يمرّ الوطن العربي في مرحلة التناقضات والثنائيات الضدّية؛ فمن جهة تصيبه الانهيارات الكبرى بفعل الاحتلال الخارجي والاقتتال الداخلي، ومن جهة أخرى يشهد محاولات إعادة التأسيس والبناء على قاعدة التمسّك بالهوية العربية هوية واحدة له في الحضارة والتاريخ والجغرافيا والإرادة والمصير. إنّه بشعوبه كافّة أمام تحديات راهنة واحدة من المحيط إلى الخليج تستحيل مواجهتها إلا بتعميق الوعي الذاتي لتاريخ الأمّة العربية ومفهوم الانتماء القومي الذي يعني في نظر الفيلسوف الألماني هيغل أنّ الجزء والكلّ شيء واحد.

التحديات التي تواجهها الشعوب العربية اليوم تتماثل والتحديات التي واجهتها بُعيد الحرب العالمية الثانية وفي مقدّمها احتلال فلسطين وإعلان دولة الكيان الصهيوني، وثانيها تحرير فلسطين وسائر الأرض العربية من الاستعمار الغربي وتصفية ذيوله، وتالياً بناء الدولة الوطنية المستقلّة واستعادة الحقوق والكرامة للإنسان العربي. فها هي الشعوب العربية اليوم وبعد مضيّ ما يقارب سبعين عاماً واحتلال فلسطين تضاعفت مساحته، ودولة الكيان تحوّلت إلى دولة يهودية، وتحرير فلسطين تخلّت عنه معظم الدول العربية وأصبح من مسؤولية الفلسطينيين حصراً؛ الذين تنازل بعضهم عن حقوقهم كاملة وبخاصة الحق في القدس والحقّ في العودة؛ أمّا الاستعمار فقد غارت شرايينه في الأرض العربية وامتدّت فروعه إلى مواقع جديدة عبر دعاته وميسّري أمره. والدولة الوطنية منها دول تشلّعت وتذرّرت وتوزّعت على مكوّناتها الإثنية والمذهبية، ومنها دول تحكّمت فيها ملكيات وفئويات وسلالات وتجمّعات مصالح، ومنها دول تعسكرت وتحوّلت دولاً أمنية استبدادية تمنح الحاكم الفرد الحق المطلق في الحكم، وجميعها فاشل في بناء دولة الحق. أمّا الإنسان العربي فدونه وحقوق المواطنة والعزّة والكرامة مسافات.

على النقيض من كلّ ذلك، ثمّة إرادة شعبية مستمسكة بهويتها العربية وحمايتها ولا تجد لها معنى إلّا بالنضال من أجل الوحدة وتحقيقها، فتجسّدت في قومية عربية متجدّدة تناهض الاستعمار وترفض التبعية؛ تناصر المقاومة في صراعها الوجودي مع الصهيونية؛ تؤمن بوحدة المواجهة في كلّ الساحات العربية؛ تتصدّى للحروب والفتن الداخلية الآيلة إلى تمزيق وحدة الأمّة؛ تؤمن بأنّ تحرير الأرض بالسلاح لن توقفه أو تضعفه مفاوضات أقرّ أصحابها بأنّها كانت عبثية؛ تعمل لقيام مؤسسات قومية تكون لها استراتيجيات سياسية ومنظومات أمنية واقتصادية مشتركة؛ تحمي المجتمع من ثقافة الغلوّ والتوحّش والإرهاب ومن ثقافة الاستبداد والإقصاء والاستئصال واحتكار السلطة وتغييب المشاركة؛ تعترف بالهويات الفرعية جزءاً من الهوية العربية؛ وتسعى إلى قيام أنظمة وحكومات تتمتّع بشرعية التمثيل الشعبي وإلى تحرير الأنظمة من قبضة الأجهزة الأمنية ومؤسسات التشريع من تغوّل السلطات التنفيذية.

كلّ ذلك على قاعدة تأسيس معرفي صحيح بالواقع العربي الراهن، وهذا يدعو بالضرورة إلى استحضار نقاط ارتكاز في رؤية الرئيس عبد الناصر وإنجازه استهداء بهما إلى ما يمكن أن يسعف هذه الإرادة الشعبية في رفع التحديات المطروحة عليها.

أولاً: بين الاستعمار والصهيونية العالمية وإسرائيل والأنظمة العربية الرجعية: رباط عضوي والردّ بالقومية العربية

إنّها وجوه متعدّدة لحقيقة واحدة في رؤية عبد الناصر. هذا الربط الرباعي ما زال قائماً حتى اليوم؛ فالاستعمار الغربي الأمريكي/الأطلسي يدعم إسرائيل في حربها لتصفية قضيتهم المركزية قضية فلسطين، والصهيونية العالمية عملت بقوّة لنزع الطابع العنصري عنها، وأنظمة الرجعية العربية خضعت لشروط سلمها واستقدمت الاستعمار لاحتلال العراق وتدمير ليبيا وموّلت الحرب الكونية على سورية واستنجدت به في حربها على اليمن وثبّتت قواعده العسكرية وتبنّت مفهومه لطبيعة الصراع في المنطقة من صراع عربي – صهيوني (صراع وجود) إلى نزاع فلسطيني – إسرائيلي (نزاع حدود) فضـلاً عن اعتبار المقاومة إرهاباً وعن إسقاط شعار «ما أخذ بالقوّة لا يستردّ بغير القوّة» وإسقاط «لاءات الخرطوم»، فانساقت طوعاً إلى التطبيع مع العدو؛ إذ فتحت حدودها أمام بضائعه وأبواب عواصمها لقياداته؛ وآذان مثقّفيها وإعلامها لأفكاره… فإذا «بصفقة العصر» تعبر إلى العلن بعناوينها الأساسية:

– تصفية القضية الفلسطينية؛

– إسقاط حقّ العودة؛

– الترحيل لإبعاد الخطر الديمغرافي؛

– توطين الفلسطينيين بتوزيعهم على الأردن وغزّة/سيناء حتى العريش ومن تبقّى حيث هم؛

– اعتراف بالدستور الجديد لإسرائيل الذي ينص على أنّها دولة قومية لليهود بادّعاء أن الشعب اليهودي هو صاحب الأرض؛

– الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية؛

– إنشاء تحالف إسرائيلي – عربي – أطلسي.

وقبل صفقة العصر كانت الأنظمة الرجعية العربية قد تخلّت عن القضية الفلسطينية وسلّمت بأحقّية الكيان الصهيوني في الوجود على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية في فلسطين، وانخرطت في مشاريع استعمارية صهيونية (مشاريع التفكيك والتفتيت والتجزئة وإعادة التركيب بما يتجاوز حدود الوطن العربي) تقضي على هوية الوطن العربي وتالياً على الهوية العربية بأبعادها كافة الحضارية والثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية. من هذه المشاريع «الشرق الأوسط الجديد» (شيمون بيريز) و«الشرق الأوسط الكبير» (جورج بوش الابن)… وجميعها يفضي إلى جغرافيا سياسية واقتصادية وأمنية تنهي الهوية العربية، وتمحو مصطلح الوطن العربي، وتدمّر الكيانات الوطنية أو القطرية، وتقضي نهائياً على مشروع الوحدة العربية وتالياً على إمكان قيام دولتها القومية.

هذه المشاريع منذ احتلال العراق في عام 2003 عزّزت وجود الاستعمار في المنطقة بكلّ آلياته فزاد تحكّمه بالأنظمة الرجعية ونهب ثرواتها تنفيذاً لاستراتيجية السيطرة، وتعمّقت التبعية الاقتصادية للرأسمالية المتوحّشة لقاء أن يبقى للحكّام الحق المطلق في الحكم حتى بات هؤلاء يستقوون على الداخل بالخارج لقاء حماية مصالحه.

تعزيز وجود قوى الاستعمار في المنطقة وفّر للحكومات الإسرائيلية المزيد من الفرص لمزيد من التوسّع والتطبيع والاحتلال وأفعال الإبادة في ظلّ عجز النظام العربي الرسمي المطلق عن التصدّي لها بوحدة موقف أو إجراء، بل على نقيض ذلك، يسّر بعض أطراف هذا النظام مقبولية الكيان الصهيوني كياناً شرعياً في نسيج المنطقة حتى باتت الأحداث تجري وفق الأجندة الإسرائيلية، وبات الحديث اليوم طبيعياً لدى هؤلاء عن إنشاء سكك حديد تربط إسرائيل بعدد من البلدان العربية.

هذه الوقائع تثبت صحة الربط بين الاستعمار والصهيونية وإسرائيل والرجعية العربية.

التصدّي للأحلاف وللعدوان الثلاثي، ونصرة الثورات وحركات التحرّر العربي في الجزائر واليمن، كوّنا معاً بداية عصر التحوّلات الاستراتيجية في خطّ المقاومة والتحرير، وهما يشهدان معاً لموضوعية هذا الرّبط الرّباعي ولدقّة رؤية عبد الناصر وعمق فهمه لمحوريّة الصراع في المنطقة لعقود ماضية وعقود آتية.

منذ ذلك التاريخ (1956) أصبحت المقاومة خيار الأمّة الذي لا بديل منه لطرد الاستعمار وتحرير فلسطين والتحرّر من الأنظمة الرجعية. فهذا الخيار أثبت جدواه وواقعيته وفعاليته وله الأرجحية في موازين القوى. هذا ما أكّدته إنجازات المقاومة في لبنان وفلسطين (تحرير عام 2000 وصمود عام 2006 وصمود غزّة في عامَي 2009 و2014).

دعمت الإدارة الأمريكية حروب الكيان الصهيوني على لبنان وفلسطين (غزّة والقطاع) عسكرياً ودبلوماسياً، وأيّدتها الصهيونية العالمية مجسّدة بالغرب الأطلسي، وشجعتها أطراف في النظام العربي الرسمي؛ إمّا بالتأييد العلني أو السرّي وإمّا بالتغافل أو التواطؤ. والنتيجة واحدة تشهد لصوابية الرؤية الناصرية: عدوّ واحد لقضية فلسطين وقضايا الأمّة بوجوه أربعة.

أمّا انتصار سورية في الحرب الكونية عليها فهو انتصار لنهج المقاومة على أطرافها الصهيو/أمريكية وعلى قوى الغلوّ والتوحّش. وفي الوقت نفسه هو انتصار على الأنظمة العربية التي موّلت تلك القوى ودرّبتها وسلّحتها؛ ما يعني أن نهج المقاومة هو إياه، وأنّ العدو المتعدّد الوجوه هو إياه، وأنّ الهدف هو إياه؛ أي القضاء على القومية العربية وما تعنيه من وحدة وتحرّر وتحرير واستقلال وسيادة، وذلك منذ ثورة 23 تموز/يوليو حتى اليوم وما تلاها من تصدّ للأحلاف والعدوان على قاعدة أسّس لها الرئيس عبد الناصر تقول: التحالف الاستعماري/الرجعي يمثّل الخطر على القومية العربية. هذه القاعدة لم تخطئ بل نجد فيها تسويغاً لمقولات وممارسات الأنظمة الرجعية: لا مواجهة مع الكيان الصهيوني بل المواجهة كلّ المواجهة مع المقاومة. لا مواجهة مع الاستعمار بل استدعاء له لضرب العراق وليبيا وسورية.

«كلّ انتصار ثوري على الاستعمار والرجعية هو نصر للقومية العربية وللثورة العربية… نصر الجزائر هو نصر لنا وثورة بن بيلا في الجزائر ثورة لكم هنا في اليمن وثورة لنا هناك في مصر، وثورة للثوار العرب جميعاً وللأحرار العرب جميعاً…» (من خطابه في الثورة اليمنية). «… هزم الاستعمار لأنّ القومية العربية انتصرت…» (من خطاب تأميم قناة السويس، 26/7/1956) فالاستعمار لا يهزم في رؤية عبد الناصر إلّا بانتصار القومية العربية: «… لقد استطاعت القومية العربية في الجزائر أن تهزم فرنسا..» (من الخطاب نفسه).

وبانتصار الاستعمار هزيمة القومية العربية: «… ما حدث في فلسطين إبادة فلسطين وإبادة القومية العربية…» (من الخطاب نفسه).

هذان هما طرفا معادلة الصراع في المنطقة: الاستعمار والقومية العربية. نقيضان لا يلتقيان إلّا في حلبة المواجهة. هذا ما كان في زمن عبد الناصر، وهذا ما استمرّ بعده، وهذا ما هو اليوم ويبقى كذلك ما دامت قوى الاستعمار تمتلك إرادة السطو والسيطرة، وما دام في الأمّة العربية من يعتقد أنّ قوّتها في قوميتها، وما دامت «القومية العربية تعلم أنّ وجودها في اتحادها»: «… نوحّد الجهود ضدّ إسرائيل.. نوحّد الجهود ضدّ الاستعمار والصهيونية العالمية…» (من خطاب في الثورة اليمنية).

هذه الحقائق التاريخية شكّلت محوراً مركزياً في رؤية الرئيس عبد الناصر كما ورد في خطاب عيد الثورة الرابع في الإسكندرية.

أهداف الثورة كما نتبيّنها في هذا الخطاب، خطاب «تأميم قناة السويس» في 26 يوليو/تموز 1956 هي التخلّص من آثار الاستعمار والاستبداد والاستغلال الأجنبي والداخلي… ولإقامة دولة مستقلّة استقلالاً سياسياً واقتصادياً حقيقياً لا يتحقّق إلّا بالقضاء على أعوان الاستعمار (الأنظمة الرجعية) طالبي حمايته هؤلاء الذين جعلوا بلدانهم مناطق نفوذ له وخضعوا لسياسة السيطرة التي تقوم على خلق العداوات وبثّ روح الكراهية وإثارة النزاعات التي تستدرج طلب الحماية وإقامة مناطق النفوذ وإنشاء القواعد العسكرية، وهو ما استوجب ردّاً من الرئيس عبد الناصر في الخطاب نفسه: «نقاوم ما تسمّونه بمناطق النفوذ… لا يمكن إن إحنا نبقى منطقة نفوذ لحدّ…»

سياسة السيطرة الاستعمارية هذه ومدّ النفوذ لها في رؤية عبد الناصر ترجمات متعدّدة، منها «السيطرة المالية»، أو ما يعرف بشروط البنك الدولي لتقديم المعونات للدول المعنية، يقول: «البنك الدولي بنك سياسي، من شروطه التسوية مع إسرائيل والوصاية على برامج الاستثمار وإدارة مشاريعه».

هذه الشروط رفضها الرئيس عبد الناصر قائـلاً في خطاب التأميم: «مش ممكن نبيع نفسنا بـ 70 مليون دولار معونة»؛ فالسيطرة المالية تقضي على حرياتنا السياسية واستقلالنا السياسي… هذه الشروط تتنافى «مع سيادتنا، مع استقلالنا، مع مبادئنا..»

ربطاً بحقائق الراهن العربي نجد أن مواجهة السيطرة الاستعمارية في غياب القومية العربية عن النظام العربي الرسمي باتت من معجزات المرحلة وفق منطق الرؤية الناصرية، وهو منطق لم تتمكّن الوقائع من كسره منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم، على الرّغم من ادّعاء قوى لا تعترف أصـلاً بالقوميات بأنّها على خطوط تلك المواجهة.

مع انحسار القومية العربية عن خطوط المواجهة تقلّص مدى فاعلية العرب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وتعمّقت أكثر فأكثر تبعية معظم الأنظمة العربية لقوى الاستعمار والهيمنة وسائر متفرّعاتها الإقليمية، وبات السؤال اليوم أين هي العروبة الجامعة؟ أين هي استراتيجيا المواجهة القومية لكلّ هذه القوى التي أصبح لكل منها مناطق احتلال وهيمنة ونفوذ في الأرض العربية؟

القومية العربية هي الردّ الطبيعي والأفعل لمقاومة قوى الاستعمار والهيمنة بوصفها حركة تاريخية انتجها نضال الشعوب العربية المتواصل منذ منتصف القرن التاسع عشر ضدّ الاستعمار الأوروبي وضدّ الزرع الصهيوني الاستعماري في فلسطين ومدّتها بالقوّة اللازمة الثورة المصرية (ثورة سعد زغلول 1919)؛ الثورة السورية الكبرى 1925؛ الثورة الفلسطينية 1936 – 1936؛ وثورة 23 يوليو 1952 وما نتج منها من تحرير القناة وصدّ العدوان الثلاثي عام 1956 ومواجهة الأحلاف (حلف بغداد 1955) والوحدة بين مصر وسورية 1958 – 1961؛ والثورة الجزائرية 1954 – 1962؛ واليمنية 1962؛ والعراقية 1958.

هذه الثورات أكّدت أن القومية العربية ليست شعاراً أيديولوجياً أو مسألة نظرية، بل هي حركة وفعل في التاريخ والواقع يعكسان وجود العرب وعزّتهم وإنجازهم الحضاري وكفاحهم من أجل الحرية والكرامة وحقّهم في السيادة والهويّة المستقلّة.

هذه الثورات شكّلت مصدر إيحاء وقوّة لأطراف المقاومة الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي وامتداداتها حتى اليوم ولسائر تشكّلاتها، وخصوصاً انتفاضة الداخل المستمرة بما يعرف اليوم بمسيرات العودة.

المقاومة في فلسطين (1978)، ولبنان (1982)، والعراق (2003)، وسورية (2011) بمختلف مسمياتها أو عناوينها وإنجازاتها والتحديات تسير في خط واحد: حركة التحرّر العربي التي أطلقها الرئيس عبد الناصر وانضوت فيها جميع القوى المناهضة للاستعمار وصنيعه الكيان الصهيوني.

حركة التحرّر العربي ذات عمق تاريخي يعود إلى اليوم الذي حلّت فيه على المنطقة «غارات الغزو العثماني» (التعبير للرئيس عبد الناصر، ورد في خطابه بمناسبة إعلان أسس الوحدة بين مصر وسورية في 5/2/1958) «فاتّحدت بالمشاركة في العذاب..» ثمّ اتّحدت «في ما تعرّضت له في كلّ نواحيها من سيطرة الاستعمار عليها… ثمّ كان اتحادها في الثورة على هذا الاستعمار… ومع الوحدة في الثورة كانت الوحدة في التضحيات..» (من الخطاب نفسه).

إن سياسة الأحلاف التي واجهها عبد الناصر لمحاصرة المدّ القومي العربي، وضرب حركات التحرّر الوطني وشرذمة قوى الأمة العربية وتوزيعها على جغرافيا سياسية وأمنية تتجاوز حدودها حدود الوطن العربي بقصد السيطرة على ثروات منطقة الشرق الأوسط وجعل بعض الأنظمة فيها حرّاساً للمصالح الأجنبية؛ هي نفسها السياسة التي تعتمدها الإدارة الأمريكية المتصهينة للقضاء نهائياً على كلّ ما هو عربي هوية كان أو توجّهات وحدوية أو نظاماً عاصياً ممانعاً أو حركات مقاومة (إرهابية وفق تصنيفها)؛ فأقامت الحلف الأطلسي العربي، وألزمت بعض الأنظمة العربية بتنفيذ بنود الصفقة القاضية بتصفية القضية الفلسطينية وبالاعتراف بالدولة اليهودية وبالتطبيع العلني والكامل للعلاقات بها… ويبقى الهدف الرئيس من هذه السياسة الاستعمارية الجديدة تجزئة الوطن العربي وتفكيك دوله الوطنية إلى دويلات ما دون وطنية مذهبية وعرقية، وشلّ قدرات قواها الوحدوية بتحويل وجهة الصراع التاريخي فيها من صراع عربي – صهيوني إلى صراع عربي – إيراني ومنه إلى صراع سنّي – شيعي، بما يخدم السيطرة الإسرائيلية على المنطقة.. ولنا من الوثائق الأمريكية والصهيونية ما يكفي لإبراز الدليل، منها:

– استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات (1982)، وضعها أودد بينون؛

– مخططات كيسنجر والمحافظين الجدد (خطة ريتشارد بيرل: استراتيجية جديدة لتأمين المملكة 1996 أو الاستراتيجية الجديدة لإسرائيل نحو عام 2000؛ وثيقة البنتاغون التي أعدّها معهد راند الأمريكي للدراسات الاستراتيجية 2002؛ خطة وولفوفيتس وديك تشيني الهادفة إلى جعل إسرائيل دولة يهودية صافية العرق؛ خطة الجنرال رالف بيترز: حدود الدم، ما هو شكل شرق أوسط أفضل؟ وتبقى الأشدّ خطراً على الوطن العربي خطة برنارد لويس منظّر الفوضى الخلّاقة‏[1].

ثمّة مقاومات عربية لهذه المخططات وهي تعمل لإفشالها بوسائل متعدّدة منها المقاومة المسلّحة والمقاومة الشعبية الحاضنة والداعمة لها من خلال المؤتمرات والحركات واللقاءات القومية المتعاقبة دورياً والانتفاضات (انتفاضات الداخل الفلسطيني وانتفاضات الجولان الأخيرة) والتظاهرات (المليونيات وتظاهرات يوم العودة) وبناء ثقافة المقاومة والمجتمع المقاوم (خصوصاً مقاومة التطبيع مع العدو) والتمسّك بالوحدات الوطنية وبالوحدة العربية سبيـلاً وحيداً لبناء المستقبل العربي، وإقامة نظام عربي رسمي متضامن يحظى بشرعية شعوبه يحمي حقوقها في الأمن والحريات والسيادة والثروة والتنمية المستقلّة.. تلك هي الحقوق التي ناضل من أجل بلوغها الرئيس عبد الناصر في أي وحدة عربية كان ممكناً، وما زال، قيامها. فالوحدة بمثل هذه الأهداف تبقى الحاجة إليها قائمة حتى تحقّقها.

هذا الكلام يقودنا إلى نقطة ارتكاز ثانية في رؤية عبد الناصر: الوحدة العربية.

ثانياً: الوحدة العربية «حقيقة الوجود العربي»

تختصر مرتكزات الوحدة العربية في رؤية عبد الناصر بالآتي:

– وحدة المعركة لمواجهة الأحلاف العسكرية والمؤامرات والتهديدات الأجنبية: «.. بل إن سورية خاضت معركة قناة السويس بنفس العنف وبنفس القوّة التي خاضت بها بور سعيد معركة قناة السويس… وكذلك حاربت مصر معركة التهديدات الموجّهة إلى سورية وأعصابها كلّها في دمشق… قطعة من جيشها احتلّ جنودها مراكزهم جنباً إلى جنب مع إخوانهم جنود سورية…» (من خطاب في مجلس الأمة بمناسبة إعلان أسس الوحدة بين مصر وسورية في 5 شباط/فبراير 1958)

إنّها معركة كيانية قومية (وأعصابها كلّها في دمشق… تعبير استثنائي للكيانية القومية العضوية) فرضتها عوامل خارجية… التحدّي الخارجي عامل من عوامل الوحدة في رؤية الرئيس عبد الناصر. ولكن هذه المعادلة لا تستقيم ما لم يتحرّك «العصب القومي».

لا كيانية قومية بدون عصب. هذا ما قرّره ابن خلدون منذ قرون ومن بعده علماء الاجتماع… تحرّك العصب القومي في الاتّجاه المعاكس لدى معظم الدول العربية يوم حوصر واحتُل العراق ويوم دُمّرت ليبيا ويوم شنّت على سورية الحرب الكونية.. لا بل أكثر من ذلك استنفر هذا العصب واتخذ شكل التحالف للحرب على اليمن. لذلك نقول إنّ المعادلة التي أقامتها رؤية عبد الناصر هي من تلك الحقائق الصحيحة التي تعاكسها الوقائع بسبب شلل أو موت العصب القومي لدى معظم حكّام الراهن العربي.

– وحدة الشعب العربي أو وحدة الأمّة حقيقة قائمة: «.. الوحدة قائمة فعـلاً ولكنّها ليست وحدة دساتير بل هي وحدة الدم، وحدة القلوب.. وحدة العقيدة.. وحدة الهدف..» (من خطاب في الثورة اليمنية).

– من كلام الرئيس عبد الناصر نفهم أنّ الأمّة العربية موحّدة فعـلاً في معنوياتها (العصب، الشعور، الفكر، الهدف) ومجزّأة في سياساتها أو أنظمتها الحاكمة (دساتير دولها). إنّه توصيف واقعي منذ زمنه حتى اليوم بدليل أن الشعوب العربية هي في الجانب الصح من التاريخ ومعظم الأنظمة في الجانب الخطأ. منذ أن تخلّت الأنظمة عن فكرة الوحدة ومحورها قضية فلسطين عبّرت الشعوب العربية في المشرق العربي كما في المغرب العربي عن أفكارها ومشاعرها ومواقفها وأهدافها الوحدوية بمسيرات الدعم والتضامن والنصرة لكلّ فعل مقاوم أو تحرّك أو موقف يسهم في تحرير فلسطين؛ فالوحدة والتحرير في رؤية عبد الناصر مسار واحد.

– «الوحدة العربية حقيقة الوجود العربي ذاته». يرتقي الرئيس عبد الناصر بمفهوم الوحدة إلى مستوى الحقيقة الوجودية التي بدونها يقع العرب في فراغ المعنى. ربطاً بهذا المفهوم نجد أنّ معظم الأنظمة العربية الراهنة تعيش في فراغ المعنى أو المعنى السلبي المعادي للوحدة العربية.

الوجود العربي كما يراه الرئيس عبد الناصر واحد باللغة والتاريخ والأمل: «وحدة اللغة تصنع وحدة الفكر والعقل، وحدة التاريخ تصنع وحدة الضمير والوجدان، وحدة الأمل تصنع وحدة المستقبل والمصير» (من خطاب تقديم الميثاق الوطني). هذا هو معنى الوجود العربي وما عداه سقوط في الخواء.. هذه الوحدات (الفكر والعقل، الضمير والوجدان، المستقبل والمصير) تمرّ في أذهان الكثيرين، بمن فيهم مثقّفي السلطان أو البلاط، في حالة إنكار، لا بل تزوير لها وإسقاط من سياسات الراهن والآتي، فتبقى الغلبة لأعداء الوحدة، لا بل لأعداء الوجود العربي بوصفها حقيقة هذا الوجود.

– الوحدة العربية اختيارية لا قسرية: «إنّ الوحدة لا يمكن بل ولا ينبغي أن تكون فرضاً، فإنّ القسر بأيّ وسيلة من الوسائل عمل مضاد للوحدة، هو خطر على الوحدة الوطنية داخل كلّ شعب، ومن ثمّ فهو خطر على وحدة الأمّة في تطوّرها الشامل…» (من خطاب تقديم الميثاق الوطني) هذا الكلام يناقض كل الادّعاءات والممارسات التي أظهرت الوحدة العربية اعتداء على شعوب الأقطار، ويناقض كلّ عمليات التخويف التي قام بها «قطْريون» سياسيون ومثقّفو أنظمة وبعض الأقليات، من مشروع الوحدة العربية وألصقوا بها صفات لا وجود لها في رؤية عبد الناصر وممارساته، وحدة اكتساحية إقصائية تهميشية استبدادية.

تحترم الوحدة الاختيارية إرادة الشعوب وسيادتها ووحداتها الوطنية وتحظّر التدخّل في شؤونها الذاتية فالوحدة الوطنية تمهّد للوحدة العربية وهي جزء لا يتجزّأ من وحدة الأمّة:

«.. إنّ أيّ حكومة وطنية في العالم العربي تمثّل إرادة شعبها ونضاله في إطار من الاستقلال الوطني هو خطوة نحو الوحدة، من حيث إنّها ترفع إرادة شعبين أو أكثر من شعوب الأمّة العربية هي خطوة وحدوية متقدّمة تقرّب من يوم الوحدة الشاملة وتمهّد لها وتمدّ جذورها في أعماق الأرض العربية…» (من خطاب تقديم الميثاق الوطني).

إن إسقاط الوحدات الوطنية له تداعياته السلبية على مشروع الوحدة العربية. فما تتعرّض له سورية والعراق وليبيا واليمن من حروب وفتن يأتي في سياق تنفيذ مخططات أمريكية – صهيونية فيعمّق الانقسامات في الوضع العربي الراهن ويقضي نهائياً على مشروع الوحدة العربية ويدمّر نسيج وحدة الأمّة.

من تحديات المرحلة الراهنة بناء الدول القطرية وإنجاز وحداتها الوطنية وتحقيق وعيها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني والثقافي بانتمائها القومي ممرّاً إلزامياً لقيام دولة الوحدة بالصيغة الاتحادية.

هذا المضمون لوعي الأقطار بانتمائها إلى الهوية القومية (العروبة الجامعة) يتقدّم على أي مضمون أيديولوجي، وينقل فكرة الوحدة من التنظير إلى التنظيم ومن الحيثيات إلى الكيفيات ومن الخطاب إلى الصيغة ومن الشعار إلى التجريب على قاعدة الصواب والخطأ، وصولاً إلى دولة الوحدة.

– «… وليست الوحدة العربية صورة دستورية واحدة لا مناص من تطبيقها، ولكن الوحدة العربية طريق طويل قد تتعدّد عليه الأشكال والمراحل وصولاً إلى هدف أخير…» (من خطاب تقديم الميثاق الوطني). دستور دولة الوحدة متعدّد الصور والأشكال وفق المراحل والأهداف المرسومة حيث لا ينتفي إمكان أن يكون دستوراً اتحادياً فدرالياً أو كونفدرالياً… فالنظام الاتحادي لدولة الوحدة مطروح منذ عام 1935 عندما وضع قسطنطين زريق ومجموعة قوميين عرب كتاب القومية العربية حيث ورد ما يلي: «… على أنّهم (العرب) لبواعث جغرافية وإدارية يرضون مختارين بأن تكون أقطارهم مؤلّفة الشمل في الدولة العربية على أساس نظام الاتحاد «فدراسيون»».

تنافي الوحدوية الصارمة المعبّر عنها بالدولة المركزية الواقع العربي الراهن، لا بل إنّ إقامتها من مستحيلات المرحلة وهي مشروع فاشل لأنّ شعوب الأقطار – خصوصاً الأقليات منها – فهمتها ابتلاع الكبير للصغير أو ذوبان الأقلّ في الأكثر. النظرة الواقعية، بعيداً من أيّ تنظير أيديولوجي أو أيّ مسبقات ومطلقات، تنبئ أن العبور من واقع الشرذمة، بما فيها داخل القطر الواحد، إلى الوحدة الشاملة إجراء عجزت عنه الأيديولوجيات الكلية أو التوتاليتارية «المعسكرة» فكيف بفكرة الوحدة العربية الحضارية التي لم يتمكّن من تجسيدها في دولة وحدوية أو اتحادية حزبان عقائديان يؤمنان بها وتولّيا الحكم بشعارها في دولتين جارتين تعيشان في جغرافيا سياسية واحدة؟!

لذلك تبقى رؤية الرئيس عبد الناصر لجهة دستور دولة الوحدة هي الأصحّ لبناء دولة المستقبل العربي. فالدستور الاتحادي يساعد على ربط البعد الوطني أو القطري بالبعد القومي على قاعدة التكامل كما عبّر عن هذا الربط الجابري بقوله: «العلاقة بين القومي والقطري يحدّدها نوع من الاتحاد بين الدول القطرية يجعل التكامل بينها حقيقة واقعية ونامية» فتتوحّد القوى الوحدوية الوطنية والقومية في مسار نضالي واحد لحماية دولة الوحدة من السقوط أمام سياسات الاستعمار والصهيونية التجزيئية والتفكيكية للوطن العربي، وأمام القوى الإقليمية التي لكلّ منها مشروعها الخاص المناوئ لأيّ مشروع وحدوي عربي وجميعها مستفيد من الواقع العربي الراهن المفكّك والمجزّأ والمشتعل حروباً فيه وعليه. لذلك إنّ مشروع بناء دولة المستقبل العربي الاتحادية أو الفدرالية أمر تجب المبادرة إليه اليوم قبل الغد؛ فالأوضاع العربية الراهنة التي لم تستكمل فيها شروط قيام دولة الوحدة هي الأدعى لإطلاق هذه المبادرة وتحويلها إلى مشروع ثقافي – سياسي شعبي تشبّثاً بفكرة الوحدة وعدم التراجع عنها في أي ظرف مهما اشتدت على الأمّة حالات التمزّق والتشظّي. فالوحدة العربية ممكنة بالاتحاد وهي الوحدة المطلوبة راهناً للنهوض من هذه الحالات.

ربما تكون هذه الدولة الاتحادية شاملة للأقطار، وقد تكون بين قطرين أو أكثر حيث يكون تقارب وتفاعل وتكامل بين أنظمة سياسية ديموقراطية ومستويات متقاربة في التنمية ورؤى وبرامج اقتصادية موحّدة وإرادة في توحيد النقد وإزالة الحدود الجمركية وإلغاء تأشيرات الدخول لمواطني الأقطار المعنية بهذا الاتحاد وتصميم على تنسيق الرؤى والبرامج التربوية والتعليمية وأحكام الفقه الدستوري والقانوني وتطبيق شرعة حقوق الإنسان وجعل قاعدة الأمن القومي قاعدة ثابتة للسياسات الخارجية والدفاعية والأمنية والإفادة المشتركة والعادلة من الثروات الطبيعية.

ما يشجّع على إطلاق مشروع الدولة الاتحادية حقيقة ثابتة لحظتها رؤية عبد الناصر بتبيينها أنّ «وحدة الهدف حقيقة قائمة عند القواعد الشعبية في الأمّة العربية كلّها» (من خطاب تقديم الميثاق الوطني). فالقواعد الشعبية هي الحامل الاجتماعي النضالي والثوري لمشروع دولة الاتحاد العربي وهي الكتلة التاريخية المتكوّنة مما يسمّيه عبد الناصر «اللقاء بين القوى التقدّمية الشعبية في كلّ مكان من العالم العربي». (من الخطاب نفسه) ما يعني تحرير الفكرة القومية الوحدوية من سيطرة الأنظمة الشمولية الاستبدادية واحتكار الأحزاب الطليعية لها وتحويلها ملكاً لجماهير الأمّة.

– الوحدة العربية هي وحدة الأمّة بكلّ مكوّناتها: «وكان معنى الوحدة قاطعاً حين اشتركت المسيحية في الشرق العربي في مقاومة الصليبيين جنباً إلى جنب مع جحافل الإسلام»‏[2].

الوحدة العربية وحدة في التنوّع. هذا هو مبدأ تأسيسي قامت عليه رؤية عبد الناصر وهو ناتج فهم موضوعي لمكوّنات المجتمعات العربية ولنقاط الضعف في بناها التي يمكن أن يستغلّها أعداء الوحدة، فأراد تحويلها من نقاط ضعف في جسد الأمّة إلى نقاط قوّة. إنّ صحّة هذا الفهم يؤكّدها اليوم تشظّي الهويات الوطنية إلى هويات فرعية يعقد عليها الاستعمار نجاح استراتيجيات التفكيك والتفتيت والهيمنة.

رؤية عبد الناصر لا تقوم على فكرة الإلغاء أو الإقصاء لأيّ مكوّن ديني أو عرقي. محورها فكرة المواطنة وبناء المواطن الإنسان العربي الحرّ المتحرّر الثوري الواعي لحقوقه وواجباته المسؤول والمشارك في الشؤون الوطنية والقومية.. «ارفع رأسك يا أخي…» صرخة موجّهة إلى المواطن المصري بدون تمييز.

رؤية عبد الناصر رؤية احتضانية تتّسع لجميع المواطنين وهي نقيض هيمنة الأحادية في المجتمع والدولة. إنّها تعترف بالخصوصيات الثقافية لدى مكوّنات الأمّة ما يعطي العروبة أو الفكرة العربية مضمونها الحضاري والإنساني ويغني فيها منظومة قيمها الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية ويعزّز قوّتها في بناء المستقبل العربي.

الفكرة العربية لدى الرئيس عبد الناصر نقيض العنصرية، وخصوصاً عنصرية الدولة الصهيونية؛ ففي خطابه بمناسبة إعلان أسس الوحدة بين مصر وسورية في 5/2/1958 حدّد مواصفات دولة الوحدة: «… لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادية عليه ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدّد، تصون ولا تبدّد… توحّد ولا تفرّق، تسالم ولا تفرّط… تشدّ أزر الصديق وتردّ كيد العدو، لا تتحزّب ولا تتعصّب لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكّد العدل، تدعم السلام..»

هذا هو النموذج الحضاري المطلوب لدولة المستقبل العربي، دولة تحترم مكوّنات المجتمع «تحمي ولا تهدّد… توحّد ولا تفرّق…».

يعزّز طرفا هذه المعادلة دور دولة الوحدة (سواء كانت قطرية أو قومية) في احتواء تصادم المكوّنات ولجم «الطموحات الخاصة» في الاستقلال الذاتي أو الانفصال وتحرير الدولة والمجتمع من استبداد الحكم الفئوي الدافع إليها فضـلاً عن التخفيف من حدّة النزاعات الأهلية أو ما دون الوطنية. هنا تجد الأقليات نفسها داخل منظومة اندماج فعلي وطوعي، لها منه ما لها، وعليها ما عليها من حقوق وواجبات.

من كلّ ذلك، نخلص إلى القول: إنّ رؤية عبد الناصر في فهم التركيب البنيوي للمجتمعات العربية تأسيس معرفي بتعقيدات المسار الوحدوي الذاتية، وهي شرط ضرورة لكلّ مشروع يتوخّى بناء دولة المستقبل العربي باستبعاد الصيغ الوحدوية المطلقة أو الصهرية واعتماد قاعدة المضمون التعدّدي للوحدة. فالهويّة الحضارية للأمة العربية تنطوي على مكوّنات أحياناً تكون متآلفة وأحياناً متنافرة. نبذ هذه المكوّنات أو عدم الاعتراف بها أو الاعتراف لها بحقّ تقرير المصير أمران يسيئان للهوية العربية؛ فـ الأوّل إكراهي قمعي وفيه إضعاف للهوية وضمور، والثاني تفكيكي وتفتيتي وفيه تشطير للهوية وانزياح بها عن مألوفها التاريخي الحضاري المشهود له باحترام الحريات وحماية الحقّ في الاختلاف.

إن الأمّة العربية هي النموذج الدالُّ على استحالة أن توجد أمّة تنحدر مكوّناتها من أصل واحد أو هي تنتمي إلى دين واحد، وعلى هذا الفهم التاريخي لواقع الأمة العربية قامت رؤية عبد الناصر.

ثالثاً: المنهج الثوري وسيلة لبناء دولة الوحدة وتحرير الوطن وتحرّر المواطن

من حقائق تاريخ الشعوب وتحوّلاته أنّ الأفكار تغيّر العالم فكيف إذا كانت أفكاراً ثورية؟

فالتغيير يبدأ بتطبيق فكرة ثورية قد يكون مضمونها معنوياً وقد يكون مادّياً وقد ينطوي عليهما معاً كما كانت فكرة عبد الناصر:

– لتثبيت مبادئ العزّة والحرية والكرامة؛

– للتخلّص من الاستعمار الأجنبي واستغلاله ومن حليفه استبداد الأنظمة العربية ورجعيتها؛

– لإقامة دولة الوحدة… (من خطاب تأميم قناة السويس في 26 تموز/يوليو 1956 في عيد الثورة الرابع من الإسكندرية).

عبد الناصر هو المؤسّس التنفيذي للفكرة الثورية في تاريخ الثورات العربية المعاصرة. ثورة الضباط الأحرار في مصر (1952) تلتها ثورات في أقطار عربية أخرى: ثورة الجزائر (1954)؛ ثورة الضباط الأحرار في العراق (1958)؛ ثورة اليمن (1962)؛ الثورة الفلسطينية (1965)؛ ثورة الضباط الأحرار في السودان (1969)؛ ثورة الفاتح في ليبيا (1969). تلقّت جميع هذه الثورات دعماً مباشراً من عبد الناصر. وعلى اختلاف مواقعها وقياداتها وإنجازاتها ونجاحاتها أو انزياحاتها عن الأهداف جمعها عنوانان: الوحدة والتحرير باعتماد المنهج الثوري.

هذه الثورات في رؤية الرئيس عبد الناصر هي من أجل العرب جميعاً، فالثورة اليمنية مثـلاً يقول فيها مخاطباً اليمنيين: «حريتكم حرية لنا، ثورتكم ثورة لنا… ثورتكم ثورة العرب جميعاً.» (من خطاب الثورة اليمنية). وهي ثورات تؤكّد وحدة الأمّة العربية وتسقط الحدود التي أقامها الاستعمار بين أقطارها: «إنّنا هنا شعب واحد لا فرق بين يمني ومصري… إنّنا أمة عربية واحدة… خلق الاستعمار الحدود بيننا..» (من الخطاب نفسه).

رؤيته أنّ الثورة والحرية والوحدة العربية مسار واحد.

ما ينطبق من هذه الرؤية على الوضع العربي الراهن وتحدياته هو أنّ المنهج الثوري ما زال يعمل على خطوط التحرير وتصفية الاستعمار والتحرّر من أنظمة الاستبداد والتخلّف والوحدة العربية (وإن على درجات متفاوتة) تحوّل إلى منهج في المقاومة: مقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وسورية، مرّبع الصمود القومي.. وهي مقاومة في حقيقة أمرها مقاومة من أجل العرب جميعاً ومن أجل وحدتهم ووقف مخطّطات الاستعمار الأمريكي/الصهيوني في الهيمنة والسيطرة.. والتأييد الشعبي لهذه «المقاومات» (خصوصاً المقاومة في فلسطين) الذي عرفته وتعرفه الساحات العربية يشهد على وحدة الأمّة ومركزّية قضيتها في مستوى مشاعر شعوبها ووعيها لوحدة المصير.. هذا في جانب.

والمنهج الثوري في جانب آخر أعدمت مفاعيله، كما أراد لها أن تكون الرئيس عبد الناصر، «ثورات» ما عرف «بالربيع العربي»، فالثورة التونسية مثـلاً كان مقدّراً لها أن تكون نموذجاً يحتذى في الثورة على أنظمة الفساد والاستبداد فحقّقت نصف نجاح كما توحي تجربة الحكم وفق الدستور الجديد والتفاهمات السياسية، وتالياً الثورة المصرية والليبية واليمنية والسورية كان مقدراً لها كذلك أن تكون امتداداً لنهج ثوري واحد ومسار واحد يفضي إلى إقامة أنظمة ديمقراطية فانكسرت وراحت في اتّجاهات ومآلات متباينة.

على الرغم من هذه الانكسارات والخيبات يبقى المنهج الثوري من الخيارات الأصوب والأفعل أمام قوى التغيير لإسقاط أنظمة الاستبداد والتخلّف «فالإنسان العربي لم يعد قادراً على صنع حياة اجتماعية أفضل بغير الطريق الثوري» (من خطاب تقديم الميثاق الوطني). هذه حال الإنسان العربي في زمن الرئيس عبد الناصر فكيف بحاله في الزمن الحالي؟! هذا في جانب. أمّا في جانب آخر، وعلى الرغم من اتّساع الاحتلالات القائمة في الوطن العربي واشتداد النزاعات فيه وتصادمات المشاريع الدولية والإقليمية وتسريع تنفيذ ما سمّي «صفقة العصر» لتصفية القضية الفلسطينية، فيبقى منهج المقاومة المسلّحة هو الأصوب والأفعل أمام المقاومين لتحرير فلسطين وسائر الأرض العربية المحتلة.. «فالحق العربي لن يضيع… والأمّة العربية بكلّ طاقاتها وإمكاناتها قادرة… والقوى الذاتية العربية أكبر وأقدر على الفعل… والأمّة هي الباقية..» (من خطاب التنحّي).

رابعاً: من إنجازات عبد الناصر:
أمثولات وعبر للراهن العربي

بداية ثورة 23 يوليو مثّلت عصر التحوّلات الكبرى في المنطقة والعالم ربطاً بدور الرئيس عبد الناصر في إنشاء مجموعة دول عدم الانحياز وفي إيجاد حلفاء استراتيجيين، وخصوصاً الاتحاد السوفياتي وسائر دول أوروبا الشرقية الداعمة للقضايا العربية. فتلك المرحلة كانت مرحلة البناء؛ بناء القوّة العسكرية والدبلوماسية والحكم الوطني والتصدّي للأحلاف الأجنبية وبالتوازي كانت مرحلة التأسيس للوحدة العربية ولنظام عربي رسمي متضامن، فأصبح للأمة مشروع للنّهوض والتحرّر والوحدة.

تلك كانت تحديات المرحلة التي تصدّى لها الرئيس عبد الناصر وتمكّن من إثبات قدرته وتالياً قدرة الأمة العربية على جعل الأحداث في المنطقة تجري وفق الأجندة العربية.

تحديات المرحلة الراهنة هي إياها تحديات تلك المرحلة، فالاستعمار لم يرحل بل ازداد رسوخاً واتّساعاً فوق الأرض العربية والقوّة العسكرية عطّلت أو بدّدت أو حوّلت في اتجاه آخر، عطّلت بالاتفاقات المعقودة مع العدو (اتفاقات كامب دايفيد، أوسلو 1، وادي عربة، أوسلو 2) وبدّدت بتدمير الجيوش بدءاً بالجيش العراقي وانتهاء بمحاولة إضعاف الجيش السوري، وحوّلت باصطناع إيران عدوّاً بديـلاً من إسرائيل، والحكم الوطني أفرغ من مضامينه الوطنية فاعتلته الفئوية والمذهبية والفردية، والأحلاف لم تعد تتّسع للمنخرطين ولطالبي الانخراط فيها، والوحدة العربية أو التضامن في حدوده الدنيا لم يعد موجوداً بين أطراف النظام العربي الرسمي وإن هو وجد فلكي يستجدي ضرب ليبيا وسورية، ومشروع النهوض والتحرّر لم يعد له مكان لدى تلك الأطراف. وما تفتقر إليه المرحلة الراهنة قيادة بحجم الرئيس عبد الناصر للتمكّن من مواجة تحدياتها.

هذا الفراغ ملأته المقاومة في مربّع الصمود القومي (فلسطين، لبنان، سورية، العراق) وهي مدعومة بحركة شعبية عربية واسعة على امتداد الوطن العربي وهي تحظى بدعم إقليمي ودولي وفّره لها ما يعرف بمحور المقاومة الذي باتت له الأرجحية في موازين القوى الإقليمية والدولية.

هذا المحور كفيل بمواجهة المشروع الإمبراطوري الأمريكي للسيطرة على المنطقة والعالم مباشرة أو من خلال أدواته كما تصدى له ولها الرئيس عبد الناصر يوم أراد هذا المشروع أن يأخذ مكان الاستعمار الفرنسي البريطاني لملء «فراغ القوّة» وذلك تحت عنوان «مبدأ أيزنهاور» (5 كانون الثاني/يناير 1957) ما يعني أن نهج الرئيس عبد الناصر في هذا المضمار ما زال صالحاً لتمثّله أو انتهاجه في هذه المرحلة.

ومن ثمار ثورة يوليو كذلك إنجاز الوحدة المصرية – السورية باسم الجمهورية العربية المتّحدة التي أعلنت في 22 شباط/فبراير من عام 1958 لمواجهة تداعيات حلف بغداد (1955)، فنجح الرئيس عبد الناصر في تفكيكه وإضعافه، إذ انسحب منه العراق بإعلان ثورة 14 يوليو/تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم. بعد خمس سنوات أعلن اتّفاق الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق في القاهرة بتاريخ 17 نيسان/أبريل 1963 ما يؤكّد مرّة أخرى أنّ الوحدة بالاتحاد ممكنة بين دولتين عربيتين أو أكثر.

هذا النهج الوحدوي الاتحادي الذي أسّس له وطبّقه الرئيس عبد الناصر، بصرف النظر عن نتائج تجاربه السابقة لأنّ لكلّ مرحلة ظروفها وتعقيداتها وشروطها الموضوعية في إنجاح النهج أو إفشاله، يبقى من ضرورات المرحلة لمواجهة تحدياتها التجزيئية «السايكس – بيكوية» الجديدة فتصحّ الدعوة إلى اعتماده في إقامة «سوراقيا» أوّلاً ثمّ البدء بتعميمه على بلاد الشام الأرض الأكثر تهيّؤاً لتطبيقه لانتشال شعوبها من بؤر الاقتتال وتجميع قواها لإفشال المشروع الصهيوني في التفكيك والتفتيت والهيمنة.

رؤية الرئيس عبد الناصر وإنجازه لا يُختصران في هذه النقاط الأربع، وما اختياري لها إلّا لأنّها تقدّم استجابات واقعية لتحديات الراهن العربي، ما يعني تالياً أنّ هذا القائد التاريخي ليس فصـلاً جامداً ومطويّاً في تاريخ الأمّة العربية، بل هو فصل متحرّك ومفتوح على حاضرها ومستقبلها. ومن أراد أن يتحرّى التاريخ ويستبصر الراهن ويستشرف الآتي عليه العودة إلى هذين: الرؤية والإنجاز؛ فله منهما ما يكفي ويزيد لتأدية المهمّة. وهذا ما حاولت القيام به ترسيخاً لإرادة الأمّة في إنجاز المشروع النهضوي العربي بعناصره الستّة: الوحدة والاستقلال الوطني والقومي والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة والتجدّد الحضاري.