المؤلف: عبد الإله بلقزيز

مراجعة: محمد مصطفى القباج‏[1](**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 287 ص

ISBN: 9789953827711

 

– 1 –

تعود علاقتي العلمية بعبد الإله بلقزيز إلى ثمانينيات القرن الماضي في رحاب كلية علوم التربية التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط. كان وقتها يحرر أبحاثاً أكاديمية في مجال تخصصه الفلسفي التربوي بأسلوب ولغة في غاية الجلاء والعمق، وبجرأة في استعمال أقيسة لغوية للتعبير عن أدق المفاهيم. منذئذ تنبأت له بمستقبل علمي يحتل فيه منزلة مرموقة ضمن كبار مفكِّري المغرب والوطن العربي. ومنتجي نصوصه من كتب ومباحث، تصب كلها في فهم ما يجري على الساحة العربية الإسلامية وفي افتحاص المؤلفات ذات القيمة العلمية الكبرى لمشاهيـر المفكرين في الفترتين الحديثة والمعاصرة. وقد ترسخ في ذهني عن بلقزيز عمق انتمائه القومي العروبي الحالم بالوحدة العربية لا يرتاب في أنها آتية مهما طال الزمن، وفي الوقت ذاته انخراطه في التوجه الحداثي الذي يرى أنه الشرط الضروري لإقلاعة حضارية وخيار ديمقراطي يكرس كرامة الإنسان العربي ويوفر له فسحة من الحرية فكراً وتعبيراً. ويرجع الفضل إلى باحثنا في تكوين جيل من الباحثين الشباب مسرباً إلى عقولهم هاجس الإثراء المعرفي مضموناً ومنهجاً. وأكاد أجزم بأنه بصدد تكوين مدرسة علمية مغربية وعربية تسير على هدي المجاهدين الكبار من عيار عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وغيرهما من المفكرين المغاربة والعرب.

ومما يحسب لبلقزيز أنه نجح في التوصل إلى منهجية متفردة في التعامل مع النصوص بروح نقدية نفاذة تستثمر تراكماً معرفياً يغطي مساحة واسعة من حقول الفلسفة والعلوم الإنسانية، ونعرف أن باحثنا خص لمفهوم النقد دراسة تجعل منه ممارسة يميّزها استعمال العقل في الكشف عما يجعل التناول منطقياً مؤصـلاً، ويفتح المسالك لعيار النصوص بهذا المقياس. النقد عنده لا يعني التقييم الإيجابي أو السلبي لإظهار المحاسن وكشف المساوئ والنقائص، هذا الأمر لا يعنيه، بل إن جهده العلمي يتغيا الحفر داخل المتون لإيضاح المعاني والتصورات. يتجلى ذلك واضحاً من خلال آخر ما صدر له هذه السنة وهو الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة له، والموسوم بـ نقد الثقافة الغربية: في الاستشراق والمركزية الأوروبية، وهو الجزء الرابع والأخير من مشروعه العرب والحداثة. الذي سبق لمركز دراسات الوحدة العربية أن نشر أجزاءه الثلاثة وهي من الإصلاح إلى النهضة، ومن النهضة إلى الحداثة، ونقد التراث؛ مستفيداً من حصائل المنهج المتفرد الذي بناه، وكذا من المقاربة التي عالج بها المفكر المغربي ذائع الصيت عبد الكبير الخطيبي إشكالية الذات والآخر وأطلق عليها النقد المزدوج، ما يعني أن المفكر وهو يسائل واقعه لا بد من أن ينتبه إلى أن واقعه مدموغ بواقع «آخر» في علاقة جدلية تحرك التاريخ المشترك للذات وآخرها.

في هذا الجزء من رباعية بلقزيز العرب والحداثة يتفحص ما في المتون العربية من نقد للآخر أي للمتون الغربية الأوروبية في مختلف سياقاتها الجغرافية ومدارسها المختلفة وهو المسوغ الذي جعله يضع لكتابه العنوان الفرعي: في الاستشراق والمركزية الأوروبية مركِّزاً على مؤخذات الحداثيين العرب وهم يتصدون لمفاعيل وآثار المتون الاستشرافية، مشوبة بالنزوع المركزي الأوروبي (euro-centrique) أو في نطاقها الأوسع الذي يتمظهر في الثقافة الغربية بعد أن دخلت على الخط الولايات المتحدة الامريكية بمفكريها وسياسييها.

وعلى الرغم من تشعب المقاصد البلقزيزية فقد استطاع هذا الباحث، وبحذاقة، أن يخط هندسة لمفاصل بحثه موزعة على أقسام أربعة وفصول تسعة مسبوقة بمقدمة وملحقة وثبت للمراجع وفهرس للأعلام.

القسم الأول: النهضويون العرب والاستشراق تحته فصل أول: من الانبهار إلى الحوار، وفصل ثان: الاستشراق بين التماهي والتمايز في ضوء مباحث عبد الرحمن بدوي. القسم الثاني: الاستشراق والمؤسسة تحته فصل ثالث: نقد الخلفيات الكولونيالية للاستشراق من خلال نموذج أنور عبد الملك. وفصل رابع: الاستشراق ونقد الخطاب من خلال نموذج ادوارد سعيد. القسم الثالث: الاستشراق في عيون نقدية، تحته فصل خامس: الأصول الأوروبية لنظرة الغرب من خلال نموذج هشام جعيط، وفصل سادس: الاستشراق وحدوده المعرفية – المنهجية من خلال نموذج محمد أركون. وفصل سابع: نقد الاستشراق من خلال نموذج عبد الله العروي. القسم الرابع: في نقد المركزية الأوروبية: تحته فصل ثامن في نقد المركزية الأوروبية وثقافويتها من خلال نموذج سمير أمين. وفصل تاسع: من المركزية الأوروبية إلى المركزية الغربية في نقد مفهوم الغرب وأسطورته من خلال نموذج جورج قرم. هذه الأقسام والفصول موزعة بدورها إلى ترقيمات بالحروف وترقيمات بالأعداد ليسهل على القارئ ضبط محتويات الكتاب. ويجب التنبيه إلى أن بلقزيز يقصد بالنقد ليس التقييم الإيجابي أو السلبي للمتون، ولكنه يقصد بالنقد مفهومه الفلسفي، وبالأخص عند «إيمانويل كانط» أي استعمال العقل للبرهنة في كل ميدان حقول تطبيقاته، وهذا متأت بفضل تكوينه الفلسفي العام.

– 2 –

من اللافت أن بلقزيز يعلن بالتصريح لا بالتلميح أن سبب اختياره موضوع الجزء الرابع من مشروعه العلمي قطاع الاستشراق لأنه أكبر إنتاج في الفكر الأوروبي والغربي اتصالاً بنا نحن العرب ولمجتمعاتنا وثقافاتنا واعتباراً له كمقياس لعيار درجة التفاعل النقدي. من ناحية أخرى يقر باحثنا، وبكل تواضع، أنه لم يتناول جميع من كتبوا في الاستشراق من الحداثيين منذ ستينيات القرن الماضي (ألبرت حوراني – محسن مهدي – حسن حنفي – عزيز العظمة – بنسالم حميش – رضوان السيد – سالم يفوت – محمد عبد الهادي أبو ريدة – مؤنس حسين – محمد عزيز الحبابي – محمد الطالبي – إحسان عباس – محمد عابد الجابري …) رغم أنه قرأ لهم، لأن ما أراد التعمق فيه ليس الأفكار وإنما التاريخ النقدي للفكر بواسطة منهجية استشكالية تحليلية نقدية هي مطالعة لتاريخ الفكر غير ما هو مألوف في دراسة التاريخ العربي الإسلامي. بالتالي هو لا يؤرخ ولا يبحث في كل الفكر بل في بعضه من منظور العلوم الإنسانية كافة (التاريخ، علم الاجتماع، علم الاقتصاد، علم السياسة، الفلسفة، الأنثروبولوجيا واللسانيات) فنص الكتاب تركيبي بامتياز. ويتضح من خلال خطاطة الكتاب أن بلقزيز يشتغل بهاجسين: هاجس معرفي وهاجس بيداغوجي؛ فهو يثري المعرفة العلمية بالفكر العربي الحديث والمعاصر وفي نفس الآن يتيح للدارسين والطلبة مادة منهجية وتكوينية وفق معايير الأنساق التعليمية الجامعية.

أكيد أنه من الصعب تلخيص محتويات الكتاب من خلال خطاطته أقساماً وفصولاً، ولكن لتسهيل قراءته سأحاول جهد المستطاع التمكين من المفاتيح التي يمكن بها للقارئ أن يلج إلى صلب الطرح العلمي للإشكالية الأساس في الكتاب.

في المقدمة يعلن بلقزيز أن هناك سبعة تنويعات على مقام النقد في الفكر العربي، ينصرف الواحد منها غير منصرف غيره، وينطلق من مقدمات هي غير ما هي لدى غيره: نقد التراث وتبجيل الغرب لدى من يجهلون الثقافة العربية الإسلامية ولا يعرفون من الثقافات سوى الثقافة الغربية، وبخاصة الأوروبية. نقد الغرب وتبجيل التراث عند من يجهلون الثقافة الغربية ولا يعرفون من الثقافات سوى الثقافات العربية. تمجيد التراث وتبجيله والإسراف في تلميع صورته من دون نقد الغرب. تبجيل الثقافة الغربية والغرب والتوله بهما من غير نقد التراث. نقد التراث العربي الإسلامي ممن لا يعرفون غير الثقافة العربية الإسلامية، أو ممن لا يتعدى حظهم من الثقافة الغربية نتفاً يسيرة. نقد الغرب والثقافة الغربية ممن ربي وعيهم ولسانهم في أكناف الثقافة الغربية الذين ما عرفوا من الثقافة غيرها. النقد المزدوج يبني صلته بالنصوص المقروءة على مقتضى حوارها وجدالها ومساءلة منطلقاتها واستنتاجاتها ومراميها.

أما نقد الثقافة الغربية الذي يعنيه بلقزيز فينتسب إلى هذا التيار الذي ينتقد التراث وليس غربوياً (occidentaliste) في إطار مشروع ثقافي واحد هو الحداثة، من حيث إنه مشروع تاريخي كوني تبنيه الثقافات والمجتمعات كافة بوصف الحداثة/حداثات. يعني إقدام مثقفي الحداثة العرب على نقد الثقافة الغربية أموراً ثلاثة: أن الباحثين تشبعوا بحس نقدي – وأن الحداثيين العرب القارئين نقدياً في الثقافة الغربية قطعوا شوطاً بعيداً في مضمار التحرر من التغربن بما هو تبعية وافتداء مبتذلان – وأن نقد الثقافة الغربية ومنطلقاتها ينم عن قدر من التشبع بنزعة النسبية في التفكير. وعليه فإنه بين الاستشراق والمركزية الأوروبية (والمركزية الغربية استطراداً) علاقة انطباق في المعنى كما بينهما تقاطع وتخلل، فكان من هذين أن أوحيا إلى كثير من قراء الاستشراق أن الأخير إنما هو من الثمار المرة للمركزية الأوروبية… حيث إن المسألة تدرك من مداخل ما بينهما من تمييزات وما بينهما من جوامع أو تقاطعات.

– 3 –

القسم الأول من الكتاب (النهضويون العرب والاستشراق) وفي فصله الأول (من الانبهار إلى الحوار) يبين فيه الباحث أنه بعد أن تعرف النهضويون والإصلاحيون على الاستشراق في لحظة ازدهاره في النصف الثاني من القرن السابع عشر تفاعلوا أشكالاً من التفاعل باعتباره تحدياً فكرياً يمثل ما كان الاستعمار تحدياً سياسياً. كذلك دهمهم بما هو جزء من المعرفة الحديثة. لقد عني النهضويون بالاستشراق كظاهرة تحمل على المفاجأة والاستغراب بأن الأوروبيين يعرفون عن ثقافة العرب والمسلمين، باقتدار فائق في افتحاص النصوص والدراسة الرصينة بجوانب متعددة من تراث الإسلام والمناهج الحديثة في تلك الدراسة، وأنه مبعث شعور واعتزاز بالذات الحضارية والثقافة العربية.

تحقق التأثير المباشر للمستشرقين في النهضويين عن طريقتين: طريقة اطلاع كثيرين منهم على بحوث المستشرقين في التراث العربي الإسلامي (رفاعة رافع الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا من التيار الاصلاحي، وأحمد فارس الشدياق، فرح أنطون، جرجي زيدان من التيار الليبرالي) ثم من طريق التلمذة المباشرة، خاصة بعد تأسيس الجامعة المصرية والتحاق عدد من المستشرقين بها للتدريس فيها، وتعرف الجيلين النهضويين الخامس والسادس (طه حسين، أحمد أمين، مصطفى عبد الرزاق، إبراهيم مذكور، عثمان أمين، توفيق الطويل، عبد الرحمن بدوي، زكي نجيب محمود، شوقي ضيف…) بحيث أصبح الاستشراق رافداً من روافد فكرة النهضة في الوعي العربي. ستمر علاقة النهضويين بالاستشراق بمحطتين متزامنتين: انبهارية في صورة تلمذة ثقافية تامة، ونقدية في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر في صورة حوار ومناظرة عبر محطتين: الأولى تأسيسية مع الأفغاني ومحمد عبده؛ والثانية نضجت فيها اللغة النقدية مع طه حسين والشيخ مصطفى عبد الرزاق.

من خلال هذه الأنماط التفاعلية يرى بلقزيز أن تأثيرات المستشرقين تجلت في الفكر العربي أكثر مما تجلت في تفكير الجيل المتأخر من النهضويين الذي نما وعيه في حقبة ما بين الحربين، ودخل في ميدان الكتابة والتأليف منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي. رموز هذا الجيل من النهضويين إما أنهم اتصلوا مباشرة بالاستشراق، وإما درسوا على أساتذة كانوا هم أيضاً من تلامذة المستشرقين، وأنتج هذا التفاعل كتابات تعريفية من أبرزها موسوعة المستشرقين التي أعدَّها عبد الرحمن بدوي، وإن لم يكن قد استوعب كل أعلامه. ومن المعلوم أن عبد الرحمن بدوي كان السبّاق لتعريف الاستشراق مميزاً بين تعريفه السياقي وتعريفه الموسوعي، ومحاوراً له بشكل مباشر أو غير مباشر. كان المحصَّل من هذا الجهد العربي المعتبر من جهة إعادة الاعتبار الاستشراق، ومن جهة أخرى تقدير من يستحق التقدير من المستشرقين، ومن جهة ثالثة انتقاد من خدم كولونيالياً السلط الأوروبية والغربية.

– 4 –

كانت هذه المظاهر من التواصل الإيجابي أو السلبي مع الظاهرة الاستشراقية المبرر الإجرائي لمعالجة هذه الظاهرة في علاقتها مع المؤسسة السياسية، وهذا محور القسم الثاني من الكتاب (الاستشراق، التماهي والتمايز) الذي يمثل أنور عبد الملك نموذجه الدال الذي أبان عن معالم أزمة الاستشراق التقليدي والتمايز بين رؤيتين استشراقيتين للشرق وإبداء ملاحظات على التصنيف والمقارنة في كتابه الاستشراق في أزمة. يعتبر أنور عبد الملك – وهو من رموز اليسار العربي – أول من دشن ورشة القراءة النقدية لتراث الاستشراق شارحاً أن هذه الأزمة مزيج من العوامل السياسية والأيديولوجية والمعرفية فكان محط اشتباه. لقد ارتكب الاستشراق التقليدي خطيئتين: عزل الأفكار عن واقعها واختزال ثقافة أمة في الدين واللسان. من ثم فإن عبد الملك بحكم يساريته ومواقفه المناهضة للنزوع الرأسمالي، انحاز إلى الاستشراق في الفضاء الاشتراكي باعتباره استشراقاً جديداً. من وجهة نظره للاستشراق الاشتراكي سمات ثلاث، هي: جنوحه لنقد المركزية الأوروبية، وانصرافه إلى التعويل على الاهتمام بالقضايا الخاصة بمجتمعات الشرق، وردم الفجوة بين الدراسات الشرقية والعلوم الإنسانية والاجتماعية. واضح بالنسبة إلى بلقزيز أن أنور عبد الملك ينتصر لما يسميه الاستشراق الاشتراكي على نظيره الغربي الذي هو عنده الأكثر موضوعية ونزاهة وإنصافاً، وهو ما قاده إلى الحديث عن قطيعتين في ذلك الاستشراق: ما أحدثه ميلاد الاستشراق الجديد وما أحدثه داخل الاستشراق الجديد.

يسجل بلقزيز ملاحظات على نموذج أنور عبد الملك، فبالنسبة إليه تشكل دراسته دراسة تأسيسية، وككل دراسة تأسيسية لا بد من قدر من النقص والثغر يعتورها. فقد غيَّب شخصية الاستشراق الذاتية ليختزله في مجرد أداة من الأدوات الثقافية التي يتوسلها المشروع الكولونيالي، كما يؤخذ عليه أنه أحجم عن مناقشة الاستشراق من الداخل بما هو «علم» في مضمونه الفكري والمعرفي الذي تفصح عنه أعمال المستشرقين أو تظهره. إضافة إلى هذا وذاك انساق الرجل إلى إجراء تصنيف أيديولوجي، ووضع الاستشراق الاشتراكي في مقابل الاستشراق الغربي بعد أن كان قد عمد إلى تصنيف تاريخي معرفي ميز فيه بين استشراق كلاسيكي وآخر جديد. زد على هذا أنه مال إلى الانحياز المعلن إلى الاستشراق الاشتراكي بمجرد أنه معادٍ للثقافة الغربية الكولونيالية، بقطع النظر عما في جعبته من مادة فكرية. ويلحظ قارئ دراسة عبد الملك أن بين مضمونها وعنوانها تناقضاً لم تنجح في رفعه: ففيما هي تعلن عنواناً أن موضوعها مقاربة «أزمة الاستشراق» وتحليلها، لا تفعل ذلك كـلاً وإنما موضعياً حتى لا نقول انتقاءً، حين تحصر تلك الأزمة في الاستشراق الأوروبي نائية بالاستشراق الاشتراكي عنها، ولكنها موحية بذلك النأي – في الوقت عينه – بأن هذا الأخير وفر للدراسات الشرقية مخرجاً من تلك الأزمة، وبالتالي فإن الدراسة لم تدرج الاستشراق الاشتراكي في صدر مدار إشكالية العلاقة بين المؤسسة والمعرفة.

يطرح الفصل الرابع من القسم الثاني نموذجاً في نقد الخطاب الاستشراقي من خلال نموذج إدوارد سعيد الذي جعل موضوعته الرئيسية علاقة الاستشراق بالمؤسسة والمشروع الكولونيالي، وبعبارة أخرى تحليل الفكرة الأوروبية عن الشرق للسيطرة عليه مع انتباه خاص للاستشراق البريطاني – الفرنسي ثم الاستشراق الأمريكي، والجامع بين هذه الاستشراقات يتمظهر في السلطة. السؤال المحوري الذي يطرحه بلقزيز بصدد هذا النموذج: ما الذي يهتم به سعيد في الاستشراق؟ الجواب المباشر عن هذا السؤال هو أن ما يهم سعيد ليس التأريخ للاستشراق وإنما تحليله ودراسته، أي أن الاستشراق الذي يتصدى له هو حصيلة أربعة عوامل: التوسع الأوروبي، والمواجهة التاريخية، والتعاطف، والتصنيف. هكذا فإن تساؤلات إدوارد سعيد المحورية هي: ما الاستشراق؟ كيف تشكل ورسمت خطوطه؟ ما صورة أو صور الشرق في نصوصه؟ كيف استدخلت إنتاجاته ومؤسساته لخدمة أغراض غير علمية؟ وما مآلاته اليوم؟

الاستشراق من وجهة نظر سعيد يبدأ عملياً في البدايات الأولى للقرن التاسع عشر، لحظة صعود المشروع الكولونيالي في أوروبا باستخدام المعرفة الأوروبية الغربية للشرق من حيث إنه جزء من تاريخ الغرب. تشوبه نظرة دونية للشرق. هذا الشرق إذا لم يكن دون الغرب مكانة فهو في حاجة إلى أن يدرس من قبل الغرب. من ثم فإن الاستشراق علم غربي يمثل الشرق فيه حاجة ثقافية للتمييز بين الشرق والغرب. هذا التفاعل غير المتوازن سرب إلى المستشرقين رؤى ملأى بالمغالطات والتمثلات اللاتاريخية، وأحياناً أسطورية. جماع هذه المعطيات تتركز في كون الاستشراق خطاب – بالمفهوم الفوكوي – سيطرة وقد تحول إلى استراتيجية عمل متكاملة تبدأ من مسح كامل للشرق بأدوات البحث العلمي وفي الوقت ذاته مراجعة حصيلة هذا الجهد كله في تدوين نقدي لتراث الاستشراق.

هنا يطرح سعيد السؤال: كيف أمكن للاستشراق أن يكون «منظومة المعرفة الأوروبية أو الغربية للشرق» وأن يصبح «مرادفاً للسيطرة الغربية على الشرق»؟ ذلك ممكن بفعل حركتين وتأثيرين: حركة علمية وحركة سياسية، مما يضفي عليه طابعاً سياسياً أكثر مما هو علمي يخدم السياسة الكولونيالية الأوروبية ليتجلى كمذهب سياسي مفروض على الشرق الأشد ضعفاً من الغرب. وبالتبعية فإن العلاقة بين المستشرق والشرق علاقة تأويلية (hermenentical) لاستخراج معالم التوجه الإمبريالي الاستعماري، وفي الآن نفسه إفراز صور نمطية أوروبية منحدرة من العصور الوسطى مؤداها أن الإسلام يهدد المسيحية، والنظر إلى الديانة المحمدية نظرة ماهوية.

يتوسع بلقزيز كثيراً في عرض أفكار هذا النموذج، وهو ما أتاح له أن يصدر أحكاماً نقدية حوله. من ذلك أن سعيد كان يستطيع أن يحاكم نصوص الاستشراق في الدائرتين البريطانية والفرنسية من دون السقوط في تعميمات نمطية مجانبة لتقاليد البحث العلمي ومن دون منزع منه لا إلى التلميع ولا إلى التسفيه. ومع ذلك فإن فرادة عمل إدوارد سعيد هي أنه ما اكتفى بقراءة الاستشراق العالمي وإنما زاد على ذلك بأن استدخل نصوص الأدب والرحلة في الثقافة الأوروبية الحديثة المهتمة بالشرق من منطلق منهجي رصين، هو أن في الأدب ساحة واسعة من التمثلات الأوروبية للشرق.

وإذا كان الاستشراق تمثـلاً فإن صور ذلك التمثل تتعدد بقدر ما تتنوع: تتعدد في اتجاهاتها، وتتنوع في لغاتها وأجناسها التعبيرية. والحق – يقول بلقزيز – أن قراءة دقيقة لعمل سعيد لا تستوفي شروطها – كقراءة – إلا بالتعريج على مطالعاته لتمثلات الشرق بنهج مغاير، إذ نقل هذا الصنف من الأبحاث من الميدان الفلسفي، من المعرفة العامة للشرق إلى علم اجتماع متخصص لم يعد معه المستشرق يؤجل ممارسته البحثية للشرق إلى حين تعلمه للغاته، وإنما يبدأ بحيازة تكوين في العلوم الاجتماعية ثم يطبق علمه على الشرق. هذه وحدها يمكن احتسابها مساهمة من أمريكا في تاريخ الاستشراق. ولربما يؤخذ على سعيد أن نقد الاستشراق ينتهي إلى إسناد إلى الإسلاموية والأصولية الإسلامية. وفي ذلك قدر من الصحة فقد استقبل كتابه الاستشراق في الوطن العربي بوصفه دفاعاً عن الإسلام والعرب، داحضاً دعاوي الاستعمار والإمبريالية والصهيونية وألسنتها. غير أن سعيد لم يتصدّ لكثير مما أراده قراؤه واستحسنوه… لقد صرح بأنه لم تكن لديه نية في بيان ما هو الشرق الحقيقي والإسلام الحقيقي. أما أنه أراد من تصفية الحساب مع النظرة العنصرية الكولونيالية إلى العرب والمسلمين فذلك أمر لا يعتذر عنه بل يُعترف له به وهو الأهم في عمله الكبير.

– 5 –

في القسم الثالث من الكتاب (الاستشراق في عيون نقدية) استهله بفصل خامس «الأصول الأوروبية لنظرة الغرب»، فقد اعتمد فيه نموذج هشام جعيط كناقد من خلال كتابه أوروبا والإسلام، اعتبره بلقزيز نصاً موسعاً وشامـلاً في نقد المعرفة الأوروبية عن الإسلام. اختار جعيط في هذا الكتاب أن يوسع نطاق المساحة الزمنية للتأليف الأوروبي حول الإسلام بحيث غطت العصرين الوسيط والحديث، وأن يوسع نطاق عيِّنات الدرس بحيث شملت عدداً من المؤلفين. كان من شأن ذلك أن طبع عمل هذا الباحث انهمام بتحليل المعرفة الغربية متحاشياً مساجلتها، فكان بذلك قراءة علمية مبكرة.

يرى جعيط أن هناك نظرتين للإسلام في العصر الوسيط: نظرة صادرة عن العالم الشعبي، ونظرة من طبيعة مدرسية (سكولاستيكية) بلغت ذروتها في الحروب الصليبية، أي المواجهة الإسلامية – المسيحية في إسبانيا. وفي هذا الصدد برزت حقيقتان: الأولى تأرجح الوعي الأوروبي بين الفتوحات العلمية والفلسفية للإسلام على النحو الذي نظر إليه بوصفه عامـلاً أساسياً في تاريخ الفكر، ورفضه بما هو دين أخلاقاً. والحقيقة الثانية وهي أن النظرة العدائية للإسلام التي تكونت في القرن الثاني عشر، ستتوسع مع الزمن وتتحدد في القرنين الثالث عشر والرابع عشر لتمتد إلى حدود القرن الثامن عشر والحقبة الاستعمارية، وهي الرؤية التي منطلقها العداء لنبي الإسلام ولـ «نبوته المزيفة» التي كبحت تطور الإنسانية نحو التنصير العام.

حين هلّ فجر أوروبا الحديثة (وهي في الحقيقة أوروبات: أوروبا النهضة وأوروبا الإصلاح وأوروبا الأنوار وأوروبا الإمبريالية) تميزت النظرة للإسلام بتمثلات فيها مزيج من الإيجاب والسلب، بين الفضول العلمي وإرادة المعرفة وبين التمادي في إعادة إنتاج رؤى منمطة سابقة وارتجال أحكام عدائية حتى حين تبددها الوقائع. بعد هذه التوصيفات يشرع جعيط في استعراض رؤيته النقدية إلى المستشرقين، مبيناً أن الكتابة عن الاستشراق تغيب نقد كثير من الأغاليط والتنميطات السائدة في «الوعي العلمي» الأوروبي من دون الإجحاف بحق من يحق التنويه بأعمالهم من المستشرقين. لكن بصفة عامة كانت سمة الاستشراق هي التنميط، وفي هذه النزعة من استشراق القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ما يسميه جعيط الرهاب الإسلامي (Islamophobie) ويستصحبه الرهاب العربي (Arabophobie). يتوصل جعيط إلى استنتاج عام هو أن الاستشراق آيل لا محالة إلى الانحلال والذوبان في العلوم الإنسانية الأخرى، وهو عين ما سيحصل فعـلاً بعد كتابة المذكور سلفاً بعقد واحد.

تعليقاً على هذه الطروحات يرى بلقزيز أنه كان يمكن لجعيط أن يتوسع في نقد أحكام القيمة، وأن يلحظ كيف أن الذات العارفة تنطوي دائماً على شعور بحيازة سلطة تجاه موضوعها هي سلطة المعرفة، كما يمكن مؤاخذته بأن عمله تميز بالشمول واتساع النطاقات بحيث أتى تأريخاً لتلك الرؤية منذ العصور الوسطى حتى بداية الفصل الثاني من القرن العشرين، سالكاً في نقده خطاب أوروبا للإسلام مسلك الباحث الذي يزاوج بين منهج التاريخ النقدي ومنهج التحليل السيكولوجي للمعرفة، وفي النهاية يناظر فكر أوروبا مناظرة نقدية صارمة بوجدان عربي (ومسلم)، وبعقل أوروبي يناقش أوروبا من داخل أوروبا. لينتقد الوجه الظلامي فيها: خطاب العنصرية، وأزعومات التفوق العرقي والقيمي والفكري لمجتمعات الغرب وثقافته.

في الفصل السادس (الاستشراق وحدوده المعرفية، المنهجية: مطالعة في نقديات محمد أركون) يقدم الباحث مطالعة في نقديات أركون، ويستهل هذه المطالعة بالإشارة إلى أن أركون لم يضع تأليفاً خاصاً في نقد الاستشراق، لكنه من أكثر الباحثين العرب المسلمين حواراً للمستشرقين ومناظرة ونقداً. وهو بذلك يخرج ملاحظاته النقدية من الأطر الأكاديمية الضيقة، واستثارة حوار فكري عام في شأنها مستعمـلاً في ذلك استراتيجية في الكتابة تقوم على الدراسة التطبيقية في المجال «المختبري» لإعمال الفرضيات والمفاهيم المعلن عنها أو المقترحات كأدوات إجرائية للتحليل، متجنباً التناول الأيديولوجي. ويسجل بلقزيز أن أكثر ما ميّز المساهمة النقدية لأركون في إعادة قراءة تراث المستشرقين الحديث والمعاصر انتباهها الحاد إلى مكمن الخلل وموطن القصور في تراث الباحثين الغربيين في مجال الإسلاميات، ليس في منطلقاتهم السياسية ومخيالهم الديني والصور النمطية المتحكمة في وعيهم، ولا المضامين الأيديولوجية للمعارف التي يكونونها عن موضوعهم، وإنما في المناهج التي يستخدمونها لبناء تلك المعارف. فلقد تبدت لأركون مناهج تقليدية وقاصرة عن توفير أسباب المعرفة العميقة والسليمة للموضوع المدروس. إنها مناهج تقليدية لا تعتمد طرائق البحث الفيلولوجي في تحقيق النصوص الموروثة عن القرن التاسع عشر، وأساليب العرض والوصف المختفية وراء فكرة «الحياد» العلمي. ثم إنها مناهج قاصرة بسبب إحجامها عن الانفتاح الخلاق على مكتسبات العلوم الإنسانية المعاصرة في أوروبا خاصة، وفي فرنسا على وجه أخص.

ومن الملاحظات التي يبديها أركون التجاهل المركَّب، بل الجهل بالإسلام؛ إنه تجاهل يبدو سائداً على أوسع نطاق في مجتمعات الغرب الأوروبي والأمريكي بأثر من سيادة منطق ذلك العقل الوضعي وأحكامه في المجتمع والدولة، وفي أوساط النخب. فلا أحد من الغرب يعرف ما هو تاريخ الإسلام، أي الإسلام كدين وكتاريخ ثقافي وعلمي وفلسفي وروحاني. كل ما يعرفونه أن المسلم يتزوج من أربعة نساء، ولا يأكل الخنزير، ولا يشرب الخمر، ويضرب امرأته… مردّ هذا الجهل موقف النخب الفكرية وتجاهلها المقصود أو المؤدلج للإسلام. إضافة إلى ذلك، تتبدى قوة المتخيل الغربي عن الإسلام على قوته العلمية به، علماً بأن المتخيل هو نتاج تراكم تاريخي طويل غذته الحقبة المعاصرة رغم نفوذ التيار العلمي في الغرب، وهو تيار تراجع في ميدان الدراسات ولم تعد المعرفة بالإسلام تسلك مسالك النظرة الاستشراقية المتبحرة والرصينة التي عرفناها منذ القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن الماضي.

مقاربة أركون قلّما امتلك مفكر عربي ومسلم جرأتها في نقد الغربيين والمستشرقين من موقع منطلقاتهم الفكرية نفسها المتسمة باحتقار التراث الإسلامي. ومع هذا يسلّم أركون بوجود قطيعة أحدثها عمل المستشرقين في الوعي الغربي مع تعبيراته النخبوية المسكونة بالصور النمطية السلبية. تلكم القطيعة لم تكن حاسمة دائماً، أو هي لم تكن كذلك في أوساط قسم كبير من المشتغلين في ميدان الدراسات الإسلامية الذين لم يقطعوا مع ثلاث عوائق إيبيستيمولوجية: المركزية الأوروبية (أو الغربية)، والتعميم الأيديولوجي، وحضور الأغراض غير العلمية.

ينتقل بلقزيز في الفصل السابع (عبد الله العروي ونقد الاستشراق) إلى عرض نقد الاستشراق من خلال نموذج عبد الله العروي، ملاحظاً منذ المستهل أن هذا المفكر يقف على الأرضية الفكرية عينها التي يقف عليها المستشرقون ويقاسمهم قيمهم الثقافية الحديثة، من دون أن يشاطرهم النظرة عينها إلى المسائل والموضوعات التي ينشغلون بها. وهو فوق ذلك يتقاطع مع قسم كبير منهم في الانتهال من المدرسة الفكرية ذاتها، وتلك حالة المدرسة التاريخية الألمانية، وإن لم يشارك الباحثين الغربيين الشغف بمناهجهم الفيلولوجية. العروي في نظر بلقزيز مؤرخ، لكن التاريخ وحده كميدان دراسي لا يكفي ليفسر المسألة، بل يلجأ إلى صنوف معرفية أخرى: الفلسفة وعلم السياسة، وتاريخ الفكر والنقد الاجتماعي. فهو متعدد المعارف، يلتقي مع الاستشراق في مكان ما من المجالات التي يشتغل عليها لقاء حوار ومناظرة لا لقاء سجال ومناكفة، إذ لم يكن يملك أن يتجاهل مساهمات المستشرقين الفكرية.

يضيف بلقزيز أن العروي لم يضع تأليفاً خاصاً في موضوع الاستشراق، باستثناء الدراسة القيمة والعميقة التي كرسها لأعمال المستشرق النمساوي (غوستاف غرونباوم) أما غيرها من وقفاته النقدية فترد في سياقات ليس الاستشراق موضوعاً لها. لقد كان هدفه معرفياً صرفاً لعيار قيمة ما يكتبه المستشرقون بميزان المعرفة الموضوعية والتنزه عن الأغراض الذاتية، مؤكداً أن جميع المستشرقين الذين اشتغلوا في ميدان التاريخ العربي ظلوا في مستوى النقد المجرد، وكانوا فيلولوجيين وأرشيفيين أكثر مما كانوا مؤرخين حقيقيين. الاستشراق في نظره يسيء تقدير مادته، أي التدوين التاريخي القديم. العرب يستخدمون تاريخاً أسطورياً، لكنهم يذهبون إلى ذلك ليس شيئاً خصوا به من دون سائر الأمم… وهكذا فإن التاريخ الوضعي منظوراً إليه من زاوية الاستشراق يخسر القدرة على إدراك وجه أساس من وجوه الواقع العربي بمجرد أن الدينامية فيه تأخذ شكـلاً أسطورياً.

من جانب آخر، هناك لدى العروي نوعان من الاستشراق يحظيان بالاستقبال الطيب: الدراسات الغربية المتعلقة بالتاريخ الاقتصادي والديمغرافي وتطور التقنيات الصناعية من جهة، وميدان التنقيب الفيلولوجي من جهة أخرى. أما الاستشراق المرفوض لدى العرب فهو الاستشراق الأنغلو – ساكسوني الذي ورث الاستشراق الألماني – الفرنسي ذا التقاليد الفيلولوجية، ويعلل أسباب ذلك الرفض الذي جوبه به.

في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة لم تأت وقفته النقدية مع الاستشراق عفواً وإنما فرضها ما بين الوعي العربي والاستشراق من صلة، ذلك أن أسئلة هذا الأخير وأطروحاته ظلت حاضرة باستمرار في ذلك الوعي، وأحياناً ما كانت توجه رؤى المثقفين العرب وجهة الجواب عما يحدد الاستشراق نطاقه الإشكالي. رجوعاً إلى دراسة العروي عن «غرونباوم» اهتم بنقد منهجية هذا المستشرق الأنثروبولوجية الثقافية وبيان ما يعتورها من نقص فادح في الرؤية التاريخية للظواهر المدروسة وما تقود إليه من نتائج فكرية وأحكام غير مطابقة.

وعلى الرغم من أن العروي يسلم بالمكانة العلمية المرموقة للمستشرق النمساوي فإنه يضع خياراته المنهجية أمام فحص نقدي مشدداً على أنه سيخضع فيه المادة المدروسة لقواعد البحث التاريخي الحديث. من ذلك أن العروي ينطلق في نقده من التسليم بأن التحليل الثقافوي (Culturaliste) يفضي في المطاف الأخير إلى صور مختلفة من الاختزال والغموض يمتنع معها حسبانه في قلب العلوم الإنسانية مثلما كان يأمل «غرونباوم». ويعود إخفاق هذا الأخير إلى فقر في مفهوم التاريخ نفسه، ويفقد الاستنتاجات قيمتها ويجعل الكثير من النتائج متضمنة سلفاً في المقدمات. لذلك تؤدي نزعة المستشرق النمساوي الثقافية إلى حدود مقيدة، وإلى تعرجات في التحليل يورد العروي شواهد ثلاثة عليها: تجاهل العلم الإسلامي، واختزال أشكال الانحطاط المختلفة في نموذج مجرد هو الانحطاط العباسي أو السلجوقي، وأن كل المتناسبات التي يجتهد في سياقها بين وجوه مختلفة من المجتمع الإسلامي تنتهي فجأة إلى استنتاجات فقيرة جداً. وأخيراً فإن نقطة الخلاف الرئيسية بين فكر العروي وأطروحات غرونباوم هي مفهوم التاريخ ورفض اختزال التاريخ الواقعي في الثقافة، كما لا يمكن اختزال الثقافة في الأيديولوجيا، وهذه بدورها تتجاوز العقيدة. هذه كلها معطيات نظرية نقدية متفحصة ألقاها العروي على الأنثروبولوجيا الثقافية كمنهج نظر في تاريخ الإسلام على نحو ما عبرت عنه أعمال غرونباوم. يمكن تلخيص تلك المعطيات في: نقد اختزالية الحضارة في الثقافة والتشديد على أولوية التاريخ على النظام والتشديد على أولوية التاريخ على نظرية التاريخ، والتمسك بمفهوم للثقافة بما هي مجموع الأعمال الثقافية أكانت قابلة للانتظام أم ممتنعة، وبطلان التفسير الثقافي للثقافة. تفتح هذه المبادئ الحاكمة لنظر (غرونباوم) حقلاً من الممكنات الموضوعية والمنهجية يميز فيها بين أربعة مجالات هي: الإسلام كتاريخ بما هو ثقافة، والإسلام بما هو سلوك ونفسية جماعية، والإسلام من حيث هو إيمان. لدى العروي من وجهة نظر بلقزيز – وفاء ثابت للفكر التاريخي ولنزعته التحليلية التركيبية في الكتابة.

– 6 –

في القسم الرابع من الكتاب (في نقد المركزية الأوروبية) يتصدى بلقزيز لتناول نموذج سمير أمين وجورج قرم، بحيث يخص الفصل الثامن لنموذج سمير أمين الذي ينتقد المركزية الأوروبية وثقافويتها. نشأت هذه الثقافوية الأوروبية في القرن التاسع عشر، وبنشوئها شهدت المركزية الأوروبية أشد لحظات التعبير عن نفسها انحطاطاً. ومن غير الممكن إدراك المضمون النقدي إلا بالعودة إلى مفهوم الحداثة ومكتسباتها، وتحقيبه لأهم محطاتها التاريخية المفصلة، علماً بأن الحداثة لديه تؤذن بانتصار العقل وصيرورته سلطاناً في التاريخ، بحيث يتحول إلى إطار مرجعي تشتق منه الرؤى والعقائد والمؤسسات. هكذا تجمع الحداثة العقل والانعتاق، فاتحة الطريق أمام الديمقراطية، كما تتضمن العلمانية وتحديد السياسة على هذه القاعدة.

لقد ساجل سمير أمين مفهومَي الإقطاع ونمط الإنتاج الآسيوي المستخدمين في البنى الاجتماعية قبل الرأسمالية في المجتمعات غير الأوروبية، ووجه نقداً حاداً لهما، متهماً الفكر الذي يتوسلهما بالانطلاق من مواقع أيديولوجية ويستخدم مفهوماً بديـلاً لتحليل علاقات مركز/أطراف هو نمط الإنتاج الضريبي (Mode de Production Tributaire)، كما يتناول بالنقد تلك النزعة، المعادية للعالمثالثية المتنامية في الغرب والمنزلقة اليوم نحو اليمين. إن المبادرة من وجهة نظر أمين في إحداث التحول في الحركات التقدمية الاشتراكية العالمية تعود، بشكل واسع، إلى شعوب المحيط لا إلى قوى التغيير في الغرب، كما تفترض الحركات التقدمية الاشتراكية العالمية المصابة بتأثيرات المركزية الأوروبية في رؤيتها للعالم. الجدير بالإشارة إلى أن تأثيرات المركزية الأوروبية لا تقف عند هذه الحدود، وإنما تجد تعبيرها علمياً في مجالات الفكر الاجتماعي كافة، وفي جملة تلك التعبيرات نظرية الأمة في الماركسية.

ينتقد سمير أمين المركزية الأوروبية في نظرتها التنميطية إلى المسار الخاص الذي تقطعه في تكون الأمة – الدولة – الطبقات بحسبانه تمفصلها في ذلك المسار مميطاً اللثام عن أزعومة «تميز» العبقرية الأوروبية. إن تأثيرات المركزية الأوروبية ما اقتصرت على الماركسية الغربية فحسب، وإنما أصابت بلدان العالم الثالث أيضاً، فتولد منها ما يسميه «المركزية الأوروبية المعكوسة»، وهي كناية عن استبطان للمركزية الأوروبية من قبل عدة تيارات ثقافية في بلدان العالم الثالث تعثر على ضالتها في تلك الثقافوية، فتعيد إنتاجها في داخلها. لذلك ذهب أمين إلى التشديد على أن الأصوليات الإسلامية المعاصرة ليست مختلفة عن أصولية المركزية الأوروبية التي باتت تجنح اليوم لتتخذ شكل أصولية مسيحية بل هي انعكاس لها.

في الفصل التاسع والأخير من القسم الرابع يتناول بلقزيز نقد مفهوم الغرب وأسطورته من خلال نموذج كتابات جورج قرم الذي يمثل عمله واحداً من أهم الأعمال الفكرية وأعمقها في الفكر العربي المعاصر خلال الأعوام الأربعين الأخيرة، بل لعله الأعلى شأناً فيها. ذلك أنه استأنف نقداً بدأه إدوارد سعيد ونظيراً له سار فيه سمير أمين، إلا أن ميزة قرم كونه تفرغ تفرغاً أكاديمياً حقيقياً وهو يحمّل نفسه ثقل مهمة علمية يعمق فيها النظر لإشكالية الآخر التي مثلت معضلتنا جميعاً منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

في أعمال سابقة على كتابه الشرق والغرب: الشرخ المتخيل سبق لقرم أن ميز بين أوروبا والغرب، التمييز الضروري بين الثقافة الأوروبية والثقافة الغربية بنظرتهما إلى نفسيهما، وبصورة «الشرق» في الوعي الجمعي الأوروبي والغربي كما في خطاب النخب العالمة بالاستخدامات الأوروبية والغربية للدين في السياسات والزعامات. وفي كتابه أوروبا وأسطورة الغرب الذي يعتبره محاولة لتأريخ وتفكيك مفهوم الغرب، وأنماط الاستخدام الكثيف للمفهوم بهدف دحض أسطورة الغرب انطلاقاً من دحض أسطورة وحدة أوروبا؛ في كتابه هذا يتساءل: كيف أمكن لأوروبا أن تنتج مفهوماً ميتافيزيقياً وأسطورياً هو مفهوم الغرب يكرّسونه ليتحول إلى كيان أسطوري وموطناً للخيال الجامح، هكذا انتقل الوعي العربي من أسطورة أوروبا الموحدة إلى أسطورة الغرب، انتقلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية إلى سيد يحكم العالم ومن خلال ذلك يقود وراءه تابع هو أوروبا.

بعد تحليلات معمقة رصد بلقزيز معالمها ومضامينها توصل إلى أن جورج قرم لم يوفر أحداً من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين الكبار من الذين اتهمهم بالتأسيس لأسطورة أوروبا والغرب، من نقده الشامل والحاد مثل «هيغل» و«ماركس» و«نيتشه»، أو الذين استأنفوا أطروحات الأولين مثل «ماكس فيبر» و«فرنان بروديل». وأخيراً تقرر عنده أن حظوظ العوامل الدينية أو الثقافية وفرت هجرة الفائض السكاني الأوروبي إلى أمريكا فرصة مثالية لذلك الإقلاع. وفي إطار هذه الرؤية التحليلية لا ينسى باحثنا أن يذكِّر العرب بأن نزعة النرجسية الحضارية واختزال الآخرين في صورة تنميطية ليست سمة خاصة بالثقافة الأوروبية والغربية حصراً. وإنما هي ديدن ثقافات الأمم كافة في مراحل صعودها الحضارية كما كان شأن الثقافة والحضارة الإسلامية.

الغرب الحالي، في رأي جورج قرم، نقض لأوروبا التنوير الفكري والأدبي والفني بما آل إليه أمرها حين أصبحت غرباً أو جزءاً من الغرب؛ وإذا كانت أوروبا قد انحرفت عن مسارها الإنسانوي وتنكرت لتقليدها الأنواري فإن في الوسع محاكمتها بأوروبا نفسها وتراثها الأدبي والفني. يكرس قرم عدة صفحات لنقد الخطاب الغربي في طبعاته الجديدة، كما عبر عنها صمويل هنتنغتون وبرنارد لويس، كما استعادتها كتابات ليبرالية غربوية في فرنسا، وما جانب الصواب حين نبهنا إلى أن التأثيرات التي كانت للأفكار المحافظة في ألمانيا على أوروبا في القرن التاسع عشر وهي عينها التأثيرات التي للأفكار المحافظة في الولايات المتحدة الأمريكية على أوروبا في القرن العشرين. وهذا يؤدي إلى وضع أزعومات الخطاب الغربوي (Occidentaliste) المحافظ موضع نقد حاد من وجهتيه: دفاعه عن الليبرالية الجديدة ومنافعها، واستعادته الدين والعامل الديني في لعبة السياسة والمصالح والسيطرة، وما زال المقدس والثقافة الدينية ومعاييرهما مستمرة حتى اليوم في البنى والمؤسسات الحديثة. يستنتج من تحليلاته أن القدر الأمريكي لن يكون أفضل من القدر النازي. فهل من سبيل – يتساءل قرم – إلى تحرير أوروبا من جديد، إلى إعادتها إلى أوروبا الكونية لا إلى أوروبا الأوروبيانية المنغلقة على ذاتها وعلى أساطيرها عن نفسها؟ الكونية تعني تحرير أوروبي من مصير غربي من عقابيل هامشيتها وتبعيتها، كما تعني تحرير العالم من أي نزعة مركزية أو نرجسية حضارية تؤدي إلى تقسيم الإنسانية منازل ومراتب، وتعني بالإضافة إلى هذا وذلك الخروج من القوقعات والشرانق والأقفاص المغلقة، أكانت من طبيعة دينية أو قومية أو ثقافية، نحو تأسيس كيانية إنسانية أعلى تفتح فيها الحدود للتفاعل الخلّاق بين الثقافات والقيم الإنسانية المتبادلة، وتعترف فيها كل ثقافة وكل جماعة قومية بالمشترك الإنساني الجامع.

يفرد جورج قرم جزءاً كبيراً من دراساته لإشكالية الآخر ونقد المركزية الأوروبية الغربية لمحاكمة الحداثة بالحداثة، في الوقت عينه الذي ينتقد فيه الدعاوى الأصالية وما بعد الحداثية. المؤدى العام عنده بالنسبة إلى بلقزيز هو أن جورج قرم في هذا مثل عبد الله العروي ينتقد الحداثة باسم الحداثة ومن داخل معطياتها الفكرية منتظماً في لحظتها الذرووية، فلسفة وثقافة الأنوار، من دون أن يذهب إلى حد القول بحداثة مرجعية نموذجية واحدة وإنما بحداثات متعددة بينها جوامع ومشتركات: ينصرف قرم مثل ناصيف نصار إلى التعريف بلحظات الحداثة في الفكر العربي منذ قرن ويزيد مدافعاً عن نصوصها ووظائفها التنويرية كما هو مبين في كتابه الفكر والسياسة في العالم العربي.

– 7 –

من المؤكد أن عبد الإله بلقزيز هو من الذين يمارسون البحث للغوص في غمار النصوص بنقدية صافية من كل نزوع ذاتوي بقصدية موضوعية في منتهى التعقل. من ثم فإن قراءة كتاب بلقزيز نقد الثقافة الغربية: في الاستشراق والمركزية الأوروبية ستفتح آفاقاً رحبة تسعف في فهم واستيعاب التفاعلات بين متون مفكري العرب وهم يعالجون المنتج الاستشراقي، وبخاصة لمفاعيل المركزية الأوروبية والغرب. وأعتقد جازماً أن قارئ هذا الكتاب القيِّم سيخرج بحصيلة معرفة منهجية تثري الفكر، ليس الفكر القومي العربي وحده، بل الفكر الإنساني الكوني بآلية نقدية مزدوجة تفصل المقال فيما بين الذات والآخر من جدلية تخصيبية لطرفي التفاعل من أجل تكريس قيم كونية تحريرية لا محيد للالتزام بها إذا أُريدَ الخير للإنسانية دون أي تمايز أو تحيز.