مقدمة:

عقدت الحركة الصهيونية أول مؤتمر لها في نهاية القرن التاسع عشر (1897) وأقامت عدداً من الأنشطة في العالم مركزة على فلسطين، وتلقت الدعم والمساعدة من قبل بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور سنة 1917، لتقتطع لهم بريطانيا الأراضي الشاسعة وبناء المستوطنات. وحسمت كل من اتفاقية سايكس – بيكو السرية سنة 1916 ومؤتمر سان ريمو سنة 1920 القاضي بفرض الانتداب على الشام والعراق من جانب بريطانيا وفرنسا، إضافة إلى موافقة عصبة الأمم على ذلك سنة 1922، مسألة توطين اليهود بفلسطين. وانتشرت دعاية الحركة الصهيونية بين يهود البلدان العربية المستعمَرة أو الواقعة تحت الانتداب، ولا سيَّما منها منطقة الشمال الأفريقي، الخاضعة لفرنسا من خلال أنشطة كثيفة، حيث كانت تحت مجهر جهاز الاستخبارات الفرنسي، الذي قدّم لنا معلومات مهمة عن العمل الدعائي والنشاط الدؤوب لتجنيد يهود شمال أفريقيا، لمصلحة أيديولوجيا الحركة الصهيونية وأنشطتها بالمنطقة.

لذلك تحاول هذه الدراسة الإجابة عن الأسئلة الآتية:

– ما أبرز مظاهر نشاط الحركة الصهيونية بمنطقة الشمال الأفريقي الخاضعة للاستعمار الفرنسي وما علاقتها بيهود هذه المنطقة؟ وما الدور الذي أدّته فرنسا الاستعمارية في مساعدة اليهود على الهجرة من مستعمراتها نحو فلسطين؟ وما المواقف المختلفة من هذا النشاط؟

سيكون ذلك محور قراءتنا المتواضعة لوثائق أرشيفية ومقاربتها بدراسات أخرى، تطرقت إلى هذا الموضوع من زوايا مختلفة، بهدف الوصول إلى نتائج عن نشاط الحركة الصهيونية بالمنطقة المغاربية.

أولاً: دور الحركة الصهيونية في هجرة اليهود نحو فلسطين

تُعد الحركة الصهيونية حركة سياسية قومية تنسب نفسها إلى جبل صهيون، هدفها الرئيسي إقامة دولة يهودية في فلسطين، من خلال تشجيع هجرة اليهود من أنحاء العالم كافة إلى فلسطين وإقامة مستوطنات يهودية جديدة، وحل مشكلة وجود اليهود بأوروبا بهدف تحويلهم إلى أمة من خلال إقامة دولة لهم بفلسطين‏[1].

ولهذا الغرض استطاع هرتزل‏[2] دعوة قيادات الحركات اليهودية عبر العالم، لعقد مؤتمر عالمي لليهود باسم الحركة الصهيونية، حيث تشكلت الصهيونية كأيديولوجيا وحركة سياسية أتت متساوية مع نمو الأيديولوجيا القومية في أوروبا‏[3]، وطرحت عدة أماكن للاستيطان اليهودي في العالم وتمّ الاتفاق على الاستقرار بفلسطين وفق المفهوم الديني للدولة، بتواطؤ من بريطانيا،  وقد عُقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السوسرية بتاريخ 29 – 13 آب/أغسطس 1897، وأقر دستور الصهيونية العالمية؛ من أجل تأسيس دولة إسرائيل وإنشاء المنظمات السياسية والاقتصادية واللجان التنفيذية والمقررات والمخططات ومتابعتها على أرض الواقع، واستعمل أصحاب القرار مصطلح الوطن لأسباب دبلوماسية بينما كان القصد الحقيقي، حسب مذكرات هرتزل «إرساء الدولة اليهودية»‏[4]. وبذلك نشطت حركة الهجرة اليهودية نحو فلسطين.

أشارت بعض الدراسات‏[5] ووثائق جهاز الاستعلامات الفرنسي‏[6] الذي كان يتابع على نحوٍ دوري نشاط الحركة الصهيونية في العالم وبمنطقة شمال أفريقيا، وإلى أن الحركة الصهيونية اعتمدت في دعايتها العلنية على الحجج الدينية واضطهاد اليهود وتزايد معاداة السامية في العالم واستحالة اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، بما في ذلك المستعمرات الفرنسية في منطقة شمال أفريقيا، رغم الحقوق السياسية التي تحصلوا عليها كالجنسية الفرنسية في الجزائر منذ سنة 1870 وحصولهم على مكانة مميزة بتونس والمغرب‏[7].

أمّا الأرشيف الخاص بجهاز الاستعلامات الفرنسي، فقدم إلينا تصوراً عن الحركة الصهيونية بأرض فلسطين وفي العالم وعملها الدؤوب للتأثير في القوى الاستعمارية الكبرى لقبول إقامة وطن قومي لليهود فوق أرض فلسطين‏[8].

ولتحقيق هذه الغاية، شجعت الحركة الصهيونية بريطانيا على فرض سيطرتها على البلدان العربية بشتى الطرق، والقضاء على الدولة العثمانية بالمشرق من خلال اتفاقها مع العرب لتفجير ثورة 1916 أثناء الحرب العالمية الأولى، ووعدت العرب بإقامة دولة عربية كبرى متعاونة مع بريطانيا في المنطقة، «لكن بريطانيا تنكرت لوعودها لشريف مكة باستقلال البلاد العربية من خلال اتفاقية سايكس بيكو السرية سنة 1916 بتقسيم البلدان العربية بين فرنسا وبريطانيا»‏[9].

وكان النشاط الصهيوني بشمال أفريقيا واضحاً، بوصول اليهود إلى أعماق مفاصل المجتمعات المغاربية سياسياً واقتصادياً‏[10]. وتم إخفاء النيات الحقيقية الخاصة بتحقيق حلم الوطن اليهودي من خلال عملية تفكيك الوحدة الإسلامية وإضعافها، لكي تسهل عملية التحايل على الحقوق المشروعة للمسلمين بأرض فلسطين‏[11]. وقد تناولت بعض الدراسات في المدة الأخيرة، موضوع هذه الاتفاقيات السرية وكشفت الحقائق من خلال الاعتماد على الوثائق الأرشيفية، بصدور دراسة وافية بالخرائط في الذكرى المئوية لهذه الاتفاقية من قبل مركز دراسات الوحدة العربية، حول أسباب عقد هذه الاتفاقية وخلفياتها وانعكاساتها على البلاد العربية‏[12].

وتحقق وعد بلفور المشؤوم، الذي اعترف فيه اللورد جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا لراعي الحركة الصهيونية، جيمس روتشيلد بتحقيق المشروع الصهيوني بأرض فلسطين‏[13].

وفي هذا السياق، قدّمت لنا وثائق جهاز الاستعلامات الفرنسي، نظرة عن تطور القضية الفلسطينية وصراع عرب فلسطين مع البريطانيين ومواجهتهم سياسة نزع الأراضي واغتصابها ومقاومتهم الهجرة اليهودية، موضحة لنا من خلال مراسلة الحاكم العام للجزائر إلى وزير الداخلية الفرنسي بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1946، نشاط الحركة الصهيونية ببلدان المغرب، حيث مرت بثلاث مراحل حسب تحليل هذه الوثائق كالآتي‏[14]:

– المرحلة الأولى: تمّ فيها تسجيل ردود فعل عنيفة من قبل العرب بواسطة الانتفاضات والثورات، منذ ثورة 1921 التي تلقت تأييداً من قبل إيطاليا سنة 1930، وألمانيا عند صعود هتلر سنة 1933. وقد تواصل الصراع العربي – الصهيوني، بسبب تساهل بريطانيا أمام الهجرة اليهودية، حيث ازدادت التوترات بينهما، مما أدى ببريطانيا في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1930 لإصدار الكتاب الأبيض، الذي أكدت فيه أن صك الانتداب هو تعهد دولي ولا يمكنها العدول عنه، أو الوقوف مع أحد الطرفين، لكنها في نهاية المطاف، خضعت من جديد للضغوط الصهيونية، وتنكرت لتعهداتها السابقة للفلسطينيين. واعترفت في رسالة لرئيس وزراء بريطانيا رامزي ماكدونالد إلى وايزمن زعيم الحركة الصهيونية، وقوفها من جديد مع الحركة الصهيونية‏[15].

وجاءت ثورة 1936 – 1939 الفلسطينية كردِّ فعل على السياسة البريطانية، حيث تراجعت هذه الأخيرة من جديد عن سياستها السابقة، لتصدر الكتاب الأبيض الثاني سنة 1939، بهدف تهدئة الأوضاع بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية‏[16].

– المرحلة الثانية: بدأت مع أشغال لجنة بيل (Peel) ومشاريع تقسيم فلسطين‏[17]، حيث أوجدت السياسة البريطانية توازناً في المنطقة بين الطرفين المتصارعين، فأثارت هذه السياسة اندلاع موجات احتجاج وانتفاضات ضد الوجود الإنكليزي، بينما ظلت الهجرة السرية لليهود مستمرة، من خلال ما ورد في تقارير جهاز الاستعلامات الفرنسي التي وضحت لنا واقع المشكل الفلسطيني خلال الحرب العالمية الثانية‏[18]، بتجميد حركة الهجرة اليهودية مؤقتاً، وهو ما أدى إلى ارتياح الكثير من الزعماء الفلسطينيين، لصدور الكتاب الأبيض الثاني.

– المرحلة الثالثة: بدأت بنشاط مكثف للحركة الصهيونية بتشجيع الهجرة وأعمال عنف يهودية، بدأت باغتيال اللورد موين (Lord Moyn) بمصر، وتدمير الجسور واغتيال الشرطة، واستمرار هذه الأحداث على نحوٍ متواصل. وبموازاة ذلك، شنت الحركة الصهيونية، هجوماً شديداً على الرئيس الأمريكي، وكذلك على حزب العمال البريطاني‏[19]، فاضطر هذا الأخير إلى اتخاذ موقف مؤيد للحركة الصهيونية، التي سعى زعماؤها للحصول على ضمانات قبل أي تسوية سلمية. بينما تميزت مواقف العرب بالهدوء واحترام الشرعية الدولية، مطمئنين للأسلحة الدبلوماسية الجديدة من خلال وحدة العرب والنجاحات القليلة والاستقلال التي تحصلت عليه بعض الأقطار العربية‏[20] .

ولكن القادة العرب «تفاجؤوا بالسياسة الأمريكية المنتهجة لصالح اليهود، عندما قرر الرئيس الأمريكي ترومان «السماح بهجرة مائة ألف يهودي لفلسطين، فاتحدت الدول العربية لمحاربة الهجرة واغتصاب الأراضي بمقاطعة البضائع الصهيونية منذ سنة 1945…» ‏[21]، إلّا أن تواطؤ ترومان مع الملك عبد الله الأردني حول سورية الكبرى والتدخلات العراقية والمنافسة السعودية، اعتبرت أسباباً إضافية في تمزيق وحدة الصف العربي.

ثانياً: الدعاية الصهيونية بمنطقة شمال أفريقيا بين الحربين العالميتين

نشطت الحركة الصهيونية في دعايتها، لاستدراج يهود شمال أفريقيا للهجرة إلى أرض الميعاد على نحوٍ متدرج، واستغلالها شعار «معاداة السامية» (Antisémitisme)، بمعنى أننا أمام إشكالية إعادة قراءة تاريخ الحركة الصهيونية في الوطن العربي عموماً وبلاد المغرب على وجه الخصوص، حيث سعت هذه الحركة منذ نشأتها إلى بذل الجهود من خلال دعاية واضحة، استهدفت يهود المنطقة، لتحقيق أهدافها باعتبارهم شركاء في عملية قيام دولة إسرائيل‏[22].

إن تقارير أجهزة الاستعلامات الفرنسية، أبرزت لنا على نحوٍ بارز، الدور الذي أدته الحركة الصهيونية في المنطقة بفضل الدسائس وتزييف الحقائق وإثارة النزعات الطائفية والدينية والحملة الإعلامية المغرضة، تجاه الحركة الوطنية المغاربية المعادية للاستعمار الفرنسي، المطالبة بحق شعوبها في الحرية والاستقلال‏[23]، وضغطت هذه الحركة على فرنسا لتسمح لمواطنيها حسب «أمرية كريميو» أو حق الذميين في المغرب وتونس بالهجرة إلى فلسطين واستعطافهم في جمع الأموال والمساعدات المادية لمصلحة الاستيطان اليهودي بفلسطين‏[24].

أمدَّتنا بعض الدراسات الموثَّقة‏[25]، بمعطيات حول التطور السريع لنشاط الحركة الصهيونية بين أوساط اليهود المغاربة، منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

– عرف المغرب الأقصى، وجود جالية يهودية كبيرة، منذ نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث، نتيجة توافد اليهود المضطهدين من إسبانيا. وبالتالي «كان مجتمع اليهود المغاربة من أكبر مجتمعات اليهود العرب، وما زال، حيث شكل اليهود نسبة معتبرة. وكان اليهود المغاربة في حدود 250 ألف نسمة عام 1940، ما يمثل في حينه، 10 بالمئة من مجموع سكان المغرب، وقد تمتعوا كسائر سكان شمال أفريقيا، بوضع أهل الذمة حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر»‏[26]، الأمر الذي أهّلهم للحصول على مكانة مرموقة ومميزة في المجال الاقتصادي‏[27].

وظلت هجرة يهود المغرب إلى أرض فلسطين محدودة، رغم الدعاية الكثيفة للحركة الصهيونية؛ حسب إحدى الدراسات، التي قدّمت لنا أرقاماً موثقة، بأن هجرتهم‏[28]، لم تتعدّ ألف نسمة ما بين سنتي 1919 و1947، بسبب تركيز الحركة الصهيونية في المرحلة الأولى على الدعم المالي لهم.

وبدأ النشاط الفعلي للصهيونية بالمغرب، منذ بداية القرن العشرين بمدن تطوان وموغادير وآسفي وغيرها من المدن، واعتبار الهجرة فريضة دينية، متجاهلين الطابع العلماني للحركة الصهيونية. ورغم هذا النجاح النسبي لهذا النشاط، فقد واجهته عدة عراقيل، أخرت انخراط يهود المنطقة في هذا العمل، لأن زعماء الصهيونية، كانوا من الأوروبيين، ونظراً إلى نقص التواصل، بسبب مشكلة اللغة وارتباط اليهود المحليين بالمجتمع المغربي وبمنظمة «الأليانس» (Alliance): منظمة التحالف اليهودي الفرنسي؛ التي لم تسمح لليهود بالهجرة في بداية نشاطها، والاكتفاء بجمع التبرعات، ولكن الحركة الصهيونية غيرت من خططها، وقامت بحملات دعائية لتخويف اليهود من البقاء في ظل حكم المغاربة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية‏[29].

– أما في الجزائر، فلم يسلم اليهود من الدعاية الصهيونية، رغم أنهم كانوا مواطنين فرنسيين، يحظون بنفس حقوق المستوطنين وأضحوا في الكتلة الانتخابية الأولى ولهم لوبيات، تدافع عنهم في مجلسي الشيوخ والبرلمان الفرنسيين‏[30]، حيث يعود نشاط الحركة الصهيونية في الجزائر إلى نهاية القرن التاسع عشر، عندما قررت اللجنة الصهيونية العامة، تعيين أحد ممثلي يهود الجزائر ضمن ممثل الجالية اليهودية الفرنسية في مؤتمر بازل سنة 1897. ورغم ذلك لم يلق المؤتمر صدى واسع النطاق في أوساط يهود هذا البلد، باستثناء مدينة قسنطينة، التي توجد فيها جالية يهودية معتبرة‏[31].

وقد استغلت الحركة الصهيونية أحداثاً معادية لليهود، ببعض المدن الجزائرية، حسب التقارير الفرنسية ‏[32]، لتكثيف أنشطتها الدعائية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبخاصة عندما تأسست رابطة «العودة إلى صهيون». إلا أنّ هذه الأخيرة، عانت ضعف التأثير ولامبالاة المجتمع اليهودي المحلي، حيث قوبلت بمقاطعة من أثرياء اليهود والشخصيات النافذة، الذين اعتبروا أنفسهم فرنسيين، ويشعرون بالراحة في الجزائر، بسبب الحقوق الكبيرة التي يتمتعون بها‏[33]. لكن الحركة الصهيونية واصلت جهودها لتشجيع الهجرة اليهودية نحو فلسطين في بداية الحرب العالمية الثانية، مستغلة إلغاء مرسوم كريميو (Crémieux) سنة 1940‏[34]، لتبرير دعايتها.

– بينما عرفت تونس وجود جالية يهودية قوية مندمجة عموماً مع المجتمع الأهلي التونسي قبل الحماية الفرنسية، وشهدت مع بداية القرن العشرين، كغيرها من أقطار المغرب، حراكاً سياسياً ونشاطاً دعائياً للحركة الصهيونية‏[35]، فكان نشاطها محتشماً، حسب دراسة صموئيل أتينجر‏[36]، الذي تطرق إلى المحاولات الأولى للدعاية الصهيونية بتونس من خلال تأسيس أول رابطة من الشباب الصهيوني فيها، التي أرسلت برقية تهنئة إلى المشاركين في المؤتمر الصهيوني الثالث.

لذلك عرفت تونس ميلاد تنظيم مرتبط بالنشاط الصهيوني، عرف بـ «رابطة صهيون»، عام 1921، ومارست أنشطتها بموافقة سلطة الحماية، رغم اعتبار اليهود آنذاك من الأهالي التونسيين، وفق ديانتهم واحترامها في إطار التعايش الديني‏[37].

وتباينت مواقف الجالية اليهودية من الحماية الفرنسية، فطالب بعضهم بالجنسية الفرنسية، بينما دافع البعض الآخر عن هويته التونسية، لكن الحركة الصهيونية، تمكنت من غرس الأيديولوجيا الصهيونية في أوساط يهود تونس‏[38].

وتطورت أوضاع اليهود في تونس بين مطالبهم القومية، بتأثير من نشاط الحركة الصهيونية، ودورهم الوطني، بفضل سياسة التقارب التي انتهجتها قوى الحركة الوطنية التونسية‏[39]، إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية وتصاعد هجمات اليمين الفرنسي المعادي للسامية بتونس، دفع بهذه الحركة إلى تكثيف أنشطتها الدعائية بين أوساط اليهود وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، مستخدمة جميع الوسائل، كجمع الأموال والمساعدات المختلفة وحضّهم على الهجرة إلى أرض الميعاد‏[40].

وفي هذا السياق، فإن تقارير الأجهزة الاستعلاماتية الفرنسية‏[41]، تطرقت إلى نشاط الحركة الصهيونية، الذي استخدمت فيه أساليب العنف والضغط على فرنسا، من أجل السماح بهجرة اليهود نحو فلسطين.

 

ثالثاً: نشاط الحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية في منطقة شمال أفريقيا

أبرزت لنا مراسلة من الحاكم العام في الجزائر إلى وزير الداخلية الفرنسي، أبرز مظاهر نشاط الحركة الصهيونية في منطقة الشمال الأفريقي وتأثيراتها في المسلمين في ما يلي‏[42]:

– الجزائر: ورد في أحد التقارير أن الأجهزة الاستعلاماتية الفرنسية ترصد تصاعد نشاط الحركة الصهيونية في الجزائر، معتبراً أن المنتمين لهذه الحركة، هم من الشباب الذين عادة ما يتأثرون بالحرب والمضايقات العنصرية، حيث يرى التقرير نفسه أن الشبان اليهود، ظلّوا متأثرين بالصهيونية إلى غاية سن مـتأخرة من حياتهم. وحسب التقرير، فإن المركز الرئيسي للصهيونية بالجزائر، كان موجوداً بقسنطينة.. بينما كانت أنشطتهم بالجزائر العاصمة ووهران محتشمة.

تطرق التقرير أيضاً إلى تأسيس منظمة خاصة بالجزائر، تدعى المنظمة الجديدة الصهيونية الجزائرية (NOSA)، كانت تهدف إلى تفعيل نشاط الصهيونية، وتمّ تعيين مندوبين عنها للمؤتمر الصهيوني العالمي، وقامت بانتقاد بريطانيا على نحو غير عنيف في البداية. وكانت تنشط بواسطة أحد الأشخاص المدعو جيلبار دوخان (Gilbert Dukhan) المرتبط بمجموعة أخرى، منها: ريموند شماخ (Raymond Schemack) وروبار زربيب (Robert Zerbib)، وإدوارد خليفة (Edouard Kalifa) وغاي بن سيمون (Guy Ben Simon)، وتمّ تعيين السيد أدولف غاج (Adolphe Guedj) أميناً عاماً لهذه المنظمة. وتطرق التقرير أيضاً إلى مجموعة من الناشطين في هذه المنظمة وأدوارهم فيها، وارتباط هذه الشبكة بمنظمات صهيونية بفرنسا؛ أمثال «كاران كاياماث» المرتبطة بالتحالف الإسرائيلي بقيادة، شخص آخر يدعى شوراقي (Chouraqui) المكلف بجمع المساعدات.

– يوضح لنا تقرير آخر من نفس العلبة السابقة الذكر، وجود مركزين لنشاط الحركة الصهيونية في الجزائر ووهران، ينتميان لحركة شيلتون بتار (Shilton betar) بقيادة «افرايم» (Iphraim)، ووجود مجموعة أخرى تدعى الاتحاد السامي (Union Sémite)، برئاسة السيد باز موشي (Baz Mouchi)، التي تلقت مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية. ويعطينا هذا التقرير لمحة عن نشاط الحركة الصهيونية في الجزائر من خلال بعض عناصرها الناشطين، أمثال كوهان سكالي (Kohan Skali) رئيس التمويل في اللجنة العبرية للتحرير الوطني، بينما ينتمي إيفون حجاج لعصابة الهاغاناه (Haganah)، في حين يعتبر افرايم الممول الرئيسي للأسلحة من أمريكا نحو لشبونة، بالتنسيق مع أحد العسكريين الأمريكيين المدعو غولد سميث (Gold Smith)، الذي ينتمي إلى المنظمة الصهيونية ببوسطن، بينما يقوم مالكة (Malaka)» بالتعرف إلى السواحل الجزائرية لمساعدة المهاجرين الإسرائيليين نحو فلسطين وتدعيمهم بالوسائل اللازمة.

ولهذه الغاية، عقدت الحركة الصهيونية، في إطار نشاطها الخاص بتدعيم حركة الهجرة اليهودية نحو فلسطين، اجتماعاً سرياً يوم 20 حزيران/يونيو 1947 في الجزائر العاصمة لجميع العناصر المختارة للسفر في سفينتين إنكليزيتين، تم إعطابهما بميناء الجزائر بهدف استغلالهما في عملية النقل من أجل المشاركة في المعركة الكبرى التي ستندلع في الأشهر الأخيرة من سنة 1947.

أما في وهران فإن المجموعة الصهيونية، يقودها أحد أبرز عناصر «الشيلتون باتر إيرقون» المدعو أندري بن سوسان (Bensoussan) وهو صاحب مؤسسة طلاء يسكن مع عشيقته الممرضة، وكان لدى هذا الشخص جهاز استقبال وإرسال، حيث يتلقى الأوامر من تل أبيب ويتلقى مراسلات من أمريكا من طريق باريس بواسطة المدعو ألبار واينستار (Weinster)، هذا الأخير المكلف بالاتصال بمختلف الحركات الصهيونية النشيطة بالشمال الأفريقي من خلال جميع الأوامر التي يتلقاها‏[43].

فحسب الأجهزة الاستعلاماتية الفرنسية، فبن سوسان على اتصال دائم مع المسؤول المباشر لمنظمة «أرقون» بأوروبا المدعو مازورك (Mazrok) الساكن في لوزان بالتنسيق مع ألبار وينستار بباريس، بمقر لجنة الرابطة الفرنسية من أجل فلسطين الحرة وألباز هاي سيمون (Hai Simon Elbaz) الموجود في وجدة الذي يعتبر الوسيط المباشر مع منظمة أرغون بالمنطقة.

لذلك نستخلص أن الحركة الصهيونية تمكنت من نسج علاقات متينة مع نشطاء يهود في الجزائر، متأثرين بفكرة الدولة اليهودية بـأرض فلسطين، حيث بذلوا كل ما يملكون لتحقيق هذه الغاية من أجل مساعدة الحركة الصهيونية بالأموال والرجال.

أما في المغرب الأقصى فقد وُجد ثلاثة مراكز للدعاية والنشاط الصهيوني، حسب جهاز الاستعلامات الفرنسي كالتالي‏[44]:

– وجدة: تمثل النشاط فيها بالمنسق الرئيسي للحركة الصهيونية، المدعو ألباز هاي سيمون، وهو أستاذ العبرية بالتحالف الإسرائيلي بالمدينة، حيث يملك هو الآخر جهاز إرسال واستقبال للاتصال المباشر مع جميع مراكز أفريقيا الشمالية، وبخاصة مع مازورك الموجود في لوزان، وهذا الأخير متصل بإحدى السيدات المدعوة ساره فارزوه (Sarah Perzoh) للتنسيق في مجال تبادل المعلومات الخاصة بالجالية اليهودية مع مجموعة أعضاء آخرين لهذه الشبكة، منهم:

– تورجمان سيمون وأزولاي وأزييلوس، هم على اتصال مع شخص آخر يدعى ألباز.

– في الرباط ينسق المدعو إيسكينازي (Eskenazy) مع منظمة شيلتون باتر الإسرائيلية، حيث قدم لنا أحد التقارير، معلومات مهمة عن مساره التكويني والمهني، إذ خضع للتكوين في نهاية سنة 1943 بمدرسة الإطارات بلوزان، وبالتالي كانت هذه المدينة، مركزاً للحركة الصهيونية منذ نشأتها، ثم توجه هذا الشخص نحو طبرية بفلسطين ومنها إلى تل أبيب، حيث تلقى الأوامر للعودة إلى المغرب من قبل منظمتَي «شيلتون باتر» و«أرغون»، وكانت أولى عملياته السرية في شهر أيار/مايو 1946، وكان نشاطه كثيفاً في فرنسا ولا سيَّما، مدينة ليون من خلال لقاءاته مع رجال الأعمال اليهود، أمثال دريس بن سوسان تاجر الأقمشة بالدار البيضاء المغربية و«زيفردمان» (Zeverdman) صناعي بمنطقة السين الباريسية، حيث قام بلقائه في الدار البيضاء بأسماء مستعارة، واستقبل أيضاً زمارك (Zamark) وهو تاجر من قسنطينة، حيث نلاحظ تنسيقاً كبيراً بين المنظمات اليهودية في منطقة شمال أفريقيا، التي تعمل على التجنيد والدعاية لوطن إسرائيلي في فلسطين.

وأكدت تقارير أمنية فرنسية‏[45] بأن المدعو إيسكينازي «تلقى في بداية سنة 1947 صناديق أسلحة أتته من أمريكا ببوسطن من طريق ميناء طنجة ومرت على منطقة النفوذ الفرنسي من خلال مختلف شبكات تهريب الأسلحة بالحدود الإسبانية». وبالتالي فالأنشطة الرئيسية لهذا العميل، تمثلت بالبحث عن عناصر أهلية بالمغرب، قادرة على إثارة الاضطرابات السياسية داخل مناطق النفوذ الفرنسية، بمساعدة منظمة «شيلتون باتر» لضرب استقرار الإمبراطورية الفرنسية، بهدف الضغط عليها، لغضّ الطرف عن نشاط الحركة الصهيونية.

– أما في مراكش فأشار التقرير إياه‏[46] إلى أحد العملاء المدعو أبيت بول (Abit bol) وهو تاجر وعضو منظمتي أرغون وشيلتون بتار، كُلِّف في غياب إيسكنازي، بالتنسيق والاتصال مع جميع القيادات في الحركة الصهيونية. وأشار التقرير إلى طبيعة عمل منظمة شيلتون بتار المتمثل بالتجنيد والتعاون مع منظمات صهيونية أخرى، تشترك معها في الأهداف والمرجعيات العقائدية، رغم الخلافات الحاصلة بين المنظمتين خلال اجتماع لها في أيار/مايو 1946 في تل يوسف بفلسطين، حيث كانت منظمة «أرغون» ترى ضرورة الاعتماد على النفس، بفرض السيطرة على فلسطين بالقوة، في حين كانت منظمة شيلتون بتار ترى نقيض ذلك، أي ضمان المؤازرة والتعاون مع مختلف الحركات الوطنية المسلمة، لمحاربة مختلق القوى الاستعمارية، بتحريض الحركات الانفصالية بالعالم الإسلامي للقيام بانتفاضات ضد الأنظمة الاستعمارية من خلال تقديم مساعدات مالية ولوجستية لها، بهدف موافقة هذه الحركات على تقسيم فلسطين‏[47]!

يوضح تقرير آخر، استنتاجات عن إمكان التنسيق ما بين الحركة الصهيونية بجميع منظماتها مع الأطراف الوطنية المسلمة، بإثارة تحريضها ضد القوى الاستعمارية وتقديم العون لها للحصول على المساعدات بفلسطين من خلال وجود علاقات محدودة مع مفتي القدس، التي لم تكن في نظرنا سوى للتفاهم حول طرد بريطانيا من فلسطين‏[48] . وحسب هذه الاستنتاجات، فإن منظمة «شيلتون بتار»، كانت تهدف إلى ربط علاقات مع الحركات الوطنية، بتقديم الدعم لها والقيام بالثورات وتكوين فرق مسلحة خاصة بتونس والمغرب للحصول على الاستقلال، «بشرط الاعتراف بالوجود اليهودي بأرض فلسطين»‏[49]!

لم يحصل هذا التفاهم، بسبب إصرار الحركتين على بقاء اليهود ببلديهما، بينما كانت الحركة الوطنية الجزائرية على دراية بمخططات الحركة الصهيونية وأهدافها الاستيطانية، وذهبت الاستعلامات الفرنسية في تخميناتها إلى أبعد من ذلك، بأن الحركة الصهيونية حاولت إثارة المسلمين ضدها، للضغط على فرنسا، لإجبارها على التعاون معها وعدم وصفها بالحركة الإرهابية (Mouvement Terroriste). وقد وضّح أحد محافظي الشرطة الفرنسية لمسؤوليه «بأنه في الفترة الحالية فالمصلحة المشتركة بينهما [الحركة الصهيونية والحركات الوطنية المسلمة] تجعلهما لا يتعارضان، وأن انتصار أحدهما انتصار للآخر»‏[50]. من هنا نستخلص مدى مراقبة الأجهزة الأمنية لنشاط الحركة الصهيونية في الجزائر.

– بينما عرفت تونس هي الأخرى نشاطاً متزايداً للحركة الصهيونية، بسبب وجود جالية يهودية كبيرة، جزء منها ظلّ يؤمن بالتعايش مع التونسيين، وذهب تيار آخر إلى العمل السري لتجنيد اليهود لمصلحة الوطن القومي اليهودي، بسبب التأثير القوي لهذه الأفكار التي كانت تصل إلى تونس من طريق الصحافة وتوافد عملاء الحركة الصهيونية‏[51]، في ظلّ انشغال الحركة الوطنية التونسية في رفع مطالبها التحررية للحكومة الفرنسية خلال عهد الباي المنصف الذي كانت له مواقف وطنية مشرّفة، وكان للزعماء التونسيين دور بارز في التعايش مع الجالية اليهودية التي اعتبروها، جزءاً من الشعب التونسي‏[52].

رابعاً: مواقف الحركات الوطنية المغاربية من نشاط الحركة الصهيونية

اصطدم نشاط الحركة الصهيونية ببلدان المغرب، بدعاية مضادة من قبل الحركات القومية العربية الموجودة في البلاد الأوروبية (فرنسا، سويسرا، ألمانيا وإيطاليا…)، التي قامت بدور فعال لرفض المشروع الصهيوني، المبني على أساس أحلام الماضي والتبريرات الدينية، لإقامة وطن قومي لليهود بتدعيم من القوى الاستعمارية التقليدية (بريطانيا وفرنسا) والجديدة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)‏[53]، وشنت حملة مضادة للمشروع الصهيوني لمصلحة القضية الفلسطينية.

وكان ذلك استجابة لاستغاثة الفلسطينيين، التي أُرسلت إلى البلدان الإسلامية من خلال ما ورد في تقارير عديدة لجهاز الاستعلامات الفرنسي، الذي حصل على نسخ منها عند بعض الوطنيين الجزائريين المقبوض عليهم، ورد فيها: «لقد حاولت السلطة البريطانية أكثر من مرة أن تتدخل في أحوال المسلمين الشخصية وإدارة شؤونهم الدينية، فكان المسلمون يقفون منها موقف الشدة والحزم وتقف عند حدها وتعدل عن محاولتها […] إن المسلمين في فلسطين الذين أبلوا في عسف السلطة الاستعمارية وبطشها ما أبلوا، وصمدوا لها، انتصاراً لدينهم ومحافظة على تراثهم ومقدساتهم، ليرسلوا صرختهم في أنحاء العالم الإسلامي، احتجاجاً على محاولة السلطة البريطانية العدوان على شؤونهم الدينية…»‏[54]  حيث وجدت هذه الصرخة، استجابة من قبل الحركات الوطنية المغاربية.

ولهذه الغاية، سوف نتعرض بإيجاز، لأبرز مواقف الحركات الوطنية المغاربية؛ تجاه النشاط الصهيوني بالمنطقة من أجل إبراز المواقف المشرفة لها:

– ففي الجزائر، وقفت الحركة الوطنية بمختلف تياراتها مع الفلسطينيين، حيث كانت القضية الفلسطينية ماثلة ضمن برامجها الحزبية وخلال تجمعاتها، حيث اعتبر نجم شمال أفريقيا وحزب الشعب الجزائري فيما بعد، الانتماء للأمة العربية والإسلامية، ومؤازرة الشعب الفلسطيني ورفض الاستيطان اليهودي فريضة قومية، ورفضت أيضاً التأييد الدولي والبريطاني للمشروع اليهودي القاضي بالاستيطان بفلسطين والضغط على الفلسطينيين وتسليح المنظمات اليهودية‏[55].

ونتيجة لهذه التطورات الحاصلة بفلسطين، قامت الأحزاب والجمعيات الوطنية بدور بارز في تقديم المساعدات والتنديد بالجرائم، حيث اتصلت بهيئات الحكومة الفرنسية وبممثلي الدول، لإيصال رسائل احتجاجاتها ضد بريطانيا والحركة الصهيونية والتضامن مع الفلسطينيين من خلال تقديم المساعدات المالية، وتنظيم تظاهرات ضد السياسة البريطانية، استجابة لنداء مصالي الحاج ضد مشروع التقسيم‏[56] الذي طرح في بداية الأمر سنة 1930، عندما أصدرت بريطانيا كتابها الأبيض الأول السابق ذكره. في المقابل أنشأ المؤتمر الإسلامي سنة 1936، بعدما جمع الحركات السياسية والجمعيات الوطنية في الجزائر – باستثناء حركة النجم – بإنشاء الشبيبة الإسلامية التي قامت بدور بارز في توعية الجزائريين بشرعية مطالب الفلسطينيين.

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، جمّدت فرنسا نشاط الأحزاب الوطنية. وعندما هدأت الأوضاع بعد مأساة الثامن من أيار/مايو 1945 وصدور قانون العفو في آذار/مارس 1946، أُطلق سراح القيادات الحزبية والشخصيات الوطنية الجزائرية، التي تحركت من جديد لتعبِّر عن مواقفها المؤيدة للفلسطينيين والرافضة لنشاط الحركة الصهيونية.

وخوفاً من هذا النشاط المتجدد للحركة الوطنية الجزائرية، أبلغت مصالح الحكومة العامة في الجزائر ولاة عمالاتها الثلاثة ومسؤول التراب الجنوبي في 7 أيار/مايو 1946، بخطورة قيام التيارات السياسية الجزائرية، وبخاصة العلماء، بتنظيم تجمعات مندِّدة بالصهيونية بتاريخ 10 أيار/مايو 1946 بنادي الترقي، حيث قامت هذه الأخيرة، بإرسال برقيات احتجاج إلى الحكومة العامة في الجزائر وكذا الحكومة الفرنسية بباريس‏[57]. وفي هذا السياق، وضحت إرسالية أخرى من الحاكم العام إلى وزير الداخلية الفرنسي بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1946، المواقف المعادية للحركة الصهيونية وأنشطتها في الجزائر من قبل الشيخ العقبي بعد انتهاء أحداث أيار/مايو 1945 في الجزائر‏[58] المندد بمشروع تقسيم فلسطين.

إلى ذلك أدّت الحركة الوطنية التونسية، ممثلة بالحزب الدستوري القديم بزعامة الثعالبي والدستوري الجديد بزعامة الماطري والحبيب بورقيبة، دوراً بارزاً في نصرة القضية الفلسطينية، ورفض الاستيطان والانتداب البريطاني وقيام جمعية الشبيبة المسلمة، المتخرجة في المعاهد التونسية وجامع الزيتونة، بنشاط مكثف في الدعاية لمصلحة الفلسطينيين من خلال تنظيم تظاهرات شعبية سنة 1936 والتضامن معهم من خلال صندوق الإغاثة، الموجه لضحايا العرب المناصرين للقضية الفلسطينية‏[59]. ومن جانب آخر كان لمواقف المنصف باي التونسي، دور بارز في تشجيع زعماء الحركة الوطنية التونسية، على مؤازرة الفلسطينيين وتقديم المساعدات لهم، ورفض السياسة الاستعمارية بمختلف أشكالها، حيث شكل ذلك تهديداً للمصالح الفرنسية بتونس، هذه الأخيرة التي انزعجت من مواقفه وضايقت نشاط الحركة الوطنية التونسية‏[60].

أما المغرب الأقصى فقد عرف هو الآخر نشاطاً سياسياً ملحوظاً من قبل الحركة الوطنية المغربية، ممثلة بحزب الاستقلال والقوى الحزبية الأخرى؛ التي وقفت إلى جانب كفاح الشعب الفلسطيني ورفضت نشاط الحركة الصهيونية ومناوراتها الهادفة إلى توطين العنصر اليهودي بقوة السلاح، وبتدعيم من بريطانيا، وكان لمواقف السلطان محمد بن يوسف المشرِّفة، الرافضة لهجرة اليهود وضرورة السماح لهم بالاندماج مع المغاربة، ضغط إضافي على الحركة الصهيونية، التي سعت بكل ما تملك من أساليب ودسائس إلى تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين والتعامل مع اليهود المتبقين، كجواسيس لمصلحة الحركة الصهيونية‏[61].

من هذا المنطلق كانت مواقف الحركات الوطنية المغاربية رافضة لتقسيم فلسطين حسب ما ورد في التقارير الاستخباراتية الفرنسية حول هذا الموضوع. وغداة موافقة الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين وقيام دولة إسرائيل في 15 أيار/مايو 1948، اضطربت الأوضاع ببلدان الشمال الأفريقي وشهدت المدن والأرياف تظاهرات واحتجاجات ومصادمات بين المسلمين واليهود، من خلال ما ذكره الحاكم العام للجزائر في مراسلة له، لوزير الداخلية الفرنسي‏[62]، عن مواقف بعض النواب المسلمين الجزائريين، أمثال مزغنة وقاضي عبد القادر، اللذين تدخلا لديه، حول هذا النشاط المعادي لمشاعر المسلمين من جانب الحركة الصهيونية في الجزائر. وأضاف الحاكم العام في مراسلته، أنه حاول القيام بصلح ما بين اليهود والمسلمين بسطيف، من خلال تكريم السيد ليفي (Lévy) المحترم بينهم، وهو أحد المستشارين السابقين بالمجلس العام (عمالة قسنطينة)، من أجل وأْد الفتنة بينهما، بسبب حرب فلسطين والمجازر المرتكبة في حق العرب.

ولكن تسارع الأحداث في فلسطين، خلال عرض مسألة تقسيم فلسطين على الأمم المتحدة، أثّر بقوة في السكان المسلمين بمنطقة الشمال الأفريقي، بسبب تأييد فرنسا للتقسيم والسماح بدخول العناصر الصهيونية المغربية والتونسية إلى الجزائر، حيث احتجّ على ذلك السادة النواب بن شنتوف وآخرون، ضد الحكومة العامة، ومن جهته عبر الشيخ العقبي عن موقفه الرافض للسياسة الاستعمارية، عندما يتعلق الأمر بقضية مصيرية للمسلمين وذلك خلال صلاة الجمعة من شهر أيار/مايو 1948، رافضاً قيام دولة إسرائيل وداعياً إلى اجتماع جميع القوى الوطنية الجزائرية، للتعبير عن موقفهم الرافضة لسياسة فرنسا المؤيدة لليهود، حيث تخوَّف الحاكم العام من حصول اضطرابات تعم الجزائر، في حركة مضادة للسامية ‏[63].

– بينما احتج التونسيون بواسطة إضراب عام للتجار على هذا التقسيم، وبروز حراك سياسي معادٍ للمشروع اليهودي بفلسطين. إلى ذلك، تمّ انتقاد راقصة عربية، بسبب مرافقتها لأحد اليهود في تونس، وبالتالي عمت موجة غضب في الشارع التونسي، بسبب التأييد الفرنسي للحركة الصهيونية بفلسطين‏[64] .

أما في المغرب الأقصى، فقد كان لزعيم حزب الاستقلال المغربي علال الفاسي نشاط بارز معادٍ للصهيونية في القاهرة، إضافة إلى نشاط الأحزاب الأخرى الرافضة للسياسة الفرنسية المؤيدة لإنشاء دولة إسرائيل من خلال تقارير العسكريين في شمال أفريقيا‏[65]، حيث وقعت أحداث عنف أليمة بمنطقة جرادة (إقليم وجدة) من خلال مصادمات بين المسلمين المغاربة والجالية اليهودية، ترتب عنها قتلى وجرحى، وحاول السلطان المغربي تهدئة الأوضاع من خلال سياسته الرشيدة والاحتكام إلى سماحة الإسلام ومحاربة السياسة الاستعمارية وفق القوانين الدولية، في تصريح له سنة 1949 «داعياً الإسرائيليين المغاربة إلى عدم مغادرة أراضيهم بمنطقة الحماية، مذكراً أن سلطة الحماية لا دخل لها بين المغاربة والإسرائيليين، وذكر أيضاً من جهة أخرى، تضامنه مع دول المشرق العربي والجامعة العربية …»‏[66]. من هنا نستخلص مواقف محمد بن يوسف المشرفة والمؤيدة للفلسطينيين من جهة ورفض أساليب سلطة الحماية في المغرب في انتهاجها أسلوب فرِّقْ تَسُدْ بين رعايا السلطان من جهة أخرى.

خاتمة

عرفت منطقة أفريقيا الشمالية الخاضعة للاستعمار الفرنسي (الجزائر والمغرب وتونس)، نشاطاً كثيفاً للحركة الصهيونية، بسبب تواطؤ القوى الاستعمارية، حيث نستخلص النتائج الآتية:

– شهدت المنطقة المغاربية نشاطاً قوياً للحركة الصهيونية من فروعها التي تأسست مطلع القرن العشرين.

– تلقت هذه الحركة دعماً قوياً من الجاليات اليهودية ببلاد شمال أفريقيا رغم صعوبة المهمة.

– قامت الشبكات اليهودية المرتبطة بالحركة الصهيونية، بأعمال مخالفة للقانون، ما حدا بالأجهزة الاستخباراتية الفرنسية، على وضعها تحت المراقبة الأمنية.

– خضعت فرنسا كغيرها من الدول الاستعمارية، لابتزاز وضغوط الحركة الصهيونية، وفق حجج عديدة كمعاداة السامية والكراهية والتطرف اليميني وعداء الحركات الوطنية المسلمة لليهود، من خلال دعاية قوية، استخدمت فيها الحركة الصهيونية جميع الأساليب التي تخدم أهدافها؛

– وأخير استطاعت الحركة الصهيونية تحقيق أهدافها، باستغلالها أوضاع شعوب المنطقة في صراعها مع الاستعمار الفرنسي، بتجنيد يهود شمال أفريقيا لمصلحة المشروع الصهيوني، المتمثل بالهجرة نحو فلسطين.

 

قد يهمكم أيضاً  السلطان عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876 ـ 1909)

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فلسطين_المحتلة #إغتصاب_فلسطين #الصهيونية #الحركية_الصهيونية #الدعاية_الصهيونية_في_شمال_أفريقيا #الهجرة_اليهودية_إلى_فلسطين #يهود_المغرب_العربي #اليهود_الأفارقة #أرشيف #دراسات