المؤلف: وليد نويهض

مراجعة: منى سكرية (**)

الناشر: ثقافة للنشر والتوزيع، أبو ظبي

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 286

 

– 1 –

أسقط وليد نويهض نظرية ابن خلدون حول تطور العقل عن تطور «نشوء النخبة الأوروبية» وسيرورة مآلاتها، وفقاً لمراحل: «العقل التمييزي الذي يحاول استكشاف الحقائق البسيطة، والعقل التجريبي الذي يعتبر درجة أعلى من حيث تعامله الميداني مع الحقائق المركّبة من عناصر مُتخالفة، والعقل النظري حيث ارتفعت النخبة إلى سوية اكتشاف المفاهيم والبدء في تحديد المصطلحات والنماذج التي تساعد على قراءة التطور وتفكيكه وإعادة تركيبه في إطار شمولي وسياق زمني» (ص 244).

ويسأل في مؤلفه المشار إليه: «كيف حققت أوروبا نهضتها؟ والإجابة – يقول – تحتاج إلى «العودة إلى تلك اللحظة الزمنية التي ساهمت في كسر معادلة التوازن بين العالمين العربي والأوروبي»، فـ «اللحظة بدأت في القرن الخامس عشر وأخذت بالنمو والصعود الطردي بعد تغيير خطوط التجارة القديمة «طريق الحرير»، وعبور السفينة المحيطات، وصولاً إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح، واكتشاف أميركا في نهاية ذلك القرن». بعدها أخذت أوروبا بالنهوض من خلال «تعانق العمران مع المعرفة».

– 2 –

يتساءل الفصل الأول وعنوانه «الطاعون، السفينة والكنيسة»: من أين تأتي المعرفة؟ ويقول: «لا يأتي الفكر والفن والفلسفة والعلوم من الكتاب فقط، أو من عقل فيلسوف، أو عمل فنان، بل إنها مصادر مركبة من كلاسيكيات (الموروث التراثي) ومشتقة من حركة الواقع وآلياته العمرانية، وأخيراً من مُخيّلة تضع تصورات إصلاحية ومستقبلية». وهذا النوع من التطور الفكري لا يقفز قفزاً بل يتراكم معرفياً وتاريخياً… (ص 12 – 13)، فـ «الفكر الأوروبي الحديث لم يسقط من فوق إلى تحت، وإنما صعد من تحت إلى فوق»، و«نجحت المعرفة الأوروبية التي نهضت من تحت (علاقات اجتماع) إلى فوق (دولة) في اختراع وظيفة سياسية – ثقافية لنفسها»، و«لعبت النخبة دوراً في دفع المفاهيم الإنسانية إلى الأمام» (ص 16).

ويتوقف الفصل أمام حقبة من التاريخ ليسأل: إلى أي مدى أسهمت الحضارة الإسلامية – العربية في بعث النهضة الأوروبية، وخصوصاً في مجالات الفلسفة والعلوم؟ الجواب – يقول – لا يزال مدار نقاش، وتتراوح القراءات بين مُتَجَاهِل يعتمد نهج الإقصاء الكامل، وقائِل بتأثير محدود وبسيط، ومُعتَرِف بوجود صلة بين نهضة أوروبا ودور الإسلام في إطار حضارات البحر المتوسط، مع إشارته، إلى أن «الجزء الكبير من الميراث العلمي وصل إلى أوروبا من طريق إيطاليا (صقلية) من خلال الترجمة والنقل من العربية إلى العبرية واللاتينية» (ص 17)، و«ساهمت هذه الترجمات في نشر «المذهب الرشدي» (نسبة إلى ابن رشد) في جامعة باريس وجامعات شمال إيطاليا»، و«بسبب انتشار «الرشدية» نشب صراع بين الكنيسة والجامعة انتهى إلى منع تدريس كتب ابن رشد»، ولكن، «مقابل التيار اللارشدي نهض تيار مضاد، قاده برانبت بمعاونة جيرو الأبغيلي» (ص 19)، في حين اقترح ريمون لول المُعَارِض لأفكار ابن رشد على «البابا كليمونت الخامس عشر تأسيس كليات لدراسة اللغة العربية بهدف محاربة الإسلام» (ص 20). لكن – يقول نويهض –  «النخبة الأوروبية المعاصرة لجأت إلى نوع من الاستعارة الذكية»، و«لهذا اعتبر هذا الجيل هو المؤسس للفكر العقلاني (الواقعي) الذي نقل الوعي من الغيب إلى العقل ومن الدين إلى الدولة» (ص 22)، فـ «التطور الأوروبي في خطواته الأولى نهض أساساً على قاعدتين تاريخيتين: الدين والدولة»، موضحاً «أن أوروبا شهدت في القرن السادس عشر ثلاث ثورات: واحدة في نظرية الكون، وأخرى في نظرية التوازن في العلوم، والثالثة كانت في بدء حركة إصلاحية في الكنيسة، وقاد الثورات العلمية والدينية الثلاث كوبرنيكوس، غاليلو، كبلر، ومارتن لوثر»، مستنتجاً بالقول «لقد لعبت الجغرافيا دورها الانقلابي في صناعة التاريخ».

– 3 –

يناقش الفصل الثاني بعنوان «الحروب، الدين والإصلاح» كيف «شكّل النصف الثاني من القرن السادس عشر بداية ظهور مُتحولات في بنية النخبة الأوروبية، مستفيدة من تلك الانشقاقات التي أصابت الكنيسة وأضعفت نسبياً هيبة الإكليروس. وخلال تلك العقود الخمسة ستترافق الحروب الدينية (الأهلية) مع ولادة كبار العلماء والأدمغة؛ ففي مدينة بيزا الإيطالية سيولد غاليلو 1564 وفي بريطانيا فرنسيس بيكون 1561 وتوماس هوبز في 1588، وفي فرنسا رينيه ديكارت 1591»، وستصعد الليبرالية مع جون لوك في بريطانيا. يقول نويهض: «كان القرن السابع عشر لحظة التحولات العمرانية الكبرى في أوروبا الحديثة، كذلك شكّل منطلق التغيير في الأبنية المعرفية حين تدخلت في سنواته الطويلة السياسة بالدين والدين بالدولة، فأنتجت سلسلة حلقات في تطور وعي النخبة. آنذاك شهدت نخبة أوروبا الحروب الدينية والقومية والأهلية محدثة قفزات معرفية في مختلف المستويات العلمية (المختبرات) والاكتشافات المتصلة بالطب والهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء. وأسهمت كل هذه الحقول العلمية، حين اخترقت العلوم الإنسانية، في إنتاج معرفة حديثة تأسست في ضوء مناراتها سلسلة منهجيات اقتصادية وسياسية وتاريخية واجتماعية أعادت قراءة الموروث (الماضي) المنقول من العصور اليونانية والرومانية والجرمانية والإسلامية، واستعارت منه ما هو قادر على التكيف مع مقتضيات الحاضر ومتطلبات المستقبل» (ص 75).

– 4 –

أما الفصل الثالث بعنوان «التنوير، الدولة والثورة»، فيصف المؤلف القرن الثامن عشر بأنه «قرن اكتشاف العلم والاتجاه نحو القومية»، إذ «قطعت أوروبا في تطورها العمراني – المعرفي الأشواط الكثيرة قبل أن تصل إلى الثورة الفرنسية»، هذا «التطور – التوسع فتح الباب مجدداً أمام النخب لتلعب دورها في التفكر والابتكار»، لينتهي القرن الثامن عشر بثورتين: الأمريكية والفرنسية. وفي هذا العصر شهدت حركة التنوير في أوروبا ولادة الكثير من حلقات التطور المعرفي (الفلسفي) وكان أبرزها ثلاثة: مونتسكيو، دايفيد هيوم وجان جاك روسو. و«لقد تأثر الفلاسفة والعلماء الفرنسيون (القسيس كوندياك، فولتير وديدرو) بداية بالنخبة الإنكليزية – الإسكتلندية وأخذوا عنها الكثير من أفكارهم»، معتبراً «أن التاريخ المعاصر لم يبدأ من أوروبا؟ المفاجأة كانت أميركا» (ص 98)، فهي «تشكلت من مهاجرين زحفوا إليها من أوروبا، وبسبب هذا النوع من التكوين التاريخي تأسست الدولة قبل المجتمع».

في هذا الفصل يستنتج نويهض أنه «لم تكن فلسفة النخبة تنويرية بالكامل فهي جمعت الأضداد في وحدة افتقدت منهجية متماسكة تقرأ الحاضر في نسق عقلاني»، لأن «معظم فلاسفة ألمانيا أيدوا الثورة الفرنسية وشعاراتها الأخلاقية. (كانط، هيغل، فيخته) قبل أن يغيّر فيخته موقفه منها بعد اجتياح بونابرت لألمانيا، داعياً إلى «الأمة الألمانية».

– 5 –

في الفصل الرابع بعنوان «الطفرة: الفائض والتغيير» سلّط المؤلف الضوء على فلسفة كانط وهيغل وزلزال لشبونة، وحروب نابليون وهزيمة مشروعه، وظهور سان سيمون الاشتراكي المسيحي، والمفكر الفرنسي أليكس دو توكفيل وتمييزه الديمقراطية الأمريكية عن الديمقراطية الأوروبية، إلى ظهور داروين وفلسفة الارتقاء، وكارل ماركس و«محاولاته تغيير العالم لا تفسيره».

– 6 –

ويعرض الفصل الخامس لـ «العنصرية: جنون العظمة والانتحار الذاتي»؛ وفيه أن النهضة التي اجتاحت أوروبا تشكلت في محطات، وأن «أوروبا كانت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على موعد مع صعود قوة ألمانيا السياسية»، ورافقها طفرة من الفلاسفة أبرزهم دوهرنغ، وأنغلز، وعن غاستون باشلار (فيلسوف فرنسي معاصر) الذي تحدث لاحقاً عن ثلات محطات تطور تكوين العقل العلمي في أوروبا». أما رينان المستشرق الكاره للشرق والإسلام «فقد جاءت المحاورات الفلسفية التي أنتجها في عام 1876 في إطار متغيرات حصلت في تلك الفترة التاريخية حين شهدت أوروبا تراجع فلسفة هيغل التطورية (التسووية) لمصلحة عودة فلسفة ليبنتز الداعية إلى المصالحة بين الكاثوليكية والبروتستانتية وتصدير فائض القوة الأوروبية إلى بلاد المسلمين ومحاربة السلطة العثمانية» (ص 220)، مقارناً – أي نويهض – بين الفيلسوف نيتشه (1844 – 1900) وما يمثله من حال الجنون والاضطراب الفلسفي بين عالم يتطور وعالم ينزوي، وبين عالِم السوسيولوجيا إميل دوركايم (1858 – 1917) المُمَثِّل لحال الخوف من انتشار ظاهرة الانتحار.

– 7 –

وفي خلاصات الكتاب يقول المؤلف: لم يتوقف مسار «النخبة الأوروبية» التطوري عند عام 1920، بعد هذه الفترة ستحصل تطورات دراماتيكية في العلاقات الدولية ستؤدي إلى تراجع موقع أوروبا وصعود الولايات المتحدة. لذلك كان لا بد من توقف الكتاب عند هذه اللحظة الفاصلة للأسباب الآتية: أولاً نهاية الحرب العالمية الأولى في 1918 وتوقيع معاهدة فرساي في 1919، وثانياً بدء انتقال الثقل الدولي من القارة القديمة إلى القارة الجديدة..

– 8 –

التقط المؤلف تلك اللحظة الزمنية المفارقة في تاريخ أوروبا ونهضتها، وتأثيرات إشعاعها على مساحات كونية واسعة، فأوجز بدقة المزج بين التاريخي والعلمي والسوسيولوجي والفكري، مستنبطاً حصيلة مكثّفة من الأخبار الواردة من بطون ذاك التاريخ، فتبدّت تسلسليتها بصورة الحبك المنطقي.

وإذ لم يكن في وسع المؤلف وسواه أن يحصي ويحصر أسماء تلك النخب وذينك الأحداث المواكبة، – وهذا عمل موسوعي – فإن ما أورده تعدّى التحقيب الزمني إلى عملية أشبه بحياكة حكاية نهضة القارة و«تضفير» مراحل نشوء نُخبِها وتطور أحداثها كالسجادة المتفاوتة الرسومات ولكن المتماسكة بخيط ذهني – رياضي، فكان منهجه «تشبيك» الوقائع على امتداد صفحات الكتاب.

ابتعد المؤلف من المقارنة بين نشوء النخبة في أوروبا والأدوار التي صاغتها بجدارة، وبين تعثُّر أدوار النخب في الوطن العربي على سبيل المثال، لكن ذلك، انعكس كالمرآة أمام القارئ ولم يمنع تجديد القلق من السؤال المتكرر عن «نخبنا» وفاعليتها من مثقفين وأحزاب، ومن حروب ودول، وثروات وأدمغة؟ مآزقهم؟ مآزقنا؟ وعّاظ للسلاطين أم سلاطين في الوعظ والتوعية؟! ولماذا لم نفلح في اختراق الثقوب الصماء والصلدة في بُنية مجتمعنا العربي بالرغم من كل هذا الواقع الكارثي الممتد! وهل فشلنا لأننا استنسخنا «تجاربهم» بببغائية، ولم نخترع أدوات تأصيل تجاربنا وكيفية إسقاطها على واقعنا كي تزهر مجدداً (ملاحظة، للكاتب مؤلف بعنوان «نشوء النخبة المشرقية قبل عشرة أعوام عن دار الوسط – البحرين).

غاب الجانب غير المُشرق من تلك النهضة والمتعلق بحقبات الاستعمار الأوروبي للشعوب الأخرى، وبخاصة منطقتنا العربية، وهو ما قد تشكّل لدى البعض من المصابين بفوبيا الآتي من وراء البحار وكأنه ترويج للجانب المشرق من تلك النهضة.

لم نلحظ في خلاصات الكتاب أيَّ اقتراحات من جانب المؤلف، أو استنتاجات حول نهضة أولئك وفشلـ «نا»، وإنما اكتفى بإعادة سرد موجز ومكثّف لنشوء النخبة الأوروبية.

 

قد يهمكم أيضاً مراجعة كتاب نقد الثقافة الغربية: في الاستشراق والمركزية الأوروبية