ليس من شكّ في أن رحيل نوري المالكي من السلطة في العراق سيريح العراقيين جميعاً: الذين عارضوه بشدة، طوال الأعوام الماضية، والذين حالفوه ومكّنوا له أسباب البقاء قبل الانقلاب عليه، بمن في ذلك أعضاء حزبه وكتلته النيابية. والرحيل هذا اجتمع عليه العالم والإقليم نظيرَ اجتماع العراقيين عليه: ارتضاه وسعى فيه مَن ناهضوه ـ جهرة ـ في الإقليم، وساعدوا المعارضة وسائر العراقيين في الوصول إليه؛ ووافق عليه ـ تحت وطأة الضغط ـ أولياءُ نعمته في الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. ونحسَب أنه ما من سابقةٍ، في التاريخ المعاصر، حَصَل فيها مثل هذا الإجماع ـ بين المختلِفين والمتخاصمين ـ على رحيل رجُلٍ من السلطة كما حصل مع المالكي.

مَن يحاول أن يصوّر الرحيل، والإجماع الوطني ـ الإقليمي ـ العالمي عليه، وكأنه «مؤامرة» إنما يعطي المالكي مكانةً تفوقُ حجمه، ويُهين شعب العراق الذي اكتوى بتسلطيته وفساده، طوال ثماني سنوات من حكمه، ويستهين بالقوى المحيطة والدولية التي ائتلفت ضدّه. لقد كان عهدُه السياسي كابوساً ثقيلَ الوطأة على العراقيين ثِقْلاً لا عَهْدَ لهم به قبلاً. وكان الظنّ، في ما مضى، أنه كذلك (أي كابوس) بالنسبة إلى قسمٍ من العراقيين فقط: تحيَّف نظامُ المالكي في حقهم فأقصاهم من المشاركة في السلطة والثروة، نتيجة موقفه الطائفي والمذهبي المغلق والبغيض، وعداوته الشديدة للمقاومة الوطنية أثناء الاحتلال… إلخ، ولكن تبيَّن أنه كان كابوساً عند قسمٍ آخر ظُنَّ أنه حظيَ بالأثرة من نظام المالكي، وأن ثِقْل وطأةِ ذلك الكابوس عليه لم يكن أقلّ ممّا كان عند القسم العراقي الآخر؛ فلقد وزّع الرجلُ أسباب النفور منه على الجميع!

ذهب المالكي غيرَ مأسوف عليه. ولكن هل ذهبت معه أزمةُ النظام السياسي، وأزمة الدولة والكيان الوطني في العراق؟ هل يعني رحيلُه نهايةً لحال التأزُّم السياسي الشديدة والمديدة في البلد، ونهايةً للاستقطاب الداخلي والمنازعات الأهلية المستمرة، التي مزقتِ النسيج الاجتماعي والوطني، وحوَّلتِ العراق من وطنٍ جامع ودولةٍ موحَّدة إلى معازِل أو كانتونات ومناطق مغلقة على نفسها تتقاسم النفوذ والثروة بقوة الأمر الواقع؟

لا نقول هذا الذي نقوله لأن الذي جِيءَ بهِ ـ بدلاً من المالكي ـ ينتمي إلى البيئة الحزبية والنيابية نفسِها التي ينتمي إليها المالكي، وإنما نُلقي بهذه التساؤلات على أزمةٍ عميقة في العراق لم يكن عهدُ المالكي إلّا واحداً من نتائجها. والأزمات لا تُحلّ بمعالجة نتائجها، وإلّا ولَّدت أخرى إنْ بقيت أسبابُها التكوينية والبنيوية من دون علاج! والأزمة في العراق، أمس واليوم، أزمةُ كيان أو أزمة الدولة الوطنية، التي قوَّضها الاحتلال الأمريكي وأعاد تركيبَ النظام السياسي فيها على أسس تفكيكية تضع القواعد والأسباب لتوليد أزمتها باستمرار. ولأزمة الدولة الوطنية في العراق اليوم مظهران وعنوانان: أزمة النظام السياسي، القائم على الاحتصاص («المحاصصة») الطائفي والمذهبي والإثني، وأزمة الغزو «الجهادي» التكفيري الخارجي الذي يمزق النسيج الاجتماعي العراقي.

في الوجه الأول من الأزمة، أتت هندسةُ بول بريمر للنظام السياسي (= الطائفي ـ المذهبي ـ الإثني) في العراق تستكمل عملية تدمير الدولة الوطنية التي بدأتْها الغزوةُ الكولونيالية الأمريكية ـ البريطانية في العام 2003. قضت تلك الهندسةُ بتقسيم النظام بين «مكونات» (= عصبيات) ثلاث، وبتقسيم الوطن إلى دويلات ثلاث، وتوفير الشروط المادية لتمكين محافظات أربيل ودهوك والسليمانية (= كردستان العراق) من مقومات «الاستقلال» والذهاب بالحكم الذاتي إلى الانفصال! ولما كان احتلال العراق قد أسفر عن «منتصر» ومهزوم، فقد حظِي «المنتصر» بالقسط الأعظم من «كعكة» السلطة والثروة، وقُذِف للمهزوم بما شَاطَ عن حاجة «المنتصر». أزْمات العراق جميعُها، منذ العام 2003، متولّدةٌ من هذا الخلل الحادّ في التوازن الذي كرّستْه الهندسة الكولونيالية للنظام من طرف بول بريمر، ونظام المالكي ترجمةٌ مادية لذلك الخلل وتلك الهندسة. ولذلك ليس لمشروعٍ طائفي ـ مذهبي حاكم إلّا أن يُنجب مشروعاً نقيضاً ينهل من الأسس عينِها!

ولا يَظنَنَّ أحدٌ أن الردَّ على ذينك الخلل والهندسة يكون بتعديل الميزان وتغليب كفة فريق على فريق، أو بالنَّصَفَة في قسمة «الحقوق» الطائفية والمذهبية والإثنية، وإنما يكون بالخروج عن هذا النظام العصبويّ برمّته إلى نظامٍ وطنيّ جامع قائم على علاقات المواطنة والاندماج الاجتماعي والوطني. وليس ذلك بعزيزٍ على العراقيين ـ ولا غريب عن تاريخهم السياسي المعاصر ـ إِنِ اجتمعت إرادتُهم على ذلك، واستقلّوا بقرارهم السياسي والسيادي. قد تطول الطريق إلى هذا الهدف، لكنها وحدها السبيل إلى إعادة بناء الوطن والدولة، وكفِّ أخطار التفكُّك والتقسيم والحرب الأهلية؛ التي تقترحها الطائفية والمذهبية على البلد وشعبه.

وفي الوجه الثاني من الأزمة، تُمثّل الغزوة الجامحة لتنظيم «داعش» ـ وقد انتقل نطاقُها من الفلوجة إلى الموصل إلى مدن الشمال إلى مداخل بغداد ـ الضغطَ السياسيَّ والعسكريَّ على كيان العراق، ووحدته الوطنية والإقليمية، بعد ضغط الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني وتداعياته التدميرية والتفكيكية المستمرة مفاعيلُها ـ حتى اليوم ـ من دون انقطاع. وتعادل نتائجُ هذه الغزوة «الجهادية» النتائجَ عينَها التي خلّفها الغزو الكولونيالي الأمريكي؛ فإلى أنها أزهقت أرواح العراقيين ـ في المناطق التي حطَّت فيها رحالها ـ شرّدت مئات الآلاف من مدنهم وقراهم ومساكنهم، ورمت بهم في الجبال أو في الفيافي هائمين على وجوههم، ومزّقتِ البقية الباقية من الروابط التي تجمع بين العراقيين من المِلل والنِّحل كافة، وكفّرت مخالفيها من المسلمين، حتى من «أهل الجماعة والسّنّة»، وأخذتِ البيعة لأميرها (الذي صار «خليفة») كَرْهاً بالحديد والنار، ووضَعَتْ يدها على بعض مقدّرات الشعب العراقي، وأوّلُها النِّفْط، وهي اليوم تهدِّد بأن تتحوّل إلى دولةٍ حقيقية لن يكون زوالُها سهلاً على أحدٍ في المستقبل المنظور!

وليست خافية الأسباب التي سمحت لـ «داعش» بهذا النموّ السريع، والتمدد الخرافي لابتلاع ما يقرب من ثلث العراق في بحر أسابيع معدودات؛ فمن جوف البنية الطائفية والمذهبية العامّة في العراق خرجت، وعلى صهوة البيئة النفسية المسكونة بمشاعر المظلومية والغبن والحرمان ـ السائدة في بعضٍ كبيرٍ من بلاد الرافدين ـ ركبَتْ وركَّبتْ مشروعها السياسي الغريب عن ثقافة العراقيين وتقاليدهم. ولا يستسهلنّ أحدٌ أمر هذا التنظيم، ويعلّق الأمل في وقْف زحفه على طائرات الأجنبي وقرارات مجلس الأمن (وآخرها القرار 2170 الصادر في 15/8/2014). إن العراقيين وحدهم يملكون إنهاء هذا التنظيم وكفّ أخطاره على بلادهم ووحدتها. وليس المقصود، هنا، الإنهاء العسكري فحسب، وإنما الإنهاء السياسي والاجتماعي. وبيانُ ذلك أن الاهتداء إلى مشروع وطني يعيد بناء الدولة والوطن على قاعدة المواطنة ومنظومة الحقوق المدنية والسياسية، ومبدأ المشاركة في السلطة، ودولة القانون والمؤسسات…، سيولّد نتائجه على صعيد البيئات الحاضنة لمثل «داعش»، فيدفعها إلى الصيرورة بيئةً نابذة. غيرُ ذلك ستبقى «داعش» حيث هي، وقد يخرج إلى الوجود غداً ما هو أهْول!

 

قد يهمكم أيضاً  الذئاب المنفردة «الملاذ الأخير لداعش»

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العراق #الإحتلال_الأمريكي_للعراق #داعش #المذهبية #نوري_المالكي #الحرب_الطائفية_في_العراق #الحرب_في_العراق #وجهة_نظر