مقدمة

مثّلت القضية الفلسطينية محطّ اهتمام الرأي العام الوطني في تونس منذ عشرينيات القرن الماضي، ولم يتخلّف التونسيون خلال تلك الحقبة عن مساندة هذه القضية العادلة بمختلف الوسائل والطرق الممكنة. وقد تكثّف هذا الدعم أكثر وبلغ درجات أعلى في سنواتة الأربعينيات وبخاصة مع الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى رغم الظروف الصعبة التي كان يعيشها عموم التونسيين الذين كانوا تحت الاستعمار الفرنسي والتي تفاقمت خلال تلك الآونة من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لم يتردّد المئات من التونسيين في التحوّل إلى فلسطين للمشاركة في هذه الحرب وقد نجح العديد منهم في الوصول بينما لم يتمكّن البعض الآخر من ذلك. كما لم يتخلّف التونسيون عن مساعدة أخوتهم الفلسطينيين ماديًا ومعنويًا في كل المناسبات. من جهة أخرى تميّزت مواقف أغلب الحكومات التي تعاقبت على تونس بالمساندة الكبيرة للقضية الفلسطينية وبخاصة في المحطات الكبرى حيث مثّلت هذه القضية قضية التونسيين شعبًا وحكومات ومثلت تونس خير داعم للقضية وهذا بشهادة الفلسطينيين أنفسهم.

إضافة إلى هذه المساندة السياسية والمادية والمعنوية السلمية، كانت مشاركة الفدائيين التونسيين مكثّفة حيث استشهد عشرات التونسيين في الأراضي المحتلة ولم يتخلفوا في الاشتباك مع الكيان الصهيوني، وقد نجح بعضهم في تكبيد الصهاينة خسائر كبيرة. ومن بين هؤلاء الشهداء الذين قدّموا أرواحهم الزكية قربانًا للقضية الفلسطينية نذكر الشهيد ميلود بن ناجح نومة بطل عملية قبية أو عملية الطائرات الشراعية ليلة 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، حيث نفّذ ميلود بصحبة ثلاثة مجاهدين آخرين عملية استشهادية في معسكر قيادة المنطقة الشمالية للجيش الصهيوني في فلسطين المحتلة، معسكر (غيبور) أو ما يطلق عليه معسكر (الأبطال) من لواء غولاني. ويضم هذا المعسكر أكثر جنود وقوات وضباط الكيان الصهيوني تدريبًا وتسليحًا وكفاءةً وخبرة. وقد جاءت هذه العملية في سياقات سياسية وديبلوماسية معقّدة كانت تشهدها القضية الفلسطينية خلال تلك الحقبة وكانت لهذه العملية البطولية نتائج كبيرة على المستوى الأمني والسياسي.

فمن هو ميلود نومة، وما الذي جعله يستشهد من أجل القضية الفلسطينية؟ كيف كانت أطوار عملية الطائرات الشراعية؟ ما الظرفية السياسية والديبلوماسية التي حفت بها؟ كيف كانت نتائج هذه العملية والمواقف منها؟

أولًا: ميلود بن ناجح نومة: الأصل والنشأة

ولد ميلود بن ناجح نومة في تشرين الثاني/نوفمبر 1955 في منطقة تبرقيت الواقعة في شمال منطقة سيدي مخلوف التابعة لولاية مدنين في الجنوب الشرقي التونسي من عائلة متوسّطة الحال من الناحية المادية لوالدين هما الناجح بن عمر نومة ومبروكة بنت عمار الذهيبي[1]. لم يتلقيا أي تحصيل علمي كغالبية أهالي المنطقة في تلك الأيام، وكان والده سجينًا سابقًا في عهد الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية حيث صدر في حقّه حكم بالسجن وقضى مدة ثمانية أشهر في سجن الحفّار شمال البلاد التونسية، وقد كان ذلك سنة 1943، وجاء هذا الحكم على خلفية تصديه لجندي فرنسي كان قد استباح منازل القرية[2].

أما ميلود فقد تلقّى تعليمًا ابتدائيًا وبلغ مستوى السنة السادسة ابتدائي في المدرسة الابتدائية في منطقة القصبة القريبة من منطقة تبرقيت مسقط رأسه قبل أن ينقطع عن الدراسة ويختار التفرغ لمساعدة والديه[3]. ووفق تصريح الناصر بن ناجح نومة شقيق ميلود فقد كان هذا الأخير متمرّدًا منذ صغره، يكره الظلم، حيث يلجأ إليه الأطفال ممن يتم الاعتداء عليهم من قبل آخرين أو الاستيلاء على حاجاتهم ليأخذ لهم حقوقهم[4].

بعد انقطاعه عن الدراسة، اشتغل ميلود نومة بالعمل الفلاحي حيث كان يساعد والديه في رعي الأغنام وممارسة الأعمال الفلاحية الموسمية على غرار الحصاد خلال فصل الصيف وجني الزيتون خلال فصل الشتاء قبل أن يمارس عدّة أشغال أخرى كغالبية أبناء بيئته عندما اشتدّ عوده فاشتغل بالصيد البحري في منطقة القرين التي تبعد عن محل سكنه ما يقارب 12 كلم. واشتغل أيضًا بأعمال البناء مع أحد أقاربه وقد تميّز بانضباطه والتزامه وطاعة والديه منذ صغر سنه، وعانى كأغلب أبناء العائلات الفقيرة والمتوسطة في تلك المنطقة من صعوبة العمل وظروف الحياة، لذلك قرر سنة 1974 وهو في سن التاسعة عشرة الهجرة والتوجّه إلى ليبيا[5]، كغالبية سكان الجنوب التونسي في تلك الحقبة الذين يخيّرون مغادرة البلاد نحو ليبيا القريبة بهدف الشغل وتحسين ظروف عيشهم[6].

مثّلت ليبيا محطّة مهمّة في حياة ميلود نومة حيث شكّل وجوده في هذا المكان نقلة نوعية في حياته. ففي تلك الفترة كان نظام معمّر القذافي يدعم المقاومة الفلسطينية والمتمثّلة بخاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في ليبيا تعرّف ميلود نومة إلى بعض النشطاء الفلسطينيين المنتمين إلى هاتين المنظمتين حيث وقع استقطابه للنشاط صلب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان يحضر اجتماعاتها ولقاءات نشطائها بالتوازي مع عمله في البناء والأشغال العامة في العاصمة الليبية طرابلس التي قضى فيها أربع سنوات قبل أن يقرّر العودة إلى مسقط رأسه في منطقة تبرقيت ومكث هناك مدة شهرين ثم العودة إلى ليبيا من جديد[7].

بعد وصوله إلى ليبيا، وبحكم علاقاته الوطيدة بالنشطاء الفلسطينيين، تدرّب ميلود على رفع السلاح على أيدي منتمين إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، وكان يتواصل مع عائلته في تونس باسمه الحركي “أبو علي التونسي” وقد انقطعت أخباره عن العائلة منذ سنة 1978[8] لينفّد في تشرين الثاني/نوفمبر 1987 مع 3 فدائيين (فلسطينيان وسوري) عملية نوعية شمال فلسطين المحتلة ويرتقي شهيدًا عن سن 32 عامًا، وقد بات يُطلق عليه لاحقًا في بلدته كنية “أبو الانتفاضة”[9] لأن هذه العملية البطولية التي شارك فيها ساهمت لاحقًا في تأجيج الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

كتب الشهيد ميلود بن ناجح نومة قبل استشهاده وتنفيذه عملية قبية رسالة ورد فيها: “نحن نفخر في تونس، في مغرب الأمة العربية، بأننّا جزء من هذه الأرض الطاهرة الممتدّة من المحيط إلى الخليج، ونحن نفخر بأنّ أبطالًا منّا سقطوا في ساحة المواجهة ضد الاستعماريين الفرنسيين الذين حاولوا القضاء على تاريخنا ولغتنا ومعتقداتنا، لقد تعلمنا من أباءنا وأجدادنا أنّ تحقيق الانتصار على القوى الظالمة والباغية لا يمكن أن يكون إلّا بلغة النضال والكفاح المسلح. لقد حاول المستعمرون وأدواتهم في تونس الخضراء تشويه ثقافتنا الوطنية والسياسية، حاولوا أن نكون بعيدين عن الهموم الكبيرة التي حلّت بأشقائنا في المشرق العربي وخاصة ما تعرّض له أبناء شعبنا في فلسطين من كوارث ومآس على يد عصابات الغدر الصهيونية وبمساعدة الاستعمار الغربي، لكنّهم لم ينجحوا في ذلك وباءت تلك المحاولات بالفشل الذريع وخـاصـة بـعـد ثـورة المليون شهيد في الجزائر وبعد الأثر المنقطع النظير الذي مثّله جمال عبد الناصر وهو يواجه الصهاينة وفرنسا وبريطانيا وأمريكا.

إنّ فلسطين هي مهبط الأديان، وهي أرض عربية، جزء من الأمة العربية لقد عاث فيها الصهاينة فسادا وشردوا أهلها وارتكبوا فيها المجزرة تلو الأخرى … لقد عزمت وأنا تونسي، عربي، مقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية، في صفوف الجبهة الشعبية – القيادة العامة، على تأكيد أنّ هـمّ اخـوتـنـا في مـشـرق الأمـة هـو هـمّـنا جميعًا في مغربها وأنّ وحدة التاريخ واللغة والمعتقد والدم هي وحدة مـتـكـامـلـة، وأنّ مـحـاربـة الصهاينة واجب قومي لا يفوقه أي واجب آخر، وأنّ الطريق الوحيد للتعبير عن هذا الفهم هو مـواجـهـة الـعـدو والاشتباك المباشر معه ثم الشهادة تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران ١٦٩]. لقد اخـتـرت الشهادة رفعة لشأن وطني ورفعة لشأن إرادة المواجهة، وأنا موقن أنّ هذا الاختيار هو الرد العملي على دعاة نهج الانحراف والاستسلام في الساحتين الفلسطينية والعربية، هو الرد على كل الذين يعملون لتعميم كامب ديفيد تحقيقا لأهداف الامبريالية والصهيونية وعملائهما. وأنا الآن في طريقي إلى فـلـسـطـيـن تـغـمـرنـي عـواطـف صادقة وغزيرة، عواطف كلّها شوق لأهلي في تونس، لوالدي ووالدتي، لأخوتي وأخواتي، لكل الأقارب والأصدقاء، لكن هذه العواطف تزداد قداسة وتعمّقا في الذات لأنها تتمازج مع أسمى ما يمكن أن يحيا في الضمير من مشاعر الفخر برفع راية الكفاح المسلّح ضد العدو الصهيوني وتحية لشعبي في تونس، وفي المغرب، منّي ومن رفاقي في الدورية: السوري والعربيين الفلسطينيين الذين اختاروا كما اخترت طريق الشهادة تحقيقا للنصر العربي حتى تحرير الأرض والإنسان”[10].

بعد تنفيذ العملية الاستشهادية، استحوذ الكيان الصهيوني على جثمان الشهيد ميلود طيلة 21 سنة قبل الإفراج عنه عام 2008 في صفقة تبادل للأسرى بين حزب الله والكيان المحتل ليقع لاحقًا نقل جثمان الشهيد إلى تونس ويُدفن في بلدته في سيدي مخلوف في مدنين. وكتب على شاهد القبر الذي يحمل علم تونس في جهته اليمنى وعلم فلسطين في جهته اليسرى “الشهيد ميلود بن ناجح نومة من مواليد 1955 في معتمدية سيدي مخلوف بمدنين، استشهد في عملية الطائرات الشراعية ضد العدو الصهيوني شمال فلسطين في 25/11/1987”. يقول شقيق الشهيد إنّ والدته قد زغردت فور سماع استشهاد ابنها بينما كانت كل نساء المنطقة يزرنها ويقبّلن يديها، وكان والد الشهيد، الذي توفي عام 1993، يردّد على الدوام “الحمد لله أنني دفنت لحمًا في فلسطين”[11].

فماهي الظرفية السياسية العامة في الوطن العربي التي جاءت في سياقها عملية قبية أو عملية الطائرات الشراعية؟ وكيف كانت أطوار هذه العملية الاستشهادية الباسلة؟

ثانيًا: عملية الطائرات الشراعية: السياقات السياسية وأطوار العملية

1- السياقات السياسية العامّة لعملية قبية

جرت عملية قبية أو عملية الطائرات الشراعية في الليلة الفاصلة بين 25 و26 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 حيث وقف أربعة طيارين إلى جوار طائراتهم الشراعية فوق إحدى تلال وادي البقاع اللبناني وهما فلسطينيان (لا يزال اسماهما غير معروفين) ثم تونسي وهو ميلود نومة ومقاتل سوري رابع يحمل اسم خالد محمد الأكر. وقد سميت هذه العملية بعملية الطائرات الشراعية نظرًا إلى أنّ نوعية الطائرات المستعملة أثناء الهجوم كانت شراعية، كما يطلق عليها أيضًا اسم عملية قبية إحياءً لذكرى مجزرة قبية التي ارتكبها الكيان الصهيوني يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر 1953 لمّا أقدمت الوحدة 101 الإسرائيلية للعمليات الخاصة بقيادة أرئيل شارون والوحدة 890 للمظليين وقوامها 600 جندي على حصار القرية في السابعة والنصف مساءً وبدأتا بقصفها حتى الرابعة من صباح اليوم التالي ما أجبر السكان على البقاء داخل بيوتهم. بعد ذلك أخذت الوحدة تتنقل من بيت إلى آخر في شكل عملية حربية داخل منطقة مدنية تخلّل ذلك إلقاء القنابل داخل البيوت وإطلاق النار عشوائيًّا عبر الأبواب والنوافذ المفتوحة وإطلاق النار على كل من يحاول الفرار. وزرعت العصابات الصهيونية الألغام على مختلف الطرق بحيث عزلت القرية تمامًا ودخلتها قوات المشاة وهي تطلق النار في مختلف الاتجاهات فتصدّى لها السّكان ورجال الحرس الوطني الفلسطيني بقيادة محمود عبد العزيز رغم قلّة عددهم وأسلحتهم وردّوا على النيران بالمثل وظلّوا يقاومون حتى نفدت ذخائرهم وقتل معظمهم. وتمكّن قائد الحرس الوطني من الوصول إلى قرية دير قديس حيث اتصل لاسلكيًا بالقيادة العسكرية الأردنية في رام الله طالبًا النجدة والذخيرة، ولكن النجدة العسكرية الأردنية التي تحرّكت من قرية بدرس اشتبكت مع العناصر المعادية الكامنة في الطرق ولم تستطع الوصول إلى قبية. بعدها أقدم المظليون الصهاينة على نسف البيوت فوق رؤوس سكانها (كان عدد سكانها يوم المذبحة نحو 200 شخص) وقد قدّر عدد البيوت التي نسفت في هذه العملية بـ 56 منزلًا إضافة إلى مسجد ومدرستين وخزان مياه. وجاءت أحداث هذه المذبحة عندما صعّد الاحتلال من عدوانه العسكري ضد القرى الفلسطينية الأمامية بعد توقيع اتفاقية الهدنة مع الدول العربية في محاولة لفرض الصلح على هذه الدول وبناء جدار رعب على طول خط الهدنة وتفريغ القرى الأمامية الفلسطينية من السكان. وبحسب أرشيف الاحتلال كانت التعليمات بـهدف: “تنفيذ هدم وإلحاق ضربات قصوى بالأرواح من أجل تشريد سكان القرية من بيوتهم”[12].

تقع قرية قبية على بعد 11 كم إلى الشمال الشرقي لمدينة اللد وغرب مدينة رام الله، وكان عدد سكانها 1635 نسمة إضافة إلى نحو أربعة آلاف مهجّرين من مدن وقرى أخرى كانت تتبع قضاء الرملة قبيل النكبة والآن تتبع رام الله وهي تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة القدس وتبعد عنها نحو 32 كم وتبلغ مساحتها حوالى 16000 دونم، وقد بلغ عدد الشهداء في هذه المجزرة من رجال ونساء وأطفال نحو 67 شهيدا من أهل قبية كما جرح مئات آخرون.[13]

جرت عملية قبية، أو عملية الطائرات الشراعية، خلال الليلة الفاصلة بين 25 و26 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 في وضعية سياسية معقّدة في تونس والوطن العربي؛ ففي تونس جاءت العملية تقريبًا بعد عشرين يومًا من التغيير السياسي الذي شهدته البلاد بعد إطاحة زين العابدين بن علي بالحبيب بورقيبة من رئاسة الجمهورية التونسية في السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1987 وهي مرحلة تميزت بتأزم الأوضاع من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

في العالم وفي الوطن العربي، جاءت العملية في سياق تاريخي عام في المنطقة العربية كان يتجّه نحو مسارات تسوية سلمية للقضية الفلسطينية بدأت تتخلص شيئًا فشيئًا من المواجهة مع العدو الصهيوني وتتجّه نحو المفاوضات. وقد جدّت هذه العملية مباشرة بعد انعقاد القمة العربية في عمان 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 والتي وضعت على سلّم اهتماماتها ضرورة مساندة العراق في حربها ضد إيران (حرب السنوات الثمان 1980- 1988) إضافة إلى الدعوة لإيجاد حلّ لإيقاف الحرب الأهلية في لبنان وأهملت نوعًا ما القضية الفلسطينية مع العلم أنّ نفس هذه القمة شهدت عودة مصر إلى الحضور بعد استبعادها من الجامعة العربية إثر اتفاق كامب ديفيد الذي أمضاه أنور السادات مع الصهاينة بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 1978.

جاءت العملية في سياق عالمي ودولي شهد بداية تراجع القطبية الثنائية وميلان الكفّة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية على حساب الاتحاد السوفياتي الذي كان يدعم بعض الحركات القومية واليسارية في العالم التي كانت تساند القضية الفلسطينية، على غرار بادر ماينهوف الألمانية والعمل المباشر الفرنسية والألوية الحمراء الإيطالية وغيرها. جاءت هذه العملية في ضوء هذه السياقات العامة التي كان يطغى عليها مناخ عام يتّسم بالسلبية وبداية فقدان القضية الفلسطينية لألقها وساهمت في ظهورها من جديد كقضية عادلة ذات أولوية فسرعان ما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية إثرها مباشرة.

2- أطوار عملية الطائرات الشراعية

نفّذ عملية الطائرات الشراعية أربعة فدائيين ينتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، اثنانِ منهم فلسطينيان لا يزال اسماهما الحقيقيان طيّ السرية، والثالث هو التونسي ميلود بن ناجح نومة، والرابع هو السوري خالد محمد الأكر. انطلقت العملية لمّا وقف المقاتلون الأربعة فوق وادي البقاع اللبناني بجانب طائراتهم الشراعية وأدّوا التحية العسكرية لقادتهم (في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة) قبل أن يحلّقوا مقلعين بطائراتهم الخفيفة، ليلة 25 تشرين الثاني/نوفمبر1987، الليلة التي سُمّيت في كل الأوساط “ليلة الطائرات الشراعية”. كان الشبان الأربعة يدركون تمام الإدراك أنّها رحلة بلا عودة، كما كانوا يُدركون أنّه عندما تحطّ طائراتهم في نقطة الهدف فما من وسيلة ستجعلها تقلع مرة أخرى. نتيجة صعوبات ميكانيكية فإن طائرتين اضطرّتا إلى الهبوط داخل الحدود اللبنانية، بينما تحطمت طائرة التونسي “ميلود” في المنطقة العازلة التي تسيطر عليها قوات “جيش لبنان الجنوبي” والذي كان يدين بولائه لجيش العدو الصهيوني.[14]

استطاع خالد محمد الأكر السيطرة بإحكام على طائرته وحافظ على تحليقه فوق منطقة الأحراش، ليتفادى الرادارات “الإسرائيلية” ونقاط مراقباتهم نظرًا إلى صغر حجم طائرته والتحليق الصامت واستطاع أن يصل إلى منطقة الهدف “معسكر غيبور” قُرب “بيت هيلال” والذي كان يضم “الصفوة” من القوات الخاصة في جيش الاحتلال آنذاك.[15] هبط الفدائي السوري بهدوء، حاملًا “الكلاشنكوف” بيُمناه ومسدسه الكاتم للصوت بيُسراه وبدأ تحرّكه نحو بوابة المعسكر، وكانت مفاجأة قاتلة لجنود الاحتلال وهم يواجهون مقاتلًا منفردًا وقبل أن يستشهد البطل السوري خالد الأكر بعد أن تمزّق جسده بفعل رصاصات الجنود الصهاينة.[16]

بعد اتصالات عاجلة بين نقاط المراقبة الإسرائيلية، بدأت دوريات الاحتلال بمسح الحدود لكشف المكان خوفًا من إمكانية وجود مقاتلين آخرين وفي دورية مشتركة مع “جيش لبنان الجنوبي” عُثِر على طائرة ميلود المحطمة، وكان ميلود يختبئ على مقربة من مكان العملية بعد أن التوى كاحله جرّاء هبوطه الاضطراري. ولم يستسلم ميلود، إذ قاتل كما يجب أن يقاتل، وتمكّن من قتل 5 جنود صهاينة قبل أن يستشهد. جدير بالذكر، أنّه وبعد انتهاء المعركة نقل جنود الاحتلال جثة الشهيد خالد أكر في نقّالة إلى المستوصف الصحي في مستوطنة “كريات شمونة” بالجليل المحتل ووضعوها في الخارج قرب الباب، وعندما وصل قائد لواء غولاني للمكان توجّه إلى المستوصف ومرّ بجثمان الشهيد الذي كان ملفوفًا ببطانيّة، فأدى التحية العسكرية أمامه، فهمس قائد المعسكر في أذنه بـأنّها “جثّة المخرّب مُنفّذ العملية”، ليردّ قائد اللواء “إنّه يستحق التحية”[17].

وكانت صحيفة السفير اللبنانية قد نشرت حديثًا مع شخص قدّمته على أنّه قائد المجموعة المسلّحة التي قامت بتنفيذ عملية الطائرات الشراعية. وأكّدت أنّها حصلت على هذا الحديث من قاعدة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل دون أن تحدّد مكان هذه القاعدة، ونشرت صورة للأعضاء الأربعة الذين نفّذوا العملية وقد غطّت بالحبر الأسود وجهَي العنصرَين الفلسطينيين الذين لم يستشهدا، حيث أكّد أحدهما والذي أطلقت عليه الجبهة إسم “أبو ثائر” بقوله : “هبطت في إسرائيل مع رفاقي الثلاثة على مسافة 300 متر من المعسكر الحربي دون أن تواجهنا أي صعوبات وبعد أن حلّقنا فوق قرى كفّار يوفال وكفّار جيلاد والخالصة التي لم نهاجمها وفقًا للتعليمات الصادرة لنا”، وذكر أنّ المجموعة المسلّحة التي استخدمت طائرات شراعية يصعب رصدها بأجهزة الرادار انقسمت إلى مجموعتين واحدة لتوفير الحماية وأخرى للهجوم قائلًا “لقد تمكّنا من العمل طوال 15 دقيقة دون أن تواجهنا أي مقاومة وأنّ دور المجموعة الأولى تمثّل بالحيلولة دون وصول تعزيزات عن طريق توفير حاجز من النار بينما دخلت المجموعة الثانية المعسكر وهي تلقي قنابل يدوية واستطعنا الإقلاع مرة أخرى سريعًا جدًا لأنّ أصوات محركاتنا كان يغطيها صوت المدرعات”. هذا وذكر أبو ثائر أنّه تلقى تدريبًا لعدة أشهر مع رفاقه ولكنّه لم يكن يعرف مهمّته ضد معسكر غيبور إلّا قبل تنفيذ العملية بساعات[18].

بصفة عامة، يبدو أن المجموعة المهاجمة قد تدرّبت جيدا واستعدت لتنفيذ العملية منذ أشهر ولم يقع إبلاغها بالهدف المحدد للهجوم أو بموعده إلا قبل التنفيذ بساعات وهو ما يؤكّد السرية الكبيرة التي يمارس بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عملياتها والانضباط الكبير لعناصرها وهذا ما جعل العملية تكون نوعية وتخلّف نتائج كبيرة ومهمّة على عدّة مستويات.

ثالثًا: نتائج عملية الطائرات الشراعية والمواقف منها

أسفرت عملية الطائرات الشراعية عن استشهاد مقاومَين عربيَّين هما السوري خالد الأكر والتونسي ميلود بن ناجح نومة، إضافة إلى مقتل وجرح 36 جنديًا من قوات النخبة في جيش الاحتلال الصهيوني، وفقًا لأول تصريح أدلى به الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، الذي عاد وأعلن لاحقًا مقتل 6 جنود وجرح 8 آخرين فقط.[19]

أثارت هذه العملية حالة استبشار وردود فعل طيبة لدى كل المساندين للقضية الفلسطينية حيث أكّد سليم الحص رئيس الوزراء اللبناني: “أنّ العملية الفدائية تعدّ تحدّيًا لإسرائيل وقد جاءت لتحطّم أسطورة القوة والتفوّق والتقدّم التكنولوجي للعدو الذي يدعي حماية أمنه بقتل وبدفع أبناء القضية العادلة للنزوح”[20]. أمّا الموقف الأمريكي فقد جاء مندّدًا بهذه العملية وقال تشارلز رودمان المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية: “أنّ العنف عدو السلام” زاعمًا بأنّ مرتكبي هذا الهجوم وأشخاصًا آخرين من أنصار العنف يهدّدون المجهودات السلمية بالمنطقة”[21].

أثارت هذه العملية أيضًا حالة من الفزع والهلع داخل الكيان الصهيوني حيث اعترف إسحاق رابين وزير الحرب الصهيوني بتقصير الجنود الإسرائيليين الذين كانوا داخل معسكر الخالصة (كريات شمونة) شمالي فلسطين المحتلّة أثناء تعرضّهم للهجوم، وقال في حديث للإذاعة الإسرائيلية إنّ أفراد هذا المعسكر افتقروا للانضباط وفقدوا استعدادهم للقتال بعد أن دبّت الفوضى في صفوفهم نتيجة ذهولهم من مفاجأة وقوة الهجوم. وامتنع رابين عن إدانة أي من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين الكبار مكتفيًا بالإشارة إلى أنّه سينتظر نتيجة التحقيق الذي تجريه لجنة خاصة بهذا الشأن[22].

من جهة أخرى، أعلن في فلسطين المحتلّة أنّ الجنرال دان شمرون رئيس الأركان الصهيوني أصدر قرارًا بتنحية قائد اللواء العسكري في منطقة الجليل بسبب التقصير في حماية المعسكر الإسرائيلي. وذكرت الإذاعة الإسرائيلية أنّ القرار شمل كذلك عزل ضابط العمليات في المنطقة الذي يعَدّ المسؤول المباشر عن هذا التقصير وتقديم الجندي الذي كان يحرس بوابة المعسكر أثناء العملية للمحاكمة. وأضافت الإذاعة أنّ شمرون عيّن ضابطًا كبيرًا برتبة جنرال للتحقيق في الحادث وتقديم تقرير حول تصرف بعض الضباط والجنود في مواجهة الهجوم الفدائي مشيرًا إلى أنّ أوامر صدرت بتشديد الحراسة في المعسكرات الإسرائيلية. واعترفت الإذاعة بهجرة أربعمئة عائلة من المستوطنات في منطقة الجليل للسكن في المدن التي تقع وسط فلسطين المحتلة عقب هذه العملية وأنّ جوًّا من الرعب والتوتّر ظل يسيطر على المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة. وأضافت الأنباء أنّ خلافًا نشب بين رئيس الأركان الإسرائيلي والجنرال يوسي لبيد قائد المنطقة الشمالية[23].

كان لـعملية قبية دور رئيسي في إعادة القضية الفلسطينية إلى مسرح الأحداث العربية والعالمية، وخصوصًا أنّ البعض حاول حرف بوصلة الصراع العربي من إسرائيل إلى إيران، وساهمت أيضًا في إحياء الكفاح ضد الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة وإشعال الانتفاضة الأولى التي انطلقت في 8 كانون الأول/ديسمبر 1987، وكان ذلك في جباليا في قطاع غزة، ثمّ انتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيّمات فلسطين. ويعود سبب الشرارة الأولى للانتفاضة لقيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز “إريز” الذي يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية منذ سنة 1948، وقد هدأت الانتفاضة في العام 1991، وتوقّفت نهائيًا مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.

يُقدّر أنّ ألفًا وثلاثمئة فلسطيني استشهدوا أثناء أحداث الانتفاضة الأولى على يد الجيش الإسرائيلي، كما قتل 160 إسرائيليّا على يد الفلسطينيين، إضافة إلى ذلك يُقدّر أن ما يقارب الألف فلسطيني يُزعم أنّهم متعاونون مع السلطات الإسرائيلية قتلوا على يد فلسطينيين، على الرغم من أنّ ذلك ثبت على أقل من نصفهم فقط[24].

خاتمة

لم يكن الشهيد ميلود بن ناجح نومة التونسي الوحيد ولا الأول ولا الأخير الذي استشهد من أجل القضية الفلسطينية، حيث قدّم العشرات من التونسيين من مختلف المدن التونسية أرواحهم فداء للقضية الفلسطينية، وهو ما يؤكد أهمية هذه القضية لدى التونسيين ولكل من هؤلاء الشهداء سيرته وخصوصية عمليته ونتائجها وردّة الفعل تجاهها. فمن هم أبرز هؤلاء الشهداء التونسيون الذين قدّموا أرواحهم فداء للقضية الفلسطينية؟ وماهي أشهر العمليات التي شاركوا فيها؟ وكيف كانت نتائجها وانعكاساتها على هذه القضية العادلة؟

كتب ذات صلة:

القضية الفلسطينية والمشكلة الإسرائيلية: رؤية جديدة

صفحات من مسيرتي النضالية : مذكرات جورج حبش

من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق