المؤلف: إدغار موران

المترجم: عبد الرحيم حزل

مراجعة: محمد الرضواني (*)

الناشر: أفريقيا الشرق، الدار البيضاء

سنة النشر: 2013

عدد الصفحات: 176 ص

ISBN: 9789981258167

 

إذا دققنا في النظرة المركبة التي يطرحها إدغار موران في الكتاب لفهم التطورات الكونية، فسنجد أن المؤلَّف مهم لفهم التغيرات المتلاحقة التي حدثت في السنوات الأخيرة، سواء تعلق الأمر بانهيار الأنظمة العربية، أو بالإرهاب العابر للحدود في سورية والعراق ودول الساحل الأفريقي وليبيا، أو تعلق الأمر بالضربات الإرهابية في الدول الغربية (فرنسا على سبيل المثال). ذلك أن تركيز المفكر على تناقضات العالم المعولم، وأزمة الحضارة الغربية، والحضارات التقليدية، والدعوة إلى تأسيس عالم جديد، وحضارة جديدة مبنية على مجموعة من الأسس، يحتل فيها الإيمان بمختلف الحضارات الإنسانية، والمشترك الإنساني المتعدد قمتها… تعتبر أموراً مهمة لتحليل الواقع الدولي.

ويثير إدغار موران في المحور الأول الذي يحمل عنوان الكتاب نفسه ثلاثة أفكار رئيسية، يركز في الأولى على التطورات التي وقعت في ثلاثة ميادين رئيسية: العلوم والتقنيات، والصناعة، والاقتصاد، التي تعد محركات الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، وهي تطورات يحكم عليها المفكر بتطورات خارج أي رقابة؛ خارج الأخلاق والسياسة والفكر؛ «أي لا يحكمها شيء من سياسة ولا أخلاق ولا فكر» (ص 11).

هذه التطورات ترافقها تراجعات عدة، متمثلة بانتشار الحروب، ولا سيَّما العرقية والدينية، وزيادة العنف في ضواحي المدن، وتنامي الجريمة المافيوزية وحلول قانون الانتقام محل قانون العدالة، وتراجع التصورات العقلانية.

أما الفكرة الثانية فيركز فيها على نموذج الشرق الأوسط والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتأثيراته العالمية، بحيث إن الهمجية الإسرائيلية أدت إلى تحول العداء من عداء لإسرائيل لعداء لليهود في العالم، كما أن رد الفعل العنيف للانتحاريين ضد إسرائيل في فلسطين أدى إلى تزايد موجة العداء للإسلام؛ ما سيقوي الصراع في الدول الغربية بين مكوناتها العرقية والدينية.

ويثير في الفكرة الثالثة أزمة أوروبا وانغلاقها، وجعلها من حضارتها النموذج المحتذى، بالرغم من حاجتها إلى الإصلاح، وبذلك تعيق العالم من الاهتداء إلى أشكال أخرى من التحول خارج النماذج الغربية.

ويؤكد المفكر أن جميع السيرورات الحالية تقود إلى الكارثة، لكن بالرغم من ذلك، فإن السير نحو الفوضى يمكن أن يحمل تحوُّلاً مضاداً، شرط القطع مع السير في طريق التطور، وتغيير الطريق والبدء من جديد.

ويناقش المفكر في المحور الثاني إشكالية بداية الأزمنة الحديثة، ويؤكد أن النهضة ابتدأت في أوروبا انطلاقاً من إحياء الميراث اليوناني وتجديد الفلسفة وتطوير العلم الحديث. وتتميز بجملة من الخصائص، وهي الازدهار الاقتصادي والتجاري والرأسمالي، وصعود الغرب الأوروبي وتفوقه في مجال المبادلات، وتطور الفردانية، وترسخ أوائل الدول القطرية؛ إسبانيا وفرنسا وإنكلترا والبرتغال.

وتبعاً لذلك، يذهب موران إلى أن معرفة الحداثة وتعريفها يقتضيان الابتعاد عن المنطلق المركز على عنصر وحيد، لأن الحداثة مفهومها غامض وكبير، وجوانبها متكاملة ومتعارضة في الوقت نفسه؛ سواء تعلق الأمر بالعلم، حيث التعارض بين العلم والدين؛ أو تعلق الأمر بالاقتصاد، حيث المنافسة؛ أو تعلق الأمر بتطور الدول القطرية الذي كان نتيجة صراعات متواصلة، أو تعلق الأمر بالعهد الكوكبي والسعي إلى التجانس وتعارضه مع الانكماش ورفض الهيمنة الغربية.

إضافة إلى ذلك يناقش ما يسميه بأزمة الحداثة، والتي دخلت في الوقت الحاضر زمن نهاية أساطير الحداثة الكبرى، المتجلية في أسطورة التحكم في الكون، وأسطورة التقدم والضرورة التاريخية، وأسطورة السعادة. ويحدد تجليات هذه الأزمة في عدة مظاهر: أولها التحديات التي يطرحها تقدم العلم الذي يؤدي إلى إنتاج معارف جديدة وتطوير فهمنا للعالم من جهة، وإلى تطوير قدرات الموت من جهة أخرى، كالموت النووي بحكم انتشار أسلحة الدمار الشامل. وثانيها موت أسس العلم الكلاسيكي، حيث حل التعقد محل مبدأَي الاختزال والفصل. وثالثها نتائج التقنية التي تؤدي إلى الأفضل كما تؤدي إلى الأسوإ. ورابعها أزمة فكرة التقدم، حيث المستقبل أصبح شيئاً مجهولاً. وخامسها أزمة التحكم في العالم، متمثلة بتراجع المجال الحيوي. وسادسها، أزمة السعادة، متجلية في سلبيات الحياة من تعب وإفراط في استعمال العقاقير النفسية والمخدرات والعزلة. وسابعها أزمة الروح وأزمة الفكر. وأخيراً أزمة الأمم المتحدة التي أضحت عاجزة عن حل مشكلات الكوكب الأرضي.

إن المفكر يذهب إلى التأكيد أن الإنسانية ما زالت تملك إمكان تجاوز الأزمة، وذلك عبر ما يسميه «توليد كلية جديدة عن طريق إدماج مختلف حضارات الشمال وحضارات الجنوب وحضارات الشرق وحضارات الغرب في بعضها» (ص 33).

ويعود المفكر في المحور الثالث إلى ميزة بداية عصر الأنوار، وهي رجحان سيادة العقل، حيث العقل الذي برز ابتداء في العلوم ستصير له السيادة خلال القرن الثامن عشر، وسيتنامى حضوره باعتباره قائداً للإنسانية، وأداة للتحكم في كل شيء.

وقد تدعم هذا التوجه العقلي بازدهار العلوم الفيزيائية والكيميائية والطبيعية، بشكل أصبح معه التقدم القانون الحتمي للتاريخ.

وإذا كان انتصار الأنوار أدى إلى الثورة الفرنسية ورسالتها التحريرية لسنة 1789، وما حملته من شعارات المساواة وحقوق الإنسان، وإعادة بحث علاقة الدين بالدولة، فإن الإنتاجات المعرفية والعلمية والحلول التي قدمها عصر الأنوار حسب المفكر، أصبحت مصدر مشكلات لما تنطوي عليه من تناقضات، بحيث أدى العلم إلى إنتاج الموت النووي، وإلى تلوث المجال الحيوي وما يحمله من تلاعب في الجينات، يقول المفكر إدغار موران: «وإذا كان من الثابت أن العلم ينير الظلمات، فإنه في الوقت نفسه يعمي الأبصار» (ص 42).

ولكون التقدم أدى في الدول الغربية إلى تحالف بين همجيتين: همجية قديمة عادت إلى أوروبا في القرن العشرين بعد أن اختفت في القرن التاسع عشر، متمثلة بحروب عرقية ودينية وأهلية؛ وهمجية حديثة هي الهمجية التقنوية القائمة على الحساب وجهل الإنسان ومشاعره وميوله. فإن المفكر يدعو إلى تجاوز الأنوار، وبناء «أنوار جديدة» قائمة على تجاوز العقلانية المجردة، والتخلص من العقل التجزيئي، وتجاوز العقل الأدوي، ومد جسور الحوار بين العقلانية والوجدان، وتأسيس عقلانية مركبة قادرة على مواجهة التناقضات واللايقين، وعلى الإحاطة بالكون المعقد.

ويثير المفكر في المحور الرابع أهم مساوئ المعرفة المتخصصة، التي تمنح الأفضلية لكل ما هو قابل للحساب، مهملة بذلك السياق اللازم لفهم الأشياء، ذلك أن الفكر المجزأ إن كان مفيداً في الإحاطة بالآلات، فإنه غير مُجدٍ لدراسة العلاقات الإنسانية والإحاطة بتعقد المشكلات بسبب شكلانيته المفرطة وتجاهله للذات والوجدان والتفاعلات.

وينتقد نقداً جذرياً أحد أوجه هذا الفكر، متمثلاً بالعقلانية المجردة التي يسميها «العقلانية الزائفة» وتطبيقاتها المركزة على الرفع من مردودية سطح الأرض، وما تؤدي إليه من تدمير للبيئة والتعمير، وتكاثر للضواحي السكنية والمدن الجديدة، وتزايد للفقر والخراب.

إن هذه التطورات المتعددة على مستوى البيئة والإنسان كانت نتيجة تطبيق هذه العقلانية، ونتيجة الذكاء المختزل والمجزأ. ويذهب الكاتب إلى أن البديل يتمثل بعقلانية حقة، متفتحة ومحاورة للواقع، تظل في حركية متواصلة، وتأخذ بعين الاعتبار الوجدان والحياة والذات، حيث تعطي القيمة للأسطورة والحنان والحب والندم، بشكل يجعلها تتدبر غير القابل للعقلنة.

إن الوصول إلى هذه العقلانية يقتضي تجاوز الاعتقاد بالمركزية الغربية، والتركيز على «الهوية الأرضية والإناسية السياسية»، التي تتطلب أسساً يجملها في: إصلاح الفكر الضروري من خلال إصلاح فكر السياق، وذلك بالنظر إلى التنوعات الثقافية والحيوانية والبنائية كنتيجة لتجارب قديمة زمنياً وغير منفصلة عن سياقها الثقافي، وكذلك من خلال الفكر المركب، القائم على الربط بين ما هو منفك ومقسم، وعلى التعدد، والتنظيم والتنسيق.

ويتطرق في المحور الخامس إلى فكرة ظهور المجتمع العالمي، ويذهب إلى أن العولمة التي ابتدأت في القرن العشرين، تؤسس في طورها النهائي المتمثل بالعولمة التقنية والاقتصادية، لظهور بنية تحتية لمجتمع عالمي. ويعتبر نظام التواصل المعولم، والاقتصاد الذي أصبح عالمياً، والحضارة العالمية النابعة من الحضارة الغربية، وتتطور بتفاعل العلم والتقنية والصناعة والرأسمال، والثقافة الكوكبية، حيث ساهمت وسائل الإعلام خلال القرن العشرين في صنع فولكلور عالمي، مشترك بين مواطنين من مختلف مناطق العالم، وفن عالمي، وحياة ثقافية… أهم مظاهرها.

تشكل إضافة إلى بوادر المجتمع المدني العالمي، المتمثلة بجهود جمعيات المجتمع المدني على مستوى العالم في حماية فئات اجتماعية ومساعدتها، كمنظمة «العفو الدولية» و«منظمة السلام الأخضر»، ومنظمة «البقاء الدولي» وغيرها… وأنشطة التنسيق بين سكان المجتمع المدني على المستوى العالمي… ممهدات المواطنة الأرضية.

غير أنه بالرغم من هذه التشكلات المشتركة لنظام الاتصالات والاقتصاد والحضارة والثقافة والمجتمع المدني العالمي، إلا أن كوكب الأرض يفتقد كثيراً من الإجراءات الأساسية للتنظيم والتقنين في ميادين الاقتصاد والسياسة والشرطة والمجال الحيوي والحكم، فالعولمة حسب المفكر وضعت البنية التحتية لمجتمع عالمي، لكنها لم تستطع بناءه.

ويركز في هذا الإطار على المظاهر والقضايا المعبِّرة عن صعوبات بناء المجتمع العالمي، كحدث 11 أيلول/سبتمبر 2001 الذي كشف وجود شبكة دينية لها فروع في كافة البلدان، وبين الحاجة إلى شرطة عالمية، وإلى سياسة عالمية لمواجهة الإرهاب، ومفهوم التنمية المهيمن على المستوى العالمي الذي يمجد المركزية الغربية، ويقدس الإنتاجية وفق معايير كمية دون أي اعتبار للمشاعر الإنسانية، والمجالات الحيوية والثقافية.

ومن أجل بناء مجتمع عالمي مقتدر، يدعو إدغار موران إلى تحقيق سياسة إنسانية قادرة على تحقيق التضامن العالمي في مجال الصحة والتغذية، وتحقيق العدالة لجميع الأشخاص، وتكوين الخبرات المشتركة والحفاظ عليها، تلعب فيها الوكالات الدولية، لا سيّما التابعة للأمم المتحدة، والدول الغنية الدور الرئيسي، هذه السياسة الحضارية الإنسانية قوامها تطوير أفضل ما في الحضارة الغربية، وتجاوز أسوأ ما فيها، وتحقيق تكامل بين الحضارات.

ووعياً منه بصعوبة ذلك، ينبه إدغار موران إلى ما يمكن أن يواجه بناء سياسة للإنسان وسياسة للحضارة من حواجز، يجملها في: المقاومات القطرية والعرقية والدينية الساعية إلى البلقنة والمعارضة لتوحيد المجتمع العالمي، واحتمالات الهيمنة التامة، وظهور حكومة إمبريالية عالمية تفتقد للإنسانية، إضافة إلى طول بناء إنسانية عالمية متحضرة، ذلك أن بناءها قد يكون مصاحباً بهمجية، واستغلال، وعدم استقرار، وصراع على المصالح. ولمواجهة هذه الصعوبات يدعو إلى ضرورة الإصلاح الداخلي للأذهان والأشخاص.

ويواصل إدغار موران في المحور السادس التطرق إلى تطورات الطور الأخير للعولمة الذي بدأ في أواخر القرن العشرين، ويجملها في ما يلي:

– اتساع مجال العلوم والآداب والفلسفة على الصعيد العالمي، من خلال تزايد التراجم في مختلف اللغات، وتداول الموسيقى، والانفتاح بين الغرب والشرق، بشكل يؤشر إلى بداية تشكل ثقافة عالمية جديدة.

– تطور تصنيع الثقافة وتسويقها من سينما وكتب، والتي لا تلغي الأصالة والموهبة والتنوع في جميع الأحوال.

– انتشار فولكلور كوكبي، بفضل وسائل الإعلام التي ساهمت في نشر فولكلور عالمي انطلاقاً من مواضيع أصيلة نابعة من ثقافات مختلفة.

– انتشار تركيبات جديدة عبر وطنية، وذلك من خلال الاختلاط بين الثقافات والإخصاب المتبادل بينها، يظهر ذلك في الموسيقى على وجه الخصوص، كالفلامنكو والجاز والروك والراي.

– العودة إلى الأصول، ففي ظل تزايد التأثير المتبادل بين الشعوب والثقافات، يلاحظ نوع من العودة إلى الينابيع والمصادر الأصلية، يتجلى ذلك بشكل واضح في الموسيقى، بشكل يسهم في دفاع الثقافات عن نفسها وتحقيق المقاومة.

ويدافع إدغار موران عن صيانة التفردات الثقافية، وتشجيع الاختلاطات «لتحقيق مجتمع عالمي يقوم على عبقرية التنوع لا على غياب عبقرية التجانس» (ص 105)؛ أي المحافظة على الوحدة العالمية ونشرها، والمحافظة على التنوع ونشره.

ويخصص إدغار موران المحور السابع لقضية عولمة الإرهاب، ويناقش أهم المواضيع الفاعلة فيها، حيث يذكر، باختزالات الإرهاب وغموض مصطلحات الإسلامي والإسلاموي والأصولي، وما تؤدي إليه من مغالطات فكرية وفعلية. كما يتناول تناقضات الأنظمة المرتبطة بالإرهاب العالمي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فإذا كانت هذه الأخيرة تعد أعرق ديمقراطية، وقامت بحماية عدد من الشعوب الأوروبية من النازية والاتحاد السوفياتي، وحماية المسلمين في البوسنة وفي كوسوفو، وتعتبر ثقافتها خلاقة في مجال العلم والأدب والسينما والفن، فإنه بالرغم من ذلك، تعبر الولايات المتحدة الأمريكية عن وجه مناقض، متمثل في أنها قوة إمبريالية تهيمن عالمياً عن طريق التسليح والاقتصاد، وتقديم المساعدات للدكتاتوريات. ويذكر في هذا الإطار بتفجيرها للمدن الألمانية، ومذبحتي هيروشيما وناغازاكي، وتدخلها في أفغانستان.

كما يناقش التناقضات التي تثيرها الولايات المتحدة على المستوى العالمي، إذ بقدر ما تتعولم جاذبيتها كبلد للهجرة والتقدم الاقتصادي، فإنها تتعولم كذلك مشاعر الكراهية اتجاهها باعتبارها سبباً للفقر في الكثير من مناطق العالم، ومصدراً لشرور العالم.

ثم يناقش تناقضات العالم الإسلامي، فهذا العالم الذي كان مصدراً لحضارة مهمة، وناصر التسامح بين الفئات المسلمة والمسيحيين واليهود يعرف اليوم تزايد النزعة الإرهابية، نتيجة سيادة الدكتاتوريات وتزايد ظلم إسرائيل المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ويختم هذا العنصر بإثارة تناقضات إسرائيل التي قامت على تحرير اليهود وتجميعهم، لكن في الوقت نفسه تغتصب أراضي الفلسطينيين وحقوقهم، وتتزايد أطماعها التوسعية؛ ما يؤدي إلى زيادة الكراهية العربية.

ويعتبر المفكر عولمة الإرهاب أحد مظاهر المجتمع العالمي الجنيني، مركزاً في هذا الإطار على «القاعدة» وما تقدمه من تجاوز للتراب الوطني والحدود، ومن قدرة مالية وعسكرية وتنظيمية عابرة للأوطان بشكل يجعلها تفوق الدولة؛ عولمة الإرهاب تسهم في خلق بيئة تتزايد فيها المخاطر، يغذيها غياب نظام للتقنين العالمي، وتشكل وسطاً مناسباً لعيش الدكتاتوريات الجديدة وتزايد الكراهية.

ويناقش إدغار موران في المحور الثامن تزايد نزعة العودة إلى الماضي في الوقت الحاضر، ويعتبرها بمثابة يوتوبيا، كما يناقش صعوبة إدراك الواقع الحق باعتباره ينطوي على لايقين إضافة إلى اليقين. ومن ثم فإن هناك دائماً صراعاً بين المثال السياسي والواقع السياسي، وتناقضاً بينهما.

وبناء على ذلك، يدعو الفيلسوف، إلى فكر مركب ومعقد، قادر على الإجابة عن تحدي التعقيد، يركز على اليقين كما اللايقين، والربط بين الظواهر.

ويطرح إدغار موران في المحور التاسع خلاصة لأهم الأفكار التي طرحها في العناصر السابقة، متمثلة أساساً بطرح احتمال اقتراب البشرية من نهاية التاريخ ليس بمعنى فوكوياما، ولكن بمعنى مقولة هايدغر «أصولنا توجد أمامنا»، حيث بداية جديدة.

ويذهب المفكر إلى أن تحقيق هذه البداية يتطلب العودة إلى الأصل. ومن خلال عودته إلى علم الجينات يحاول شرح هذه الفكرة، ويقر بوجود قدرات خلّاقة في المجتمع بإمكانها تأسيس بداية جديدة. ويتطلب انبعاث هذه القدرات الخلاقة توفر ظروف أزمة، باعتبار الأزمات تحرك الإمكانات الكارثية، كما تحرك إمكانات خلاقة ومبتكرة.

ولكون العالم يوجد في أزمة، والنظام الأرضي عاجز عن معالجة مشكلاته الحيوية لأسباب اقتصادية واجتماعية وبيروقراطية وسياسية، فإن الأمر يمكن أن يفتح تحولاً تأخذ فيه مقولة هايدغر معنى جديداً حيث «عودة إلى الأصل تتجاوزه إلى أصل جديد» (ص 153).

إذا كان إدغار موران يخصص محاور الكتاب إلى إظهار التعقيدات والتعارضات والتداخلات على مستوى الكرة الأرضية، فإنه يخصص المحور الأخير لكشف الجوانب المتعارضة داخل الظاهرة الواحدة، حيث أصبحت المجالات في ظل العولمة تربط بين المتعارضات، وتعارض بين المترابطات.

ويذهب من خلال ذلك إلى تأكيد مقولة أن العولمة متعددة وواحدة معاً، إذ يمكن الحديث عن العولمة التقنية والاقتصادية، وعولمة الأفكار الديمقراطية والإنسانية، والعولمة الثقافية، وفي إطار كل عولمة نجد جوانب متعارضة.

فالعولمة الاقتصادية تحمل تعارضاً بين زيادة تفوق الغرب وهيمنته، وبين ظهور قوى جديدة من آسيا وأمريكا الجنوبية، كما تتضمن تعارضاً من جهة أخرى بين مساهمتها في تطوير عالم متعدد الأبعاد، وبين زيادة التبعية، إضافة إلى التعارض بين التوحيد التقني والاقتصادي، وبين التشرذم القائم على العرق والدين والقومية والقطرية.

وفي إطار ذلك، يشير إلى التعارضات التي يعرفها التقدم التقني مثل سلبيات تطوير أسلحة الدمار النووي، وإيجابيات الانصهار النووي، والاكتشافات الجنينية التي تؤدي إلى تمديد أمد الحياة والشباب، ولكن في الوقت ذاته تشكل خطراً على البشرية.

ويختم مناقشته للعولمة الاقتصادية بالإشارة إلى آثارها السلبية، كخلق أزمات متتالية، والفقر وتدمير البيئة.

أما عولمة الأفكار الديمقراطية والإنسانية، فإن تناقضاتها تتجلى في أزماتها، وأزمة الحضارة الغربية، وعيوب الفكر المهيمن، وأزمة الحضارات التقليدية، وعجز الفكر السياسي عن التنبؤ بأزمات الكرة الأرضية، وعن الإتيان بمقترحات بديلة، وعن صيانة سياسة إنسانية.

إن مجمل هذه التناقضات تحمل الكثير من بوادر التحول وهي بوادر يمكن أن تقود إلى الهاوية، كما يمكن أن تقود إلى بناء نظام متحول شديد الغنى.

بالرغم من أن الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران يطرح في كتابه نظرة عميقة لفهم الواقع الدولي، تركز على مجالات متعددة وأوضاع مختلفة، تستحضر أصول الحضارة الغربية وتطوراتها، كما تستحضر جملة من الوقائع المدعمة لعمق تحليله المتميز، والمنتقدة للمركزية والهيمنة الغربيتين وآثارهما على مصير الحضارة الإنسانية، إلا أنه لا يخلو من بعض الهفوات.

فوراء التحليل الواقعي للحضارة الغربية، والوضع العالمي، يختفي حس فلسفي مثالي، يظهر من خلال إلحاحه في مختلف محاور الكتاب على الدعوة الغائية إلى ما يجب أن يكون. ووراء التحليل المتناسق للأفكار يختفي تكرار ملاحظ لبعض الأفكار؛ كتكرار عنوان الكتاب في المحورين الأول والأخير، وتكرار عدد من الأمثلة المعبرة عن وجهة نظره للتحول، وكذا تكرار مناقشة عدد من مظاهر العولمة بالطريقة الواحدة. وكأن المفكر من خلال ذلك، يريد أن يقنع القارئ بأفكاره، لإيمانه بتميزها من التحاليل المسيطرة في الغرب.