مقدمة:

أقامت العولمة جسوراً من التواصل والاتصال بين الأمم والشعوب المختلفة لم تكن موجودة من قبل. ساعد ذلك على فتح آفاق للتعارف وللمعرفة لم يكن الوصول إليها بمثل السهولة التي هي عليها الآن. ومن خلال ذلك تولّد شعور عام بأن الشعوب والأمم تعرف الآن عن ثقافات وأدبيات بعضها كما لم تكن تعرف من قبل.

تقول القاعدة العامة إن المعرفة الصحيحة تؤدي إلى التعارف الصحيح. فالتعارف ـ أي تبادل المعرفة بين الناس ـ ينطلق أساساً من الاعتراف بالاختلاف والتباين بين الناس، كما ينطلق من التعامل مع هذه الحقائق التكوينية في الذات الإنسانية على أنها ظاهرة طبيعية، وعلى أنها تعبير عن إرادة إلهية في أن يكون الناس مختلفين. فاختلاف الألسن والألوان ـ أي الاختلاف في اللغات والأجناس ـ آية من آيات الله البيِّنات. ثم إن التعارف الذي يؤسس للاحترام المتبادل على قاعدة هذه الاختلافات والتباينات، لا على قاعدة إلغائها أو حتى تجاوزها وتجاهلها، هو أيضاً استجابة للدعوة الإلهية.

إن التنوع الحضاري على مستوى الإنسانية، والتعدد الثقافي على مستوى المجتمعات الوطنية، يحتِّمان تبادل الاحترام، وهذا لا يكون إلا بتبادل المعرفة، ذلك أن الجهل بالآخر يزرع الشك وعدم الثقة ويؤسس بالتالي للبغضاء والكراهية.

في الأساس لا تكون الوحدة إلا مع الآخر. والآخر لا يكون إلا مختلفاً. وإلا فإنه لا يكون آخر. هذا يعني أن المحافظة على الوحدة تتطلب المحافظة على الآخر، وأن استمرارها هو استمرار له. وهذا يعني، بدوره، أن الوحدة يجب أن لا تؤدي بل يجب أن لا تعني أساساً محاولة إلغاء الآخر أو تذويبه، وإلا تصبح وحدة مع الذات. فما من وحدة قامت واستمرت وازدهرت إلا وفيها تماهٍ بالآخر. وما من وحدة تهاوت وتفتت إلا نتيجة امتهان حق الآخر المكوّن لها في أن يكون نفسه، أي في أن يكون آخر.

يتحدث فرويد عن نرجسية الاختلاف ويقول إنه «مهما كان الاختلاف محدوداً فإنه يحتل موقع القلب في هوية كل منا».

أرسى الإسلام ثلاث قواعد أساسية تقوم عليها الوحدة في التنوع:

القاعدة الأولى هي الوحدة الإنسانية. بمعنى أن الناس جميعاً يشكلون أمة واحدة خلقها الله من نفس واحدة. ولقد قال القرآن الكريم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ﴾[1].

القاعدة الثانية هي التنوع الإنساني حيث تتابع الآية الكريمة ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ﴾[2]. أي أن هذا التنوع جُعل بإرادة إلهية، وأن وجوده هو تجسيد لهذه الإرادة الإلهية وتعبير عنها.

القاعدة الثالثة هي أن الهدف من هذا التنوع هو التعارف بين الناس تحقيقاً لوحدة تحفظ التنوع وتحترمه وتصونه. حيث تكتمل الآية القرآنية بتحديد الحكمة من التنوع بقولها ﴿لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾[3].

فالتعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة. ولكن لا تعارف من دون معرفة. ذلك أن التعارف يقوم أساساً على المعرفة. ويفترض بالآخر أن يكون مختلفاً حتى نتعرف إليه. ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى يتعرف إلينا. ومن دون هذا الاختلاف ما كانت هناك حاجة إلى المعرفة، وما كان للتعارف أساساً أن يكون. من هنا فإن الدعوة القرآنية للناس ليتعارفوا هي في حد ذاتها دعوة لهم للتعرف إلى ما بينهم من اختلافات وللاعتراف بهذه الاختلافات، ولإدراك حتمية استمرارها، ولبناء مجتمع إنساني واحد ومتناغم على قاعدة معرفة المختلفين وتعارفهم.

كثيرة هي الإشارات إلى الاختلاف والتنوع التي وردت في القرآن الكريم، أذكر منها:

﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾[4]. و﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[5]. و﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾[6].

لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يكون الناس رغم وحدة الخالق، ووحدة الخلق، أمماً وشعوباً مختلفة. فالوحدة الإنسانية تقوم على الاختلاف والتنوع لا على التماثل والتطابق. ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾[7]. وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأسرة الإنسانية الواحدة، يحتِّم احترام الآخر كما هو وعلى الصورة التي خلقه الله عليها.

إذا كان احترام الآخر كما هو، لوناً ولساناً (أي إثنياً وثقافياً)، يشكل قاعدة ثابتة من قواعد السلوك الديني في الإسلام، فإن احترامه كما هو، عقيدة وإيماناً، هو إقرار بمبدأ تعدد الشرائع السماوية واحترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقواعد عدم الإكراه في الدين. فالقرآن الكريم يقول ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾[8]. وفي إشارة واضحة إلى تعدد التوجهات، يقول أيضاً ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾[9]. و﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾[10]. و﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[11].

معنى ذلك، أنه مع اختلاف الألسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[12]. فالاختلاف الثقافي والعرقي والديني والمذهبي باقٍ حتى قيام الساعة، والحكم فيه يومئذ لله. والتعامل مع بقائه لا يكون بإلغائه ولا بتجاهله، بل بالتعرف إليه وتقبّله واحترامه كسنّة دائمة من سنن الكون.

لا يتناقض الاختلاف مع الوحدة الإنسانية، فالعلاقة التكاملية بين الوحدة والاختلاف تبرز من خلال المبادئ الثلاثة التالية التي قال بها القرآن الكريم:

المبدأ الأول، هو التداول: ﴿وَتِلْكَ الْأيــّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾[13]، إذ لو كان الناس كلهم شعباً واحداً أو إثنية واحدة أو على عقيدة واحدة وفكر واحد، لما كانت هناك حاجة للتداول. ولأنهم مختلفون، ولأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكونوا مختلفين، كان لا بد من التداول. والتداول يعني تواصل الإنسانية واستمرارها بما هو مناقض لمقولة نهاية التاريخ. فالتداول حياة، والنهاية موات.

المبدأ الثاني، هو التدافع: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأرْضُ﴾[14]. فالتدافع ـ وليس التحارب ولا التصادم ـ هو تنافس ارتقائي وتطويري للمجتمعات الإنسانية المختلفة. ذلك أن المجتمعات هي كالمياه، إذا ركدت اسنت، وإذا تحركت وتدافعت أمواجها، تعانقت مع حركة الضوء والريح، الأمر الذي يوفر لها عناصر الحياة والانتعاش والنمو والتقدم. فمن دون الاحتكاك الفكري والتلاقح الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس المختلفين والمتنوعي الثقافات، يفقد الذهن عطشه إلى المعرفة التي هي عود الثقاب الذي يلهبه. إن الاختلاف بين الناس وما يشكل الاختلاف من تدافع هو أحد أهم مستلزمات عدم فساد الأرض.

المبدأ الثالث، هو التغاير: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾[15]. ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ﴾[16]. ﴿كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ﴾[17].

فالتغاير والاختلاف هو القاعدة، وهي قاعدة عصية على التجاوز، تشكل الثابت الدائم في المجتمعات الإنسانية منذ بدء الخلق وحتى نهاية الزمن. لذلك أرسى الله قاعدة التعارف المكمِّلة لقاعدة الاختلاف والتغاير. وتشكل القاعدتان معاً الأساس الذي تقوم عليه الأخوّة الإنسانية التي لا سلام ولا استقرار من دونها. لقد قال الإسلام بالتعارف بين الجماعات البشرية ولم يقل بالتسامح. كان نيتشه على حق عندما اعتبر «التسامح إهانة للآخر» لما يتضمنه من فوقية المتسامِح تجاه المتسامَح معه.

إن علاقة الإسلام بالرسالات السماوية التوحيدية ليست علاقة تسامحية ولكنها علاقة إيمانية. ذلك أن إيمان المسلم لا يكتمل إلا بالإيمان بالمسيحية وباليهودية رسالتين مُنزلتين من عند الله. ففي القرآن الكريم نصٌّ واضح بذلك ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[18].

وشتّان بين العلاقة القائمة على الإيمان، وتلك القائمة على التسامح. فالعلاقة الأولى ندية تقوم على الاعتراف بالحق واحترام الاختلاف، بينما الثانية فوقية، تقوم على إنكار الحق والاستعلاء على المختلَف معه، إذ إن من شأن التعصب للدين أو للمذهب أو للجماعة أن يقيم جزراً من التنوع المتباعدة والجاهلة للآخر، وبالتالي المتشككة فيه والمستنفرة دائماً لمواجهته. وهذا تنوع خارج إطار الوحدة. بل رافض لها. أما التعارف فإنه على العكس من ذلك يقيم وحدة في إطار التنوع، تعرف الآخر وتعترف به، وتبادله الاحترام والثقة والمحبة، وهذه وحدة في إطار التنوع.

سلبيتان لا تصنعان إيجابية «وحدة تعسفية تطمس التنوع/وتعددية مطلقة ومتفلتة تأبى الوحدة».

إن التعارف من حيث إنه يقوم على المعرفة، هو إحدى أسمى هبات الله للإنسان، والأساس الذي تقوم عليه أخوة إنسانية تغتني بالاختلاف وتحترمه وتجعل منه قاعدة للائتلاف والتوافق وليس للخلاف والتنابذ.

تميزت إطلالة القرن الحادي والعشرين بثلاث ظواهر:

الظاهرة الأولى: هي سقوط الاتحاد السوفياتي وتمزّقه إلى عدة دول. ثم تمزق الاتحاد اليوغسلافي وتشيكوسلوفاكيا. ومع قيام سلسلة الدول الجديدة أعيد طرح الأسئلة حول موضوع المواطَنة، التي سبق أن طرحت بعد سقوط الإمبراطورية النمسوية ـ الهنغارية، ثم الإمبراطورية العثمانية، ولكن برؤى جديدة وفي ضوء تجارب طويلة وغنية. هذه الأسئلة: هل أن المواطنة هي حق الدم، أم حق الأرض، أم هي الانتماء الديني، أم الانتماء المذهبي، أم التوافق الاجتماعي؟

الظاهرة الثانية التي تمثلت بها إطلالة القرن الجديد هي قيام الاتحاد الأوروبي. لقد تجاوز الاتحاد مفهوم المواطنة التقليدي الذي تبلور بعد الثورة الفرنسية في عام 1789 وأعطى مفهوماً جديداً لها يتعدى القومية (الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية… إلخ). فالمواطَنة الأوروبية اليوم أصبحت، أو هي في طريقها لأن تصبح، مواطَنة عابرة للقوميات. يكرِّس ذلك العملة الموحّدة، والعلم الموحّد والسوق الواحدة، كما يكرسه فتح الحدود ورفع الحواجز وإلغاء الرسوم الجمركية.

وكما أن الولاء ولاءات تتكامل ولا تتناقض في الجوهر، كذلك فإن المواطَنة مواطنات تتمتع بمواصفات التكامل وعدم التناقض ذاتها. هذه المواطَنات هي: المواطَنة في إطار الدولة الواحدة التي تحددها الحقوق والواجبات المتساوية، والمواطَنة في إطار الثقافة الواحدة التي تحددها اللغة والموروث الحضاري المشترك، والمواطَنة في إطار العالم الواحد التي تحددها المواثيق والقوانين الدولية.

الظاهرة الثالثة هي طيّ صفحة الاستعمار المباشر وما خلّفه وراءه من حدود سياسية راعت مصالح المستعمِر على حساب مقومات الهوية الوطنية، إذ إن هذه الحدود شتَّتت قبائل وقسمت إثنيات وباعدت بين مؤمنين بعقيدة واحدة يتكلمون لغة واحدة أو ينتمون إلى ثقافة واحدة، وحتى إلى عنصر واحد، من آسيا الهند وباكستان وبنغلادش إلى شرق ووسط وغرب أفريقيا، مروراً بالشرق الأوسط، وقبرص.

إن وحدة الجنس أو اللون أو اللغة ليست ضرورة حتمية لا يتحقق التفاهم بدونها، ولا يكون التعايش إلا على أساسها. لذلك لا بدَّ، من أجل إقامة علاقات مبنية على المحبة والاحترام في المجتمعات المتعددة، من الحوار على قاعدة قبول واحترام هذه الاختلافات التي خلقها الله، وأرادها أن تكون، والتي يتكشّف للعلم أنها موجودة حتى في الجينات الوراثية الفردية التي تشكّل شخصية كل منّا وتمايزاتها.

في ضوء هذه المبادئ العامة، ليس صحيحاً أن الدول لا تقوم إلا على هوية واحدة. هناك دول انهارت مثل هايتي، أو تقسّمت مثل كوريا رغم وحدة الهوية واللغة والجنس. وهناك دول قامت وازدهرت رغم تعدد هوياتها، كالولايات المتحدة والهند والاتحاد الروسي مثلاً. فالإسبانية كلغة وكلسان ثقافي بدأت تنافس الإنكليزية في معظم الولايات الأمريكية.

ولقد منحت مقاطعة كيبك في كندا حق استخدام «وسائل قسرية رسمية» لمنع سيطرة اللغة الإنكليزية في المقاطعة على حساب اللغة الفرنسية التي تعتبرها لغتها الأم. كما توحّدت إيطاليا في عام 1861 وتوحّدت ألمانيا في عام 1871 على أساس وحدة الثقافة والدم. وانهارت الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية في عام 1918 على أساس عدم استيعاب تعدد الثقافات والإثنيات في صيغة تجمع بين مكوِّناتها المتعددة في ظل شرعة دستورية واحدة في وطن واحد. وهو ما حلّ بالإمبراطورية العثمانية كذلك رغم كل المحاولات التي قامت بها لتجنّب هذا المصير.

لم تقم الدول التي انبثقت من انهيار الإمبراطوريتين التاريخيتين على أساس هوياتها العرقية أو الدينية المحددة، بقدر ما قامت على أساس تقاسم النفوذ بين ورثة الإمبراطوريتين، سواء كان ذلك في البلقان، أو في الشرق الأوسط، أو في أفريقيا حيث رسمت حدود الدول وحددت هوياتها الوطنية من دون أي حساب لانتماءات سكانها أو خياراتهم. وربما تعود الانفجارات السياسية التي تشهدها القارة السمراء بين وقت وآخر، والتي تصاحبها مجازر جماعية، إلى هذا الأمر. وتشهد على ذلك أحداث الكونغو، ورواندا التي تسببت في مقتل أكثر من مليون إنسان في أشهر معدودات!

وفي العالم الإسلامي، وقبل انتهاء نظام الخلافة الإسلامية في عام 1924، أصدر السلطان عبد الحميد في عام 1856 ما يعرف بالخط الهمايوني. وقبل ذلك كان صدر خط شريف كلخانة في عام 1839 والخطّان يقرران مبدأ المواطنة لجميع رعايا الإمبراطورية العثمانية على اختلاف مِللهم. ثم إن الخديوي محمد سعيد أصدر في مصر أمراً بإلغاء الجزية عن أهل الذمة في عام 1855. وحسم الأمر نهائياً الدستور العثماني الصادر في عام 1876 إذ أسقط عبارة أهل الذمة وقال بالمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.

ـ كان هناك نظام تعددي في بريطانيا الإنكليكانية يتعلق بالإيرلنديين الكاثوليك (1850 ـ 1921).

ـ وكان هناك نظام تعددي في كل من النرويج والسويد يتعلق بالأقليات الإثنية (1850 ـ 1940).

ـ وكان هناك نظام تعددي في فنلندا تحت الاحتلال الروسي (1850 ـ 1917).

ـ ولا يزال النظام التعددي ـ اللغوي مستمراً منذ عام 1940 حتى اليوم في بلجيكا.

ـ وعرفت بروسيا نظاماً تعددياً عنصرياً يتعلق بالأقليات (1860 ـ 1914).

ـ وعرفت بولندا أنظمة مماثلة في ظل كل من الاحتلالات النمساوية والروسية والألمانية (1850 ـ 1918)، ثم وضعت نظاماً خاصاً بالأقليات فيها (1918 ـ 1939).

ـ وتمتعت المدارس الألمانية في تشيكوسلوفاكيا بنظام خاص (1918 ـ 1938).

ـ واعتمدت إيطاليا نظاماً طائفياً للأقليات فيها (1860 ـ 1940).

ـ كما اعتمدت إسبانيا نظاماً مماثلاً (1850 ـ 1940).

ـ وكذلك البوسنة (1850 ـ 1918). وهي تعيش اليوم أيضاً نظاماً طائفياً يتوزع الرئاسات والصلاحيات بين المسلمين البوسنيين والأرثوذكس الصرب، والكاثوليك الكروات (اتفاق دايتون)[19].

إن الجامع المشترك بين كل هذه التجارب هو أنها لم تعتمد المحاصصة في إدارة الدولة. ولو أنها فعلت ذلك لما كانت هذه الدول والمجتمعات على الصورة التي هي عليها الآن والتي فتحت أمامها آفاق الاتحاد الأوروبي. من هنا يفرض السؤال التالي نفسه:

هل الوحدة الوطنية تحقق السلم الأهلي أم أن السلم الأهلي هو الذي يحقق الوحدة الوطنية؟ أيهما سابق للآخر، وأيهما قائم على الآخر أو مسبِّب له؟

من الطبيعي أن أي وحدة وطنية لا يمكن أن تصمد إذا تصدع السلم الأهلي. ولكن ما هي العوامل التي تؤدي إلى تصدّع السلم الأهلي؟ أليس تجاوز الأسس التي تقوم عليها الوحدة الوطنية وتوجيه الطعنات إلى قيمها ومبادئها وأسسها على النحو الذي نراه اليوم؟ إن الوحدة الوطنية والسلم الأهلي وجهان لعملة واحدة، لا يكون أحدهما من دون الآخر.

ونحن لا نستطيع أن نمزق وجهاً ونحافظ على الوجه الآخر. بمعنى أن أي عمل أو موقف أو قول يسيء إلى الوحدة الوطنية يعرِّض السلم الأهلي للخطر، وعلى العكس. فالسلم الأهلي لا يهتز ولا يتداعى إلا إذا فشلت الوحدة الوطنية في حمايته وفي تثبيت أركانه. ولكن عندما نتحدث عن الوحدة الوطنية في وطن متعدد الأديان أو المذاهب أو القوميات، فماذا نعني؟

أولاً: لا نعني الانصهار. فالناس ليسوا معادن قابلة للتذويب. الناس جماعات من البشر. ولكل جماعة خصائصها الذاتية ثقافياً وتربوياً ودينياً ومذهبياً. بل إن لها نرجسياتها التي مهما كانت صغيرة أو قليلة فإنها تجعل منها أساساً في هويتها وفي شخصيتها. هذا يعني أن الوحدة الوطنية لا تعني إزالة الاختلافات ولا حتى تجاوزها، ولكنها تعني الاعتراف بالاختلافات واحترامها. والاعتراف لا يعني أن لها حصة في الدولة، وإلا فإن مؤسسات الدولة تصبح موزعة إلى حصص تتناتشها الجماعات المتعددة المكوِّنة لها. ولا شك في أن أسوأ أو أخطر ما في نظام المحاصصة هو إعطاء الأولوية في مواقع الدولة ومؤسساتها للمنتمين إلى هذه الطائفة أو الجماعة أو تلك، على حساب الكفاءة. و لم يستطع لبنان، الذي اعتمد منذ عهد الانتداب الفرنسي في عام 1920 هذا النظام، التخلص منه رغم الأثمان المرتفعة التي دفعها ولا يزال. ولقد نص الدستور اللبناني على أن هذا النظام مؤقت، إلا أن المصالح التي تحققها القوى السياسية التي تستثمر نظام المحاصصة أبقت عليه رغم ضرره وسيئاته، ورغم معرفتها بضرره وسيئاته، ورغم اعترافها بذلك أيضاً. ومع ذلك حالت دون التخلص منه، لأنها آثرت مصلحتها في المحاصصة على المصلحة الجماعية المشتركة.

وفي المجتمع المتعدد، فإن الرضى الذي ينعكس سلماً أهلياً يقوم على إدراك حقيقة جامعة هي أن أي مكوِّن من مكونات الوحدة الوطنية لا يستطيع أن يفرض مصالحه وتصوراته على المكونات الأخرى بالقوة. كذلك لا يستطيع أيٌّ من هذه المكونات التفرد بالانسحاب من العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الوحدة الوطنية ووحدة الدولة.

ولنا من تجارب الآخرين الكثير من الدروس والعبر. بل إن لنا من تجاربنا العربية الذاتية ما يغنينا حتى عن تجارب الآخرين. فنحن لا نفتقر إلى التجارب. ولكننا نفتقر إلى استخلاص الدروس والعبر منها. ولأننا لا نفعل ذلك، نرتكب الخطأ ذاته مثنى وثلاث ورباع… وفي كل مرة بذريعة مختلفة. إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا لدى الشعوب المتخلفة التي لا تتعلم من التاريخ، بل لا تتعلم إلا في التاريخ.

فنحن لم نتعلم من إخفاقاتنا وهي كثيرة، ولا حتى من نجاحاتنا وهي قليلة. نرتكب الخطأ بعيون مفتوحة، وأحياناً عن سابق تصور وتصميم. وإذا نجحنا، فبالمصادفة، وغالباً من دون استعداد. لذلك لا نحسن التعامل مع النجاح ولا نحسن توظيفه واستثماره لأننا لا نوليه حق قدره. فيتآكل مع الوقت ويتلاشى، وكأنه لم يكن.

عندما نرهن وحدتنا الوطنية بلعبة الأمم أو بلعبة الصراعات الإقليمية وانتماءات ما وراء الحدود، فإننا نضع سلمنا الأهلي بأيدي اللاعبين الأمميين والخارجيين، وفي لعبة الأمم لا توجد حسابات للدماء والدموع. فالضحايا هي مجرد أرقام. والدمار يكون مجرد مشاهد مروِّعة على الشاشات وفي الصحف، لا تجد طريقها إلى الضمائر أو إلى غرف اتخاذ القرارات. إن هذه الغرف جاهزة فقط ودائماً لإعادة رسم خريطة هذه الدولة أو تلك. فلا وحدة وطنية تشكل عائقاً أمامها، ولا سلم أهلي تحسب لمخاطر تداعيات سقوطه. لم ينقرض مارك سايكس ولا جورج بيكو. قد تتغير الأسماء وتستمر المهمة. لذلك وحدهم أصحاب الوحدة الوطنية هم الذين يستطيعون حفظها. ووحدهم أهل السلم الأهلي هم الذين يستطيعون صيانته والمحافظة عليه.

إن كل مجتمع متعدد مفتوح دائماً على احتمالات الخلاف، لذلك فهو يحتاج إلى آلية وطنية مشتركة تعتمد أساساً لحل أي خلاف ولمعالجة أي سوء تفاهم، وذلك في إطار الدستور والقوانين والأعراف الوطنية. ويشكل الحوار أساس هذه الآلية والمرجع الصالح لقطع الطريق أمام أي لجوء إلى العنف أو إلى الاستقواء به في التعامل مع أي خلاف.

والقاعدة التحكيمية التي يحسن اعتمادها في إدارة مجتمع متعدد هي القاعدة الشافعية (الإمام الشافعي) التي تقول: «رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». إن أي مكوِّن من مكونات هذا المجتمع لا يملك حق احتكار الصواب في موقفه أو في رأيه، ولا يملك حق اختصار المصلحة العامة في مصلحته الخاصة.

من هنا أهمية ثقافة الانفتاح على الرأي المختلف واحترامه، وعلى تكامل المصالح واحترامها. ومن هنا أيضاً يكون المدخل السليم إلى ذلك هو الحوار من حيث هو البحث عن الحقيقة المشتركة وعن المصلحة المشتركة مع الآخر ومن خلاله. فلا يتخلى عن الحوار إلا من يعتقد أنه وحده على حق وأن الآخرين في ضلال. لذلك فإنه يذهب في دفاعه عمّا يعتقد أنه صواب إلى حد اللجوء إلى العنف لإثبات صحة ما ذهب إليه ليس بقوة المنطق، بل بمنطق القوة والعنف. وبالنتيجة، فإن الحوار الذي يقوم على أساس الاعتراف بالآخر وبحقه، يسقط أمام العنف الذي يقوم على أساس إنكار الآخر وانتهاك حقه.

ليست المشكلة في وجود اختلافات وتباينات في المجتمع المتعدد، ولكن المشكلة تكمن في عدم وجود ثقافة احترام الاختلاف والتعدد. وبسبب ذلك قد يلجأ طرف ما إلى شيطنة طرف آخر مختلف معه لتبرير مقاطعته ورفضه ولمحاولة إلغائه. ولكن حتى مع هذه الشيطنة، فإن الحوار، لا العنف، يبقى الوسيلة الأجدى والأنفع للخروج من المأزق إلى الانفراج والتفاهم. ففي ثقافتنا الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى لم يحاور الملائكة والأنبياء فقط، ولكنه حاور الشيطان أيضاً. ورغم تمرُّد الشيطان واستكباره، فإن الله لم يلغِه من الوجود ولم يعده إلى العدم وهو القادر على كل شيء، ولكنه استجاب إلى طلبه وأخّره إلى يوم البعث لحكمة إلهية هو أعلم بها. فالحوار ـ حتى مع الشيطان أو مع المشيطن ـ هو الوسيلة والأساس للتعامل مع الاختلافات. وكلما كانت هذه الاختلافات شديدة وعميقة تكون الحاجة إلى الحوار أكثر ضرورة وأشد أهمية. يحتاج كل مجتمع إلى قاعدة توافقية يحتكم إليها. ويحتاج المجتمع المتعدد إلى مثل هذه القاعدة أكثر من غيره. وإذا لم تكن القاعدة هي الحوار، فإنها لن تكون سوى العنف.

احتكمت مجتمعات عديدة إلى قاعدة العنف وعملت دول عديدة بنظرية أن الحرب هي دبلوماسية بوسائل أخرى. ولكنها دفعت ثمن هذه الدبلوماسية (بالوسائل الأخرى) خراباً ودماراً ومئات الملايين من القتلى، سواء في حروب أهلية أو في حروب بينية. ولقد فتحت هذه الصراعات الأبواب أمام التدخلات الخارجية على النحو الذي عرفناه في السودان وأدى إلى تقسيمه، وعلى النحو الذي عرفناه في العراق وأدى إلى احتلاله، وعلى النحو الذي عرفناه في لبنان وأدى إلى تدميره، وعلى النحو الذي تتعرف إليه الآن سورية وأدى إلى تخريبها.

خاتمة

في كتابه الشهير المحمول أو القاموس الفلسفي المحمول، يروي فولتير الحوار التالي بين شخصيتين من الشخصيات التي ابتدعها:

يسأل الأول: ما هي أفضل دولة أو ما هي الدولة الأمثل في العالم؟

يردّ الثاني: إنها الدولة التي لا يخضع فيها أحد إلا للقانون.

غير أن القانون ليس مجرد قصاصات من ورق. إنه كائن حي، له روح. فعندما ينتهَك، أو عندما يُساء استخدامه أو تُلوى ذراعه، فإنه يفقد صدقيته ويخسر قوته وتتلاشى قيمته. وأي دولة يفقد قانونها أياً من هذه القيم، لا يمكن أن تكون دولة فاضلة؛ بل لا يمكن أن تكون دولة.

عرفت أوروبا مفهوم الدولة الوطنية في مؤتمر وستفاليا في القرن السابع عشر. ولم يأتِ هذا المفهوم الجديد من لا شيء، ولم يهبط عليها من السماء. كان ثمرة حرب الثلاثين عاماً التي فتكت بأوروبا بين الكاثوليكية والبروتستانتية، والتي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الأوروبيين. وبعد حربين عالميتين دمرت أوروبا مرتين، وأودت بحياة مئات الملايين من الضحايا، أدرك الأوروبيون أن الحريق في أي دولة (اجتياح ألمانيا النازية لبولندا) من شأنه أن يحرق كل القارة الأوروبية. كان هذا الإدراك المشترك الحافز وراء ولادة الاتحاد الأوروبي. وحتى بعد نشوب حرب البلقان في التسعينيات من القرن الماضي، أدركت أوروبا أن اندلاع النيران لا يقف عند حدود البلقان، فكان تدخلها العسكري (مع الولايات المتحدة) لكبح جماح الطموحات القومية الصربية وما أسفرت عنه من جرائم ضد الإنسانية، كان المسلمون ضحيتها.

لقد تعلمت أوروبا من دروسها التي دفعت ثمنها غالياً، من حرب الثلاثين عاماً التي انتهت بوستفاليا وبولادة الدولة الوطنية، مروراً بالحرب العالمية الثانية التي انتهت بقيام حلف شمال الأطلسي ثم الاتحاد الأوروبي، وانتهاءً بحرب البلقان التي انتهت بالدرس الأهم: أن الدولة الوطنية لا تكون مستودع مغانم توزع حصصاً على مكوناتها؛ والولاء لها لا يكون بحجم الحصص التي تقدمها والمغانم التي توفرها. إن الدولة الوطنية تطلب كما تعطي. وفي مقدمة ما تطلبه الولاء والإخلاص والالتزام بدستورها وبقوانينها، كما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير في عام 1764.

سلبيتان لا تصنعان إيجابية. السلبية الأولى هي محاولة تفكيك عرى الوحدة الوطنية في مجتمع متعدد بالقوة، والسلبية الثانية هي الاستقواء بالخارج لتحقيق هذه المحاولة. تتمثل الإيجابية المطلوبة باحترام التعدد حقوقاً وواجبات وبالتعامل مع مقومات الوحدة الوطنية على أساس أنها هدف دائم وسامٍ وليست مجرد أداة للمحاصصة يتغير الموقف منها مع صعود بورصة الأرباح والمكاسب أو هبوطها.

 

إقرؤوا أيضاً  العرب والتجدد الحضاري