية، وهي قيم عادةً ما تكون حاضرة ضمن أجندات الـ NGOs ومموليها من الغرب. أخذ بعض أكاديميي اليسار الفلسطيني قيم العمل، لا بل منظومة الوعي المركزية والشمولية، معهم إلى المنظمات غير الحكومية التي التحقوا بها – بسبب غياب التحول الفكري الطبيعي – وأصبحوا يمارسونها داخل هذه المنظمات، وكانت النتيجة ولادة نموذج هجين للعمل غير الحكومي الممول غربيًا بأفكار ومنظومة وعي يسارية فاقدة للصدقية والتأثير في كلٍ من القاعدة المجتمعية والسلطة الفلسطينية في آن واحد.

ج – اعتزال العمل السياسي

من لم يلتحق بالسلطة الفلسطينية ولم ينخرط في عمل المنظمات غير الحكومية وجد نفسه أمام عدة خيارات، كان منها اعتزال العمل السياسي برمّته وعدم الاهتمام بالشأن المجتمعي، والتحول إلى خيار الأكاديمي المدرس، والأكاديمي الباحث الذي يركز جل اهتمامه على تنمية قدراته البحثية. هؤلاء تم تطويعهم بطريقة أخرى، أي ليست بالالتحاق بالسلطة وتبنيها، ولا بالانخراط بالعمل الممول خارجيًا، وإنما بالصمت واعتزال الحديث بالشأن العام. يتفق ساري حنفي في أهمية التفات الأكاديمي إلى الجانب المهني والابتعاد عن الشأن العام، وخصوصًا لدى فئة الشباب الأكاديمي، وذلك بخلاف الأكبر سنًّا والمتقاعدين الذين حققوا نجاحات في تخصصاتهم، وكذلك لدى جمهور عريض خارج التخصص مثل إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي (حنفي وأرفانيتيس، 2014).

سادسًا: دلالات عربية لنتائج الدراسة

تطرح هذه الدراسة سؤالًا ملحًّا يتعلق بالمدى الذي يمكن لنتائجها أن تساعد على فهم دور الأكاديميين في الأنظمة السياسية في الوطن العربي، أي لأي درجة يمكن تعميم النتائج من الواقع الفلسطيني إلى محيطه العربي، وخصوصًا في واقع الأزمات السياسية المتلاحقة التي تشهدها المنطقة منذ انطلاق الربيع العربي عام 2011. في الحقيقة هناك تحدٍّ مهم يصعّب عملية التعميم بصورتها الواسعة، وهو خصوصية التجربة الفلسطينية المتمثلة بوجود سلطة وطنية تحت احتلال أجنبي مقابل وجود حكومات وطنية ذات سيادة في البلدان العربية الأخرى. التعميم في العلوم الاجتماعية بعامة يبقى محدودًا ما لم يتم تكرار الدراسة بمواقع مختلفة عديدة لتعطي نتائج مشابهة. ولعل هذه الدراسة حول دور الأكاديميين في المشروع الوطني تكون مقدمة لدراسات بحثية أخرى يجريها باحثون في بلدان عربية أخرى تعايش أزمات سياسية لمقارنة النتائج والوصول إلى فهم أوسع حول دور حيوي للأكاديميين في الشأن العام، وليس الاقتصار على دورهم الفني المتخصص أو ما يسمى «البروج العاجية».

يتشابه دور الأكاديميين في الشأن العام في هذه الدراسة بما يطرح تقريبًا في كل أزمة نظام حكم منذ بداية الربيع العربي، ألا وهو اللجوء إلى حكومة «التكنوقراط» للخروج من المآزق السياسية التي تمر بها هذه الأنظمة. حدث ذلك في تونس واليمن وليبيا ولبنان وغيرهم. والتكنوقراط كما تم تعريفهم سابقًا بهذه الدراسة هم عبارة عن شريحة تجمع أكاديميين وكفاءات وطنية وخبراء يتم اختيارهم بعيدًا من الاعتبارات السياسية والحزبية ويركزون على الإدارة الفنية لشؤون الدولة.

وتشير نتائج الدراسة هنا بوضوح إلى فشل نظرية التغيير من الداخل من جانب الأكاديميين إذا تم التعامل معهم على أساس تخصصي فني بمعزل عن القرار السياسي – السيادي الذي يعدّ شرطًا أساسيًّا للقدرة على التغيير. فالأكاديمي الفلسطيني الذي تغلغل وجوده إلى درجة وصلت إلى أكثر من 60 بالمئة في أجهزة الدولة البيروقراطية وجد عمله الفني يصطدم بسقف سياسي لا يمكن تجاوزه، وهو المأزق نفسه الذي تقع فيه حكومات التكنوقراط العرب، حيث تجد نفسها تعمل على أسس فنية متخصصة ضمن أطر معينة تم تحديدها سياسيًا ولا يمكن الخروج عليها.

فالمشكلة مع أكاديميي فلسطين وتكنوقراط العرب هي في القرار السياسي صاحب السيادة العليا الذي هم ليسوا جزءًا منه وليس بالإدارة الفنية للتحديات الوطنية الاقتصادية منها والسياسية. لا يمكن الفصل ما بين الجانبين، ولا نجاح لإدارة فنية علمية لشؤون الدولة من دون أن تكون جزءًا أساسيًّا من القرار السياسي. بلغة أخرى، يشترك أكاديميو فلسطين وتكنوقراط العرب بأنهم يعملون ضمن أنظمة سياسية فردانية (Autocratic Systems) حيث يدخلون هذه الأنظمة كموظفين لا شركاء في الحكم مما يجعل قدرتهم على التأثير الجوهري محدودة للغاية.

يعمل التكنوقراط العربي عادة في حكومات انتقالية لتخطي أزمات سياسية كما يحدث في لبنان، وقت كتابة هذه الدراسة، مما يصعب من مهمتها بصورة أكبر كثيرًا من تجربة الأكاديميين الفلسطينيين الذين حافظوا على وجود كبير لهم لأكثر من عشر سنوات، حسبما تشير الدراسة، ولم يستطيعوا إحداث تغيير جوهري من الداخل.

تساعدنا تجربة أكاديميي فلسطين على فهم دور التكنوقراط العربي في الأزمات السياسية أيضًا من حيث طبيعة المهام الملقاة على عاتقهما. فكلاهما مطالب بحل مشاكل سياسية واقتصادية بنيوية بطبيعتها تتطلب تغييرات هيكلية لا تقع ضمن صلاحياتهم أصلًا. فالحكومات الثلاث التي ترأسها الأكاديمي الدكتور رامي الحمد الله (2013 – 2019) كانت مطالبة بإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني – والذي تعرض رئيس الحكومة فيها لمحاولة اغتيال في غزة – وهو أمر يحتاج إلى قرار سياسي بالدرجة الأولى وهو ما لا تملكه هذه الحكومة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حكومة التكنوقراط المقترحة لبنانيًا (2019) أي إنهاء الانقسام وهو قرار سياسي بامتياز. حتى لو لم يكن المطلوب إنهاء الانقسام فكيف يمكن لحكومات الأكاديميين والتكنوقراط العمل في واقع سياسي مقسم بنيويًا.

ينطبق المنطق نفسه على الحالة الاقتصادية البنيوية أيضًا. فمشكلة لبنان الأولى هي أن الفساد عمل على تدمير الاقتصاد الوطني وجعله مدانًا بأكثر من مئة مليار، والكل يعلم أن محاربة الفساد في لبنان هي قرار سياسي بامتياز، وليس بوضع نظام إدارة فني يضعه خبير تكنوقراط أو أستاذ أكاديمي متخصص في الإدارة في الجامعة اللبنانية مثلًا.

توفر تجربة الأكاديميين الفلسطينيين في الحكم العديد من الدروس للتكنوقراطي العربي الذي يطرح في الكثير من الأزمات السياسية على أنه المخلّص، مفادها باختصار أن النجاح غير ممكن ما لم يكن التكنوقراط ومثله الأكاديمي شريكًا في صناعة القرار السياسي وليس موظفًا بيروقراطيًا في جهاز حكم يقرر مصيره سياسي.

خاتمة

أدّى الأكاديميون في فلسطين دورًا تاريخيًا مميزًا في قيادة النضال الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصًا في المرحلة التي سبقت اتفاق أوسلو عام 1993، فكان منها الأسرى والمبعدون والخاضعون لإقامات جبرية بقرارات عسكرية إسرائيلية. وفي المرحلة التي تلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وتحديدًا بعد مؤتمر مدريد للسلام 1991، مثّل الأكاديميون نواة الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن، سواء كان ذلك كمفاوضين رئيسيين أو خبراء في مجالات متخصصة مثل قضايا القانون الدولي والمياه واللاجئين وغيرها.

تجيب نتائج الدراسة عن التساؤل الرئيسي لهذه الدراسة حول دور الأكاديمي المثقف في المشروع الوطني الفلسطيني، والذي تحول من القيادي الميداني المقاوم للاحتلال الإسرائيلي في مرحلة ما قبل أوسلو 1993 إلى البيروقراطي المرَوّض بأجهزة السلطة الفلسطينية المنخرط في برامجها والطامح للترقية في صفوفها. ساهمت المنظمات غير الحكومية في عملية الترويض بحيث تحول دور جزء آخر من الأكاديميين إلى «الأكاديمي الخبير» المتخصص في إجراء الدراسات والأبحاث الفنية مقابل الأجر، وليس بالضرورة المنتمي إلى قضية مجتمعية وطنية يتبناها ويدافع عنها ويدفع ثمنًا لذلك أحيانًا. شريحة ثالثة رفضت الترويض من خلال أجهزة السلطة الفلسطينية والمنظمات غير الحكومية فابتعدت من المجالين واكتفت بالنقد من الخارج، ولكنها هي الأخرى فشلت في تقديم بديل وطني أو النهوض بدور الأكاديمي في المشروع الوطني. وفي الحقيقة ساد الإحباط في أوساط الكثير من هذه الشريحة، فابتعد جزء منها عن حتى الحديث في موضوع المشروع الوطني.

لم يقتصر التأثير الفعلي للسلطة في الأكاديمي المثقف على ترويض من دخلوا إليها، ولكن امتد ليشمل شريحة أخرى تخلت عن دور المثقف العضوي في نقد السلطة والدفاع عمّن لا صوت لهم، أملًا في أن يستلموا مناصب رفيعة في صفوفها فيصبحوا مثلًا وزراء يومًا ما وهو ما أسمته الدراسة «الوزراء الطامحين».

من المهم ذكره، أن تراجع دور الأكاديمي المثقف بعد أوسلو لم يكن كليًا بسبب التحاقه بالسلطة الفلسطينية وخضوعه لعملية الترويض بداخلها، بل إن تراجع المشروع الوطني الفلسطيني نفسه وغياب الرؤيا الوطنية لتحقيق الذات والخلاص من الاحتلال، جعلت من عملية التغيير أمام الأكاديمي وغيره أكثر صعوبة من أي وقت مضى. فقد أظهرت الدراسة أن الالتحاق المكثف للأكاديميين بالسلطة الفلسطينية كان بأضعف مراحل المشروع الوطني، أي ما بعد الانقسام الفلسطيني 2007 وحتى وقت إعداد هذه الدراسة.

تشير الدراسة إلى فشل نظرية «التغيير من الداخل» في الحالة الفلسطينية، والتي يستند إليها الكثير من الأكاديميين الملتحقين بأجهزة السلطة الفلسطينية، في إحداث تغيير نوعي في أداء السلطة أو النهوض في المشروع الوطني الفلسطيني رغم تمركز عدد كبير منهم في أجهزة السلطة – أكثر من النصف في مجلس الوزراء مثلًا – ولفترات طويلة فاقت العشر سنوات. السبب الرئيسي وراء فشل هذه النظرية في الحالة الفلسطينية هنا يتمثل بدخول الأكاديميين إلى الجهاز البيروقراطي للسلطة، وليس بدخولهم كشركاء في القرار السياسي، بمعنى أن دخولهم كتنفيذيين لا كمقررين في اتجاه المشروع الوطني المتعلق بمقاومة الاحتلال.

يشير هذا الاستنتاج إلى أن العائق أمام التغيير هو النظام السياسي نفسه وآلية صنع القرار السياسي فيهـ وليس افتقاره إلى برامج إدارية وفنية يصممها خبراء أو أكاديميون متخصصون أو تكنوقراط أو غيرهم. فليس هناك من جدوى لوجود برامج علمية ومتخصصة في أجهزة إدارة شؤون الدولة ما لم تتوافر الإرادة السياسية لتفعيلها والعمل بمحتواها. فالإرادة السياسية شرط أساسي لعملية التغيير، ولن تسمح القيادة السياسية في الأنظمة الاستبدادية إلا بما يتوافق مع هواها ويبرر قراراتها، وهو ما يجد الأكاديمي أو الخبير الملتحق بالسلطة نفسه فاعلًا في مثل هذه الأنظمة سواءٌ كان ذلك في الحالة الفلسطينية أو العربية.

من هنا فإن مهمة الأكاديمي المثقف الراغب في «التغيير من الداخل» تتمركز حول ضرورة صوغ علاقة مختلفة جوهريًا مع السلطة يجب أن تنصبّ على دراسة الآلية التي تمكنه من دخولها كشريك في القرار السياسي، وليس كبيروقراطي تنفيذي يلتحق بأجهزة السلطة بقرار رئاسي وبسقف يتمثل بالإرادة السياسية لقمة الهرم السياسي. من المتوقع طبعًا أن ترفض القيادة السياسية الشراكة في القرار مع غيرها، ولكن هذا هو التحدي الحقيقي للأكاديمي المثقف الذي يجب أن يناضل من أجل تحقيقه وهو الذي سيمكنه من التغيير في رؤية المشروع الوطني الفلسطيني إذا ما استطاع الدخول كشريك.

أخيرًا فإن للوطن العربي نصيبًا من هذه الدراسة، وتحديدًا شريحة التكنوقراط – الأكاديميين والخبراء – الذين يتم اللجوء إليهم في الأزمات السياسية العربية التي عصفت بالأنظمة السياسية منذ بداية الربيع العربي 2011. من أهم هذه الدروس هو عدم القبول بتأليف حكومات عند فشل الأحزاب السياسية بالوصول إلى تسويات فيما بينها – كما يحدث الآن في لبنان – لأنها ستدخل مكبّلة بقواعد النظام السياسي الذي هو نفسه من أنتج هذه الأزمات، وضرورة ربط مشاركتها بإصلاحات جوهرية بالنظام السياسي يسمح للتكنوقراط بالدخول كشركاء سياسيين وليس كموظفين بيروقراطيين يكون دورهم تنفيذيًا مرهونًا بالقرار السياسي للنظام نفسه. إن طرح القيادة السياسية في لبنان لمصطلح «تكنو – سياسي» – أي تأليف حكومة من السياسيين والتكنوقراط معًا – ما هو إلا طريقة مبتكرة للالتفاف على رفض إصلاح النظام السياسي والتمسك بالإرادة والقرار السياسيين لدى الأحزاب المسيطرة، وسيجد التكنوقراط نفسه في حكومة كهذه تنفيذيًا وقد روضته طبقة السياسيين لخدمة أهدافها ومصالحها.

 

قد يهمكم أيضاً  هجرة الشباب والأدمغة الفلسطينية إلى الخارج

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المشروع_الوطني_الفلسطيني #السلطة_الفلسطينية #الأكاديميين #المقاومة_الأكاديمية #الأكاديمي_الناشط #تقرير_المصير_الفلسطيني #الاحتلال_الاسرائيلي #دراسات