مقدمة:

لا يزال إرث بلفور حاضراً في الذاكرة الجمعية العربية على الرغم من مرور 100 عام على صدوره، لأنه مثّل محطّة محورية في الصراع العربي – الصهيوني التاريخي في المنطقة، والذي لا يزال مستمراً ومتصاعداً، وكان قد تجسّد لاحقاً بقيام «دولة الأبرتايد» العنصرية في فلسطين كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني الإجلائي. ويمكن القول إن وعد بلفور كان «صفقة العصر» بين الإمبريالية والصهيونية، وهذه الصفقة لا تزال مفاعيلها قائمة إلى الآن، ولم تستنفد أغراضها، لأن الوعد لم يحقّق أهدافه على نحو كامل، إذ واجهته – وما زالت تواجهه – عقبات كبرى وتحدّيات جمّة ومقاومة عنيدة.

وإذا كان هناك احتلال ومعاناة طوال قرن من الزمان، فقد كانت هناك مقاومة واعتراض أيضاً، الأمر الذي تطلّب من جهة المنشأ والمصدر، الدعوة إلى تجديد وعد بلفور، مثلما هناك عمل في السرّ والعلن على إحياء اتفاقية سايكس – بيكو بطبعة جديدة. وتتجلّى تلك المحاولات بالسعي لتفتيت الدولة الوطنية وتشطيرها، وفي الوقت نفسه الاستمرار في تعهّد المانح للوعد بالتزام جديد، بإحياء ذكرى الوعد والاحتفال به على الرغم من المآسي والويلات التي لحقت بالشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية، وليس أدلَّ على ذلك من أن رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي كانت قد صرّحت أنها «فخورة» به وبالدور الذي أدّته بلادها في تأسيس دولة «إسرائيل».

أولاً: بلفور وسايكس – بيكو

لا يمكن الحديث عن الوعد من دون الحديث عن اتفاقية سايكس – بيكو السرّية بين بريطانيا وفرنسا (1916) التي قطّعت أوصال البلدان العربية واستهدفت المشروع الوحدوي العربي في بداياته الجنينية الأولى لبناء دولة عربية موحّدة. وهذه الأسباب كانت وراء كسر الحلم العربي في إحدى حلقاته المركزية، ونعني بها فلسطين لما تمثّله من ثقل حضاري وتاريخي ورمزية دينية عربية: مسيحية وإسلامية ويهودية، وخصوصاً بزرع كيان غريب في قلبه يشكّل حاجزاً بين قسمه الآسيوي وقسمه الأفريقي وبين مشرقه ومغربه، للحفاظ على مصالح الإمبريالية العالمية واستمرار وجودها في المنطقة، وإشغال شعوب المنطقة بحروب ونزاعات من شأنها إبعادها عن مهماتها الأساسية في التحرّر والاستقلال والوحدة والتنمية والتقدم والحياة المدنية الحرّة. وقد أصاب إدوارد سعيد، كبد الحقيقة حين قال: إن أكثر الأيام إيلاماً وإظلاماً في تاريخنا الفلسطيني والعربي هو يوم وعد بلفور، لأنه كان يدرك تداعياته وأبعاده على مستقبل المنطقة وارتباطه العضوي بالمشروع الصهيوني الذي تأسس وفقاً له.

ثانياً: أركان المشروع الصهيوني

اعتمد المشروع الصهيوني في فلسطين على ثلاثة أركان أساسية، أولها: الركن الأيديولوجي التاريخي الذي صيغ تحت عنوان «الوعد الإلهي التوراتي» بالعودة إلى نحو أربعة آلاف عام، حيث تقول الميثولوجيا اليهودية إن الرب «يهوا» منح أرضاً لنبيّه أبرام (إبراهيم)، وهذه الأرض هي «من النيل إلى الفرات» كما جاء في سفر التكوين.

وثانيها هو الركن الحقوقي، حيث استندت الصهيونية العالمية إلى وعد بلفور كمسوّغ أساسي لتأسيسها، وخصوصاً عندما دعّمت هذا الوعد بقرارين دوليين، إضافة إلى إعلان تأسيس دولة «إسرائيل» المستند إلى الوعد والقرارين الدوليين.

وتدور قصة الوعد حول رسالة لم تتجاوز 67 كلمة وجهها السِّير آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى اللورد روتشيلد، بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، يتعهّد فيها «بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين»، علماً بأن روتشيلد هو مواطن بريطاني.

أما القراران الدوليان فهما:

1 – قرار مؤتمر سان ريمو الصادر في 25 نيسان/أبريل 1920 القاضي بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، الذي صادق عليه مجلس عصبة الأمم في 24 تموز/يوليو 1922، وتضمّن نصّاً بتنفيذ وعد بلفور.

2 – قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية.

وكان إعلان تأسيس دولة «إسرائيل» في 15 أيار/مايو 1948 الذي حصل بعد يوم واحد من انسحاب القوات البريطانية من فلسطين قد نصّ في الفقرة الخامسة منه على ما يلي: «إن حق الشعب اليهودي في الانبعاث داخل وطنه الخاص قد اعترف به تصريح بلفور». وهكذا كان وعد بلفور بمنزلة الحلقة المركزية ليس في تأسيس «إسرائيل» فحسب، بل في رسم معالم منطقتنا طوال قرن من الزمان.

وثالثها: الركن السياسي والدولي، ويقوم على تحالف المشروع الصهيوني مع الإمبريالية والتناغم مع الأهداف الاستعمارية الغربية، بل التواؤم معها وخدمتها على نحو مباشر وغير مباشر، وخصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى، وتقديم خدمات سياسية وأمنية واستخبارية ومالية لها، بحيث صار المشروع الصهيوني جزءاً من المشروع الإمبريالي في المنطقة، بل الشريان الحيوي الذي تغذّى عليه لفصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا، لأن ما يجمعها هو السعي لتجزئة الأمة العربية ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بين البلدان العربية.

ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم، ولا سيّما بعد قيام «إسرائيل»، كان هناك انسجام وتنسيق بين المشروع الإمبريالي والمشروع الصهيوني، بحيث يكمّل أحدهما الآخر، وخصوصاً في مواجهة أي مشروع تحرّري وحدوي عربي. وكانت «إسرائيل» تحظى برعاية كاملة من الإمبريالية العالمية، وخصوصاً من بريطانيا وفرنسا في المرحلة الأولى، ثم بدأت الرعاية الأمريكية تتعاظم منذ أواسط الخمسينيات لتأمين تفوّق «إسرائيل» عسكرياً، إضافة إلى الدعم الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي، فضـلاً عن دعمها في الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية سياسياً وإعلامياً بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

ثالثاً: استعادة نقدية

حين نتوقّف اليوم، وبعد 100 عام على صدور وعد بلفور، يكون الهدف من ذلك هو إنعاش الذاكرة التاريخية لإدارة حوار نقدي ارتجاعي للماضي يشارك فيه الشباب، ولا سيّما الجامعي بحيويته وجدارته، والقصد من ذلك تنشيط الوعي بمخاطر تلك المحطّة التاريخية المستمرّة والتحدّيات الراهنة التي تواجه الأمة العربية.

لا نستهدف من النقد التفتيش في الدفاتر العتيقة، أو استذكار تفاصيل الدرس التاريخي وكأنه إحدى المحفوظات المدرسية، على أهمية الاستذكار، لأنه يتعلّق بالتاريخ العربي المعاصر؛ وليس الهدف «جلد الذات» أو «ندب الحظ» كل عام، بقدر ما نريد مصارحة ومصالحة مع الذات، ولا سيّما عندما نقوم بكشف نواقصنا وثغراتنا وتقصيراتنا وعيوبنا من جهة، وإضاءة نقاط قوتنا وتعزيز صمودنا وتجذير مقاومتنا وتدقيق مشروعنا النهضوي الحضاري بأركانه الأساسية لمواجهة المشروع الإمبريالي – الصهيوني من جهة أخرى.

على الرغم من مرور 100 عام فإن المشروع الصهيوني ووليده السياسي (الدولة العبرية) يكافح وينافح لإثبات شرعيته «اللاشرعية» بمقاربة قانونية أو غير قانونية، الأمر الذي يحتاج إلى محاججات قانونية وحقوقية سياسية ودبلوماسية وإعلامية عربية، وهي جوانب ربّما أهملناها في العقود المنصرمة، وأجدها من الأهمية بمكان بحيث لا تقل تأثيراتها وأهميتها عن الجوانب الأخرى، فوراء كل مسألة قانونية توجد إشكالية ومشكلة سياسية، وهكذا هي القضية الفلسطينية بامتياز، فمع الاستذكار، لا بدّ من نقد التجربة ومراجعتها وفحصها والتعلُّم من الدروس والعبر. ومن دون ذلك سنبقى ندور في حلقة مفرغة. ولعلّ قيمة أي تجربة، بما لها وما عليها، هو بنقدها، وفي ذلك الطريق القويم لتجاوز الأخطاء والثغرات.

رابعاً: رسالة شخصية

لم يكن وعد بلفور سوى رسالة شخصية موجهة من وزير خارجية إلى شخص عادي، وبأحسن الأحوال فهي ليست أكثر من تصريح سياسي لا ينطوي على أي إلزام قانوني، ولهذا فإنه لا يدخل في نطاق العلاقات الدولية التي تحكمها قواعد القانون الدولي.

كما أن الوعد ليس اتفاقية دولية ملزمة، لأنه ليس بين دولتين، وهو رسالة موجهة من طرف واحد حكومي إلى «مواطن»، فضـلاً عن عدم شرعية مضمونه، لأنه ألحق ضرراً بطرف ثالث، وهم أصحاب البلاد الأصليين الذين أسماهم «غير يهود»، علماً بأن اليهود خلال وقت إصدار الوعد كانوا يؤلفون أقلية ضئيلة، وكان المقصود بغير اليهود حسب الوعد «عرب فلسطين» الذين يؤلفون الأغلبية الساحقة من السكّان الذين تُنتهك حقوقهم، ولا سيّما حقهم في تقرير مصيرهم.

وإذا كانت الإشارة إلى الوعد قد أُدرجت في صكّ الانتداب، فالأمر لم يكن إلّا تعسّفاً واستغلالاً وافتئاتاً على قواعد القانون الدولي من جانب بريطانيا التي حاولت إعطاءه صبغة قانونية، إذْ ليس من حقها أو حق أي أحد إعطاء مثل هذا الوعد، وهو حسب تعبير الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر: «وعد من لا يملك لمن لا يستحق». وإذا كان الوعد باطـلاً، فإن الاستناد إليه باطل هو الآخر، فما أُنشئ على البطلان فهو باطل من الناحية القانونية، الأمر الذي ينعكس على مسؤولية الدولة المُنتدبة التي تصرّفت بحقوق شعب فلسطين وتجاوزت على المرحلة المحدّدة للانتداب خارج إرادة الشعب العربي الفلسطيني.

وكان قد سبق إصدار وعد بلفور عدة مراسلات، بينها ما تم مع حاييم وايزمن رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والحكومة البريطانية، وهي مراسلات تم بموجبها منح «الشركة القانونية اليهودية» سلطة تعطيها «الحق في الحصول على أملاك الدولة في فلسطين وعلى أرض ستؤول للتاج البريطاني»، مع «وعد» باستقدام سكان جدد (مهاجرين) ليسكنوا أرض فلسطين على قدر من العلم والمعرفة، كما نصّت إحدى الرسائل.

حصل ذلك حين كانت فلسطين لا تزال ضمن الدولة العثمانية، ولم تصبح تحت الاحتلال ثم تحت الانتداب البريطاني. وكان عدد من المراسلات والتصريحات قد صدر في وقت سابق، مثلما هي رسالة «بالميرستون» التي وجهها إلى السفير البريطاني لدى الدولة العثمانية، يطالبه بالعمل على توطين اليهود في فلسطين (1840)؛ وتصريحات دزرائيلي وهو الآخر رئيس أسبق لبريطانيا وزعيم حزب المحافظين، الذي لم يُخفِ أصله اليهودي ودفاعه عن فكرة توطين اليهود. كل ذلك استند إلى فكرة خاطئة وإلغائية تفترض أن فلسطين «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، وهي الفكرة التي حاول نشرها الرحالة البريطانيون وغيرهم منذ القرن التاسع عشر، حيث كانت التحضيرات تجري على قدم وساق لطرد الفلسطينيين وإحلال اليهود محلّهم.

خامساً: الاعتذار ومستحقاته

إذا كانت بريطانيا قد وقعت في مثل ذلك الخطأ التاريخي الذي بسببه تعرّض الشعب العربي الفلسطيني للتشريد والويلات والمآسي التي لا تزال مستمرة، فعليها هي قبل غيرها تصحيح مثل هذا الخطأ، وتعويض الشعب العربي الفلسطيني عمّا لحقه من غبن وأضرار طوال قرن من الزمان، وذلك بتمكينه من استعادة وطنه وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه وعاصمتها القدس الشريف، والعمل على عودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم مادياً ومعنوياً، وقبل أي شيء، وكمقدمة لذلك، الاعتذار من الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية.

وكان مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) حول العنصرية الذي انعقد في أواخر آب/أغسطس وأوائل أيلول/سبتمبر 2001، قد وضع فكرة الاعتذار عن أخطاء تاريخية في جدول أعماله، وخصوصاً أن كثيراً من دول القارة الأفريقية قد طالبت الدول الإمبريالية بالاعتذار عن مرحلة الاسترقاق والاستعمار، وقد استجابت دولة بلجيكا لذلك، وخصوصاً ما سبّبته لشعب الكونغو، كما استجابت فرنسا على نحو جزئي للاعتذار عن حقبة استعمارها للجزائر التي دامت 132 عاماً، وتتواصل حملات المطالبة بالاعتذار التركي للأرمن عما تعرضوا له من مجازر وحملات إبادة في العام 1915 وغيرها.

ولعلّ مثل هذا التطور الدولي إزاء «ثقافة الاعتذار» يستدعي استثمار فكرة مواجهة العنصرية لتشمل مواجهة الاستيطان، وكلاهما جريمتان دوليتان محرّمتان في إطار قواعد القانون الإنساني الدولي، وذلك بالضغط الدبلوماسي والدولي وبجميع الوسائل الممكنة لاعتذار الدول المسؤولة عن ارتكابات حصلت إزاء الغير، وتقف بريطانيا في المقدّمة من ذلك، وخصوصاً ما انكشف من رسالة تيودور هيرتزل مؤلف كتاب الدولة اليهودية الصادر عام 1896 والعرّاب الحقيقي لـ مؤتمر بازل (بال – سويسرا ) عام 1897، إلى سيسيل ردوس العنصري الاستعماري الذي خطط لقطع أفريقيا من الجنوب إلى الشمال ولكنه لم ينجح.

وبدلاً من اختيار الأسلوب الحضاري العصري والمتمدّن، لدولة ديمقراطية عريقة، بل من أكثر الدول الديمقراطية على صعيد تطورها الداخلي، لكن إرثها الاستعماري الخارجي لا يزال طاغياً بفعل تعتّق في النظرة الإمبريالية الاستعلائية، إلى درجة أنها تحسب نفسها أحياناً «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، فإذا بها بدلاً من قبول فكرة الاعتذار والعمل على تنفيذها انطلاقاً من اعتبارات إنسانية ومبدئية وقانونية، إذا بها تستمر وهي سادرة في غيّها و«تأخذها العزة بالإثم»، وهي لا تتشبث بموقفها فحسب، بل تصرّ عليه، ولا سيّما ما جاء على لسان رئيسة وزرائها تيريزا ماي من تصريح استفزازي جديد، لتؤكد استمرارها في ارتكاب الخطأ التاريخي، من دون أي اعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني ومشاعر ملايين العرب والمسلمين والعالم أجمع، الذي شهد فظاعة الجرائم الصهيونية على مدى قرن من الزمان وسياسات الإرهاب والعنصرية والاستيطان.

بهذا المعنى فإن ماي، سارت على نهج بلفور وسيسيل رودس، علماً بأن تماثيل هذا الأخير كانت قد أزيلت من جامعة أوكسفورد، وإذا بتصريحات ماي كأنها ردّ اعتبار له وللعنصرية ونهج الاستيطان وسياسات الإجلاء والتهجير (الترانسفير) اللاإنسانية التي كانت نهجاً ثابتاً لـ «إسرائيل» طوال نحو سبعة عقود من الزمان، وقبل ذلك كان المشروع الصهيوني يقوم على احتلال الأرض واحتلال العمل واحتلال السوق، وبالتالي تهيئة الظروف لإجلاء الفلسطينيين من ديارهم.

سادساً: حملة مضادة

لقد انطلقت حملة تطالب بريطانيا بالاعتذار، منذ عقد من الزمان (2007)، عن إصدار الوعد كخطوة أولى، بالترافق مع مطالبتها عمل كل ما من شأنه تعويض الشعب العربي الفلسطيني عمّا لحقه من غبن وأضرار طوال القرن الماضي، مادياً ومعنوياً، وبالتدخّل من موقعها كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي لإعادة الحق إلى أهله، وتصحيح الأوضاع طبقاً لقرارات دولية تأسيسية، منها القرار 181 لعام 1947 القاضي بقيام دولتين يهودية وعربية، والقرار 194 لعام 1948 في شأن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والقراران 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 القاضية بالانسحاب «الإسرائيلي» من الأراضي العربية المحتلة.

إن المقصود من الاعتذار ليس الجانب الأخلاقي والاعتباري وإنْ كان مهماً، بل الجانب المدني والقانوني، ولا سيّما لما يترتب عليه، وهذا يحتاج إلى جهد دبلوماسي دولي حقوقي وقانوني حكومي ومدني، حيث يمكن للمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني أن تؤدي دوراً فيه.

المهم هو الخطوة الأولية لدعم الحق الفلسطيني ويمكن متابعتها بالمطالبة بالتعويض المدني المادي، تمهيداً لخطوة أشمل بإقامة دعاوى جزائية ليس ضد المرتكبين الإسرائيليين فحسب، بل ضد الحكومة البريطانية، وخصوصاً بإعلانها الاحتفال بوعد بلفور الذي كان الخطوة الأولى في المشروع الصهيوني العنصري الاستيطاني، علماً بأن الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين لا تسقط بالتقادم، كما أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحروب التي شنتها «إسرائيل» إضافة إلى جريمة العدوان المتكرر، هي جرائم دولية تستحق العقاب طبقاً لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 (بروتوكولا جنيف حول حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة وحماية ضحايا المنازعات الدولية غير المسلحة)، إضافة إلى نظام محكمة روما لعام 1998 الذي دخل حيّز التنفيذ العام 2002، كما يمكن إقامة دعاوى في المحاكم المحلية لدى الدول التي تسمح قوانينها بالولاية الدولية.

وإذا كانت أفريقيا قد حصلت على اعتراف دولي بمذبحة شاربفيل، الذي اعتُبر يوماً عالمياً للتمييز العنصري يحتفل به العالم أجمع، فلنا أن ندعو إلى اعتبار يوم 2 تشرين الثاني/نوفمبر يوم مناهضة الاستيطان، استناداً إلى جرائم مستمرة: من مجزرة دير ياسين وكفر قاسم ومدرسة بحر البقر وجرائم غزو لبنان وحصار بيروت واجتياحها، وجرائم العدوان المتكرر على غزّة وحصارها المستمر وغيرها، وخصوصاً استمرار عمليات الاستيطان والإجلاء، وذلك يذكّر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379 في 10/11/1975 الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية، واعتبرها «شكـلاً من أشكال الصهيونية والتمييز العنصري»، وهو القرار الذي ألغته الأمم المتحدة بسبب اختلال موازين القوى العالمي وغياب الحد الأدنى من التضامن العربي أواخر العام 1991، فضـلاً عن وجود عدد من قرارات الأمم المتحدة التي تدين الاستيطان باعتباره جريمة دولية.

خاتمة

لقد كان وعد بلفور محطّة أساسية من محطات الاستيطان والتوسّع الصهيوني وعلامة بارزة من علامات العنصرية التي دمغها مؤتمر ديربن العالمي (جنوب أفريقيا) عام 2001، لذلك فإن استذكار وعد بلفور يعني دعوة العالم إلى التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني ضد الاستيطان والعنصرية، وخصوصاً أن مرتكبيها ليس بإمكانهم الإفلات من العقاب حسب قواعد القانون الدولي.

إذا كان المشروع الصهيوني قد نجح في فصل العرب المشرقيين عن العرب المغربيين، وهو ما دعا إليه دزرائيلي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن طعم هذا النصر كان مرّاً، فلم تنعم «إسرائيل» بالاستقرار ولم تتمكّن من العيش في بيئة رافضة لوجودها، على الرغم من محاولات القوى الكبرى ومساعيها لبناء «شرق أوسط كبير» أو «شرق أوسط جديد» أو «شرق أوسط أكبر»، يمكن فيه دمج «إسرائيل» بمحيطها، وخصوصاً بعد تفتيت البلدان العربية وتحويلها إلى «دوقيات» و«مناطقيات» و«إقطاعيات» و«دويلات» على أساس ديني أو طائفي أو إثني أو جهوي أو غير ذلك.

لقد جعلت المقاومة القلق ملازماً «لإسرائيل» على مستقبلها، بل إنه مسألة لصيقة بها، وحين نقول المقاومة، فإننا لا نقصد المقاومة المسلحة لوحدها، بل المقاومة الفكرية والثقافية والمقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والاجتماعية؛ وهي وإن كانت ضعيفة، وتأثيرها كان محدوداً، لكنها تصبح عند كل منعطف الشغل الشاغل لـ «إسرائيل»، لما تمثله من صدمة حقيقية تجعلها تدرك يوماً بعد يوم أنها منبوذة من دول المنطقة وأن مخططاتها لن تتمكن من تحقيقها، على الرغم من ضعف التضامن العربي وغياب الحد الأدنى من التنسيق العربي، وهشاشة الوحدة الوطنية الفلسطينية، من دون أن يعني ذلك أن ما حققه الفلسطينيون والعرب من نجاحات دولية، سواء على صعيد الأمم المتحدة أو اليونسكو قليـلاً، لكنه بحاجة إلى تعزيز وإلى استراتيجية عربية لمواجهة الصهيونية العقيدة السياسية لـ «إسرائيل».

وحين انتهت الحرب الباردة ظنّت «إسرائيل» أن غياب الاتحاد السوفياتي والكتلة الإشتراكية، سيمهّد لها الطريق إليها للاندماج بشعوب وبلدان المنطقة بفعل ما تملكه من إمكانات، وهي ما نجحت به مع بلدان أفريقية وآسيوية وحتى أمريكية لاتينية، لكنها لم تنجح معه عربياً على الإطلاق، وظلّت محاولات التطبيع بعيدة المنال حتى في البلدان التي وقعت اتفاقيات معها، وهي في عزلة تامة عن الشارع العربي الذي ظلّ رافضاً أي تنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة وغير القابلة للتصرّف.

وقد حاولت «إسرائيل» بوسائل شتى وعبر حرب دبلوماسية ناعمة وتحت يافطة حقوق الإنسان التي تنتهكها ليل نهار، الضغط من أجل إجبار الاتحاد السوفياتي على قبوله هجرة نحو مليون يهودي عشية انهياره وبعيد الانهيار، وهي هجرة أقرب إلى التهجير، حين أغلقت الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى هجرتهم إليها ولم يكن لديهم سوى محطة واحدة (فيينا)، ومنها الهجرة إلى «إسرائيل» إضافة إلى صفقة الفلاشا مع إثيوبيا وغيرها، لأن ما يحتاج إليه المشروع هو العنصر البشري، لكن مثل هذا الأمر لم يجد نفعاً بفعل ثلاثة عوامل: الأول القنبلة الديمغرافية الفلسطينية وتكاثر السكان؛ والثاني استمرار المقاومة التي أدت إلى هجرات معاكسة، وهذه الهجرات ارتفعت في العقد الماضي كلّه؛ والثالث الصراع الحاد والتمييز الصارخ بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين أو ما يسمى السفرديم والإشكنازيم، حيث لا يزال اليهود الشرقيون يعانون الاستلاب وعدم مساواة في الحقوق، فما بالك بالعرب سكان البلاد الأصليين.

إن استعادة وعد بلفور في مئويته ينبغي أن يكون مناسبة مهمة لمحاسبة الذات وإجراء مراجعة نقدية للسياسات والمناهج التي قادت إلى تمكين المشروع الصهيوني من تحقيق بعض أهدافه، ومثل هذه المراجعة تستوجب تشخيص ما هو سلبي وما هو إيجابي، ورسم استراتيجية فلسطينية وعربية، لمواجهة الإرث الخطير الذي تركه وعد بلفور على مجمل دول وشعوب المنطقة وتنميتها وتقدّمها.

 

قد يهمكم أيضاً  كرونولوجيا صورة الإسرائيلي بين الواقع والمخيال

من المهم أن تقرؤوا أيضاً  المصادر التاريخية والرواية القرآنية المغيَّبة في تاريخ فلسطين والقدس

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #وعد_بلفور #مئوية_وعد_بلفور #سايكس_بيكو #إسرائيل #دولة_الأبرتايد #الصهيونية #الاحتلال_الاسرائيلي #صفقة_العصر #الاستيطان #وجهة_نظر