يُتابع المهتم بسيرورات المعرفة هجرة العديد من الباحثين باختلاف تخصصاتهم نحو ما بات يعرف بـ«سؤال الثقافة»، نظرًا إلى كونه أعاد إنتاج العديد من الأسئلة التي كان يُعتقد أنها استوفت حظها من التفكير والمطارحة، أو ربما أراد المنشغلون بهذا المبحث «القديم الجديد» أن يتأملوا من طريقه فرضيات لطالما تُنُووِلت من منطلقات مغايرة لما يتأسس عليه سؤال الثقافة نفسه، وبخاصة أن الجانب الثقافي هو البعد الأقل تقدمًا في المعرفة العلمية للواقع الاجتماعي، إلى درجة أنه لا يزال محفوفًا بالأسرار الخفية[1] كما عبر عن ذلك أحد مؤسسي مدرسة التبعية المفكر المصري سمير أمين.

أيًّا كان مسوِّغ الاهتمامِ «اللافت» بهذا المبحث، فإن الباحث يجد نفسه أمام مأزق لا مفر منه، وهو يحاول جاهدًا الخوض في إشكالية من إشكالياته، أو وهو ينتقل من إشكالية إلى أخرى بحثًا عن توليفٍ «مخاتل» بين موضوعاتها المتشعبة، من دون إدراك أهمية البعد الثقافي، وربطه جدليًا بالبعدين الاقتصادي والسياسي، في تطور المجتمعات[2]. وأن الوعي بهذا الإدراك – حتمًا – سيُضفي على «النظرية الثقافية» مشروعية أكبر وأوسع في الإجابة عن مشكلات الثقافة التي باتت مستفحلة أكثر مما كانت عليه في السابق، وبات الخوض فيها أشبه بعبور «متاهة»، في ظل تداعي ما بات يعرف اليوم بـ«العولمة الاقتصادية» العابرة للحدود والحواجز.

لقد أدرك «خطاب ما بعد الكولونيالية» – منذ أول وهلة – أهمية الترابط القائم بين المعرفة والقوة في تمثيل الآخر وفبركة ماهيته رغبةً في تبرير غايات استعمارية طامحة إلى نهب الثروات واستغلالها. معنى هذا أن النظرية ما بعد الكولونيالية على أتم الوعي بكون «السرديات الثقافية الاستعمارية» تعد إفرازًا موضوعيًا لجانب مهم من التفكير الاقتصادي التوسعي؛ بما يجعل هذا التيار الفكري والنظري يتقاطع نسبيًا مع ما يفكر فيه سمير أمين، والمشار إليه أعلاه، على الرغم من منطلقاتهما المغايرة تمامًا.

استطاع هذا التيار أن يصير فتحًا معرفيًا مهمًا في تحليل الخطاب الاستعماري، وإعادة قراءة التاريخ بوصفه سرديةً مضادةً، وردًا بالكتابة، يتصل بالشعوب المستعمرَة سابقًا. وقد شاع هذا التيار مع فرانز فانون ومؤلفه الشهير معذبو الأرض (Les Damnés de la Terre) الذي مثّل مرجعًا مهمًا وتربة خصبة لإثماره وإيناعه.

لقد مثّل كتاب معذبو الأرض، إلى جانب الأعمال الأخرى للمؤلف[3] زفرةً للمجتمعات التي خضعت للهبّة الاستعمارية، وبخاصة في أفريقيا، لا لكونه ساهم في مشروع حل معضلة الاستعمار فقط، أو لأنه اتخذ موقفًا متميزًا في خضم النقاش الذي كان دائرًا في الأوساط المثقفة اليسارية، آنذاك، أولئك الذين يحللون ميكانيزمات الإمبريالية، محددين التناقض الرئيسي بين البلدان المصنعة والبلدان المستغلة[4]، بل كذلك لتحذيره الصارم من الوقوع في مَغَبَّةِ ما سماه «مزالق الوعي الوطني»[5]، في إشارة إلى ما يعترض البلدان «ما بعد الاستعمارية» من تشويهٍ لفكرة الاستقلال، وجعله وثيقًا بالسلطة الجغرافية، وهو ما أثبتته ممارسات البرجوازيات التبعية، بوصفها وسيطًا بين الاستعمار والمناطق التي كان ينفذ فيها «جغرافيًا»؛ الأمر الذي يضعنا أمام فرضيات متحققة حول أنماطٍ استعماريةٍ جديدةٍ ومتنوعةٍ، بعيدًا من نظيراتها التقليدية؛ لكن، مع الحفاظ على مضمونها «الهَيْمَني». ما يسْتَوْجَبَ خلق آليات جديدة لمواجهة ومقاومة المد «الاستعماري الجديد» من موقع «الأطراف» السّاعي نحو تبديد التمركز الهُلامي.

نفترض أن الانتقال إلى الخوض في إشكاليتنا سيكون عسيرًا، ونحن نحاول إضاءة بعض من جوانب «الخطاب ما بعد الكولونيالي»، من دون التعريج على أحد منظّريها، وأقصد، صاحب الاستشراق المفكر الأنغلو فلسطيني إدوارد سعيد، الذي أظهر فهمًا عميقًا للواجبات السياسية والعملية الملقاة على عاتق المثقف في عصر ما بعد الكولونيالية[6]، إلى جانب بلورته مشروعًا مناهضًا لخطاب «المركزية الغربية» على حد تعبير الكاتب العراقي عبد الله إبراهيم.

يعتقد إدوارد سعيد أن العالم يعيش تحكمًا غير مسبوق من طرف الإمبريالية، وأن لهذا التحكم (الهيمنة) سياقًا تاريخيًا كانت بداياته في القرن الثامن عشر، ثم اشتدّ في القرن الذي يليه؛ ليتخذ هذا «الغرب» من نشر التحضُّر والتنوير ذرائع واهية، ووجبة دسمة، أقبل عليها «الشرق» المتخلف بنَهَمٍ. لينكشف، بعد ذلك، زيف الشعارات التي أبدعها «الغرب»، ويسقط اللثام عن أنيابه الطامحة إلى النهب، والاستغلال، والتوسع، وتهميش ثقافة الآخر… إلخ. وقد كان يظهر ذلك ولا يزال، حسب إدوارد سعيد نفسه، في المنتجات العظيمة للثقافة، إذ يمكن لهذه المنتجات أن تكون أعمالًا عظيمة من إبداع الخيال، وأن تضُمّ – في الوقت نفسه – وجهات نظر سياسية ظاهرة في البشاعة والقبح؛ وجهات نظر، تسلخ الإنسانية عن غير الأوروبيين، وتبرز شعوبًا وأصقاعًا خاضعة ودُونيّة، جاعلة إياها مقتضية حكم الأوروبيين[7].

لا يتورع إدوارد سعيد عن تذكير القارئ أنه لا سبيل إلى التخلُّص وتجاوز هذا الخطاب إلا من طريق «المقاومة» الساعية نحو خلق سردية مناقضة تمامًا للسرديات الغربية، سرديات تعيد من خلالها البلدان «ما بعد الاستعمارية» كتابة تاريخها الخاص. ما نحاول التركيز عليه في تصور إدوارد سعيد، هو تلك الشُّحنة المتدفقة، والرغبة الجارفة في أن يكون للمناطق المستقلة/ المستعمرات الجديدة كلمتها في عملية الصراع الدائرة طواحينه ضد الإمبريالية، بغض النظر عن ما تعرّض له المفكر من قراءات علمية رامت تقويم الفكر السعيدي منهجيًا، ومعرفيًا أيضًا، وأقصد هنا كلًا من قراءات: إعجاز أحمد، ومهدي عامل، وصادق جلال العظم… إلخ.

لقد تسلّحت «النظرية ما بعد الكولونيالية» برؤى وتصورات العديد من الأقلام التي تنتمي إلى بلدان «العالم الثالث»؛ من ماركسية راجانيت جحا وإعجاز أحمد، ونسوية سبيفاك، وتأريخية ديبيش شاكرابارتي إلى سيكولوجية فرانز فانون، ومذكرات إميل سيزير. كما طُعّمَت النظرية بكتابات شريحة واسعة من الأقلام التي تنتمي إلى بلدان «العالم الأول»، من هم على عداء تام مع التمركز الإمبريالي أمثال: غرامشي، فريديريك جيمسون، وويليامز، وتيري إيغلتون، وغيرهم. إلا أن ما يلفت النظر في هذا الجو المعادي للاستعمار وآثاره، ولأشكال الإمبريالية كذلك، غياب نماذج عربية يمكن أن تنتمي إلى هذا التيار، على الرّغم من كون المنطقة العربية قد شملها الاستعمار، هي الأخرى، لزمن ليس بالهيِّن؛ بل بوحشية مماثلة أو تفوق – أحيانًا – ما شهدته باقي المناطق التي خضعت للاستعمار، بل إنّ واقع الحال يشير إلى أنّها المنطقة الوحيدة التي لا تزال تعاني ويلات الاحتلال إلى حدود كتابة هذه الأسطر (فلسطين). الأمر الذي يمكنه أن يفتح آفاقًا جديدة يتزوّد من خلالها الخطاب «ما بعد الكولونيالي» بالتطوُّرات والتحديثات التي تعزو الممكنات الاستعمارية – في شكلها الإسرائيلي – في ظل تدخُّل تكنولوجيا الاتصالات في نظام العلاقة بين المستعمِر من جهة، والمستعمَر من جهة أخرى، وكما قد يُمكّننا الأمر من الاصطدام بقضايا جديدة، مثل قضية «اللاجئين»، ليُخاض النقاش فيها، جنبًا إلى جنب قضايا «المهاجرين» و«الملوّنين» و»الأصلانيين»… إلخ، أولئك الذين انشغلت بهم الدراسات ما بعد الكولونيالية كثيرًا، وأُفرِدت لهم صفحات طوال. وهذا في الحقيقة ما لم يكن متاحًا للنظرية في وقت سابق.

بعد انتهائي من قراءة مقال إشكالي للناقد المغربي إدريس الخضراوي[8]، غازلتني أسئلة محيرة: لمَ يخلُ «الخطاب ما بعد الكولونيالي» من مساهمات تنتمي إلى الفضاء الثقافي العربي، على الرغم من كون الفضاء العربي قد مثّل مساحة واسعة لنفوذ الإمبراطوريات؟ وما الذي يفترض أن يتوافر في الفكر العربي حتى تشمله الصفة المذكورة؟ وهل ينبغي له (أي الفكر العربي) أن يفكر من داخل «المقاربة ما بعد الكولونيالية»، ويستفيد من أدواتها الإجرائية، ومفاهيمها المؤسِّسة، حتى يتسنى له الإجابة عن أسئلة الكولونيالية، ويتلمس آثارها؟ أم أنه منخرطٌ فعلًا في هذا الكشف المبين؛ لكن من مواقع أخرى، وأن على المقاربة ما بعد الكولونيالية أن تستفيد، كذلك، من منجزات الفكر الثقافي العربي الغزير، بوصفه نتاجًا لتجارب لها خصوصياتها التي تميزها عن التجارب الهندية، واللاتينية، والأفريقية، ويعكس مستوى تعاطي الثقافة المركزية مع الثقافة العربية الإسلامية؟ وأحيل القارئ – في هذا الصدد – على كتاب جدير بالمتابعة للمفكر المصري سمير أمين: نحو نظرية للثقافة: نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس.

غطت الإمبراطوريات حقبة زمنية طويلة، كما شمل مجالها جغرافيا واسعة، تختلف باختلاف خصوصياتها الثقافية، والاجتماعية، وطبيعة نُظم الحكم التي تقوم عليها. وقد كانت هذه الإمبراطوريات على أتم الوعي بهذه الخصوصيات، الأمر الذي مكَّنها من إنجاز العديد من الأهداف المسطرة، كما مكَّنها هذا الوعي، كذلك، من الحفاظ على مصالحها «الاستعمارية» حتى بعد طردها جغرافيًا.

لا يتعلق الأمر – هنا – بأطراف هامشية منفصلة كليًا، حين يأتي ذكر «الخصوصيات»، ما دام ما يوحدها، بوصفها مستعمرات، هو النهب والاستغلال وتكميم الصوت وإفقاد المعنى وملكة التفكير؛ وإنما الغاية هي ـتأكيد حُضورها الموضوعي في وعي الحركة الكولونيالية، وبخاصة «أن الإيديولوجيات التي وضعت في خدمة سيرورة الاستعمار كانت متنوعة، واستخدمت على نحو متغاير لتناسب المقتضبات والخصوصيات المحلية»[9]، الأمر الذي انعكس جدليًا على أساليب المقاومة في حركات التحرر الوطني؛ كما يتضح ذلك من خلال التجربة الهندية (غاندي)، والجنوب أفريقية (مانديلّا) من جهة، والتجربة الفيتنامية (هو شي منه) والجزائرية (جيش التحرير الوطني) والفلسطينية (منظمة التحرير الفلسطينية) من جهة أخرى. إذ يبدو جليًا تباين الرؤى بين أشكال الرد والتصدي في النظر إلى فك معضلة الاستعمار، ولا غرو من أن الأمر يرتدُّ إلى المقاربة ما بعد الكولونيالية هي الأخرى، من حيث هي شكل من أشكال الرد و»الفاعلية» (سبيفاك)، إذ يغدو من الصعب – عبر هذا الفهم – أن يُزّج بافتراضات نظرية في قراءة تجربة كولونيالية لها تنوعها الخاص، ومشكلاتها الثقافية تتباين كليًا – في بعض الأحيان – عن التجارب الأخرى، وقد يمكن لهذه الافتراضات أن تكون جديرة بالتقدير، ولكن كفاءتها تأتي من كونها مشتقة من موضوعها الأصلي، ولا تكون كذلك إذا ما جرى الزّج بها في تحليل موضوعات أخرى؛ فليس ثمة معرفة عابرة للتقاليد والعلاقات الاجتماعية والخلفيات التاريخية والعقائد الدينية[10]. كما ليس هناك «جوهر ما بعد كولونيالي» تشترك فيه الأمم التي خضعت للاستعمار[11].

ربما لا تدعو الحاجة – منذ البداية – إلى محاولة إبراز إمكان مساهمة الفكر العربي – من موقعه المتفرد – في ضخ دمائه داخل «الشريان ما بعد الكولونيالي»، وحتى من دون أن يستثمر أدواته الإجرائية، أو أن تشيع فيه لغته النقدية، وبخاصة، إذا كانت الثقافة العربية مشاركة إلى جانب الثقافات «العالمثالية» في جحيم معيّن من العلاقات والمشكلات الناجمة عن التجربة الإمبريالية، وفي تطوير هامش مرجعي من توتر التراث والمعاصرة (الغربية إجمالًا) ومقاومة خطابية وبحث ثقافي عن الهوية[12] فكرًا وأدبًا. وهو الأمر الذي خِيضَتْ فيه نقاشات طويلة، وشغل مساحة كبيرة من مؤلفات العديد من الكتاب والباحثين، الذين تناولوا الغزو الثقافي وأشكال المقاومة الثقافية التي أشير إلى بعضها لفهم السياق الذي آلت إليه معركة «التطبيع» مع الحليف الرئيسي للإمبريالية في المنطقة العربية.

ننطلق في محاولة الإجابة عن الإشكالية، من الرؤية الموسَّعة التي تنظر من خلالها جماعة «بيل أشكروفت» إلى مصطلح «ما بعد الكولونيالية»؛ ليشمل كلّ ثقافة تأثرت بالسيرورة الإمبريالية منذ اللحظة الكولونيالية وحتى الزمن الراهن[13]. وفي هذا الإطار سنحاول التعريج على واحد من المؤلفات التي يمكنها أن تكون إضافة نوعية للدراسات الثقافية عمومًا، والنقد ما بعد الكولونيالي على وجه الخصوص، إذ يروم صاحبها تطوير فكرة النقد الاستشراقي، والكشف عن سرديات كولونيالية جديدة.

أولًا: ما بعد الاستشراق… السرد الكولونيالي الجديد

يُعدُّ كتاب الاستشراق (Orientalism) معتمدًا مكرَّسًا، و»إنجيلًا مخلِّصًا»، تستند إليه الأمم «الشرقية» لتصحيح الصورة الزائفة التي أنشأتها الشَّيْطَنة الإمبريالية حول ماهية وجودها، وحدودها المعرفية. وقد ساهم في صوغ تلك الصورة الأسطورية حول الشرق، ثُلة من الرحالة والدارسين والمستكشفين، وجرى تمثيلها في سرديات على نحوٍ تكريسيّ وتأبيديّ لهذه الصور. وقد هيأت هذه الأنشطة الاستشراقية كل الشروط المتاحة للتوسع الإمبريالي التقليدي كي يحقق أهدافه الخسيسة، التي تُناقِض تمامًا مبرراته القائلة بـ«التحرر» و«التقدم»… إلخ. فبعد كل هذا التخييل، وما تلاه من نهب واستغلال، وحتى بعدما غادرت الإمبرياليات التقليدية الجغرافيات المستعمرة؛ هل استردَّ «الشّرق» صورته الأصيلة؟ أم ما زالت تلك الصور النمطية حاضرة، ولكن جرى حفظها في «اللوح المحفوظ» حتى يتم استدعاؤها – مرة أخرى – عند اللزوم؟ وما الذي سيلزم – اليوم – الإمبريالية حتى تعيد صوغ هذه الصور، وخلق سرديات كهذه؟ وهل ثمة داع آخر لعودة الاستعمار، أم أنه قد استوفى أهدافه كاملة بعد أن أصبحت الرأسمالية في شكلها الأمريكي، مسيطرة تمامًا على إيقاعات العالم في هيمنة مطلقة؟

صحيح أنه بحلول سنة 1989، أصبحت الإمبريالية الأمريكية مهيمنة – بوضوح – على ما بات يعرف بالمجتمع الدولي، والساهرة على حفظ الأمن والسلام المزعومين، وعلى أساسهما تتضارب مصالح، وتتلاقى أخرى في مشاريع كولونيالية جديدة، تحافظ من خلالها الهيمنة الأمريكية على استمرار شروط التبعية من طريق التدخل في شؤون الدول، واستئصال ما تعده شرًا داخلها، وتنصيب ما تعده خيرًا؛ وذلك من أجل الحفاظ على مصلحتها وأمنها القومي. على هذا النحو تم غزو العراق سنة 2003. وقد رصد المفكر العراقي فاضل الربيعي – في هذا الإطار – وعلى مدى عقدين قبل الغزو الأمريكي للعراق، حملة هوجاء قادها نخبة من الشبّان المتسلحين بتكنولوجيا الاتصالات، أعيد من خلالها تخييل الفضاء العربي، والذات العربية – على وجه الخصوص – وتصوير تاريخها وثقافتها بحيث يؤدي ذلك تلقائيًا إلى معاملة العربي كمتمرد، أو مارق على إرادة المجتمع الدولي[14]، وناقم على ديمقراطيته «السمحاء»؛ وبذلك، ينبغي تطويعه حفاظًا على السلم والأمن، وعلى المصالح الأمريكية التي باتت مهددة في ظل الحكم البعثي للعراق. وقد أطلق الربيعي على هذه الحملة الجديدة تسمية «ما بعد الاستشراق».

ينطلق فاضل الربيعي في مؤلفه الدسم ما بعد الاستشراق الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء من فرضية مؤداها أن الأهداف والوظائف التاريخية للاستشراق الكلاسيكي قد انتهت مع نهاية الاستعمار التقليدي، وبزوغ الاستقلالات الوطنية في العالم الثالث، أو «لنقل إن هذه الوظائف قد استنفدت أغراضها الأصلية بعد أن تراخت أهداف الاستشراق مع زوال العصر الذي ولد فيه، وأن التصورات الزائفة التي ابتكرها في الماضي قد تبددت هي الأخرى»[15]، وجرى تشكيل استشراق جديد يتلاءم والمرحلة الأرقى للرأسمالية، ونظامها العالمي المعاصر، القائم على عولمة الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والإعلام. كما يلفت المفكر الانتباه إلى كون الصُّور التي ركّبها «ما بعد الاستشراق»، ليست منفصلة عن الصور التقليدية للاستشراق الكلاسيكي، بل هي إعادة إنتاج وتطوير لتلك الصور بوساطة أدوات جديدة، بحيث يصير عبرها مجتمع ما ضحية تخيُّل مدروس، يتم عبره تكريس إنشاءات نمطية لخدمة أهداف راهنيّة، تدخل في سلسلة مشاريع توسعية جديدة تشمل المنطقة العربية، كتلك التي أطلق عليها المحافظون الجدد «الشرق الأوسط الموسع الديمقراطي»؛ تُنصَّبُ على رأسه أنظمة حليفة تسهر على ضمان استمرارية إنتاج «علاقات الإنتاج» نفس القائمة، التي تكرّس تبعيَّتها البنيوية للدوائر الإمبريالية. بذلك تكون الصحراء العربية قد عادت لتستردّ في الخيال الغربي صورتها الأثيرة مرة أخرى، لا بوصفها فضاء رومنسيًا يُلهب المشاعر والأحاسيس الدينية، «بل كمكان مُخيف تنبثق منه صور القتلة والمجرمين؛ إنه الآخر الموجود في صورة خطر إسلامي عنيف أخطبوطي غير مرئي يُهدد العالم الغربي، أو في هيئة «أسلحة تدمير شامل» يمكن أن تقع بواسطة تحالف وتعاون، أو من طريق المصادفة في أيدي جماعات مارقة تكره الغرب»[16].

وإذا كانت الصورة الكلاسيكية للاستشراق الكلاسيكي تتصل بالتقاليد الأكاديمية الغربية، التي سعت بفضل شعراء وروائيين وفلاسفة إلى إنشاء ملاحم، وأوصاف اجتماعية، ودراسات سياسية عن الشرق[17]، فإن الاستشراق الجديد أو ما يسميه الربيعي «ما بعد الاستشراق» لم يعد يستعين بدارسين غربيين وحسب، وإنما بدارسين عرب ومسلمين، تكاد تقتصر مهمتهم الكبرى على دعم التصورات المنتجة عن الإسلام والعرب. بعبارة أخرى، بدلًا من الاستعانة بنخب غربية أوروبية وأمريكية، وأطقم من الباحثين والأكاديميين والدارسين، كما الحال في الرحلات الأولى للاستشراق الكلاسيكي، تَمَّ عمليًا الاستعانة بأطقم مدربة جيدًا من المثقفين، والباحثين العرب والمسلمين، وحتى من الفقهاء ورجال الدين. وجرى في هذا النطاق تجديد متواصل لمعارف الغرب عن عالم الشرقيين، وتَحقق نوع من التَعَرُّف، يتّسم إجمالًا، بدقة أكبر، وبموضوعية أكثر مما فعل الاستشراق القديم؛ وخصوصًا على جبهتي الثقافة والسياسة في الشرق المسلم[18]. وقد اعتمدت هذه النخب العربية، في تلفيق المعلومات وصناعتها، على برامج إذاعية، ونشرات أخبار، وصحف ودوريات؛ وذلك من خلال الاستناد إلى وكالات الأنباء العالمية والإذاعات الدولية للحصول على الأنباء المحلية[19]، في ضرب من الاستلهام الأعمى، أو ما يطلق عليه الربيعي «العُصاب الثقافي».

نورد في هذا الصدد صورتين زائفتين يعتقد الربيعي أنه تم اختلاقهما من طرف الغزو الأمريكي بمساعدة النخب العربية في تخيُّلهم للعراق، والتي يفترض أنها حضّرت للغزو، وتم من خلالها إلحاق الثقافة العراقية بأخرى، بعدما أُجهضت الدينامية الثقافية التي كان العراق بفضلها يخطو بثقة نحو المستقبل.

ثانيًا: أفغنة العراق/ صناعة الخوف

تلازمت ولادة الاستشراق الجديد مع صعود الرأسمالية الأمريكية، ولكنه اتصل بحدة – بحسب الربيعي – بتلازم المحافظين الجدد للإدارة الأمريكية، وخصوصًا بعدما طُرح مشروع «الشرق الأوسط الموسع»؛ القاضي بوجود إمكانية نظرية لدمج عدة كيانات سياسية واقتصادية في كيان أكبر[20]، وعلى هذا النحو تبدّت «أفغانستان» (المستعمرة الأمريكية الجديدة) الخيالية والمطهّرة من الشيوعيين ومن الأصولية الإسلامية، والتي يطمحون، انطلاقًا منها، إلى إنشاء يوتوبيا كونية قابلة للتعميم كنموذج للحل الإنساني النهائي[21]. فجرى تخييل العراق بوصفه امتدادًا للثقافة الأفغانية، مستندين في ذلك إلى الصورة الكلاسيكية للاستشراق البريطاني الذي ألحق العراق في السابق بمستعمرة أخرى هي الهند. وقد ساهمت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 في تكريس هذا الامتداد على طول السنين العشر التي ظل فيها العراق تحت رحمة الكولونيالية الجديدة، وبخاصة أن العراق يأوي عددًا كبيرًا من المُوالين للـ«إرهاب»، الذي أحدث خسائر جسيمة بمبنى التجارة العالمية، كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي، آنذاك، بعد دقائق من تنفيذ الهجمة. فتم تخيّل العراقي في صورة بدوي تنمو على ذقنه لحية كثة، وغير مهذبة وقذرة، ويرتدي ثيابًا تقصر عن الركبة؛ إنهم ليسوا سوى جماعة مسلحة ومتمردين قرروا إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، بحسب قول الرئيس الأمريكي حين ظهرت أولى الإشارات عن مقاومة عنيفة في بغداد[22]، هكذا، وبفضل ما بعد الاستشراق راحت تتشكل في المخيال السياسي والثقافي للمواطن العادي في أمريكا وأوروبا، على حد سواء، صورة العدو الجديد في العراق، البدويّ المتوحش المستعد للقتل والاغتصاب، في تجاوز صارخ للبنية الثقافية، والبيئة التعليمية الواعية للمجتمع العراقي، التي ساهم في طمسها وتزويرها واستبدالها بثقافة «الموت من أجل الموت» النخب العربية، من إعلاميين وصحافيين عكفوا على إعادة نسج تلك القصص والأساطير عن الرؤوس التي تقطع كل يوم، في ملاحم درامية، عبرت عنها آلاف المقالات والدراسات والتقارير في الصحف العربية[23].

سردية الاضطهاد الشيعي

لبناء هذه الصورة تم استغلال حشد هائل من شيعة معارضين نظام الحكم، من أجل إنشاء سردية رومانسية لجماعة مهددة بالانقراض من طرف سنيٍّ شرير فالتٍ من العقاب (صدام حسين)، وبدا الشيعة في هذا الاستنباط ما بعد الاستشراقي، عالمًا منفصلًا عن الدولة والمجتمع والتاريخ والثقافة[24]، وتفاقمت هذه الهوية حين تحول الأمر إلى حرب ثقافية، جُنّدت لأجلها قنوات إعلامية لسرد صور الاضطهاد الذي لحق هذه الجماعة، من أجل استغلالها كثقل سياسي وثقافي لاحقًا في دعم الاستقرار بعد زعزعة النظام (السني) وإسقاطه[25]. فلم تكن السرديات الكولونيالية الجديدة تغترف من الأحداث الراهنة، في تركيب صورها وحسب، بل كانت تستند إلى تركة تخييلية تعود إلى لحظات تاريخية يفترض أنها وقعت عرضًا، وأُعيد صوغها، بحيث تخدم الصورة التي هي عازمة على إنشائها وتكريسها. هنا تم استدعاء سردية ما يسمى «عرب الأهوار» الذين تعرضوا في ثمانينيات القرن الماضي لمسح شامل لبيئتهم الطبيعية التاريخية على يد صاحب «أسلحة الدمار الشامل» كما تقول القصص الأمريكية[26] ومن ثم أعيد تخييلها من جديد لتنسجم مع أهداف الإمبريالية الأمريكية.

إن فكرة «ما بعد الاستشراق» كما تتمظهر في مؤلف الربيعي، تكاد تعكس الدور الذي أصبحت الكولونيالية الجديدة تأخذه على عاتقها، والذي يتباين إلى حد بعيد مع النظرة الاستشراقية الكلاسيكية القائمة على الممكنات والآليات التقليدية الصِّرفة، والتي يعتقد فاضل الربيعي، أنها باتت شبه معطلة، وجرى إعادة إحيائها عبر أدوات جديدة، تنسجم وروح العصر الذي أصبحت فيه الثقافات الهامشية أكثر بزوغًا، ولم تعد متوارية خلف السرديات التحقيرية، بل استطاعت بفضل المقاومة الثقافية أن تُسمع صوتها وتخرج إلى الوجود، هذا إن لم نقل أنها تُشاغب بشكل علني – أحيانًا – الهيمنة الغربية، وتُهدد مشاريعها «الديمقراطية» وثقافتها المُعولَمَة، وذلك بعدما كشف التاريخ كل المزاعم والتصورات المغرضة التي أنشأها الغرب لاختزال الآخر العربي العصي على الترويض، والذي لا يزال يصارع إلى حدود اللحظة لانتزاع استقلاله في فلسطين. هذا الكشف التاريخي في الحقيقة هو ما دفع الاستشراق الجديد إلى تدارك ما تغافل عنه أثناء إنشائه وترويجه للصور والسرديات المختلقة، وذلك من خلال استقطاب كفاءات عربية شابة، بدأت تحتل موقعًا مهمًا في الساحة الثقافية والإعلامية العربية، وتسهر على دعم وفبركة التصورات، والبحوث، والمواد الإعلامية، والأفلام، التي أُنتجت في أوروبا وأمريكا في قالب يستسيغه – بسرعة – المتلقّي العربي، ويقع في غرامه. ولأجل ذلك اعتقد المفكر العراقي فاضل الربيعي «أنه منذ صدور الكتاب العظيم لإدوارد سعيد ونحن نصارع فكرتنا الجامدة وغير البناءة عن نشاط الرحالة والضباط والتجار والأطباء والأدباء الذين جابوا الشرق في ما عرف بالاستشراق، بوصفه عملًا دراسيًا منظمًا، وربما يكون محصورًا في حقل الثقافة؛ وهذه فكرة تبدو بلا مراء فكرة ناقصة وجديرة بإعادة النظر؛ ولذلك ثمة حاجة راهنة وشديدة الإلحاح اليوم للتبصر وإمعان الفكر ما بعد الاستشراقي بوصفه تطويرًا لأدوات ووسائل وأشكال التخيل السابقة»[27].

على سبيل الختام

لقد ظل الفكر العربي – منذ لحظاته الأولى – مُخلصًا للقضايا التي تمثل هاجسًا للثقافة العربية، مُسخرًا كل ممكناته الإبستيمولوجية والمنهجية، من أجل التفكير في ما يُعيق حركيّته الطبيعية، ويعترض مسيره الحثيث نحو التقدم، ولا يزال إلى حدود اللحظة – منشغلًا بهذا الهمّ العصي. صحيح أن تلقي الفكر العربي للنص السعيدي كان محدودًا مقارنة بالثقافة الغربية التي احتضنته، وألهم عددًا كبيرًا من الكتابات التي أنتجت بتأثير من الاستشراق، وهذا في الحقيقة يعكس طبيعة التلقي العربي، آنذاك، الذي كان ينظر بريبة وشك إلى أي وافد من خارج الثقافة العربية؛ لكن هذا الشك وهذه الريبة لم تكن تُعنى بتسفيه أو تبخيس هذا الوافد، بل كانت تخضعه للنقد، والنقد الصارم أحيانًا، كما هي الحال بالنسبة إلى كتاب هل القلب للشرق والعقل للغرب لمهدي عامل، والاستشراق والاستشراق معكوسًا لصادق جلال العظم، والاستشراق عاريًا لهادي العلوي. لكن هذا لا يعني أن الفكر العربي لم يتأثر بفكر إدوارد سعيد، بل هناك العديد من الكتابات التي يمكن أن تعد تأسيسا لـ«خطاب» عربي ما بعد كولونيالي، نظرًا إلى اشتراكها في الهم نفسه الذي يؤرق الدراسات ما بعد الكولونيالية، ويمثله كل من حسن حنفي، جابر عصفور، عبد الكبير الخطيبي، وأسعد أبو خليل وغيرهم. كما تعد مؤلفات المفكر المغربي المهدي المنجرة جديرة بالقراءة والتحليل ضمن هذا الإطار، ولعل الباحث العربي يجد فيها بعضًا من التبصرات النظرية، وأقصد هنا؛ شمال جنوب، مدخل إلى عصر ما بعد الكولونيالية وتصفية الاستعمار الثقافي وكذلك الإهانة في عصر الميغا إمبريالية. من دون أن ننسى المؤتمر النوعي الذي أقيم في تونس سنة 1982 تحت عنوان «مواجهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني للأمة العربية»، والذي شارك فيه أزيد من مئة مفكر وباحث عربي، بحيث هيّأ أرضًا خصبة لإنتاج العديد من الكتب والدراسات والتحليلات، نذكر منها كتاب قضايا التبعية الثقافية والإعلامية لعواطف عبد الرحمن، ومجابهة الغزو الإمبريالي الصهيوني- دراسة في الثقافة المقاومة لمسعود ضاهر، وكتاب تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية لجلال أمين… إلخ.

قد نتفق على مسألة أن الغائب في العالم العربي هو التنظير الذي يرقى بالدراسات ما بعد الكولونيالية إلى مستوى «الممارسة التأويلية الدنيوية» كما تصورها إدوارد سعيد[28]، لكن، ألا تستحق هذه الأعمال أن يعاد قراءتها بعين ناقدة، عسى أن تلتقط مصفات النقد ما قد يُؤسس لبناء نظرية ثقافية عربية يمكن من خلالها المساهمة في إغناء وتطوير «خطاب ما بعد الكولونيالية»، بدلًا من إنفاق الجهد بحثًا عن حضور مفاهيم وأدوات تنتمي إلى الخطاب المعني داخل النص الفكري العربي، كتلك التي تحضر في مؤلفات سبيفاك وهومي بابا؟.

كتب ذات صلة:

ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي :التاريخ والثقافة والسياسة

الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936- 1939

نقد الثقافة الغربية: في الإستشراق والمركزية الأوروبية