داري ودارُ أبي وجدّي وأعزُّ مَا فـي الأرض عـندي
بِيَدي بنـيـتُ قِبـابَهــا مِـن معـدنَيْ كرمٍ ومـجـــدِ
ووَصلـتُ بـالصرحِ القَديـمِ حديثَ صَرْحٍ مُستجـدِّ
بـيـدي غرستُ جِنـانَهــا مِـن كُلِّ ريحانٍ ووردِ
مقدمة:
أسلّط الضوء في هذا المقال على التناول الأدبي لمفهوم النكبة في شعر واحد من قادة العمل الوطني في فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهو كامل توفيق الدجاني، رحمه الله. أبدأ بالتعريف بكامل الدجاني ابن مفتي يافا وقضائها الشيخ محمد توفيق الدجاني، الذي انتُخب مفتيًا عام 1904. ولد كامل عام 1899 بيافا، وتبوّأ عدة مناصب في أطر التمثيل الوطني الفلسطيني، منها في نيسان/أبريل عام 1946 اللجنة العربية العليا التي سبق أن تأسست في 1936 [1].
وقد حلت اللجنة نفسها عقب تأسيس «الهيئة العربية العليا» في حزيران/يونيو 1946 [2] برئاسة المفتي الحاج أمين الحسيني، زميله بالدراسة في الأزهر الشريف في القاهرة قبيل الحرب العالمية الأولى منذ عام 1912 وحتى عام 1914. وقد شارك كامل الدجاني في تأسيس جريدة الجزيرة بيافا مع أحد أبناء عمومته وصاحبه في النضال حسن فهمي الدجاني، في إثر عودته من مصر بعد قضائه أكثر من عامين فيها. ونشر عددًا من المقالات الوطنية والقصائد بجريدة فلسطين وجريدته الجزيرة باسم مستعار هو «ابن فلسطين». وقد أجاد التركية بطلاقة وهضم آدابها في سن مبكرة، وكذلك تعلم العبرية لمتابعة وفضح ما يصدر من منشورات وجرائد العدو الصهيوني وقياداته وبخاصة سيئ الذكر زئيف جابوتنسكي الذي نادى وجاهر مبكرًا بإنشاء كيان للعدو بين النهرين.
أولًا: نشأة الدجاني وتعليمه
شهدت المرحلة التي ولد فيها كامل الدجاني بداية التحول الكبير والسريع في الحياة العربية والإسلامية، الذي ما فتئ ماضيًا، وإن اتخذ أشكالًا متباينة، كرَدّ فعل على تبدُّل الظروف الخارجية والداخلية. ومن أهم المظاهر التي اتخذها هذا التغيير في مطلع القرن العشرين، التطور الكبير بإيجابياته وسلبياته الذي نشأ في نظام التعليم، وأخذ يستولي عليه بتدرُّج واستمرارية حتى حدثت القطيعة والفجوة بين التعليم التراثي الذي ناله الطفل كامل وبين التعليم الحديث الذي نالته الأجيال التي تلت. ففي أول العمر أُرسل إلى كتّاب الشيخ صالح كما كانت العادة آنذاك لإعداده للمرحلة الابتدائية. وكان التعليم في الكتّاب يقتصر على حفظ القرآن الكريم وتجويده والإلمام بالتفسير والحديث وفقه العبادات. ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية النظامية بيافا، حيث كان الحكم العثماني قد افتتح منذ مدة وجيزة النظام التعليمي الرسمي الحديث، الذي لم يكن قد حل بعد محل الكتّاب والتعليم الديني الخاص، ومن ثم أنجز الفتى كامل المدرسة (الرشدية) التي كانت تغطي جانبًا من المرحلة الإعدادية للتعليم الحديث.
ويذكر أن النظام الإداري التركي كان يعطي منصب «مدير التعليم» للمفتي المنتخب، وكان المفتي يُعَدّ، بحكم وظيفته، عضوًا في مجلس الإدارة الذي يؤازر المدير الإداري (القائمقام) في إدارة أعمال المنطقة التعليمية. وكان تطعيم التعليم الحديث بمشورة تمثل الجانب الروحي مما هو مندوب إليه في ذلك الزمن. وكان قد أضفى طابعًا انتخابيًا للمنظومة التعليمية بما يعزز جهود تطوير التعليم. إلا أن نظام التعليم الحديث في العهد العثماني كان ينتهي في معظم المناطق والمدن بالمرحلة الإعدادية (الرشدية)، فمن شاء دراسة أعلى انخرط بمدرسة سلطانية (ثانوية). وكانت هذه المدارس تعَدّ بالآحاد في المشرق العربي والعراق، حتى أنشئت الكلية الصلاحية في القدس أثناء الحرب العالمية الأولى.
وكان معظم أبناء الأسَر الفلسطينية، التي اهتمت بتعليم أبنائها، يتلقون علومهم بعد المرحلة الرشدية داخل الأسرة، حيث الأساتذة هم الآباء والأقرباء وذوو العلم والفضل، والدراسة مجالس حوارية وأسئلة واسترشادات وإتقان ارتجال الخطابة والبيان والشعر. وقد تلقى كامل الدراسة على يد والده المفتي، وكان لوالده خمس مؤلفات دينية وشعرية تراثية مهمة ونادرة؛ وعلى صديق الأسرة الشيخ محمد أبو الإقبال اليعقوبي الشاعر المعروف آنذاك. كان الشيخ أبو الإقبال ينشر شعره بتوقيع «حسان فلسطين» تيمُّنًا بحسان بن ثابت، الصحابي الجليل شاعر الرسول الكريم. وقد اختير الشيخ اليعقوبي مفتيًا ليافا وقضائها خلفًا للشيخ توفيق الدجاني عندما عزله الإنكليز ونفوه وعائلته إلى خارج فلسطين، فاختار اللجوء إلى الأناضول عام 1916 أثناء الحرب العالمية الأولى. واستمر نفي المفتي حتى نهاية الحرب الأولى. لكن يظهر لنا من السيرة الشفاهية للأسرة عودة ابنه الشاب كامل، قبل عودة المفتي وأسرته إلى يافا. وقد كان رجوع الشاب كامل ليافا وقد احتل البريطانيون كل فلسطين التاريخية وشرعوا مباشرة في تطبيق وعد بلفور بإنشاء الوطن القومي اليهودي، تمهيدًا لإنشاء الكيان الصهيوني على كل جغرافيا فلسطين؛ وللحال فرّغ كامل الدجاني نفسه للنضال الوطني، واستمر فيه حتى انهيار النكبة عام 1948.
ثانيًا: النضال الوطني لكامل الدجاني
في عام 1914 عاد الفتى كامل من الأزهر الشريف بالقاهرة ابن خمسة عشر عامًا، وحضر اجتماعات للطلاب بيافا بحثوا فيه دورهم في مقاومة الخطر الصهيوني. في إثر ذلك، قام الطلاب بدور إغاثي تجاه يافا أكبر مدن فلسطين وتجاه سكانها؛ للإسهام بمعالجة أزمات الغذاء والدواء وجوائح الأوبئة المتعددة أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى العجاف وبعدها. وقد كان ناشطًا منذ يفاعته بالجمعية الإسلامية – المسيحية مع صهره الذي يكبره بعقد ونيف من السنين مؤسس ورئيس فرع الجمعية بيافا الشيخ راغب أبو السعود الدجاني. ومعلوم أن هذه الجمعية تأسست بنهاية الربع الأول من عام 1918، أي بعد زمن قصير من وعد بلفور ومن احتلال بريطانيا فلسطين، وتزامنت مع قدوم البعثة الصهيونية إلى فلسطين في بدايات نيسان/أبريل 1918، وكانت مظهرًا مبكرًا للوعي السياسي المنظم من مكونيّ الشعب الفلسطيني الأساسيين في مواجهة نشاط اللجان الصهيونية.
كان تأسيس الجمعية الإسلامية المسيحية بيافا سابقًا لتأسيس فروعها ببقية مدن فلسطين الكبيرة. وفي ضوء تجربتها الناجعة، قرر وجهاء القدس في أيار/مايو 1918 إنشاء جمعية عربية يجتمع فيها شملهم مسلمين ومسيحيين مناصفة وينشطون من خلالها في سبيل الدفاع عن كيانهم الوطني، والسعي لربط مصير فلسطين بمصير سورية الكبرى الاستقلالي والوحدوي. وقد رفضت السلطات البريطانية الاقتراح بتسميتها «الجمعية العربية الوطنية»، حتى لا يكون ذلك اعترافًا منها بحركة عربية تحررية من الاحتلال المزدوج البريطاني والصهيوني، بل ألزمت وجهاء وزعماء القدس بتسميتها الجمعية الإسلامية المسيحية، لتظل جمعية محلية منقطعة عن الحركة العروبية الوحدوية وثورتها القائمة آنذاك في جل أنحاء سورية الكبرى.
ابتداء من عام 1920، زاوج الشاب كامل بين النضال الفكري وبين التنظيم الخفيّ غير المعلن لمختلف الحركات الجهادية والانتفاضات الشعبية بيافا وفلسطين، فأسس في سنيّ عمره المبكرة جمعية الشبان المسلمين بيافا مع رفيق دربه في النضال علي الدباغ، وكان من أهم نشطائها في عملها الخيري والاجتماعي العلني ثم الجهادي السري المبكر. ثم أسس المنتدى الأدبي، الذي اهتم بقضايا النضال العربي الوحدوي القومي في بلاد الشام والعراق وأضحى محورًا لحركة فكرية أدبية واجتماعية قوية في يافا جعلتها مركزًا مهمًا للعمل الوطني في كل جغرافيا فلسطين. انتبه الشاب كامل مبكرًا للتغول الاقتصادي الصهيوني، فقاوم الامتيازات التي منحتها سلطة الانتداب البريطاني إلى الشركات الصهيونية، فتشدد في الدعوة الى مقاطعة شركة كهرباء روتنبرغ وكل الشركات الصهيونية. ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى خلفية تأسيس شركة كهرباء روتنبرغ الصهيونية الاحتكارية القائمة ليومنا هذا. فحينما كانت بريطانيا وفرنسا منشغلتين برسم حدود الدويلات التي قرّرا تشكيلها في إقليم سورية الكبرى بعد اتفاقية سايكس – بيكو، وجه حاييم وايزمن باسم المنظمة الصهيونية العالمية رسالة بتاريخ 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1919 إلى دايفيد لويد رئيس الوزراء البريطاني، يعلن فيها اعتراض الحركة الصهيونية ورفضها المطلق لخطوط الحدود الشمالية لفلسطين التي سبق تحديدها باتفاقية سايكس – بيكو عام 1916. وأكد حاييم وايزمن في رسالته: «إن مستقبل فلسطين الاقتصادي كله يعتمد على موارد مياهها للري وللقوى الكهربائية، وتستمد موارد المياه بصورة رئيسة من منحدرات جبل حرمون ومن منابع حوض الأردن ومن نهر الليطاني». وطلب إعادة رسم الحدود في الاتفاقية المذكورة بحيث يضم حد فلسطين الشمالي وادي نهر الليطاني إلى مسافة 25 ميلًا فوق المنحنى، ومنحدرات جبل حرمون الجنوبية، لضمان السيطرة على منابع نهر الأردن وغيره من مصادر المياه العذبة. استجابت أوساط الحلفاء لذلك وعدلوا الحدود لضمان الأمن المائي للصهاينة وكيانهم المزمع إنشاؤه. وقام المندوب السامي البريطاني الصهيوني المتعصّب هربرت صمويل بمنح شركة المساهمة العامة التي أسسها المهندس الصهيوني الروسي بنحاس روتنبرغ وتدعى «شركة الكهرباء الفلسطينية» عام 1926 عقدَ امتياز حصري لاستغلال مياه نهري الأردن واليرموك عند نقطة تلاقيهما في جسر المجامع ومستعمرة نهاريم، وذلك من أجل توليد الطاقة الكهربائية مدة سبعين عامًا. ونص عقد الامتياز على تقاسم أرباح الشركة بين صاحب الامتياز وسلطات الاحتلال البريطاني.
في عام 1929، أسهم كامل الدجاني على نحوٍ فعال في الانتفاضة والثورة التي عمت فلسطين؛ فاعتقلته سلطة الاحتلال البريطاني مرتين. وخرج من السجن من دون أن تتم محاكمته لعدم ثبوت الأدلة ضده. كذلك كان من الأعضاء البارزين في اللجنة التي أعدت للمؤتمر الإسلامي الأول الذي عقد في القدس عام 1930 بدعوة من المفتي العام للقدس وفلسطين الحاج أمين الحسيني. وقد كانت لديه القناعة بأن التيار الوطني الذي يرأسه المفتي الحسيني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، يمثل الحركة الوطنية النضالية هدفًا وأسلوبًا فانضم إليه، ولم يلتحق بحزب الاستقلال الفلسطيني الذي ضم عددًا من مجايليه ومن الشباب آنذاك. ويشير كامل الدجاني في مذكراته غير المنشورة عن المؤتمر الإسلامي: «إلى جانب المؤتمرات الفلسطينية السياسية، عقدت في فلسطين مؤتمرات أخرى لتأييد ودعم الحركة الوطنية الفلسطينية، فقد دعا الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى لعقد المؤتمر عام 1930، وكان حافلًا بزعماء العالم الإسلامي، نذكر منهم محمد علي علوبة باشا والشيخ محمد رشيد رضا (مصر)، رياض الصلح والأمير عادل أرسلان (لبنان)، وسعد الله الجابري وإحسان الجابري (سورية)، وعبد العزيز الثعالبي (تونس)، وشوكت علي ومحمد علي جناح (الهند)، وقد ألقى محمد علي جناح شاعر الهند شيئًا من شعره في المؤتمر، الذي تلقى مئات من برقيات التأييد من شتى أنحاء العالم الإسلامي». وقد جُعِلت جلسة افتتاح المؤتمر في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج وحشد لها الناس من جميع أنحاء فلسطين بعشرات الألوف. وخطب الحاج أمين الحسيني مذكرًا بخطورة قضية فلسطين على الإسلام والمسلمين. وخطب ضياء الدين الطبطبائي رئيس وزراء إيران سابقًا وأحد زعماء ثورة مصدق لاحقًا. كما خطب السيد كاشف الغطاء أحد كبار مجتهدي الحوزة العلمية الجعفرية بالعراق، وغيرهم الكثير من القيادات الروحية والسياسية على امتداد العالم الإسلامي. وكانت من بين قرارت المؤتمر إنشاء جامعة إسلامية كبرى في القدس باسم جامعة المسجد الأقصى، وتأليف دائرة معارف إسلامية وإعلان قدسية البراق (حائط المبكى عند الصهاينة) واستنكار أي مطمع فيه وعزم المسلمين جميعًا الدفاع عنه والذود عن كل فلسطين من مخاطر الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني.
في الأول من آب/أغسطس 1931، شارك كامل الدجاني مع علي الدباغ وحمدي النابلسي وأحمد الكيالي كوفد من يافا في مؤتمر نابلس للتسلح. وقد انتخب السيد فهمي العبوشي رئيسًا والسيد أكرم زعيتر وكامل الدجاني سكرتيرين. وقرر في المؤتمر تسليح القرى والعشائر الفلسطينية المحاطة بالمستعمرات الصهيونية نظرًا إلى الخطر العظيم الذي يهددهم من قيام المحتل البريطاني بتسليح المستعمرات والمنظمات الإرهابية الصهيونية، ومنها شتيرن وأرغون والعصابات الإجرامية المسلحة الأخرى.
في عام 1933، شارك الثائر كامل الدجاني في تنظيم تظاهرة يافا الكبرى. وكانت بقيادة الزعيم الوطني موسى كاظم الحسيني (الأب الروحي للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك)، الذي أصيب إصابة بالغة بطلقات نارية من العسكر البريطانيين أفضت إلى استشهاده في العام التالي في القدس. وقد دُفن في المدرسة الخاتونية في باب الحديد غرب الحرم القدسي الشريف، حيث دفن فيما بعد بجواره ابنه الشهيد البطل عبد القادر الحسيني في إثر إصابته البليغة في معركة القسطل عام 1948.
شغر منصب الزعامة الرمزية للحركة الوطنية الفلسطينية باستشهاد موسى كاظم الحسيني، فتنادى المناضلون بعموم فلسطين ومنهم كامل الدجاني لتأسيس الحزب العربي الفلسطيني على أساس ميثاق وطني يجمع عليه الفلسطينيون وترتكز على الميثاق أركان دستور للوطن الغالي بعد تحريره من الاستعمار البريطاني تتم كتابته. وفي منتصف 1935 وجه الحزب الدعوة للشعب إلى التمرد والاضراب العام على الاحتلال البريطاني ومقاومته مباشرة. لبت البلاد النداء، فقامت تظاهرات صاخبة من أقصاها إلى أقصاها. وفي العام نفسه استشهد البطل عز الدين القسام، الذي مثّل مع عصبته القسّامية لحظة فارقة في النضال الوطني الفلسطيني والعربي والأممي بوجه عام. وتكمن أهمية هذا القائد الفذ أنه كان قد واجه الاستعمار الفرنسي في موطنه سورية ثم البريطاني – الصهيوني المزدوج في فلسطين والاحتلال الإيطالي في ليبيا مع القائد الشهيد عمر المختار ثم أسهم في دعم ثورة الريف بالمغرب بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي ضد المستعمرين الإسبان.
في عام 1936، ترأس كامل الدجاني «منظمة الفتوة» التي أسسها الحزب العربي الفلسطيني. وكان إعلان الجهاد المقدس في نيسان/أبريل 1936 حيث ساد الكفاح المسلح الساحة الفلسطينية. وأسهم المناضلون في تحويل الانتفاضة الفلسطينية تلك إلى ثورة شعب شاملة كانت إحدى أعظم الثورات الوطنية المسلحة التي شهدها العالم الخاضع للاستعمار قبل الحرب العالمية الثانية، واستمرت ثلاث سنوات حتى اندلاع تلك الحرب. تكرست خلال الثورة قيادة الحاج أمين الحسيني من خلال الحزب العربي الفلسطيني. وأُعدم الجواسيس وسماسرة الأراضي. فكان نفي كامل الدجاني إلى بيروت عام 1937 مع مناضلين من حلقة الحاج أمين الحسيني الضيقة. فوضعوا كتابًا مصورًا بعنوان النار والدمار في فلسطين. وبعدما اندلعت الحرب العالمية الثانية خيَّرته سلطات الاحتلال الفرنسية في لبنان بين أن يتم اعتقاله بسجن تدمر في سورية أو أن يعود إلى فلسطين، فآثر العودة مقاومًا ومتخفيًا عن أنظار الاحتلال البريطاني حتى النكبة.
ثالثًا: تهجيره وأسرته إلى لبنان
في عام 1948، هُجّرَ كامل الدجاني ابتداء إلى الزرقاء في الأردن ثم انتقل وأسرته بعدها إلى لبنان، حيث اعتزل السياسة وتفرغ للعلم ولتربية أبنائه وبناته الثماني والإشراف على تعليمهم. قصده عدد من الباحثين المعنيين بدراسة تاريخ فلسطين لمجالسته مجالسة منتظمة لسنوات لاستنقاذ الذاكرة الوطنية الفلسطينية ولا سيَّما في ضوء الانقطاع الذي حصل نتيجة الاحتلال والتشريد بعد النكبة. وكان من ثمار جهود هؤلاء الباحثين (ومنهم المؤرخِ والمفكر وليد الخالدي) تأسيس مركز الدراسات الفلسطينية في لبنان الذي اعتنى بالهوية الفلسطينية والذاكرة الجمعية والنتاج الأدبي الفلسطيني وأضحى منارة بحثية علمية وأكاديمية.
عقب الهجرة ببضع سنين، وضع كامل الدجاني ديوانًا أسماه في غمرة النكبة. يضم الديوان عددًا من القصائد وبعضها يعكس حالة الوجدان الفلسطيني في إثر النكبة، ومعظمها يَلُفُّها الحنين والتوق والشوق لفلسطين.
كان أزهريًا عروبيًا وحدويًا كما يظهر في شعره. ففي قصيدة خطّها في يافا في شباط/فبراير 1924 يناجي الدجاني فيها علم العروبة يقول:
يا أيّها العلم النائي بطلعته
وظلّه في شِغافِ القلبِ مُرتسمُ
قلوبنا لو تراها اليوم خافقةٌ
تحوم حولك، فاخفِقْ أيّها العلمُ
متى تَراك رَوابينا تُظلّلنا
يسير خلفك منّا جحفلٌ عَرِمُ؟
متى نراك على الأردنّ مُرتفعاً
تضمُّ في عدوتيه إخوةً قُسّموا؟
متى نراك على حرمون مُرتكزاً
يأوي إليك هناك البأسُ والشممُ؟
متى نراك على النهرين مُستوياً
يرعاك في الواديين العزمُ والهممُ؟
متى تضمُّ شتات العربِ تربطها
بِعُروةٍ منك وثقَى ليس تنفصمُ؟
كان مفهوم النكبة مفهومًا حاكمًا لتصور شعب فلسطين لاحتلال الأرض المباركة على يد الحركة الصهيونية بتمكين بريطاني غربي ودعم أمريكي لاحقًا طوال أكثر من سبعين سنة. وبرزت صور للإنتاج الأدبي عرفت باسم أدب النكبة. اتسم هذا الأدب بالحنين والشوق للدار والأرض المباركة. وفي ذلك نرصد بعض القواسم المشتركة بين أدب البكاء على الأطلال في عصر الجاهلية، وأدب الرثاء خلال العصور اللاحقة، وأدب الشجن والحزن على ضياع الأندلس، وأدب السكان الأصليين في الأمريكتين المعبر عن الحزن على ما تعرضوا له من إبادة على يد المهاجرين الأوروبيين.
في قصيدة له بعنوان أيها الشعب يقول:
أيها الشعب لك الله شريدًا وشهيدا
تتلظى ألمًا قد طَفَحَ الجرحُ صديدا
صابرًا تحتمل السهمَ على السهم جليدا
أطلق بعض الباحثين والمفكرين من الجيل الثالث بعد الهجرة ما يشبه الدعوة إلى مراجعة مفهوم النكبة وآدابها وما انطوت عليه من حنين. على المستوى الشخصي، أرى أن الشوق والتعبير عن الحنين لا يتناقض مع الإصرار على التحرير وما يستلزمه من تفاؤل ومن ثقة في المستقبل. ولعلّنا نستحضر كيف أن سيدَنا رسول الله ﷺ قد سمى العام الذي فقد فيه السيدة خديجة رضي الله عنها وعمّه أبا طالب «عام الحزن». لكن ذلك لم يضعف عزيمته وإنما ارتفع في الأعوام التي تلت المؤشر البياني للدعوة وبزغ بعدها فجر الإسلام العظيم.
بالنسبة إلى قصائد كامل الدجاني، فقد نقل لنا في شعره المقفَّى والموزون مدى التوق والشوق اللذين عكستهما قصائده ومدى التصاق أجيال تلك المرحلة بوطنهم. كما جعلتنا نشعر بجسامة لحظة احتلال الوطن نفسها، وصعوبة لحظة الإخراج من الديار والتشريد، تفريط بعض القيادات العربية وخيانة قوى الهيمنة في المجتمع الدولي. إن الأجيال اللاحقة لم تعش تلك اللحظة الفارقة في التاريخ غير أنها تستحضرها عن طريق ما ينقل عن السطور وما يتم تداوله شفاهة من الصدور. وإن التعبير عن الشوق والحنين لا يعني الانكسار، ولا يعني الاستسلام ولا بحال.
في ديوانه في غمرة النكبة، يقترن تعبير كامل الدجاني عن الوحشة والغربة بعيدًا من فلسطين بالتعبير عن العزم على التحرير والثقة في تحققه. يقول في قصيدة بعنوان «لا بد» نظمها عام 1961:
بإرادة القدر الذي
يمضِي وليس لهُ مَرَدُّ
وبقوة الحق الذي
يَعنُو لهُ البَغْيُ الأَلَدُّ
وفداءِ شعبٍ أخلصتهُ
شدائدٌ وأبٌ وجدُّ
وبجهادِ جيلٍ تِلوَ جيلٍ
لا يَلينُ ولا يَصُدُّ
لا بد من إجلاءِ إسرائـ
يل ما من ذاك بُدُّ
لقد برز قبل النكبة بعقود وبعدها مفهوم أدب وشعر الجهاد، ثم أدب الفداء والمواجهة، حتى تحرير كامل تراب فلسطين من الماء إلى الماء ومن الأرض إلى السماء. وكان المرحوم الثائر والشاعر والخطيب المفوَّه كامل الدجاني معبّرًا عن هذا كله بشعره الثر ومقالاته الوطنية والفكرية ومشاركاته بالمبادرات المقاومة منذ يفاعته، رحمه الله وأسكنه الجنة في أعلى علّيّين لما قدّم إلى شعبه ووطنه.
اقرؤوا أيضاً المشروع الصهيوني: قرن جديد من الصراع
قد يهمكم أيضاً سليم حيدر “الشاعر الفيلسوف” في ملحمة “الخليقة”
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #كامل_توفيق_الدجاني #أدب #النكبة #أدب_النكبة #النضال_الوطني #الكفاح_المسلح #فلسطين_المحتلة
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 503 في كانون الثاني/يناير 2021.
(**) الطيب أحمد صدقي الدجاني: عضو اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
[1] «اللجنة العربية العليا،» معرفة، <https://bit.ly/3nkLp1u>.
[2] «الهيئة العربية العليا لفلسطين،» الموسوعة الفلسطينية، 8 آب/أغسطس 2016، <https://bit.ly/3gR3e5Z>.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.