مقدمة

تناقش هذه الدراسة موضوعًا شائكًا، وهو هوية دولة «إسرائيل»، فهوية الدولة تعَدّ الدعامة الأساسية الأولى لشرعيتها، و«إسرائيل» لا تملك هوية واضحة ومحددة، فهل هويتها يهودية أم ديمقراطية أم قومية أم غير ذلك؟ فالإشكالية الرئيسة هنا تتمحور حول محاولة إسرائيل سن القوانين التي تهدف إلى تحديد هويتها بالهوية اليهودية، ومطالبة الفلسطينيين والعالم الاعتراف بيهوديتها، وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل صبغ الدولة بالهوية اليهودية يحسم ويحل أزمة هوية الدولة الإسرائيلية؟

تهدف الدراسة بصورة رئيسة إلى تقديم رؤية موضوعية حول حقيقة هوية الدولة الإسرائيلية، وهل تمتلك هوية بالمعنى والمفهوم السياسي للدولة؟ لذلك انطلق الباحثان من افتراض أن إسرائيل دولة بلا هوية، وهذا ما تسعى الدراسة للإجابة عنه من خلال الاعتماد على التاريخ الفلسطيني بوجه عام والتاريخ الحديث لنشأة الحركة الصهيونية ومن بعدها دولة إسرائيل بوجه خاص.

أولًا: الهوية والدولة

تقع الهوية في قلب الصراع الهادف إلى صوغ تعريف نهائي للإنسان، لذلك كان سؤال الهوية فلسفيًا بالأساس؛ فقد انشغل المفكرون بمفهوم الهوية منذ بدء التفكر بالذات والجوهر والكينونة[1]. فالهوية مصطلح يدل على الخصائص الذاتية التي تميِّز شخصًا أو مجموعة من الأشخاص من غيرهم. وتدل الخصائص الثقافية المشتركة بين أفراد مجموعة معيَّنة على هويتها التي تعرف بها والتي تظهر من خلال تفاعلات الحياة اليومية بين هؤلاء الأفراد. تنتظم هذه الخصائص في إطارين عامين: إطار الدولة التي يتطلب بناؤها وجود شعب أو مجموعة كبيرة من الأفراد، وإطار الأمة التي تحتاج في بنائها إلى سلطة سياسية توحِّد بين عناصرها وتضع الحدودَ التي تعرف بها[2]‏.

وجدير بالذكر في هذا الصدد، أنه قد برز جدل كبير في الآونة الأخيرة حول تعريف الهوية والانتماء وتحديد عناصرهما، وبات كل مثقف يضع تعريفه الخاص لهذين المفهومين. فهذا أمين معلوف يرفض التسليم بمعظم تلك التعريفات، ويضع أسسًا خاصة به للهوية والانتماء كما يبرز في كتابه الهويات القاتلة. وكان رفضه لحصر هذين المفهومين بالبلد الأم من أبرز نقاط اختلافه مع معظم من قام بوضع أسس لتعريفهما، حيث إنه بيّن تعلقه ببلده الأم لبنان أين ولد ونشأ وتشرّب عاداته وتقاليده من جهة، وتعلقه بفرنسا التي هاجر إليها وعدّها بلده الثاني، وبيَّن انتمائه إلى كل من لبنان وفرنسا. يقول معلوف إن الهوية لا يمكن أن تتجزأ لا ثنائية ولا ثلاثية، بل إن كل إنسان يجد هويته في قرارة نفسه.

لذلك وجد أن كلمة هوية كلمة مضللة دفعت الكثير من الناس إلى القتل باسم هويتهم، ووجدوا أن هويتهم مقسمة إلى هوية دينية، وقومية، وعرقية، وهو ما يوضح اللغط الحاصل في دمج مفهوم الهوية بمفهوم الانتماء، حيث إن هذه العناصر المذكورة هي عناصر مفهوم الانتماء لا الهوية.

ويهمنا في هذا السياق تناول كيفية تعامل الدولة مع الاختلافات والصراعات المرتبطة بتعدد الهويات في مجتمعها، وذلك من أجل بناء هوية مشتركة تعلو الهويات الفرعية – وهو مصطلح يطلق على الهويات المجتمعية غير المعتمدة رسميًا كهوية عامة للدولة[3] – من دون إنكار أو إقصاء لها، فمن تحليل خبرات الدول في التعامل مع هذا التحدي، يتضح أن أهم سياسات إدارة التنوع الاجتماعي يتمثل بالاعتراف بالحقوق واتباع سياسة الاحتواء والمشاركة لكل مكونات المجتمع[4].  ليس هناك هوية واحدة في دولة «إسرائيل» وإنما عدة هويات وثقافات مختلفة ومتناقضة مستقاة من المجتمعات التي كانت تعيش فيها المجموعات اليهودية المهاجرة قبل استقرارها في فلسطين.

يأتي في سياق ذلك خطاب ألقاه الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين في مؤتمر هرتسيليا سنة 2015 أثار خلاله أسئلة مقلقة حول هوية دولة «إسرائيل» واستقرارها، حيث أشار إلى أنه لا توجد هوية محددة لدولة إسرائيل فلا يوجد هناك أغلبية إسرائيلية، فـ«إسرائيل» تنقسم الآن إلى أربع فئات وهي صهيونية علمانية تمثل 38 بالمئة ووطنيون دينيون بنسبة 15 بالمئة، وتتساوى تقريبًا نسبة العرب والحريديم وتمثل 25 بالمئة، بحيث تتزايد الفجوات والمسافات بينها تدريجًا[5]. وفي مؤتمر هرتسيليا سنة 2016 أعاد ريفلين القول بأن «إسرائيل القوية ما زالت تعيش أزمتين الأولى وجودية أزمة هوية والثانية وطنية أزمة مجتمع، فهي دولة قوية إلى الآن بحكم العلاقة ولكنها مقبلة على أزمات داخلية كبرى»[6].

وعليه، يبين أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة العبرية، برنارد أفيخاي أن «الجميع في إسرائيل يتساءلون الآن عن هوية الدولة التي يريدونها وحدودها، ورغم أن الجميع يقول لك فورًا إنهم يرغبون في دولة يهودية ديمقراطية إلا أنه لا أحد يوضح أبدًا كيف يمكن ذلك، لا من ناحية الحدود الجغرافية أو الناحية الدستورية أو السياسية»، مؤكدًا أنه من غير الممكن أن تستمر «إسرائيل» في حرمان شعب آخر ممارسةَ حقوقه السياسية في إشارة إلى الفلسطينيين[7].

يقودنا هذا إلى مفهوم الأنظمة الإثنية، وهي الأنظمة التي تعمل على تمكين الأمة المهيمنة من التوسع والإيغال في فرض الإثنية والسيطرة على الإقليم المتنازع عليه وعلى الكيان السياسي[8]. وهذه الأنظمة تكون في العادة مدعومة بأجهزة ثقافية وأيديولوجية تضفي الشرعية على الواقع المشوّه وتعززه، ويتم ذلك بتأليف روايات تاريخية حول الجماعة الإثنية المهيمنة على أنها هي المالك الشرعي للأرض. وهذه الروايات تعدّ جميع المنافسين لتلك الجماعة غير جديرين تاريخيًا وثقافيًا في السيطرة على الأرض أو حتى في الحصول على المساواة السياسية. وهناك وسيلة أخرى للحصول على الشرعية هي العمل على إدامة الإنتاج الانتقائي؛ فإقامة عدد من المؤسسات الديمقراطية يمنح هذه المؤسسات الشرعية لقيادة الطبقة الإثنية المتميزة ولعملية استيعاب المجموعات الهامشية لكن هذه المؤسسات الديمقراطية تعمل على استبعاد السكان الأصليين والأقليات الأجنبية[9].

ولبعض النظم الإثنية خصائص ديمقراطية واضحة كالانتخابات الدورية والإعلام الحر، وأجهزة قضائية مستقلة ذاتيًا وغيرها من الخصائص، إلا أن هذه الخصائص تعمل شكليًا فقط، بينما الواقع العملي لمثل هذه الأنظمة غير ديمقراطي، ذلك لأنها تدعم الاستيلاء على الأرض والموارد والسلطة من جانب إثنية واحدة، وبذلك يناقض المبادئ الرئيسية للديمقراطية ويهدم وجود الشعب – التمتع بالمساواة في الحقوق والإمكانات من جانب السكان كافة في ظل النظام[10].

يتصل بهذا مطالبة المؤرخ الإسرائيلي شلومو زانت الكيان الصهيوني بالاعتراف أن تأسيس دولتهم جاء على اغتصاب الحقوق العربية ونكبة الشعب الفلسطيني وتشريد أبنائه، مؤكدًا أن المطالبة باعتراف أبناء الدولة المحتلة بـ«إسرائيل» كدولة يهودية يمثل تطورًا خطيرًا في بلد ربع سكانه من غير اليهود، وأنه لا وجود لما يسمى الشعب اليهودي حيث تعدّ اليهودية ديانة وليست أمة[11].

يلاحظ أن الكيان الاجتماعي للدول الاستيطانية يتكون عادة من خليط متنوع من الأصول الحضارية والاجتماعية والثقافية والإثنية والجغرافية، ويترتب على هذه النشأة الاستيطانية مشكلة تكامل حادة، تتمثل بعملية إيجاد هوية قومية مشتركة وشعور بالتضامن الاجتماعي والالتزام السياسي، وإيجاد رموز وقيم مشتركة بين هذه الأصول المختلفة، على الرغم من افتقادها العناصر الأساسية للأمة أو للقومية الواحدة[12].

لقد وضح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو أن هدف الحكومة الإسرائيلية من إصدار قانون جديد يحدد هوية دولة «إسرائيل» ليحصِّنها من التحوُّل لدولة ثنائية القومية، أي دولة لليهود والعرب، فمنذ سنوات طويلة لم تعد «إسرائيل» تمثل في نظر يهود الشتات الملجأ والموطن الذي يجذب المهاجرين اليهود، إضافة إلى أن قانون القومية يعد من أهم الأسباب التي أدت إلى انهيار المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين[13]. تهدف سياسة الهوية بالدرجة الأولى إلى الحصول على اعتراف، ولا يقتصر الأمر على اعتراف ذاتي يتماثل مع هوية وحسب، بل اعتراف الآخرين أيضًا بالهوية المتميزة لأعضاء مجموعة معينة، ونيل شرعية من المجتمع المحيط بهذه الهوية[14].

بعد مرور أكثر من سبعة عقود على قيام إسرائيل، ما زالت تعاني أزمة هوية؛ فالمشروع الصهيوني الذي احتل أرض فلسطين معتمدًا على مجموعة من الذرائع من نوع الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين، وضرورة تأمين وطن قومي للشعب اليهودي، هو مشروع استيطاني كولونيالي بامتياز، تستغله «إسرائيل» اليوم لتبرير استمرار احتلالها للضفة الغربية وسيطرتها على حياة ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة وغزة[15]. فقد أثبتت حركة المؤرخين الإسرائيليين الجدد التي تحاول إعادة النظر في الروايات التاريخية من خلال مراجعة ما حمله التاريخ الفلسطيني، سواء حضاريًا أو ثقافيًا أو حتى دينيًا، أن إسرائيل تاريخيًا ليس لها أي صلة في فلسطين، وذلك من خلال الوثائق التي أفرجت عنها إسرائيل بعد مضي عشرات السنين[16].

ثانيًا: التناقض في مركبات الهوية الإسرائيلية

ينبع التناقض في مركبات الهوية الإسرائيلية اليهودية – الصهيونية – القومية – الديمقراطية من المكوِّنات والمنطلقات والخلفيات التي ينطلق منها كل مركب، الأمر الذي يعني أن المزاوجة بين كل مفهومين أو الجمع بينها جميعًا ينطوي على خلل بنيوي وأزمات كامنة وأخرى ظاهرة على صعيد الفكر والممارسة، والإشكالية الأساس من بين هذه المركبات تتلخص بالعلاقة بين اليهودية والصهيونية، فاليهودية ديانة تنطلق في تعريفها لذاتها من مرجعية غيبية وتاريخية تخص اليهود كجماعة دينية تؤمن بمعتقدات وتتشبَّه برموز دينية تختلف تمامًا عن الصهيونية التي أحدث مفهومها أزمة عميقة لليهودية وقوضت في خطابها الديني المسياني واستولت على رموزها وحولت نفسها إلى حركة خلاصية يهودية تسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود زاعمة أن يهود العالم ينحدرون من نسل واحد ويمثلون قومية واحدة.

إن المقولة الأساسية في الصهيونية تقوم على فكرة نفي المنفى، أي أن حياة اليهودي في المنفى غير طبيعية وناقصة، ولا يكتمل الوجود والمعنى الروحي إلا عندما يلتقي يهودي المنفى أرض «إسرائيل»، ويقيم بيته القومي[17]. هذه الرؤية الصهيونية تصطدم بالضرورة مع الرؤية الدينية اليهودية التي يمثل المنفى أحد أهم معتقداتها كشكل من العقاب الإلهي إلى أن يأتي المسيح المنتظر ويقيم لليهود دولتهم. وفي هذا السياق ادعت الحركة الصهيونية أنها حركة تحرر قومي، وأنها ستخلِّص اليهود من الانتظار السلبي ومن حالة الاضطهاد الدائمة الممارسة بحقهم على حد زعمها، وستعيدهم إلى مسرح التاريخ.

ومن أجل أن تحقق الصهيونية غايتها استعانت بالقوى الاستعمارية الغربية وتبنَّت خطابها وأدواتها، حيث استغلت تنامي مظاهر اللاسامية ضد اليهود، فمثلت هذه القضية أحد أهم المحفزات لانطلاق الفكرة الصهيونية. ومنذ ظهور الصهيونية وحتى اليوم نشب صراع ما بين اليهودية والصهيونية وما زالت اليهودية ومختلف تياراتها ترفض الصهيونية وتعدّها حركة علمانية ملحدة تمثل خطرًا على اليهود واليهودية.

في خضم هذا الصراع نشأ تيار ديني عُرف باسم الصهيونية الدينية حاول المزاوجة بين الدين اليهودي والصهيونية، وبرز على رأس هذا التيار الحاخامان كوك الأب والابن، اللذان حاولا تفسير التاريخ والأحداث السياسية من منظور ديني. رأى هذا التيار بالصهيونية فصلاً من فصول الخلاص الديني وليس تدخلاً في شؤون الإله. وقد تعزز هذا التيار بعد حرب 1967، إذ رأى في احتلال مناطق جديدة، وبخاصة أراضي الضفة الغربية، شكلاً متممًا للرؤية الخلاصية اليهودية. إلا أن هذه الصهيونية الدينية المهجّنة انهارت بعد اتفاقيات أوسلو وتوالي الانسحابات من لبنان وغزة وظهرت على أنقاضها صهيونية دينية جديدة أكثر قومية وأقل تدينًا، وبهذا فإن هذا التزاوج الغريب ما بين الصهيونية واليهودية سيظل يفرز هويات مشوَّهة تعبِّر عن استمرار الأزمة وتمثل دفعًا باتجاه حلها[18].

أما تزاوج مفهومَي اليهودية والديمقراطية الذي يعدّ مركَّبًا أساسيًا في الهوية الإسرائيلية القومية فقد انطوى هو الآخر على تناقض ديني واضح بخلاف المرجعية بين المفهومين، ذلك أن اليهودية وما تضمنته من معتقدات تتنافى تمامًا مع الديمقراطية التي تقوم على أساس المواطنة والحريات وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر[19]. وإسرائيل، بصرف النظر عن تعبيراتها الفوقية الأيديولوجية، هي ظاهرة استيطانية إجلائية لا تطرح نفسها دولة قومية؛ لذلك فمهمة نظام الحكم الرئيسية فيها هو تجسيد هذا المضمون السياسي واقعًا على الأرض، الأمر الذي ينفي عنه سمة الديمقراطية الفعلية[20].

في الوقت الذي تعترف «إسرائيل» بيهود الشتات كمواطنين تلقائيين فور وصولهم إليها، فإن مواطَنة الفلسطينيين العرب في «إسرائيل» تبقى نظرية جزئية، بينما الفلسطينيون في الأراضي المحتلة يتعرضون لقمع وحشي وممارسات عنصرية، وبعد إقرار قانون القومية الأخير وتكريس يهودية الدولة وطابعها على حساب الديمقراطية المزعومة، فإن الإصرار على المزاوجة بين اليهودية والديمقراطية ينطوي على مفارقة كبيرة ويؤكد أن اليهود جماعة أعلى من الدولة، ويعزز هوية «إسرائيل» كنموذج للديمقراطية العنصرية، وحتى بين اليهود أنفسهم هناك عنصرية وتمييز، وأكبر مثال هو التعامل مع اليهود الإثيوبيين في مقابل اليهودي الغربي.

ثالثًا: النزاعات والتصدعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي

يكشف تاريخ الدولة العبرية وحاضرها عن تصدعات وانقسامات حادة وعميقة، الأمر الذي يجعل من فكرة الهوية المتجانسة مسألة تحتاج إلى بحث معمق، وتضع علامة استفهام كبيرة حول المزاعم الصهيونية في نجاحها في خلق القومية اليهودية الديمقراطية.

ولعل أبرز هذه التصدعات التي يعانيها المجتمع الصهيوني هو الصدع الديني والعلماني، فقد هدفت الصهيونية إلى إقامة دولة قومية علمانية، وهو ما أفضى بالضرورة إلى صراع حاد مع الجماعات الدينية المتزمتة التي رفضت الصهيونية وخطابها من حيث المبدأ، ومع الوقت اضطر التيار الديني إلى الانخراط في الحياة السياسية في محاولة للتأثير في قرارات الدولة وثقافة المجتمع، ومع تنامي المعسكر الديني في «إسرائيل» تولّد قلق في أوساط العلمانية المهيمنة على الدولة، من تزايد تأثير الخطاب الديني وهو ما ولّد توترات دائمة وصراعات متواصلة منذ إقامة الدولة وحتى الوقت الراهن[21].

ورغم الصراع الداخلي على مفهوم الهوية، تؤكد أغلب التكوينات المجتمعية اليهودية ضرورة ضمان الهوية اليهودية للدولة، رغم الفجوة الكبيرة غير القابلة للجسر بين مكونات المجتمع،  التي تشير في  حال استمرارها إلى تكريس الشرخ القائم رغم محاولات قادة الجيل الثالث أسرلة المجتمع  وهذا يعني أن يصبح المجتمع إسرائيليًا سياسيًا واقتصاديًا وإلى حد ما ثقافيًا، ودمج الهويات المتباينة، والتخفيف من حدة التباين[22].

على أي حال، ساهم تباين الهوية في إسرائيل، في تعقيد الموقف من الصراع وملف التسوية، وحال دون بلورة موقف إسرائيلي موحد تجاهها، وفي هذا الإطار، يمكن عرض أهم الهويات في المجتمع الإسرائيلي، على النحو التالي:

هوية اليهود الشرقيين[23]:  لقد مثلوا هامشًا مجتمعيًا ثقافيًا، وذلك بسبب ارتباط فكرة الصهيونية السياسية بحل مشكلة يهود أوروبا. لذلك تم استيعاب اليهود الشرقيين، بطريقة تضمن عدم المسّ بالثقافة الإسرائيلية الأشكنازية وبأسس النظام الاجتماعي والسياسي للدولة، وقد تركت هذه السياسة أثرها في السلوك الاجتماعي والسياسي للشرقيين[24].

ارتبط السلوك السياسي لليهود الشرقيين بمفهوم القوة وعدم الثقة بالغير، كما مثّل لهم تأسيس حزب الليكود، بوصفه الجناح اليميني القومي في الحركة الصهيونية، ملاذًا آمنًا في مواجهة سياسة الأشكناز العنصرية، وفرصة لممارسة السلوك الاحتجاجي على طريقة الاستيعاب القائمة على التمييز والغبن في حقهم؛ فقد مكنهم حزب الليكود، من تبوؤ مناصب مهمة في قيادته وبالتالي في الدولة، كما سعى الشرقيون لإنشاء أحزاب قومية متطرفة، وتبني مواقف سياسية واجتماعية مبالغ في قوميتها، لتأكيد عمق الانتماء للصهيونية والدولة اليهودية، إضافة إلى رغبتهم في أن تقوم هذه الأحزاب بطرد المواطنين العرب[25].

طور الشرقيون هويتهم السياسية، منذ أوائل السبعينيات، من خلال انتفاضة الفهود السود، وتمرد صناديق الاقتراع سنة 1977، تلاه تأسيس حركة شاس، التي عبَّرت عن هوية شرقية بحلة دينية، وترجمت مواقفهم، تجاه القضايا الداخلية، وقضايا التسوية والصراع[26].

نجحت حركة شاس في تثبيت موقع لليهود الشرقيين على الخارطة السياسية والاجتماعية للدولة، وأصبح من الصعب تجاوز مواقفها من القضايا الأساسية، وبخاصة ما يتعلق منها بعملية التسوية والمفاوضات، وتعاظمت قوتها في انتخابات سنتي 1996 و1999 [27]، التي كشفت عن زيادة حدة الاستقطاب، حيث برزت أحزاب قومية شرقية منافسة لشاس، وصوت أغلب اليهود الشرقيين لهذه الأحزاب، وفي هذا ما يشير إلى أن تراجع نفوذ حركة شاس، وانخفاض عدد مقاعدها في الكنيست، كما حدث في الانتخابات التي أجريت سنة ٢٠١٥، لا يعني تراجع نفوذ اليهود الشرقيين في الحياة السياسية، بقدر ما يشير إلى خلافاتهم على طريقة العمل[28].

أدرك بن غوريون في وقت مبكر أن جلب مئات الآلاف من اليهود المهاجرين من الدول العربية والإسلامية يعني نقل أنماط حياة ثقافية واجتماعية مختلفة تمامًا عن الأنماط الغربية التي خططت الحركة الصهيونية لصبغ حياة الدولة الوليدة بها؛ ونقل عن بن غوريون قوله في اجتماع خاص عقب وصول اليهود المهاجرين من البلدان العربية: «نحن لا نريد أن يتحول الإسرائيلي إلى عربي»، وخشي بن غوريون أن تؤدي التباينات الثقافية والاجتماعية إلى حالة من الاستقطاب والصراع الإثني بين الشرقيين والغربيين، فبلور ما عرف باستراتيجية بوتقة الانصهار، التي هدفت إلى صهر جميع الثقافات التي جلبها اليهود معهم في بوتقة واحدة، بحيث تنشأ ثقافة إسرائيلية واحدة.[29] وذلك من خلال تنفيذ سلسلة من الإجراءات أبرزها استخدام الجيش للتجنيد الإجباري، وتوحيد مناهج التعليم لخلق ثقافة مشتركة، وإقرار اللغة العبرية ونشرها لخلق قاسم مشترك، وتلقين الصغار والكبار مبادئ الحركة الصهيونية[30].

هوية اليهود الروس: يمثل المهاجرون الروس إلى إسرائيل أكبر جماعة إثنية، رغم اختلاف الانتماء الديني والثقافي، والتنوع الطبقي والمهني والتعليمي، ويصر هؤلاء على العيش في عزلة ورفض الانصهار في المجتمع، والمحافظة على هوية ثقافية خاصة[31]، أما سياسيًا فقد ترجموا توجهاتهم الإثنية، بإنشاء أحزاب سياسية، عبّرت عن رؤيتهم للقضايا العامة، ومثلت ثقلاً سياسيًا واجتماعيًا موازيًا لثقل الأشكناز، في سلوك مغاير لما يجب أن يكون عليه الأمر، نظرًا إلى التقارب الفكري العلماني بين الطرفيين، وقد عبرت الأحزاب الروسية عن مواقفها القومية المتشددة، وبخاصة الموقف من الفلسطينيين[32].

لقد عزز المهاجرون الروس من التوجهات القومية الراديكالية، وأعطوا ثقلاً للمعسكر المعادي للسلام، وعمقوا من الأزمة مع الفلسطينيين، وبدا هذا التوجه واضحًا في المواقف المتشددة من الفلسطينيين في إسرائيل، ومن عملية التسوية، عند كل الأحزاب التي مثلت المهاجرين في العقدين الأخيرين، وبخاصة حزب إسرائيل بعلياه، وحزب إسرائيل بيتنا الذي انفرد بالتشدد القومي، بعد أن اندمج حزب إسرائيل بعلياه في حزب الليكود وذاب فيه[33]. عطفًا على ما سبق، يمكن القول بأن المهاجرين الروس، رغم علمانيتهم، ساهموا في تعزيز قوى اليمين والتطرف المعادية للسلام، بالحد الذي عرقلوا عملية التسوية، وقللوا من فرص التوصل إلى حل.

– هوية المجتمع الحريدي: الحريديم طائفة يهودية أصولية متطرفة، تطبق الطقوس الدينية وتعيش حياتها اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية[34].  ينقسم المجتمع الحريدي إلى فرق ومذاهب، ومن بين تلك الفرق تبرز ثلاث: الحسيديم والليتوانيون والسفارديم (الحريديم الشرقيون)[35]. بدأ تأثير القوى الدينية الحريدية، بالظهور أواسط سبعينيات القرن الماضي، حيث ارتبط عمليًا بظهور حركة غوش أمونيم وفوز حزب الليكود لأول مرة في الانتخابات، وتأليفه للحكومة، ما عُدّ حينها بالانقلاب الكبير في توجهات المجتمع الإسرائيلي، وقد تبنّت القوى الحريدية، سياسات يمينية عنصرية، عبَّر عنها قادة غوش إيمونيم، ومعظمهم شخصيات مؤثرة في التيار الديني السائد في حينه، حيث طالب هؤلاء بربط الحياة العامة والسياسات، بالشريعة اليهودية، وبخاصة في ما يتعلق بالأغيار الفلسطينيين، تطبيقًا لثقافة غوش أمونيم[36].

تعاظمت في العقدين الأخيرين، مسألة تدين أفراد المجتمع الإسرائيلي، وتعزز الخطاب الديني فيه، وقد تجلت صوره في تزايد تأثير المعسكر الحريدي، على عملية اتخاذ القرار السياسي في البرلمان والحكومة[37]، ورغم أن المجتمع الحريدي يمثل ما نسبته نحو 13.6 بالمئة من السكان[38]، إلا أنه يتمتع بتأثير واضح، ينبع من التقدير العام الذي يوليه اليمين، للماضي اليهودي، وقناعته بأن لليهود حقًا تاريخيًا في «إسرائيل». لهذا، استطاع الحريديم الانتقال من هامش المجتمع إلى مركزه، وزادت المشاركة في العمل، وبخاصة مع التكاثر الطبيعي للحريديم، والزيادة المدهشة في عدد طلاب اليشيفاه، ومع هذا التوسع زاد التوتر والتناقضات الداخلية بين مجتمع الحريديم وبقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، وبخاصة بعد تضاؤل الفوارق بين المعسكر الحريدي والمعسكر القومي الديني، لتصبح نسبة المتدينين من عدد السكان، ما يقارب 22 بالمئة[39].

يعود تعاظم دور المتدينين، إلى الصراع الحاد بين الدين والدولة، فالتصدع الديني هو أحد أسباب تزايد قوة الأصولية اليهودية، إضافة إلى دور المضامين الدينية المؤثر في نشأة اليمين، الذي تعزز بعد الدخول في المفاوضات، حيث كانت أغلبية المحتجين على أوسلو، من المتدينين[40]، كما عمل الحريديم على عرقلة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين «إسرائيل» والفلسطينيين، فقد وقع مجلس كبار علماء التوراة عام 1998 عريضة رفض تنفيذ اتفاقية إعادة الانتشار الثانية، وبدأ حملة تحريض داخل الجيش، للامتناع عن تنفيذ أي إخلاء لأراض في الضفة الغربية[41].

فضعف القدرة على مواجهة الخطاب الديني، يرتبط بكون الحركة العلمانية مشبعة تاريخيًا بممارسة خطاب ديني عميق، لتبرير مشروع القومية، إذ تخلقت ثقافة سياسية في أوساط اليمين القومي والعلماني المتعصب، علت على جميع الفوارق الإثنية والطبقية، وهذا ما ساهم في سهولة تغلغل المتدينين في المؤسسات الرسمية، وساعد على سيطرة رجال الدين على كثير من المفاصل المهمة، ومكنهم من سلطة الحسم والترجيح في القضايا المفصلية والمصيرية[42].

ويرى العلمانيون في نمو التيار الديني مجرد عبء على الدولة والحياة الاقتصادية، فهم لا يخدمون في الجيش، ولا يساهمون في العملية الإنتاجية، وفوق كل ذلك يتلقون موازنات كبيرة على حساب الجمهور العلماني، في حين أنهم يتهمون العلمانيين بأنهم بعيدون من الدين اليهودي، ويمثلون خطرًا على اليهودية. والمؤسسة الدينية الأرثوذكسية[43] تحتكر لنفسها تعريف من هو اليهودي، وتتحفّظ على منح صفة اليهودية لعشرات وربما لمئات الألوف من المهاجرين، وبخاصة المهاجرون الروس والأثيوبيون.

أما الصدع الآخر الذي لا يقل أهمية عن الصدع الديني العلماني فيتمثل بالانقسام الإثني بين المستوطنين والمهاجرين في مجتمع الدولة العبرية، وتعود أسباب هذه الانقسامات والتوترات إلى تعدد الأصول الإثنية والثقافية لهؤلاء المهاجرين، فضلاً عن توافدهم في مراحل مختلفة طوال أكثر من قرن من الزمان، وهو ما ولّد مجموعات هجينة غير متجانسة، وأبرز هذه الصراعات بين اليهود الأشكناز الغربيين وبين اليهود الشرقيين في ظل الهيمنة الأشكنازية على الدولة، ومحاولة محو وطمس الثقافات والهويات الأخرى، وتهميش بقية الفئات والجماعات الإثنية.

كما أدى هذا الصراع إلى تنصيب حاخام للشرقيين وحاخام آخر للأشكناز الغربيين. ولم تقتصر هذه التصدعات الإثنية على اليهود الشرقيين والغربيين، بل تعدتها لتشمل كل الجماعات اليهودية: الروسية والإثيوبية والآسيوية، وأمريكا اللاتينية، وغيرها من الإثنيات إلى جانب الصراع اليهودي – العربي الفلسطيني بصيغته القومية.

ثمة صدوع وانقسامات أخرى في الدولة العبرية تأخذ شكل هويات متعددة، وإن كانت ذات طبيعة طبقية وأيديولوجية وسياسية وهويات أخرى أكثر ارتباطًا بتحولات عالمية وآثارها في المجتمعات كافة، وبخاصة المجتمع الاستيطاني الصهيوني. فعلى الصعيد الطبقي على سبيل المثال بلغت حدة معدلات الفقر مستويات قياسية في إسرائيل، إذ وصلت نسبة الفقر عام 2016 إلى 22 بالمئة، ويبلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خطر الفقر قرابة 1.7 مليون شخص[44]، وهو ما يولِّد مجموعة من الأزمات، إذ يتركز الفقر لدى المجموعات الشرقية من المتدينين والعرب. إن هذه التصدعات المتنوعة من شأنها أن تتنامى وتعكس نفسها على مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتؤدي في النهاية إلى أزمات قد تصل إلى حد التعبير عنها بوسائل عنفية بعد فشل سياسة بوتقة الصهر، والفشل في تصنيع الهوية اليهودية الصهيونية الديمقراطية الإسرائيلية.

وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على إقامة الدولة العبرية، لم تنجح إسرائيل في بناء الهوية اليهودية على أساس قومي، وفشلت كل المحاولات الرامية إلى خلق شعب يهودي أو أمة يهودية متجانسة، فالمدن والمستوطنات والبلدات والأحياء اليهودية في إسرائيل تعكس هذا التشظي والانقسام في الهويات المتنوعة، وباتت وظيفة الدولة تتمركز في إدارة التصدعات والصراعات والتناقضات القائمة بين المجموعات الإثنية المختلفة. وقد تتطور هذه التناقضات لتصل إلى صراعات عنيفة، وتتزايد مؤشرات هذا الاحتمال في ضوء الأزمات التي تشهدها الدولة في السنوات الأخيرة، ومن المحتمل أن تتفاقم مثل هذه الصراعات في حال تعرُّض «إسرائيل» لأزمة اقتصادية كبيرة.

رابعًا: الهدف من يهودية الدولة الإسرائيلية

لقد مرت اليهودية بثلاث مراحل: الأولى المرحلة التوراتية، التي تعج بالتناقضات والخرافات التعددية مع المعتقدات التي استمرت كتابتها قرابة ألفي عام، إلى أن وصلت إلى قمة تعفنها وانحطاطها، وبدلاً من تطويعها لاستيعاب تغيرات العصور، ذهبت إلى جهة اليمين وتقوقعت ودخلت المرحلة الثانية الكمونية[45] بما تنطوي عليه من تطرف وعنصرية وشوفونية وعداء لكل الشعوب، ونزاعات أكثر خرافية حتى بات التلمود هو أهم من التوراة رغم أنه شارح لها. ومع توالي القرون والأحداث اتجهت اليهودية التلمودية نحو اليمين مرة أخرى، وبدأت بظهور المرحلة القبالية وهي المرحلة التي تعيشها اليوم، حيث لم يعد الحديث عن شعب «إسرائيل» بوصفه شعب الله المختار، وإنما هو نفسه الشعب الذي يسكن فيه الإله، وهي مرحلة الحلولية التي تعززت بعد الهولوكوست حيث ساد اعتقاد له ما يبرره في أوساط اليهود بأن الله تخلى عن شعب إسرائيل بهذا وأن الإله قد مات وبات الشعب هو الإله[46].

تكمن أهمية التعرف إلى التيارات الفكرية اليهودية، في كونها الأساس الذي قامت عليه الحالة الحزبية بعد قيام الدولة، وما زالت أفكار هذه التيارات وتوجهاتها حاضرة يعبَّر عنها بالسلوك والممارسة الحزبين، ولا سيّما في ما يتعلق بالمواقف والرؤى السياسية المرتبطة بالصراع، ومعنى الكيانية اليهودية، والتعبير عنها من خلال الحفاظ على الدولة وتفوقها، واستمرار نقاء العرق فيها.يمكن فهم هذا الربط من خلال النظر إلى طبيعة الخارطة الحزبية في «إسرائيل»، فهناك ثلاثة توجهات رئيسة هي الأحزاب اليسارية والاشتراكية (مثل حزب العمل الإسرائيلي الماباي)، التي تعبر عن أفكار الحركة الإصلاحية، وأحزاب اليمين ويمين الوسط، التي تقوم على أفكار التيار المحافظ (حزبا شاس والليكود)، والأحزاب الدينية التي تؤمن بالرواية الأرثوذكسية (الحزب القومي الديني المفدال)، وتدافع عنها بكثير من المغالاة والتطرف.

لقد شهد المجتمع الإسرائيلي، منذ منتصف حقبة السبعينيات من القرن الماضي، عملية فرز سياسي اجتماعي واسعة، عبرت عن توجهات عامة وفلسفية، وظهرت على شكل محورين، علماني ليبرالي وديني قومي، ثم ما لبثت أن أصبحت أدق فرزًا وظهرت في صورة  ثلاثة تيارات رئيسية، قومي ديني (الحزب الوطني الديني المفدال وحزب الاتحاد اليميني موليدت وحزب إسرائيل بعلياه)، وقومي علماني (حزب البيت اليهودي وحزب الليكود)، وليبرالي علماني (حزب العمل وحزب ميرتس وحزب هتنوعا) رغم التناقض الجوهري بين التيارات المتشكلة في موقفها من مكانة الدين، وبخاصة أن فئات غير قليلة وذات ثقل في التيار القومي العلماني، دعمت النهج الليبرالي والحريات الشخصية في الإطار القومي، كما أن بعضها اندمج في تكتلات سياسية، قامت على أساس الاتفاق على الصبغة اليهودية للدولة القومية.

من جانب آخر، فإن تناقض الهوية اليهودية والخلافات الحادة في تعريف ماهية الدولة وطبيعة هذه الهوية أحدثت انقسامات وشروخًا في المجتمع العبري، ومع قيام «إسرائيل» تحولت الهوية اليهودية إلى هوية رسمية تحتاج إلى تحديد الحاجة إلى من هو اليهودي الذي يسري عليه قانون العودة. وهو ما يعكس نفسه على توجهات الدولة الصهيونية العلمانية التي تعدّ الهجرات إلى الدولة عصب حياتها. وسؤال من هو اليهودي في نهاية المطاف هو سؤال ديني، ويكرس مركزية العامل الديني في القومي والسياسي.

وبهذا المعنى يمكن تفسير إصرار نتنياهو على الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي من جانب الفلسطينيين بأنها إحدى أهم المسائل الجوهرية للصراع العربي-الصهيوني؛ فهذه المطالبة مثلت ذروة التطور في هذا الصراع وقد وصلت إلى محطة مهمة تعكس قضيتين متناقضتين[47]: الأولى تتعلق بمدى القلق في الدولة العبرية والحاجة إلى تأكيد اعتراف الآخر بأحقيتها بالوجود. أما الثانية، فتعكس مدى العنجهية الإسرائيلية وابتزازها للفلسطينيين والعرب على حد سواء والهروب من استحقاقات أي تسوية.

ومسألة يهودية الدولة قد جرى تأكيدها من خلال عدد من القوانين الأساسية كان آخرها قانون القومية الذي سُن في سنة 2018. فقد دعت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية في حكومة إيهود أولمرت سنة 2007، في أجواء الاستعداد لمؤتمر أنابوليس، في إطار المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية إلى أن تعترف القيادة الفلسطينية، ضمن الاتفاق، بكون «إسرائيل» الدولة القومية للشعب اليهودي[48]. وفي خطاب لها، أمام مؤتمر الوكالة اليهودية الذي عقد في القدس في 19 شباط/فبراير 2008، قالت: قد يكون بين الإسرائيليين خلافات في الرأي خلال سير المفاوضات مع الفلسطينيين، ولكن يربطنا جميعًا هنا قاسم مشترك، وهو أن تكون إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية؛ دولة آمنة في أرض «إسرائيل»، ومن أجل ضمان هذه القيم، سيكون علينا التنازل عن أجزاء من أرض «إسرائيل» الكاملة[49].

طُرح مشروع قانون القومية على جدول أعمال الكنيست، أول مرة، في الدورة الثامنة عشرة للكنيست في 3 آب/ أغسطس 2011، بمبادرة عضو الكنيست آفي ديختر عن كتلة كاديما، وقد شاركه في المبادرة 39 نائبًا من أقصى اليمين الاستيطاني، حتى حزب العمل، الذي يصنّف نفسه حزبًا وسطًا[50].

وفي دورة الكنيست التاسعة عشرة طرح عدد من النواب مشاريع قوانين مشابهة، ومنها ما كان أكثر حدة في النص، كالنص الذي عرضته وزيرة العدل إيليت شاكيد[51]، وأقر الكنيست في 19 تموز/ يوليو 2018، ما يسمى «إسرائيل» الدولة القومية للشعب اليهودي، وجاءت الصيغة النهائية للقانون كما يلي[52]:

قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي:

مبادئ أساسية: (أ) أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، التي فيها قامت دولة إسرائيل. (ب) دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، فيها يطبّق حقه الطبيعي، الثقافي والديني والتاريخي لتقرير المصير. (ج) حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هو للشعب اليهودي وحده.

الدولة تكون مفتوحة أمام الهجرة اليهودية إليها، وجمع الشتات.

ففي البند الأول الذي يتحدث عمّا يسمى حق تقرير المصير للشعب اليهودي، أُضيفت كلمة الديني إلى جانب الثقافي والتاريخي. وفي البند الثالث عن العاصمة، وبعدما أضيف إلى القدس كلمة الموحدة لدى التصويت عليه بالقراءة الأولى، فقد أضيفت لدى القراءة النهائية كلمة الكاملة لتصبح القدس الكاملة والموحدة. وفي البند الرابع في موضوع اللغة، فقد قرر نتنياهو شطب أي ذكر للغة العربية في القانون[53].

بعد التصويت على القانون، قال نتنياهو، من على منصة الكنيست «إن هذه لحظة مؤسسة في تاريخ الصهيونية، وتاريخ دولة إسرائيل، فبعد 122 سنة من نشر ثيودور هيرتسل حلمه، ثبّتنا بقانون المبدأ الأساس لوجودنا: إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي التي تحترم حقوق الفرد لكل مواطنيها. وحينما أتحدث في العالم، فأنا أكرر قائلاً إن هذه دولتنا، دولة اليهود»[54]. تكمن خطورة قانون القومية الإسرائيلي في أنه يكرس الامتيازات الحصرية في الأرض والثروات لليهود وحدهم ويحول الفلسطينيين، سواء في مناطق الـ48 أو في الضفة الغربية، إلى مجموعات بشرية لا حقوق لها، وهو ما يهدد وجودهم على الأرض.

أما الوجه الآخر لأزمة الهوية في «إسرائيل»، فهو الإصرار على أن «إسرائيل» هي دولة يهودية وديمقراطية في الوقت نفسه، إن ثنائية يهودية وديمقراطية تنطوي على تناقض بنيوي بين المركّبين، وقد كان لإقرار قانون القومية الأخير، أن كرّس يهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها، وهذا ما يضع مزيدًا من الشك حول مزاعم الديمقراطية في التجربة الإسرائيلية.

ويظهر إصرار «إسرائيل» على ضرورة الاعتراف بها كدولة يهودية في أية تسوية مع الفلسطينيين، وجهًا آخرَ من وجوه أزمة الهوية، وبهذا تبدو إسرائيل فاقدة للقدرة على تعريف ذاتها كدولة يهودية وفي الوقت نفسه تسعى لتأكيد هذه الهوية من خلال اعتراف الآخرين بها، وما لم يحدث هذا الاعتراف فإن الهوية اليهودية يظل يعتريها الكثير من الضعف.

خامسًا: إسرائيل إلى أين؟

تمثل ثنائية الحرب والسلام السؤال الأبرز حول مستقبل الدولة الصهيونية، وطوال أكثر من سبعة عقود خاضت إسرائيل عشرات الحروب والعمليات العدوانية ضد الفلسطينيين والبلدان العربية المجاورة وفي الوقت نفسه قدمت رؤيتها للسلام مع العرب من منطلق الإخضاع والهيمنة القائمة على أساس الردع والقوة العسكرية. فـ«إسرائيل» بوصفها دولة استيطانية توسعية تنتمي إلى نمط الدول الاستعمارية العدوانية محكومة لطبيعتها العدوانية العنصرية، تبقى فكرة الحرب تشغل حيزًا مهمًا في تفكيرها السياسي والاستراتيجي.

لقد قامت فكرة السلام الصهيونية على أساس الردع والقوة، وهو ما عبر عنه عدد من قادتها مثل بن غوريون ورابين وديان وشارون وآخرين. أما رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو الذي يعبر في تفكيره السياسي الاستراتيجي عن جوهر المشروع الصهيوني ويلخص بسياساته ومواقفه الرؤية الصهيونية الحقيقية، يعتقد بأن السلام الحقيقي مع العرب هو سلام الردع فقط، وفي اجتماع له مع كتلة حزب الليكود البرلمانية صرح نتنياهو «أن القوة هي الشيء المهم في السياسة الخارجية لإسرائيل، أما مسألة الاحتلال فهي هامشية لأنه يوجد دول عظمى احتلوا وغيروا السكان ولم يتحدث عليهم أحد فالقوة هي المفتاح ومن شأن القوة أن تغير كل شيء في سياساتنا أمام العالم العربي»[55].

إذًا، السلام الذي تنشده «إسرائيل» هو سلام القوة والهيمنة وإخضاع الوطن العربي. ويترجم هذا الموقف في ظل العلاقات الإسرائيلية التي تربط بينها وبين عدد من الدول العربية والإسلامية، وقسم منها لم يوقِّع معاهدات سلام مع «إسرائيل» حتى الآن على الرغم من توقيع كل من الإمارات والبحرين معاهدة سلام في منتصف أيلول/سبتمبر 2021 متخلية عن شرط الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية كافة المحتلة عام 1967 مقابل إقامة علاقات سلام وتطبيع مع «إسرائيل» وهو ما عرف بمبادرة السلام العربية.

لهذا فإن تطبيع العلاقات العربية مع «إسرائيل» من دون انسحابها من الأراضي العربية المحتلة يبرهن على وجهة نظر نتنياهو السياسية التي تقوم على أساس فرض السلام من خلال الردع والقوة العسكرية من دون أن تدفع «إسرائيل» أي ثمن سياسي.

وعلى صعيد التسوية مع الفلسطينيين فقد أثبتت الاتفاقيات الموقَّعة منذ أكثر من ربع قرن عقم العملية التفاوضية وأن الحكم الذاتي الفلسطيني من المنظور الإسرائيلي هو امتداد للاحتلال بأساليب أخرى[56]. أما حل الدولتين الذي تدور حوله عملية التسوية فبات يتلاشى مع الوقت، وكما وصفه إيلان بابيه «بات أشبه بجثة يتم إخراجها من المشرحة من حين إلى آخر فيتم هندمتها بصورة أنيقة ومن ثم عرضها كشيء حي»[57].

حاولت «إسرائيل» وإدارة ترامب فرض تسوية على الفلسطينيين من خلال ما يعرف بصفقة القرن بعد شطب قضية اللاجئين والقدس والاستيطان، وبهذا تجري عملية تصفية القضية الفلسطينية وفق المنظور الإسرائيلي الأمريكي. غير أن «إسرائيل» ورغم امتلاكها القوة العسكرية والهيمنة على الأرض تظل في حالة من القلق الوجودي شأنها شأن أي حالة استعمارية، وما يميزها من غيرها من الدول الاستعمارية أنها فشلت في إبادة السكان الأصليين، أي الفلسطينيين، وهذا يعني أن الصراع لم يحسم بعد لمصلحتها في ظل استمرار المقاومة ورفض التطبيع، وكذلك في ضوء الصراعات والتصدعات الداخلية العميقة، وهو ما يضع علامة استفهام كبرى حول مستقبلها.

فـ«إسرائيل» مشروع استعماري غربي أوروبي ناجح، ولكنها دولة بلا مستقبل وهذا ما عبر عنه ونستون تشرشل سنة 1921 بقوله «من دون جذور لن ينمو شيء هنا»[58]. إن مستقبل، «إسرائيل» مرهون بالتطورات الخارجية والداخلية على حدٍ سواء في ما يرتبط بهويتها؛ فمن ناحية الخارج، ومن الغرب تحديدًا، يُنظر إلى «إسرائيل» على أنها امتداد للحضارة الأوروبية الغربية وبالتالي فإن هويتها من المنظور الخارجي، جيب أبيض سيظل مرتبطًا بالغرب، وفي المنطقة العربية يُنظر إليها على أنها دولة استعمارية صهيونية معادية قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني.

أما من الداخل فإن «إسرائيل» تُعرّف نفسها بأنها دولة يهودية وديمقراطية، تنتمي حضاريًا إلى الغرب، غير أنها تقيم دولتها في الشرق، وهي دينية وعلمانية في الوقت نفسه، وديمقراطية وغير ديمقراطية في الوقت نفسه، وفي ضوء هذا الخلل الواضح الذي يعتري التعريف وفي ظل احتدام التناقضات بين مكونات الدولة المتباينة، فإن إمكان تفسّخ «إسرائيل» من الداخل على أساس هوياتي أمرٌ وارد، غير أنه لا يكفي القول إن بقاءها أو عدم بقائها مرهونٌ بهذا العامل، وإنما مرهون ومحكوم لجملة من العوامل الداخلية والخارجية، وقد تكون مسألة الهوية أحد هذه العوامل التي من شأنها أن تمثّل أحد العوائق أمام تطور الدولة.

خاتمة

بحثت هذه الدراسة مسألة هوية الدولة العبرية ومكوِّناتها، وما تنطوي عليه هذه المكونات من تناقضات وتشوهات قادت وستقود إلى المزيد من التصدعات والصراعات بين مركّبات المجتمع الصهيوني. كما تناولت الدراسة المحاولات التاريخية التي بذلها قادة الحركة الصهيونية في خلق واختراع «الشعب اليهودي» وهويته القومية والنتائج التي أفضت إليها هذه المحاولات، وفي ظل الإخفاق في إيجاد تعريف «من هو اليهودي»، سادت في إسرائيل أزمة الهوية اليهودية بعد فشل سياسة بوتقة الصهر، واكتشفت الدولة أن أفضل وسيلة لتعزيز العلاقة بين هذه المجموعات هي إثارة الخوف واستدعاء الخطر حول مصيرها المشترك ليكون بمنزلة الصمغ اللاصق لهذه المكونات الاجتماعية المتنافرة.

كتب ذات صلة: