لا يخلو التفكير في الجسد من متعة وعناء، وهو كذلك، لأنه تجربة مُحايثة لعالم تسكنه البياضات وتُسيّجه المفارقات، إنه تفكير يروم ٱجتراح مسالك جديدة للنبش في أعماق الذوات البشرية، لاستكناه دهاليزها والحفر في أغوارها وفك مغالقها. عبره وضمنه، يتقوّى الإصرار على قراءة نص مُركب، يتقاطع فيه البيولوجي مع النفسي في ٱتصال حميمي شديد بالكون الاجتماعي. وبين هذا وذاك تعتمل سيرورة من الوقائع، لا تكُف أبداً عن إنتاج المعاني وتوليد الاستعارات وتشكيل الخطابات… الجسد نص اجتماعي يمتد في الزمان والمكان، يتأثر بما يعتمل حوله، كما يؤثر في العوالم المُتاخمة له، يتشكّل عبره ومن خلاله نص ثقافي، يحمل معه تاريخاً تلتحم فيه «الأنا» بـ «الأنت»، وتتماهى فيه الذوات بمعناها الفردي والجماعي، إلى درجة تتشابك فيها الهويات، وهو ما يجعل منه مسرحاً لإنتاج التوترات وتضارب الخطابات.

تنعكف هذه المحاولة على اقتحام عوالم الجسد، لجعله موضوعاً للمساءلة، نستنطق فيه وعبره مسألة المثاقفة، من حيث أفعالها ومفعولاتها، من حيث سيروراتها وآلياتها، وما يترتب عن ذلك من حوار وٱغتناء بين الثقافات، ثم النظر في مستويات التغالب أو التنازع بين الهويات، في إطار جدلية الكوني والخصوصي، المحلي والعالمي، بشكل نستحضر فيه الملابسات التي تجعل من موضوعة الجسد، رهاناً لفهم مجمل التحولات والتقلّبات الطارقة، التي بات يعرفها المشهد الثقافي في عالم اليوم.

أولاً: الجسد رهاناً للخطاب السّوسيوثقافي

لقد شكل الجسد مادّة خصبة للنظر والتأمل الفلسفي منذ القديم، إلّا أنه سوف يصبح فيما بعد محوراً لتخصصات ومناولات عديدة، تتراوح ما بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية، فكان ذلك حافزاً على تثوير وتطوير مناهج البحث في هذا المجال إن على مستوى التفسير أو التنظير.

وإذا كانت الفلسفة اليونانية – وخاصة مع (Platon) – قد عملت على إحداث شرخ كبير بين الثابت والمتحول في إطار الثنائية الضدية القائمة على الفصل الشنيع بين النفس والجسد، كما بين عالم الجواهر وعالم الظلال والأشباح‏[1]، فإن هذا الباراديغم سوف يتجدر أكثر في الأزمنة الحديثة، وهو ما نلحظه ضمن الخطاب الدّيكارتي والذي بموجبه تمّ تمجيد العقل (الفكر)، وتبخيس الجسد بوصفه يقف عائقاً إيبيستيمولوجياً أمام الحقيقة، ولربما ينزع هذا التصور إلى ترجمة مضمون الخطاب اللاهوتي المسيحي الذي لم يكن ينظر إلى الجسد إلا باعتباره جانباً مُظلماً من الوجود الإنساني حتى أنه أضحى مربطاً للخطيئة والشر والضّلال‏[2].

لكن الفلسفة المعاصرة وبحكم منطقها الاختلافي سوف تعمل على هدم الثنائيات التقليدية التي قامت عليها الميتافيزيقا الغربية، وبالتالي إعادة الاعتبار للجسد وتحريره في أفق إنتاج خطاب يستحضر الهامش، ويصالح الجسد الذي ظلّ ردحاً من الزمن قضية مسكوتاً عنها، وموضوعاً مُحاطاً بسياج من العزلة والصمت المطبق؛ «فأمام قوة هذا التيار الجارف اعتملت الثقافة الغربية بتيارات مُضادة، تدعو إلى ردّ الجسد إلى نصابه الأرضي، والاحتفاء بالقيم الحسية، والمُصالحة بين المعقول والمحسوس، كما هو الشأن مع الكلبيين والأبيقوريين قديماً، ثم مع نيتشه وهوسرل وميرلوبونتي وغيرهم من فلاسفة الاختلاف حديثاً (العلوي، 2004: 80).

بموجب ذلك نلاحظ كيف أن نيتشه (Nietzsche)، عمل على زعزعة الإرث المفهومي للحقيقة وراح يبحث لها عن موطن آخر، ألا وهو الجسد كقوة غريزية مُنتجة للخطاب والثقافة، هذه الأخيرة التي أصبحت مسكناً للجسد بوصفه نصاً ثقافياً قائماً بذاته (Blonel, 1986: 147).

لقد شكلت الفلسفة النيتشوية انقلاباً حاسماً في توجيه بوصلة البحث للنبش في أسرار الجسد باعتباره مرجعاً ينبغي استدعاؤه في مقاربة تاريخ المعرفة الإنسانية، والوجود الاجتماعي، وما يعتمل فيه من أشكال الصراع، وكيفية إنتاج السلطة وطرق تصريفها، وهو ما حفّز على فتح الطريق لاحقا أمام الباحثين على اختلاف تخصصاتهم لاستنطاق مجاهيل الجسد البشري وسبر أغواره، ثم جعله قضية اجتماعية وأكاديمية يعتريها الكثير من الالتباس في الحقبة المعاصرة.

صحيح أن التطبيقات العلمية أتاحت إمكانات واسعة للتحكم في الجسد بدرجة غير مسبوقة، غير أن هذا الجسد نفسه، أصبح موضوعاً تحوم حوله الكثير من الشكوك نتيجة التطورات الصادمة في مجال الهندسة الوراثية، والجراحة التجميلية، وعلوم الترويض والرياضة، وأيضا ظهور بدائل وخيارات غالباً ما تُولد لدينا أكثر من سؤال حول مآل النزعة التحكمية في الجسد، وما تثيره من مُجادلات على المستوى الأخلاقي، وبخاصة في ما يتعلّق بالتخصيب الاصطناعي، ومسألة فكّ الارتباط على مستوى العلاقات الجسدية التي ظلت محددة تقليدياً بخبرة الجنسية الغيرية، بالإضافة إلى الذعر الأخلاقي الذي أثارته «الولادة العذرية» وما يترتب عن ذلك على مستوى الحياة الأسرية، ناهيك بعمليات نقل الأعضاء (شلنج: 2009: 22 – 23).

ولمّا كان شعار العلم الحديث هو الرّهان على فهم قوانين الطبيعة من أجل تربيضها، فإن المسعى النهائي يلزم استثمار تلك القوانين للسيطرة على الظواهر وتوجيهها لخدمة الإنسان. إلّا أن تلك النزعة التحكمية لم تعد مُوجّهة فقط نحو العوالم الفيزيقية، بل أصبح الإنسان بدوره موضوعاً للتفسير والفهم، ولم يحجم المتخصصون من العلماء عن التنظير للوضع البشري في أبعاده النفسية والاجتماعية والتاريخية، بُغية الإمساك بالقوانين المتحكمة فيه، في أفق إنتاج خطاب إيبيستيمولوجي يتغيّا التحكم في المعطى الإنساني وجعله مشروعاً قابـلاً للانتقال من عالم الإمكان إلى عالم التّحقق. وهنا لم يعد الجسد خارجاً عن لعبة التحكم، بل وبحكم أنه يجسد القاعدة البيولوجية الأولية التي ينهض عليها وجود الأفراد والجماعات في أبعادها النفسية والاجتماعية، فقد غدا بدوره موضوعاً قابـلاً للتطويع سواء في بعده الفيزيولوجي أو الثقافي، أو حتى على المستوى الإستيطيقي.

ومهما تكن طبيعة التّدخل على مستوى المعطى الجسدي، فإنه من المستحيل فصل ذلك عن المناخ الثقافي العام الذي يلقي بثقله السياسي والأيديولوجي والاقتصادي، ذلك أن الجسد كما سنوضحه لاحقاً لا بدّ من أنه يشكل مادة تدخل في صلب عمليات الإنتاج والاستهلاك بوصفه رأس مال مادّياً ورمزياً في الوقت نفسه، بحيث يمكن أن يكون مجالاً للتمايز الثقافي الذي يُضمر حقيقة الصراع والمنافسة حول الخبرات الثقافية (Bourdieu: 1979, 3‑4)، كما لا يني عن الحضور ضمن أشكال التفاعلات الاجتماعية، وما يترتب عنها من تحوّلات وتغيرات في حياة الفاعلين سواء بطريقة واعية أو بطرق لاواعية خفية.

تبعاً لذلك نستطيع القول بأن الواقع السوسيوثقافي للمجتمع، لا يفصح عن نفسه فقط ضمن الأنماط السلوكية والأنظمة التواصلية وطرائق العيش التي نصادفها في المتداول اليومي، بل يمكن أن ينجلي وينكشف بطريقة تلقائية من خلال التعبيرات الجسدية، على اعتبار أن الجسد، يظل نصاً موشوماً بالتجارب الاجتماعية، أو كتاباً يختزل ماجريات الأحداث والوقائع التي تعُجّ بها حياة الناس وهمومهم، ولعلّ هذا هو ما جعل الخطاب السوسيولوجي يستند إلى الجسد، والحال أن» المنظّرين لم يفهموا الجسد على اعتبار أنه أساسي للفاعل البشري والمشروع السوسيولوجي، إلا حين شرع علم الاجتماع في التشكيك في التمييز بين الطبيعي والاجتماعي» (شلنج: 2009: 41).

وعليه يبدو واضحاً أن الجسد، كان ولا يزال حاضراً في صميم الخيال السوسيولوجي، يغذّيه بمؤشرات وملامح تسعف الباحث في قراءة المتن الثقافي، والحفر في أغواره والتمكن من جغرافيته التي يتقاطع فيها البيولوجي مع النفسي في اتصال شديد مع الاجتماعي، ضمن سيرورة تجعل من الجسد ذاكرة أو علبة سوداء تنطلي عليها الوقائع الماضوية، كما تُنقش عليها التجارب الحاضرة مع امتلاك القابلية لاستيعاب الممكنات المحتملة في الزمن المستقبل.

ثانياً: الجسد نصاً ثقافياً

لقد بدا واضحاً كما رأينا في فقرة سابقة مع نيتشه، على أن الجسد يشكل نصاً ثقافياً قائماً بذاته، تعتمل فيه الحياة بكل نزوعاتها وتفاصيلها. إلا أن الحديث عن مفهوم النّص يحيلنا على ما يقتضيه من دلالات في هذا السياق، يقول دلبيك «عندما نكتب فإننا نتواصل باستخدام الكلمات، وعندما نتكلم فيعني ذلك أننا نتواصل ليس فقط بالكلمات، وإنما باستخدام الجسد، وعليه فإن مفهوم النص – Texte – في هذا المقام نستخدمه بشكل مُغاير عن صيغته التقليدية المُختزلة في الكتابة أو الكلام» (Delbeque, 2006 : 226).

هنا يتحول الجسد إلى نظام تواصلي، فيه وعبره تتشكل المعاني والمحمولات الدلالية والرمزية، معرفية كانت أو وجدانية، سواء كان في وضعية تلقّ أو إرسال، «الجسد وسيط للتواصل الوجداني لذاته وللآخر، بحيث لا يمكن للمشاعر أن تشتغل إلا في حضوره.. إنه مجال لتشكّل طرق التعبير، وتلقّي الانطباعات بما يساهم في تثبيت الوعي بالموضوع» (Martin-Juchat, 2008: 62).

وحيث إن الأمر كذلك، فلم يعد من الممكن أن نفصل بين المرسلات اللّفظية وغير اللّفظية، «فعلى الرغم من أن العديد من الإيماءات والتعبيرات الحركية بدائية الأصل إلا أننا قد نعبر أو نغير بعض عمليات التعبير الحركي المعبرة عن حاجتنا وفقاً للمعايير الثقافية واللياقة الاجتماعية والقيم السائدة في المجتمع» (حسين، 2010: 42)، بحيث ينتظم الجسد بوصفه شبكة من العلاقات المعقدة أو نسيجاً مركباً لا يكفّ عن إنتاج خطاب تواصلي، يدخل في ما يمكن تسميته: «لغة الجسد» (Clement et Noel: 1994, 421)، تتساوق فيه الأوضاع والحركات والألوان والخدوش والروائح والإيحاءات.. لإنتاج المعنى الذي بواسطته تنحت الأنا الفردية هويتها داخل الأنا الجماعية، وهنا لا نجازف إذا قلنا بأن الجسد يشكل نصاً أوّلياً عبره وعبر الأجساد المتاخمة له يتألّف النص الكبير، ألا وهو النّص الماكرو – اجتماعي، هذا الأخير الذي تتعالق فيه الذوات للتعبير عن الهوية المشتركة في شكل دوالِّ ومدلولات لا تقبل الانفصام أبداً.

بموجب ذلك يكُفّ الجسد على أن يكون ملكية فردية خالصة، فمهما حاول الانفلات من قبضة الآخرين، فإن الطقس الاجتماعي، يعمل على تلجيمه وتعويمه وتذويبه، بما تقتضيه أفعال التنشئة الاجتماعية ومفعولاتها منذ المراحل الأولى للطفولة، فيجد نفسه مسكوناً بسلطة جبّارة تعمل على نحت تضاريسه، وهندسة إحداثياته، وتحديد أقانيمه.

نستشفّ مما سبق أن الجسد يتحول إلى ملكية مشتركة، يتقاسمها المخيال الجمعي بما يُسبغ عليها من قيم ومعايير تدخل في صرح المثل الضامنة للتماسك الاجتماعي، فبالرغم من إصراره الوجودي ومقاومته الدائمة من أجل الظفر بعزلته الأنطولوجية الدافئة، فإنّه لا يستطيع الافتكاك من أسر المجتمع وتعاليمه ونواميسه، سواء بطريقة صريحة أو ضمنية، تارة بواسطة الإغراء والثناء والتعزيز، وتارة أخرى بالتأنيب والعقاب والإقصاء.

فعلى غرار ما تتم به تربية النفوس، هنالك بالموازاة تربية للأجساد، وبموجبها تنطبع الثقافة على الجسد؛ إذاً فتربية الجسد تعني شحنه بملامح أخلاقية، وظواهر تراثية، وقيم مُنتقاة على شاكلة الانتقاء الطبيعي الذي تقول به السوسيولوجيا الداروينية (Brannstein et Pépin, 1999: 113).

وإذا تقرر أن الجسد بكل تمفصلاته وتمظهراته، يدخل في صلب الماهية الثقافية للمجتمع، فهذا يجبرنا على القول بأن الجسد بدوره يتمظهر في شكل نص تاريخي للمجتمع يُضمر أشكالاً لا حصر لها من التجارب الحياتية التي تمتدّ في الزمان والمكان، ثم إنه يؤثر ويتأثر بكل ما يعتمل داخل المجتمع وخارجه، فيعتريه ما يعتري الكون الاجتماعي من تقلبات، تقول فلورنسا برونستين (Florance Braunstein): «الجسد أيضاً له تاريخه، وبالتالي فهو محكوم بسيرورة تراوحها الاستمرارية تارة، وتارة أخرى القطيعة، النظام والفوضى، الحتمية والعرضية، في اتصال شديد بالزمان والمكان» (Brannstein et Pépin, 1999: 15). وهذا من شأنه أن يجعل من الجسد وثيقة أثرية يُعول عليها كل من الباحث الأركيولوجي والمؤرخ في استنطاق مضامينها ومحتوياتها باعتبارها نصاً شاهداً على الأحداث والوقائع الماضوية التي تساعد على بناء المعرفة التاريخية.

ثالثاً: الجسد حمولة ثقافية داخل السياق الاجتماعي

يقتضي وضع الحديث عن الجسد، بوصفه حمولة اجتماعية، في سياقه التواصلي العام، وذلك للوقوف على الملابسات التي بموجبها يتبلور الخطاب؛ ففي غياب السياق تظل المُرسلات الثقافية غير قابلة للفهم؛ فالمتكلم وهو بصدد أي فعل تواصلي ينبغي استحضار طبيعة الموقف الذي يوجه أداءاته من اختيار للكلمات، وتحكم في نبرة الصوت، وتعبيرات ملامح الوجه، ثم وضعية الجسد، علاوة على طريقة تدفق الكلام، مع الأخذ بعين الاعتبار لحظات الصمت، بوصفها علامات تقتضي أن تكون موضع تأويل من قبل المتلقي لفهم الرسالة في كل أبعادها ومدلولاتها (Simons, 2002: 60).

لا بدّ من أن كل هذه الفعاليات لا تشتغل ضمن ذوات مفردة معزولة عن مستلزمات السياق الاجتماعي الذي تعتمل داخله، وهنا لا يكاد يمارس الجسد فعله التواصلي إلا داخل نسق عام يغذيه بملامح تتخذ طابعاً قسرياً يفرضه السياق الاجتماعي والتاريخي والديني، تقول روزلين إيفيلين في كتابها تاريخ الحياة، تاريخ الأجساد: «إن الجسد ومنذ بداياته الأولى في النمو، هو بمثابة مجال لممارسات فعل الحضارة، فهو مشروع ينبغي أن يستدمج المعايير الاجتماعية والدينية والتاريخية، ومن ثمة، تحديد إطار مجالي وجسدي تُمليه أشكال لا حصر لها من الأوامر والنواهي» (Evelyn, 2007: 50).

تأسيساً على ما سبق، يمكن الخلوص إلى أن الجسد يحمل دينامية يتساوق فيها البعد البيولوجي مع الأبعاد النفسية والاجتماعية الأخرى، ضمن سيرورة من التفاعلات التي تسهم في بناء المعنى، إلا أن ذلك يحصل وفقاً لمحددات يفرضها سياق العلاقة المفترضة بين المعطى الجسدي ومجاله الذي ينتمي إليه. وهنا لا بدّ من الإقرار بأن السياق ليس مضموناً داخلياً تنتجه الذوات بشكل مستقل عمّا يجري حولها، وإنما هو نتاج لحصيلة التفاعل فيما بينهما، على نحو جدلي تتأرجح في الذات بين الفعل والانفعال. ولعل هذا هو ما ذهب إليه ميرلوبونتي (Merleau-Ponty)، حينما نظر إلى الجسد كمعطى وجودي يتماسك ذاتياً من خلال انفتاحه على التحديدات الفضائية (الزمان والمكان)، بوصفها جوهراً لموضوع معطى بشكل قبلي، إلا أنه يظل مشروطاً بتجربة الذات ووعيها القصدي، بحيث يصبح الجسد مُحايثاً لتلك التجربة إزاء العالم الموضوعي، ثم إن كينونة الجسد تعني بشكل أو بآخر ارتباطه بعالم مُعين يتيح له إمكان الانكشاف «فالتجربة تكشف خلف الفضاء الموضوعي الذي يتموضع فيه الجسد في النهاية عن فضائية أولية، لا تكون التجربة سوى مُغلفة لها، وهي تذوب في كينونة الجسد بالذات، تعني كينونة الجسد: الارتباط بعالم معين» (ميرلوبونتي، 1998: 130).

على هذا النحو، ليس السياق جوهراً مُفارقاً لتجربة الجسد، يُملي عليه الدخول في لعبة التّلقي السلبي (الغُفل)، الذي يسلب الذات قلقها الوجودي ويلقي بها في متاهات الإشراط والحتمية، بل هو معطى قابل للرد الفينومينولوجي، الذي بموجبه يصبح كل وعي بمثابة وعي بشيء ما. ذلك أن التحديدات الفضائية هنا، تنتصب كواقعة مُعاشة. فرؤية الألوان – على سبيل المثال – تعني اكتساب أسلوب معين للرؤية واستخداماً مُغايراً للجسد الذاتي، ومفاد ذلك: إغناء وإعادة تنظيم الصورة الجسدية ليس من جهة «الأنا أفكر» المكتفية بذاتها أو المعزولة عمّا حولها، وإنما من جهة الدلالات المُعاشة التي تسبغ عليها توازنها (ميرلوبونتي، 1998: 134).

تبعاً لما سلف، نستطيع القول بأن الجسد محكوم بالمُتغيرات السّياقية التي ينوجد فيها، سواء تلك التي يمليها المجال الفيزيائي الغفل، أو تلك التي يحدد ملامحها السياق الاجتماعي، من حيث إنه يعكس طبيعة المتغيرات الثقافية التي تؤطر حياة الناس ومعيشهم اليومي، وفقاً لمرجعية أنثروبولوجية أو دينية أو سياسية أو قانونية، كما يعبر عن مجمل التحولات الاجتماعية، التي تكون لها امتدادات على مستوى المعايير والقيم والمثل العليا القابلة للاستدماج أو الممانعة من قبل الفاعلين الاجتماعيين.

لننظر إلى تجربة الألم بوصفها إحساساً جسدياً، سنلاحظ أنها تتّخذ تعبيرات مختلفة بحسب السياق الثقافي الذي يحدد طبيعة التفاعل مع مجمل الاضطرابات النفسية والجسدية التي تعتري الأفراد، وهو ما يدعونا إلى ضرورة ربط الوقائع الجسدية بالوقائع الثقافية‏[3].

هنا تصبح التمثلات حول الجسد مطبوعة بالمناخ العام الذي يهيمن على الكون الاجتماعي والثقافي في لحظة تاريخية معينة. فالتحولات العاصفة التي شهدتها أوروبا – على سبيل المثال – خلال عصر النهضة كان لها يد في زعزعة العديد من المفاهيم والمسلّمات التقليدية، بما فيها تلك المتصلة بمفهوم الجسد، بحيث تم هدم الكثير من التمثلات التي كانت رائجة خلال القرون الوسطى واستبدالها بباراديغما جديدة سواء على مستوى المعرفة والنظر العلمي أو على مستوى المصطلحات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وأيضاً على مستوى طبيعة تصور الإنسان للذات والعالم والفكر والتاريخ.. بحيث أصبح الجسد بدوره موضع تساؤل ونقد بوصفه يرتبط أشد الارتباط بمفهوم «الذات» وقيم الحرية التي كانت مطلباً يهُمّ تحرير الإنسان من قبضة اللاهوت المسيحي.

لأجل هذا سوف تنبثق تصورات جديدة بخصوص الجسد من حيث إنه يدخل في صلب مفهوم الذات، كما نظّر لها فلاسفة الأنوار، ذاتٌ تقوم على مبدأ الحرية والإرادة والمسؤولية. ثم إن تلك التمثلات لا بدّ من أنها عرضة لمراجعات عديدة بشكل يستجيب للتحولات الطارقة التي ستعرفها المجتمعات الصناعية فيما بعد، بحيث اشتد النقاش العمومي حول مفاهيم أخرى متصلة أو مجاورة للجسد مثل: مفهوم اللذة، الجنس، الإجهاض، الجراحات التجميلية، المثلية الجنسية، الحقوق الثقافية المرتبطة بالجسد في مقابل النزعات المحافظة التي تستمد خلفياتها من مرجعيات تقليدية (Rebreyend, 2008: 318).

كل هذا ينمّ عن أن المعطى الجسدي لم يكن في يوم من الأيام خارج الحراك الاجتماعي في كل أبعاده وتجلياته، وهنا يُفتح الباب على مصراعيه للجدل الثقافي حول ماهية الجسد كأفق للتفكير الإيبيستيمولوجي، ضمن مختلف الوضعيات والمرجعيات الدينية والسياسية والثقافية.

صحيح أن مُجمل التمثلات حول الجسد تستقي مرجعيتها من السياق الثقافي للمجتمع، إلا أن الصحيح أيضاً، هو أنه داخل المجتمع نفسه، تتأسس هوية الجسد تبعاً لمجموعة من المحددات التي تتوزع بين عوامل متعددة كالجنس والسّن والانتماء الطبقي والانتماء السّوسيو – مهني، علاوة على طبيعة التديّن وأشكال الممارسات الطقسية لدى الفاعلين الاجتماعيين، ذلك أن هامش الاختلاف في التعاطي مع الجسد وتدبيره يظل وارداً، وهو ما يُقلّص من درجة تجانس الأجساد البشرية داخل المجتمع الواحد.

 

رابعاً: الجسد معبراً للثقافات

إذا صحّ أن الجسد يمثل واقعة اجتماعية، فهذا يجعل منه كياناً دينامياً لا يكاد يفارق مُجمل التحولات الثقافية التي تصيب الكون الاجتماعي في كل مناحيه وتمفصلاته، سواء من جهة الداخل أو الخارج، بحيث يصبح الجسد بدوره مسرحاً لتقاطع الثقافات واشتباك النماذج الحضارية التي يكون مصدرها فعل المثاقفة.

فعلى غرار التأثيرات المتبادلة والتي تمثل حصيلة التفاعل بين الثقافات والحضارات على جميع الأصعدة – اللّغة، الطبخ والعادات الغذائية، فنون العمارة، الأزياء، الرقص، الطقوس الاحتفالية، اللغة، الرموز، الأساطير، أساليب التطبيب والفنون والرياضات…، نجد أن الجسد بدوره حمّال لملامح ثقافية يكون مصدرها عامل الاتصال بين المجتمعات سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ فمن طريق الهجرات البشرية من مجتمع إلى آخر، وبفعل التجارب الاستعمارية، والبعثات الدينية والطلابية، ومع امتداد شبكة الاتصال الجماهيري واتساع نفوذها، أصبح الجسد في كل مناحي المعمور مجالاً لاستدماج قيم وعناصر ثقافية أجنبية دخيلة، تسهم إلى حد بعيد في إعادة تشكيل ملامحه وصناعة هويته، وإن كانت درجة التأثير والتأثر تختلف باختلاف الظروف والملابسات المصاحبة لهذه العملية.

ولم تعد المثاقفة – سواء بمعناها العام، أو ذلك المتعلق بثقافة الجسد – نتاجاً لعملية الغزو والاحتلال العسكري، أو الاحتكاك الجغرافي المباشر بين الثقافات، بل يمكن أن يحصل ذلك بموجب العلاقات الاقتصادية القائمة بين البلدان، والتي تُحتم ضرورة التعاون من أجل سدّ الخصاص، وتأمين الحياة على جميع المستويات (Nagy, 2001: 13). إلا أن المنقولات القابلة للاستهلاك والاستعمال، سواء كانت مادية أو رمزية لا بد من أنها تنطوي على قدر مُعتبر من العناصر الثقافية التي تمارس أثرها في مستقبليها، وذلك في سياق متواتر، لا يكاد يفصح عن نفسه إلا بعد تراكم كمِّي ونوعي، يطاول حياة الناس ليتلبّس نفوسهم وأجسادهم على حد سواء.

ففي مجال التطبيب مثـلاً، نلاحظ كيف أن طرق وأساليب مداواة الأجساد الآدمية أصبحت تنهل من ثقافات متعددة، ومثالنا في ذلك طريقة الوخز بالإبر، والتي جعلت من الموروث الثقافي الشعبي الصيني، يسافر في كل ربوع العالم، ثم أساليب الموضات التي تغزو السوق البشرية في كل مكان، وتخترق الأصقاع والجغرافيات، مثل طرق الحلاقة وتسريحات الشعر والتجميل والوشم، ناهيك بالنماذج المتداولة عالمياً في ما يتعلق بأنماط اللباس والأزياء، والطقوس الجسدية المرافقة للمراسيم الاحتفالية والمهرجانات الموسيقية.

إن مجموع التغيرات والتعديلات التي تطرأ على مستوى ثقافة الجسد، توازي مجمل التغيرات التي تلحق جل الأنماط الثقافية الأخرى، بحيث نجد ذلك الحوار الجدلي والمسترسل بين ما هو كوني وما هو خصوصي، وبين ما هو مادّي ورمزي، إلا أن درجة التأثير المتبادل بين الثقافات، لم يكن في يوم من الأيام على قدر من التكافؤ والندّية. ولعل هذا ما يمكن تفسيره بدرجة الثقل السياسي والاقتصادي وحتى الديني‏[4]. هنا يصبح الجسد مسرحا لتنازع الهويات الثقافية، وخاصة لما تكون طبيعة الاتصال الثقافي يعتريها الصراع والتغالب، إن على مستوى الانتماء الديني أو العرقي أو الأيديولوجي.

وإذا كانت ظاهرة العولمة قد فتحت الباب على مصراعيه لتذويب الحدود وتقريب الجغرافيات في عالم اليوم، فهذا من شأنه أن يجعل من الجسد مجالا تعتمل فيه وعبره كل أشكال التقاطع الثقافي على مستوى القيم والمعايير، بحيث تكون النتيجة النهائية هي ارتسام صورة غامضة حوله، أعني: صورة الانهجاس والقلق حول المآلات التي تنتظر الجسد في ظل الآثار الباصمة التي تمارسها موجة العولمة على مستوى خارطة الوضع البشري في سائر أنحاء العالم، وما يترتب عن ذلك من مآزق بخصوص هويات المجتمعات وانتماءاتها.

في الواقع نكتشف تعارضاً شديداً في ما يتعلّق براهن النقاش المتعلق بالهوية الثقافية للجسد، ضمن التقلّبات والتفاعلات الطارئة التي باتت موضع سجال قوي لدى سائر المتدخلين على اختلاف أطرهم المرجعية ومنازعهم الفكرية. إلا أن مُجمل التصورات في هذا النطاق لا تخرج عن قناعتين: الأولى تنظر إلى الموضوع بنوع من التفاؤل المُفرط، بحيث ترى أن الأجساد البشرية مستعدّة للتأثير والتأثر بما يقوّي من أواصر الترابط والتّعايش والتكامل التي يفرضها التاريخ والمصير المشترك للإنسانية جمعاء، بغضّ النظر عن ألوانها وأعراقها وثقافاتها ولغاتها، في حين ينزع أصحاب الموقف المعارض إلى القول بأن هوية الجسد جزء لا يتجزأ من هوية الفرد، وحيث إن هوية الفرد من هوية المجتمع، فإن تحريف هوية الجسد والإجهاز على مقوماته الذاتية، هو عصف بهوية المجتمع وتآمر على حقه في الاختلاف والتمايز.

إن نقاشاً من هذا القبيل، لا يخرج عن دائرة السّجال الدائر حول المفارقات التي يطرحها التفكير حول العلاقة القائمة أو المفترضة بين الكوني والخصوصي، ليس فقط ضمن إشكالية الجسد، وإنما في سائر القضايا الأخرى مثل نُظم التشريعات والقوانين، والمسائل المتعلّقة بماهية الأخلاق، وحقوق الإنسان، واللغة، والذوق الفني والجمالي، ونمط الاستهلاك وأساليب الحياة…

وعليه فقد تذرّع مناصرو الفكر العولمي بخصوص موضوع الجسد بمبررات تُعزز الثقة بكونية الثقافة، وفاعليتها في اغتناء الثقافات البشرية وتدعيم تنوعها بعيداً من لغة الانكماش التي يُروّجها ضحايا الهويات الصنمية والنّزوعات الطوباوية، فهذا جاك أودينيه (Jacques Audinet) في كتابه وجه العولمة يشدد على أن الاتصال بالآخر، يعني اختراق الحدود في إطار تجربة فيزيقية، تعطي للجسد إمكان الانخراط ضمن نمط مغاير من السُّلوكات وأساليب الحياة والوجود، بدءاً من العادات الغذائية والتشكيلات اللغوية. فمهما كانت وضعيات الفاعلين، سيكون من غير الممكن أن تطغى اللغات الأجنبية إلى درجة تجعلها تقوم مقام اللغة الأم بنوع من السهولة، ثم إن الأطباق العالمية في مجال الطبخ، تحظى الآن بجاذبية منقطعة النظير، وعليه يبقى مفهوم الاختلاف قائماً في جميع الأحوال (Audinet, 2007: 148).

لا شك في أن مثل هذه التجارب في مستواها الأولي، تدعو إلى الاتصال لاكتشاف حقول وعوالم جديدة من الممكنات، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الحدود الفيزيقية الخالصة، «فكل فرد من الناس، يستطيع العودة إلى تجربته المفردة أو الخاصة، والتي من خلالها يتأطر وجوده الجسدي كمعطى خالص لا تشوبه شائبة» (Audinet, 2007: 149). ويضيف أودينيه في جداله، بأن الفرد ليس بمقدوره أن يتحدث جميع اللغات لأنه أمر يتجاوزه، كما ليس باستطاعته تجريب كل الإمكانات. وبين هذا وذاك يظل الجسد بما يمتلكه من نشاط وحيوية حامـلاً حقيقة أساسية مفادها أن الإنسانية لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا داخل بوتقة الاختلاف (Audinet, 2007).

تأسيساً على ما سبق فإن الحدود الجسدية مثل سائر الحدود الأخرى تتراوح بين الانفتاح والانغلاق في الآن نفسه، وهنا يصبح الجسد بمثابة مجال أو حقل لبناء الرابط الاجتماعي بمعناه الواقعي والملموس، الجسد وإن كان معطى شخصياً فهو مجال للاتصال والحلول في ذوات أخرى، ومن خلال الآخرين الغرباء والمختلفين، يكتشف الجسد ماهيته، ويمسك بهويته. إنه مجال للتبادل الاجتماعي الذي يحول دون انسلاخه من كينونته ووحدته وفرادته. ثم إن اختلاف الحدود الجغرافية والاجتماعية، يتيح إمكانية الكشف عن الهوية الشخصية والعودة إلى الذات، وبين الجسد الشخصي الخالص والرابط الاجتماعي تسري التبادلات الرمزية على جميع المستويات بما يسهم في انبثاق الذات والعالم. كل هذا يُغنينا عن التعارضات الكلاسيكية التي عمّرت طويـلاً، والتي جعلت من الجسد كياناً خالصاً معزولاً عن الآخرين ومكتفياً بذاته في عزلة مطلقة (L’individu-monade) (Audinet, 2007).

إن هذا الطرح ينزع نحو إضفاء المشروعية على الفعل التواصلي في مداه الكوني، بحيث تصبح الحدود الثقافية بين الأجساد البشرية ضرباً من المستحيل، ومن ثمة يُفسح في المجال للتفاعل بين الهويات على اختلاف مرجعياتها، إلا أنه بالمقابل ينبغي الكشف عن المطبّات التي تجعل من الفرضيات أعلاه موغلة في التجريد والمثالية، صحيح أن هوية الجسد بشكل خاص، وهوية الأفراد والجماعات البشرية بشكل عام، تتأكد من خلال الوجود وجهاً لوجه أمام هويات أخرى، بحيث ينكشف مفهوم التغاير والاختلاف، كحقيقة يتمثّلها الفاعلون الاجتماعيون باعتبارها واقعة مُعاشة. إلا أن الصحيح أيضاً هو أن واقع الحال، وفي ظل التوتر السياسي والتغالب الاقتصادي الدّائر فوق الكوكب الأرضي، وبالنظر إلى التعالق الشديد بين الفعل الاقتصادي السياسي بالفعل الثقافي، تصبح الهويات الثقافية شأنها شأن الهويات الجسدية محط صراع يمكن أن يفضي إلى نوع من الاكتساح الثقافي على شاكلة ما نلحظه على مستوى المنافسة في سوق المال والأعمال، ذلك أن الحديث سوق بمعناه الاقتصادي، لا يحجب عنا سوقاً آخر وهذه المرة بمعناه الثقافي.

لأجل هذا يبقى التسليم بحقيقة وأهمية التمازج الثقافي بين الشعوب والمجتمعات والأمم مُحاطاً بالكثير من المحاذير، إذ لا يمكن التّحلل منها إلّا بوضع فعل المثاقفة في سياق مشروط باستراتيجيات ثقافية تنزع عن الأنظمة الأيديولوجيات المتمكنة في عالم اليوم طابعها التوليتاري.

هنا تنتصب العديد من التوجهات ضدّاً على المشروع العولمي، بوصفه نظاماً لم تعد مفعولاته وتداعياته تمتد فقط لاحتكار الثروات الاقتصادية والخيرات المادية، بل امتدت لتطال عوالم الثقافة والرموز بما في ذلك ثقافة الجسد. وعليه أصبح النقاش منصبّاً على شكل جديد من أشكال المركزية الغربية، فمن مركزية العقل، إلى مركزية الصوت في اتجاه مركزية القضيب، ألا يمكن أن نتحدث الآن عن مجال آخر لتصريف عقدة التفوّق؟ إنه مركزية الجسد، فما هي المرتكزات التي ينبني عليها هذا الطموح في عالم اليوم؟

لا شك في أن الجسد وبحكم حضوره الباصم ضمن وسائل الاتصال الجماهيري، أصبح جزءاً لا يتجزأ من الخطاب الإعلامي في مستواه الكوني؛ فهو في الوقت نفسه وسيلة، لأنه موضوع إغراء وإغواء يستطيع تحريض الرغبة وإيقاظها وبالتالي اقتناص الفاعلين وتحضيرهم في كل مكان، للدخول في لعبة التلقّي غير المشروط، وأيضاً باعتباره غاية، لأنه موضوع يستطيع زحزحة الجسد الواقعي من مكانه لمصلحة جسد افتراضي يتربّع على عرش النجومية، بحيث يجعل من نفسه نموذجاً يقتل كلّ النماذج التي تستعصي على الدوران في فلكه، ويطيحها.

لننظر إلى الجسد النسائي – على سبيل المثال – لقد غادر موطنه الحقيقي والواقعي، وصار محجوباً، يزاحمه، ويحتل محله جسد افتراضي يشكل نموذجاً وحيداً هو النموذج الغربي. يسافر في كل أنحاء العالم، يتجول من قارة إلى أخرى، يحمل سلطة جبارة يتم تصريفها عبر دور السينما، والتلفزة وألعاب الفيديو، حاضر في ملصقات الشوارع العمومية ومحطات الحافلات، وفي المواقع البورنوغرافية في الإنترنت، هذه الأخيرة التي تفاحش رقم معاملاتها بشكل مهول بحيث حقق أرباحاً قُدّرت بمليار دولار سنة 1998، ليتضاعف إلى مليارين ونصف خلال سنة 2006، وهو تجاوز للعائدات التي كانت تُجنى بواسطة فنون الرسم والفوتوغرافيا والتلفزة (Leservot, 2007: 18).

كل هذا يشي بأن صراع الأيديولوجيات داخل أفعال المثاقفة، ينزع نحو تكريس ثقافة الاحتكار، بيد أن ذلك يتخذ له استراتيجية تُوسّع من مجال السيطرة عبر تعزيز مفهوم التحكم ليس فقط بمعناه التقليدي – وسائل الرُّعب العسكري، الهيمنة الاقتصادية، تصدير الأيديولوجيا أو فرض التبعية على مستوى السياسات التعليمية – وإنما من خلال تطوير مستوى العنف للانتقال من «ثقافة الاحتكار» إلى «احتكار الثقافة». ولعل هذا هو المدخل الأساسي الذي بات الرّهان عليه قائماً من طرف الأنظمة ذات التوجهات الشمولية في الأزمنة المعاصرة.

بمقتضى ذلك أصبح الهاجس الأساسي في عالم اليوم، هو الاستثمار من جهة «الشيء الثقافي»، الذي يمتد لكي يجعل من الظاهرة الثقافية مجالا للصناعة والتسويق والإشهار، لأن كل شيء في آخر المطاف يؤول إلى الثقافة بمعناها الواسع، بدءاً من اللغة ومروراً بطرائق العيش وأساليب الحياة، في اتجاه نظم التقاليد والعادات والطقوس والمعتقدات…؛ فالفعل السياسي والاقتصادي لا يكاد يغادر مرجعيته السوسيوثقافية التي تغذيه بالشروط الذاتية والموضوعية، وتهيئ له المناخ الملائم للامتداد والتوسع.

هكذا يتحول الجسد إلى مجال للاحتكار، من حيث إنه معطى ثقافي قابل لأن يكون موضوع صناعة وتحويل، «لقد تحوّل الجسد في المجتمعات المعاصرة إلى مادة أولية قابلة للتطويع بحسب الأجواء المتصلة باللحظة المُعاشة، تابعاً لنمط الحضور، أو مجال تتمظهر من خلاله الذات. ثم إن إرادة تحويل الجسد أصبحت واقعاً اجتماعياً. الجسد ليس فقط مجالاً يتم فيه اختزال الذات، وإنما هو بمثابة بناء أو معمار شخصي، قابل للتحويل والتطويع والتلاعب تبعا لرغبة الفرد» (Le Breton, 2003: 35). وحيث إن الفرد نتاج للمجتمع فإن جسده لا يشذ عن انتمائه السوسيوثقافي، فمن خلاله وعبره يمكن صناعة الرأي العام وتشكيل القيم والمعايير وإنضاجها تبعاً للنماذج الإرشادية «الباراديغمات» المهيمنة داخل اللحظة التاريخية.

وخير دليل على هذا النزوع الاحتكاري لثقافة الجسد، أو ما يمكن تسميته: «بيروقراطية الجسد» هو ظاهرة الغزو الذي تمارسه عروسة الأطفال (Barbie) في كل أصقاع العالم، والخطير في الأمر هو أن المخاطَب في هذه الممارسة الكونية هو الطفل، بحيث تصبح صناعة الجسد ونحت التمثلات حول صورته، عمـلاً بيداغوجياً يراهن على المراحل الأولى من الطفولة باعتبارها أقوى لحظات التنشئة الاجتماعية، بحيث يتم إسقاط الصورة النمطية التي يتم الترويج لها عن الجسد، داخل البناء السيكولوجي العميق للفئات المستهدفة، في اتصال شديد بتجربة الاستيهام كواقعة يحصل بموجبها نوع من التهيؤ القبلي لتكوين شخصية الطفل في المستقبل.

«باربي» جسد يتربع بطـلاً على عرش المخيال الطفولي في كل مكان، عابر لكل القارات، مسافر في كل الثقافات، يذكرنا بالمبشّر المسيحي الذي يحمل معه صكوك الغفران، أو الرجل الأبيض الذي يحمل معه الحضارة لكي يزرع شتائلها في صحاري أفريقيا وأدغالها التي تفوح منها رائحة التوحش، كما في آسيا وأمريكا اللّاتينية. باربي جسد يتجسّد فيه «الجميل» و«الجليل»، إلا أن جماله وجلاله لا يكتملان إلا عندما يتوفق في قتل الشبيه، وطرد بقية الأجساد الأخرى، فكأنما يعلن نهاية التاريخ الجسدي في دلالاته ومدلولاته الميتافيزيقية.

قد يبدو لأول وهلة أن الجسد المُعولم في هذا المثال وكأنه جسد مفرد بعينه، أعني جسداً مؤنثاً يمكن اختزال ماهيته في «المرأة»، إلا أن تحليل مضمونه والحفر في طبقاته، يكشف لنا أنه كيان يمثل مركز الثقل الذي تنتظم حوله كل القوى الفاعلة في المجتمع، سواء بطريقة ضمنية أو صريحة. كثيرة هي الاستعارات التي تشبّه الأنثى (الأم) بالأرض فمنها يخرج الأحياء وإليها يعودون. ومن رحم المرأة – وإن كانت جنساً لطيفاً – يخرج المقاتلون والمحاربون والحكماء والأنبياء، وحتى الطواغيت.. كل هؤلاء هم أبناء حواء. ولأجل هذا كان الرّهان في الأزمنة المعاصرة على المرأة ليس لأنها مصدر للذّة والشبقية التي بواسطتها يتم إطفاء الغرائز الملتهبة، وإنما بوصفها جسدا أو نصا عنوانه الإغراء والإغواء، الانكشاف الذي يُراد به الاستغراق في ماهية الغياب، والحضور الذي يحمل معه قلقاً أنطولوجياً يريد الإمساك بالمعنى ولو كان ضرباً من الاستيهام المؤقت.

لا غرابة إذاً أن نصادف الحضور المُكثف للمرأة ضمن المتن الثقافي الغربي، بوصفها وسيطاً أو خطاباً يختزل الصورة المكتملة التي ينبغي تمثّلها من قبل الفاعلين الاجتماعيين في كل مجالات الحياة، بما في ذلك طبيعة نظرتهم إلى ذواتهم وإلى الآخرين والعالم؛ هذه الصورة يتم إفراغها ضمن ممارسة طقوسية تُحايث تجربة الأفراد والجماعات في بُعدها أكثر حميمية، لكي تصنع منهم كائنات مُتشابهة، بدءاً من وجودهم الجسدي في اتجاه مناحي أخرى يتعالق فيها النفسي بالاجتماعي، ويتشابك فيها الواقعي بالافتراضي. ستكون هذه النتيجة ضرباً من الحتمية الثقافية «تقترن (فيها) تمثلات الأفراد بمختلف الطقوس المُحايثة لوجودهم الاجتماعي، بوصفها ذاكرة تمتدّ لكي تنطبع وتغوص في الجسد، هذا الأخير الذي يتحول إلى مُعطى يعكس أسلوبا للحياة، له لغته وحساسيته» (Jeffrey, 2001: 15).

هنا بالضبط تتحول المرأة – الجسد جسراً لعبور ثقافة التجانس الذي يُقصي مبدأ الاختلاف والتمايز الجسدي في الأذهان قبل الأعيان، ويُشرّع لنمط جديد من الاستهلاك، يستمد أسسه من الثقافة الرأسمالية التي لا تتورّع عن تقليص الخبرة الفردية في التسوق لمصلحة الخبرة الجماعية. بحيث يترتب عن ذلك نوع من التحكم في الرغبة وحشرها ضمن توجّه يستلهم مقوماته من نظام عالمي، يعمل على تسليع كل شيء وجعله خاضعاً للتنميط والنمذجة، بما في ذلك الأجساد الآدمية.

لقد أضحى هذا التوجه سمة بارزة لنمط الإنتاج والاستهلاك في المجتمعات الغربية، كما في المجتمعات التي تدور في فلكها، ذلك أن «الإعلانات والواجهات الإشهارية وأسماء العلامات التجارية أصبحت تلعب دوراً محورياً في فرض رؤية جماعية مُوحدة، تُفضي إلى نزع الاختلافات والتمايزات وتذويبها في إطار نمط كُلّياني غير قابل للانفصام أبداً» (Baudrillard, 2001: 34).

باربي لون آخر من الصناعة الثقافية الذي يلتحم فيه الصانع والمصنوع لصناعة الجسد الواقعي بما يقتضيه الافتراضي في كل أطراف العالم، ضمن هذا المقام، يتحول الجسد إلى وسيط رمزي لإنتاج الكائن – النموذج الاجتماعي من خلال ثلاثة محددات أساسية: يتصل المحدد الأول في تقدير فيليب لاكومب بالجسد الأداتي. أما الثاني فيتعلق بالجسد في دلالته الساخرة أو المازحة، وأما الأخير فله علاقة بالجانب الطقوسي الذي يجعل منه حقلا مُشبعا بالعادات والتقاليد المتداولة في المجتمع (Lacombe, 2001 : 27).

لا تخرج العروسة باربي عن هذه الوظيفة، وذلك من حيث إنها جسد له قابلية الاستعمال تارة بطريقة يدوية أو آلية ميكانيكية، وتارة أخرى بطريقة إلكترونية، وهي استخدامات تحاكي الأجساد الحقيقية فيما تضطلع به من أدوار في مسرح الحياة وروتينها اليومي؛ ثم إنها ظاهرة هزلية (Comique)، بما تنطوي عليه من مواقف ساخرة تخلق مجالا للاستمتاع والفرجة داخل الكون الطفولي، وفوق كل هذا وذاك تُؤسس لفضاء طقوسي حافل بالإيحاءات والرموز والاستعارات التي تُحيل على بنية ثقافية لها معمارها وطابعها الخاص.

كل هذا يسهم إلى حد بعيد في تشكيل نسق من التّمثلات حول الجسد. إلا أن ذلك لا يحصل فقط ضمن النسق القرابي أو نسق السلطة السياسية أو الدينية المُؤطرة للبناء الاجتماعي، بل يمتد بحسب دنيس جوديليه (Denis Jodelet)، ليشمل نسق المعارف العامة المُسهمة في بلورة الوعي الصريح بالذات وبالآخرين، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المشاعر، وأوجه الاتصال بين الوعي واللاوعي، ثم استحضار الكيفية التي يشتغل بها المخيال بوصفه يُشكل مضامين ومحتويات البناء الاجتماعي، بما هو نسيج ثقافي مُعقد يغوص في المجال الخصوصي للذوات (Jodelet, 2015: 42).

نخلص إذاً إلى حقيقة أساسية مفادها أن ظاهرة باربي، تُمثل نموذجاً يعبر عن القدرة التي يمتلكها الجسد في عبور الثقافات، وهو عبور يمثّل مجالاً للتبادل والمثاقفة بين المجتمعات. إلا أن ذلك لا يمكن أن يحجب عنا ما تفضي إليه تجربة الاتصال الثقافي الجسدي من تنازع على مستوى الهويات الاجتماعية. فالانتشار المستفحل على المستوى العالمي لهذه الدمية لا نستطيع فصله عن السياق العام الذي فرضته ولا تزال تفرضه المركزية الغربية في كل المناحي السياسية والاقتصادية والثقافية.. وهي محاولة تروم تسويق نموذج ثقافي يجعل من الجسد خطاباً مُنتجاً للسلطة في معناها الكوكبي، بحيث يدّعي صلاحيات كونية بموجبها يتمّ فرض نمط جديد من الحتمية التاريخية التي بموجبها يتحدد تاريخ خطي للجسد البشري ليس فقط بوصفه معطى بيولوجياً وإنما من حيث إنه نسق ثقافي يطابق التاريخ الخطي الذي تتحدد ملامحه من خلال قانون التطور الموروث عن التقليد الدارويني في مجال البيولوجيا والتقليد الهيغيلي على مُستوى فلسفة التاريخ.

فالصورة الإعلامية عن المرأة، أصبحت ثابثة على نحو نمطي في صيغة مُرمّزة يحملها جسد باربي، وهي ظاهرة وصفتها مارغريت غلاهر (Margeret Glagher)، «بإمبريالية أحمر الشفاه» (l’impérialisme de rouge-à- lèvres)، وذلك في خطاب لها أمام الأمم المتحدة سنة 1995، وهي تسمية تريد بها لفت انتباه الرأي العام الدولي إلى طبيعة نظام عالمي، يعمل كل ما بوسعه من أجل فرض نمط من الاستهلاك النسائي لمنتوجات كوسميتيكية تسعى إلى تحويل الجسد وإحداث تحولات قسرية عليه بشكل يلائم القيم الجمالية الغربية ثقافياً كما أيديولوجياً، بحيث تغدو المرأة جسداً قبل كل شيء (Leservot, 2007: 24).

ويزداد تكريس هذه الوضعية بحسب (Maisonneuve)، من خلال المجلّات ذات الصيت العالمي مثل: Vogue, Elle, Marie-Claire ‏[5]؛ والتي تروم بلورة نمط غربي واضح لمفهوم الجمال أو الجسد، على نحو كُلّياني يتمّ تسويقه في كل أرجاء المعمور (Leservot, 2007: 24).

على هذا الأساس سيكون طبيعياً أن تتفجر ردّات فعل عنيفة ضدّها على الخلفيات الثقافية التي التصقت بجسد باربي، ذلك أن العديد من القيم وأساليب الحياة وطرق العيش، والعادات والسلوكات التي أقدمت عليها العروسة الساحرة – أعني باربي – كانت مثار امتعاض واستهجان، ليس فقط خارج المجتمعات الغربية فحسب، بل داخل أوروبا وأمريكا تعرّضت شركة (Mattel) الخاصة بإنتاج وتسويق ألعاب الأطفال، إلى انتقادات لاذعة احتجاجاً على إفراطها في تجاوز القيم الأخلاقية من حيث طريقة تصميم عرائسها، ومن ثمة وُصفت باربي بالعديد من الأوصاف التي تجعل منها فتاة ساذجة وسطحية تفتقر إلى المروءة واللباقة‏[6]، وفي ذلك إشارة إلى كون الجسد المُسوّق، لم يعُد يُراعي الخصوصيات الثقافية، وبالتالي ضربه السّافر مبدأ الحق في الاختلاف.

خاتمة

لقد بدا واضحاً أن الجسد يحتل منزلة حاسمة في تشكيل الملامح الثقافية للمجتمعات البشرية منذ الأزمنة البائدة، وعليه فقد بات موضوعاً للدرس والتحليل والتنقيب من قبل علوم عديدة ومختلفة. وإذا كان الجسد يمثل نصاً إيبيستيمولوجياً يُسعفنا في قراءة وتفكيك وتركيب الوقائع السوسيوثقافية المصاحبة للتحولات والتقلبات التي تعرفها المجتمعات، فهذا من شأنه أن يمدّنا أيضاً بمادّة معرفية، نستطيع من خلالها رصد مظاهر عديدة من أوجه التبادل والتثاقف، ومستويات التأثير والتأثر بين الجماعات البشرية، في ما يتعلق بثقافة الأجساد وطبيعة التمثلات القائمة حولها، وأساليب تدبيرها وتطقيسها.

لا أحد إذاً يستطيع تجاهل تلك التبادلات على مستويات عديدة مثل: الأنماط الغذائية، الأزياء، الزينة والتجميل، أساليب الموضة، طرق التطبيب، الحلاقة، الوشم، القيم الجمالية، الرقص، الطقوس والرياضة…، إلا أن سيرورة المثاقفة في ما يتعلّق بثقافة الجسد ظلّت محكومة بسياقات تاريخية وفكرية وسياسية، تارة تنزع نحو الحوار والتعايش والإنصات المشترك، وتارة أخرى تجنح نحو التنافس والتغالب الذي يُفضي إلى الاختراق والاحتواء، ومن ثمة يتحول الجسد إلى شكل من أشكال الخطاب، يحمل عنفاً هادئاً ويعمل على تصريفه وفقاً لآلياته الخاصة، فتكون النتيجة المحتملة، هي فسح المجال لتنازع الهويات وتعارك الانتماءات، بحيث تتسع رقعة الصراعات الثقافية لتشمل واجهات متعددة لا يتردد الكثيرون في وصفها بالحروب، كحرب اللغات وحرب القيم وحرب الأفكار والأيديولوجيات وغيرها من الصدامات، التي لا تخدم المصير المشترك للإنسانية، بقدر ما تُزعزع الثقة بين المجتمعات وتُلقي بها في متاهات التشظي والاغتراب بعضها عن بعض.

 

إقرؤوا أيضاً  اللغة الصامتة: الجسد الاصطناعي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجسد #سوسيولوجيا_الجسد #دراسات