رغم أن ابن الثمانين كتب سبعة عشر كتاباً في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية، وعدداً ضخماً من الأبحاث والدراسات، فإنه ما يزال ينقِّب ويبحث ويكتب، وهو ما أثار ويثير اللغط والرفض والنقد، ووضعه في أحيان كثيرة في قفص اتهام المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية على حدّ سواء.

وقد كانت الحجج الموجهة إليه أنه يتلاعب بمسارح الأحداث الدينية الأساسية، خاصة حينما يؤكد أن مسرح الأحداث التوراتية هو جزء من شبه الجزيرة العربية، بالإضافة إلى أنه يعتبر أن هناك أكثر من يسوع واحد. وبهذا المعنى، فإن كمال الصليبي المؤرخ خرج على التسليم بالتأريخ التقليدي للديانتين اليهودية والمسيحية، منطلقاً من قراءة واقعية للأماكن الجغرافية، حيث ظهرت الديانتان المذكورتان، بالإضافة إلى الاستعانة بعلم الفلك والتحليل اللغوي، والعودة إلى المصادر التاريخية الموثوقة كعناصر تخدم فرضياته أو نظرياته.

لقد تعرّض الصليبي لاتهامات سياسية وضعته في دائرة الخطر، إلا أنه بقي متمسكاً بنظرياته أو وجهات نظره.

وعلى مستوى آخر، ينقد الصليبي الانقسام الفلسطيني الحاصل والحركات السلفية بشدة، في حين إنه يعتقد أن الاحتلال الأمريكي للعراق غير شرعي، وبالتالي فإن مقاومته طبيعية وشرعية وواجبة.

يراجع الصليبي في حوار مجلة المستقبل العربي معه تاريخ لبنان، ويقدم قراءة له مختلفة عن جميع القراءات التاريخية التقليدية التي كتبها المؤرخون اللبنانيون عن بلدهم، كما يراجع نقدياً الحركات السلفية والقومية التي جانبت الاتجاه الديمقراطي وحقوق الإنسان العربي، وذهبت بعيداً باتجاه القمع والترهيب.

وهنا نص الحوار:

 أمام القارئ العربي مجموعة من الكتب التاريخية التي وضعتها على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن. وفي المحصلة النهائية، كانت هذه الكتب مفارقات أو انقلابات في الكتابة التاريخية العربية. أية أهداف علمية أو غير علمية حاولت إيصالها؟

الصليبي : ليس لديّ رسالة إنسانية أعطيها للبنانيين والعرب. لا أفكر بهذه الطريقة. فقط حاولت كتابة التاريخ انطلاقاً من الوقائع والأحداث الموجودة. وأعتقد أن هذا الأمر كان منهجي الأساسي وهدفي الخالص.

 

 في ضوء ما ذكرت، كيف تقيّم الكتابة التاريخية العربية؟

الصليبي : لا أستسيغ سؤالك، ولا أحب التقييم النقدي انطلاقاً من القول لا تدينوا كي لا تدانوا. وكل ما أستطيع قوله في هذا السياق إن على المؤرخ أن يكون عالماً وصادقاً وبعيداً عن أية شبهة أو التباس مقصود. يجب على كل مؤرخ أن يحاسب نفسه على كل معلومة أو فكرة قبل كتابة التاريخ. وهذا في منتهى الصعوبة. ولكي يتمكن الإنسان من ذلك، يجب أن يتعلم ويتدرب على استخدام اللغات التي يكتب فيها مادته التاريخية. فلا فصل بين التفكير وإتقان اللغة وطريقة الكتابة. وفي ما عدا ذلك، للمؤرخ الحرية التامة في الكتابة وعدم مسايرة أية معطيات أو مواقف جاهزة. وإذا قلت لي إن هذا الأمر يؤذي، أقول لك إن الكتابة التاريخية العلمية الدقيقة تتجاوز ما عداها بصورة كلية.

 

 هل سبق أن تعرّضت بسبب نهجك هذا لأخطار معينة؟

الصليبي : لم أخف من أحد، لكنني تعرّضت لبعض التهديدات من قبل بعض التنظيمات الأرمنية بسبب تدريسي لمادة التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان ذلك خلال الحرب اللبنانية.

 

 هناك قضايا كبرى تشغل وتعصف بالإنسان العربي. فهل يمكن لكمال الصليبي أن يبدي رأيه في ما يجري؟

الصليبي : لا أحب الكلام في السياسة.

 

 وهل يجوز لمؤرخ أن لا يبدي رأيه في القضايا التي تؤثر وتفعل في حياته يومياً؟

الصليبي : الموقف العربي نفاق بنفاق، وفي ظل هذا الواقع لا أحب الحديث في القضايا السياسية.

 

 من المعروف أن كمال الصليبي دعم الحركة الوطنية الفلسطينية، وهو الآن لا يريد الكلام في ما يتعلق بها. فهل هذا يجوز؟

الصليبي : باختصار شديد، إسرائيل والحركة الصهيونية وصلتا إلى القمة، والآن بدأتا بالتراجع البطيء. وهذا ليس بسبب بطولة العرب، بل لأن مشروع إسرائيل أساساً لا معنى له حضارياً وإنسانياً وأخلاقياً. ولو أن الفلسطينيين جادّون في قراءة أوضاعهم لعرفوا عمق وضعهم المأساوي بحق، ولكانوا بكوا بكاء عميقاً، لأن الجزء الأكبر من بكائهم اليوم موضّب وجاهز (Stereotype) .

 

 كيف يقرأ كمال الصليبي الاحتلال الأمريكي للعراق والانهيار الذي حصل بعد ذلك؟

الصليبي : أخذت الولايات المتحدة وبريطانيا على عاتقهما «تحرير» العراق بغضّ النظر عمّا يقرّه القانون الدولي. وقد حصل هذا الأمر ضد إرادة المجتمع الدولي الذي عبّر عن نفسه بوضوح تام. وما نراه في العراق اليوم هو نتيجة طبيعية لـ «التحرير الأمريكي». لا أعرف تماماً إلى أين سيصل العراق، إذ إن ما يحكمه هو اللامنطق. الأمريكيون دمّروا العراق وخرّبوه، وتحالفوا مع الأقليات. الطريقة الأمريكية في معالجة الأمور، خصوصاً الوضع العراقي، طريقة غير عقلانية. وأتساءل: لماذا هذه الدولة الكبرى جنّت هذا الجنون؟ ولا أعلم إن كان ما قامت به الولايات المتحدة له علاقة بالاستراتيجية الأمريكية. إنه شيء مفارق للعقل والمنطق، فأمريكا دمّرت شيئاً كان قائماً، ولم تتمكن من إحلال بديل أفضل. وأودّ القول إن من مصلحة الدول الكبرى جعل الدول الصغرى تحبها. فرنسا كانت حسنة مع اللبنانيين، وهي وقفت إلى جانب لبنان دائماً. ولقد تركت فرنسا في لبنان نظاماً سياسياً استقر لمدة طويلة، فماذا تركت أمريكا في العراق؟ أية استراتيجية تجعل الناس تكرهك وترفضك هي استراتيجية خاطئة ومجنونة. أية استراتيجية تولّد خراباً هي خاطئة أيضاً. في باكستان أخطأ الأمريكيون، وكذلك في أفغانستان ارتكبوا جرائم موصوفة، وفي فلسطين يسكتون عن الإرهاب الإسرائيلي ويشاركون فيه.

 

 إبان الحرب اللبنانية أو في نهاياتها أصدرت كتاب «بيت بمنازل كثيرة» عن لبنان، فهل يمكنك الآن وكمؤرخ أن تعطي رأيك في هذه الحرب وخلاصاتها؟

الصليبي : كنت في عمّان، ولم يكن لديّ أي مرجع. كان لديّ كومبيوتر فقط. ولذلك جاء بيت بمنازل كثيرة من أفضل الكتب التي وضعتها عن لبنان. وقد تبيّن لي أن كل اللبنانيين أخطأوا في تصوّر أنفسهم وأدوارهم. وقضية لبنان بدأت منذ بداية الحرب العالمية الأولى. أدخل الإنكليز الأمير فيصل إلى الشام، ومن ثم وضع الفرنسيون الترتيبات التي قام لبنان الكبير على أساسها. وكان لبنان الكبير مشروع البطريرك الياس الحويك والمطران عبد الله الخوري. وما حصل بعد ذلك أن الموارنة تركوا الجبل ونزلوا إلى بيروت، وبدأوا يتصرّفون كأن البلد لهم. وهذا شكلّ استياء ورفضاً من قبل الآخرين. ورغم محاسن الملك فيصل حدثت معركة ميسلون، ووقعت سورية ولبنان تحت الانتداب.

 

 قدمت خلاصة مكثفة لفترة معقدة، فإلى أين تريد أن تصل؟

الصليبي : تصرّف المسيحيين (الموارنة …) عموماً بعد إقامة دولة لبنان الكبير كان غير صحيح، إذ لم يكن هناك احترام لمشاعر اللبنانيين. ولهذا نما مع الوقت غضب كان مستتراً أحياناً، وبارزاً في أحيان أخرى، ضد المسيحيين عموماً. ولقد حاول الانتداب الفرنسي احتواء المشكلة وتقريب وجهات النظر وإشراك جميع الطوائف من المسيحيين والمسلمين في تدبير أمور لبنان. وهكذا تركت فرنسا بلداً مسلموه ومسيحيوه شبه متفقين. وقد حافظ لبنان على دستوره، في حين إن دول الجوار العربي غيّرت دساتيرها. الدستور اللبناني شبه ثابت. وأعجوبة لبنان استمراره.

لقد تعرّض لبنان لأحداث مهمة وكبيرة تركت تأثيرها فيه، كقيام الوحدة السورية ـ المصرية، واندلاع الحرب الأهلية عام 1958، وقد لعب عبد الناصر دوراً عظيماً في إعادة الاستقرار والتوازن إلى الوضع الداخلي اللبناني، ومع اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 بين الموارنة والفلسطينيين اتخذت الأمور مساراً انتهى بهزيمة الموقف الماروني السياسي، إلا أن المسلمين تلقفوا الموارنة وتم توقيع الطائف.

لبنان، باختصار، فكرة قائمة على التعايش بين مجموعات تذابحت، بين أناس مختلفين. الفرنسيون قدموا صيغة (Formule) ، واللبنانيون أساؤوا استعمالها. وإني أضع اللوم كله على الداخل، وليس على الخارج. الداخل هو الذي يمنع، وهو الذي يسمح. وأنا لا أحب استعمال كلمة «لبنان»، بل أحب استعمال كلمة «بلدنا». وأعني بذلك أنه فكرة وأسلوب عيش وتعايش. كذلك لا أعتقد بوجود شيء اسمه دم لبناني. وشعوري العميق أنه بلد مفتوح للجميع، وأنا مع تجنيس الفلسطينيين. والموقف ضد التوطين كلام فارغ. وللفلسطيني حقوق مدنية وسياسية يجب أن يأخذها. وإذا اعتبر البعض موقفي غير وطني، فأنا غير وطني. المهاجرون اللبنانيون لا يعرفون بلدهم ويحق لهم التصويت، أما الذين يعيشون معنا منذ نصف قرن فلا نعطيهم شيئاً. وهذا وضع عجيب ومستغرب.

 

ما تقوله يمسّ بالقضايا وببعض المصالح، بالإضافة إلى أنه جزء من أزمة الهوية.

الصليبي : إنها أزمة جشع وقلة حياء وزعرنة.

 

 وهل تفسر التاريخ على أن فلاناً قليل الحياء وجشع و«أزعر»؟

الصليبي : الزعران حركوا التاريخ، أو بعضه. فهناك أناس جمعوا الثروة، وأنشأوا دولاً وأنظمة تسمّى جمهوريات أو سلطنات أو ما شابه. والمثل على ذلك الفايكنغ (Vikings) ، والدانوا (Danois) ، والنورفاجوا (Norvegeois) . هذه قبائل ـ قراصنة ـ سكنت شمال أوروبا وصار أفرادها ملاحي أنهار، وصعدوا من أعلى نهر درينا (البلطيق) حتى وصلوا إلى روسيا (نسبة إلى جماعة الروس)، وهناك فصيلة النورمان التي احتلت مناطق النورماندي، التي صار اسمها مع الوقت (Les Ducs) . وأحد هؤلاء النورمان مع مجموعة تابعة له احتلوا إنكلترا. وملكة إنكلترا هي إحدى حفيدات هؤلاء واسمه (Guillaume Le Conquerant) ، وهذا حصل عام 1066م.

 

 أين البرلمانات والديمقراطيات والتطور الحضاري في سياق كلامك؟

الصليبي : إنه شيء آخر جاء في ما بعد.

 

 هل تعتقد أن تاريخ لبنان يشبه تاريخ من ذكرتهم؟

الصليبي : لا أعتقد ذلك. عندنا حدثت الحرب، لكن التعقّل عاد. ومشروع الدولة هو الذي سيتغلب. والذين أقاموا لبنان ليسوا الزعران، بل إنهم الفرنسيون وعقلاء لبنان.

 

 هل هناك مخطط وضع لقيام لبنان؟

الصليبي : مخطط قيام لبنان ليس بريئاً. كان مسيحياً فقط. ووضعته مجموعة من المسيحيين، خصوصاً من بعض أعضاء الطوائف الكاثوليكية من دمشق. هؤلاء وضعوا المخطط، وكان بينهم رجال أعمال وأدباء، أمثال بولس نجيم الذي وضع كتاب: المسألة اللبنانية ( La Question du Liban ) ، وهو الذي استعمل كلمة «لبنان الكبير» (Grand Liban) ، وقد استقيت معظم هذه المعلومات من المؤرخ الراحل مروان بحيري.

ولقد وجدت في بحثي أن أغنياء كاثوليك من المنطقة تضامنوا لإنشاء لبنان، وهذا حصل قبل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهؤلاء هم من وضع عدة مشاريع لكشف الطرق بين بيروت وسورية بهدف توسيع دائرة أعمالهم التجارية. كان لبنان بالنسبة إليهم جزءاً من مسألة تجارية. وما حصل في ما بعد هو أن الفرنسيين حينما جاؤوا إلى المنطقة وجدوا المشروع فتبنّوه. وتاريخ لبنان في هذا السياق «فضيحة» أو «جرصة». وكل كلام آخر عن نشوء لبنان هو مجرد مبالغات وأوهام.

 

 إذا قرأ أي مواطن أو مهتم كلامك، فسيعتقد أنك تمجّد الاستعمار.

الصليبي : هل الاستعمار ما يزال موجوداً. فرنسا أثناء انتدابها على لبنان عملت شيئاً، هل ننكره عليها؟

 

 هل تؤيد عودة الاستعمار؟

الصليبي : لا. هذه المرحلة انتهت. والحرب الأهلية التي حصلت عندنا كانت خطيرة جداً ومعيبة، خصوصاً أن غيرنا لجأ إلى الانقلابات العسكرية واستخدام القوة للحفاظ على الاستقرار والنظام.

 

 ما رأيك بالكتابة الأيديولوجية للتاريخ؟

الصليبي : الأيديولوجيا قتلت العقل العربي. وهي ظاهرة موجودة في معظم بلدان العالم. الأيديولوجيا عيب. كل فكر ملتزم ليس فكراً. وليس هناك تاريخ موحّد، وعندما يتوحّد التاريخ يفقد هويته العلمية كتاريخ.

 

 هل تعتقد أن الأيديولوجيا القومية والاشتراكية التي عمّت المنطقة العربية منذ الخمسينيات قدمّت إيجابيات، وما هي هذه الإيجابيات؟

الصليبي : لا إيجابيات. فهي قدمت مواقف صلبة أدت إلى إيقاف حرية الفكر والتفكير ولجمها. المهم أن تكون تجربة العيش مفيدة، وسليمة وصحيحة. وليس من الضروري أن يكون وراءها التاريخ الذي يبرّرها أو ماركس وهيدغر وأنغلز…

 

 ما تقوله يقع في إطار التجربة والخطأ. فما الدليل إلى تخفيف الأخطاء وتجاوز المشكلات؟

الصليبي : أن نكون مرتاحين مادياً ومعنوياً. إني أفضل الراحة على الحرب، والاستقرار على العنف..

 

 هل أنت ضد المقاومة؟

الصليبي : لست مع المقاومة حين لا يكون لها معنى أو أسباب مطلوبة وملحّة.

 

 وهل المقاومات في لبنان والعراق وفلسطين لها أسبابها ومقوّماتها؟

الصليبي : الاحتلال الأمريكي للعراق غير شرعي، وبالتالي فإن مقاومته شرعية إذا لم تقع في الأخطاء.

 

 ومقاومة حزب الله في لبنان؟

الصليبي : لا أؤيد وجودها. لبنان يتأذّى من وجودها. دائماً تأتي إسرائيل بسببها، فتدمر بنية لبنان التحتية. وأسأل ماذا تفعل المقاومة في لبنان غير تعريضنا للخطر الدائم؟

 

 قامت إسرائيل سنة 1978 باحتلال جزء كبير من جنوب لبنان، وكان هذا قبل ظهور أو ولادة حزب الله. أما النقطة الأخرى، فهي أن حزب الله أجبر إسرائيل على الانسحاب سنة 2000، رغم أن القرار الرقم 425 صدر قبل ذلك بكثير.

الصليبي : أنا ضد استخدام لبنان لأغراض لا تمتّ إليه بصلة، ولا تخدم أصحابها. ولو حررت المقاومة الفلسطينية جزءاً من فلسطين لوجب أن نؤدي التحية لها ونؤيدها، لكن النتيجة هي أن إسرائيل جاءت ودمرت مطار بيروت وعدداً من الطائرات اللبنانية، ولم تحقق المقاومة الفلسطينية شيئاً بالنسبة إلى تحرير فلسطين. ثم حدث اجتياحا 1978 و1982 وغيرهما، ولم تتحقق أية نتيجة. وعندما وصلنا إلى هذه النتيجة عاد حزب الله ليقول إن هناك أشياء كثيرة لم تتحقق، وفتح باب المقاومة المستمرة على مصراعيه، وهي مقاومة تشكل خطراً على الإنسان اللبناني ومصالح لبنان كافة.

 

 وقضية الأراضي اللبنانية المحتلة؟

الصليبي : لا جواب.

 

 الأوضاع التي نعيشها في الوطن العربي تطبعها سمات التخلف والماضوية والاستهلاكية السطحية القاتلة. فما السبيل للخروج من هذه الحالة؟

الصليبي : الكلام الحر. الصحافة الحرة. الأفكار البنّاءة وانتشارها وتعميمها بالطرق الديمقراطية، قوى المجتمع المدني النظيفة. الخروج من النفاق والكذب والتكاذب. الخروج من الطائفية والمذهبية وعليها. وأنا ألغيت خانة مذهبي من إخراج قيدي.

وأضيف، هنا، أن العلة الكبرى الموجودة الآن أن الفاشي الذي يترك السلطة يسلِّم فاشياً آخر. الدكتاتورية ليست مدخل التحرر بالتأكيد، والناس الطيبون كالفلاحين والفقراء والعمال هم الذين قاوموا ويقاومون، وليس الحركات السلفية التي تقتل من المسلمين والعرب أكثر مما تقتل من الصهاينة.

 

 ألا تعتقد أن إسرائيل والغرب يتحملان هذه المسؤولية؟

الصليبي : إسرائيل انكشف أمرها. دكان عنصري سيغلق عاجلاً أم آجلاً، شرط أن لا نقدم لها الخدمات. إسرائيل لا تريد قيام دولة فلسطينية، وكذلك حماس. القومية المنافقة لا تريد دولة فلسطينية أيضاً.

 

كيف يقيّم كمال الصليبي دور الحركات المتشددة التي يسمّونها سلفية؟

الصليبي : أنا مع تماسك المجتمع. فقد أضعنا أسلوب حياتنا لصالح شيء لم نحصل عليه، ولصالح قيم حديثة ومعاصرة لم نفهمها ونهضمها ونستوعبها. وبقي لدينا شيء وحيد هو أن نبقى متماسكين. وهذا أمر صعب جداً، خاصة بوجود هذه الأنظمة العربية والسلالات الدكتاتورية. أما بالنسبة إلى الحركات السلفية المتشددة، فهل هي حركات سلفية تريد الحفاظ على القيم التقليدية أم هي حركات ذئب يلبس جلد الحمل؟

في ستينيات القرن العشرين أصدرتَ كتابك «تاريخ لبنان الحديث»، الذي لم تخرج فيه عن الرؤية التقليدية التي سار عليها عدد من المؤرخين اللبنانيين، الذين ميزوا الكيان اللبناني وبالغوا في تمجيده. وفي العام 1979، نشرت كتابك «منطلق تاريخ لبنان»، الذي لاحظنا فيه تغييراً في هذه الرؤية من حيث إبراز العاملين العربي والإسلامي خصوصاً في تاريخ لبنان.

 

هل هذا التقييم دقيق؟ وهل كان من تغيير على صعيد الرؤية في كتابك «منطلق تاريخ لبنان»؟

الصليبي : تاريخ لبنان الحديث يؤرخ للبنان ابتداء بالفتح العربي وانتهاء بالفتح العثماني. وليس في هذا الكتاب أي جديد من حيث المضمون. لكن حينما قررت الحكومة التركية فتح ما سُمي الأرشيف العثماني، صار بمقدور المؤرخ وطلاب المعرفة أن يكونوا على اطلاع أوسع وأعمق بتاريخ لبنان. ولهذا شجعت الزميل المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين على دراسة التركية، والتخصص بالتركية العثمانية، وإعادة كتابة تاريخ بلاد الشام، مستعملاً المصادر والمحفوظات العثمانية، بالإضافة إلى المصادر الغربية. ولما قام بعمله، برهن أن هناك أشياء كتبتها، وكان حدسي فيها صائباً، وأن هناك أشياء لم أكن صائباً فيها.

وهناك أشياء كثيرة استنتجها المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين وتبنيتها، منها أن ليس هناك ما يُسمّى فخر الدين الأول، وأن فخر الدين الذي سمّاه بعض المؤرخين اللبنانيين فخر الدين الثاني لم يطلق على نفسه هذا الاسم، وأن تسمية فخر الدين الثاني ليست سوى أسطورة صغيرة. وما كتبه عبد الرحيم أبو حسين أكد بعض ما كتبته أنا بالدليل الثابت، كما أنه أبطل بعض ما كتبته. الأرشيف العثماني فتح أبواباً مهمة لإعادة كتابة تاريخ بلاد الشام عموماً.

 

 في هذا الصدد يمكن استنتاج أنك ضد كتابة تاريخ موحَّد للبنان؟

الصليبي : الكتاب الموحَّد جريمة، لأنك تفرض رأياً معيّناً على جميع الناس. لكن ليس من الخطأ أن تضع كتاب حقائق تاريخية يمكن استعماله في المدارس. ولهذا الكتاب أن يعلّم التلميذ كيف يكون مؤرخاً لا كيف يكون مع هذا الفريق أو الطائفة أو الحزب … وأنت حين تقول للتلميذ أو الطالب أن عمر لبنان ستة آلاف سنة، فأنت تكذب عليه وعلى الناس، لأن لبنان ليس عمره كذلك. وما ينطبق على لبنان في هذا الصدد ينطبق على البلدان العربية الأخرى. أما إذا كانت هناك فئة من المؤرخين تريد جعل جزء من اللبنانيين فينيقيين والجزء الآخر قريشيين، فهذا شيء مستغرب ويجافي العلم. وأضيف في هذا السياق أن لا كتابة لتاريخ لبنان إلا بعد تدريب العدد الكافي والراقي جداً من المؤرخين المختصين. ولبنان، كغيره من البلدان العربية، ليس فيه قدرات ومهارات وكفاءات لكتابة تاريخ البلدان العربية، أو لإصدار مجلة مختصة بالتاريخ ومتمتعة بالمواصفات العلمية والأكاديمية.

 

 نحا معظم المؤرخين العرب في القرن العشرين إلى كتابة تاريخ الشعوب العربية السياسي والعسكري، وأهملوا كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والأنثروبولوجي، وهذا ما جعل المكتبة العربية التاريخية فقيرة وناقصة. كيف تقيّم الإشكالية هذه، وما هي الوسائل والحلول؟

الصليبي : التاريخ يشمل كل شيء. كل ما يتعلق بالإنسان والأرض من اقتصاد وفنون ومجتمع وثقافة وإنجازات … لكن واقع الكتابة التاريخية العربية اليوم لا يلامس، إلى حد بعيد، هذه الوجهة. إننا بحاجة إلى تعليم الطلاب والتلامذة القيمة المادية للأشياء، وأعني هنا الزراعة ووسائل الإنتاج والمواد الخام كاليورانيوم والبترول والكاوتشوك والبن والقمح والحبوب وغيرها.

هذا كله غير موجود في برامج التدريس الجامعية وغير الجامعية، وأدعو إلى ضرورة وجود صفوف دراسية حرة لتعويض النقص الحاصل. وعلى الحكومات والنخب أن تعيد النظر في البرامج وتعيد ترتيبها وتقييمها في ضوء الحاجة إلى تاريخ اجتماعي واقتصادي وإنساني، لأن هذا الأخير يمكنه أن يقدم صورة شبه كاملة للواقع في أبعاده كافة. وباختصار، إذا لم نبادر ونغيّر، فإننا سنظل نكتب التاريخ العسكري والسياسي دون ملامسة قضايا جوهرية أخرى. إلا أن المشكلة هي أننا لسنا شعوباً جدية وجادة. هناك أناس جديون، لكننا لسنا جديين كشعوب ودول، ولا نضع الأشياء في مواقعها. وهذا يعني أن لا حل لعدم التفكير إلا بالتفكير.

 

 أثارت كتبك حول الديانات التوحيدية لغطاً واعتراضات واتهامات عدة. فهل تتوقف عند بعض ردود الفعل الغربية والشرقية حول آرائك، خصوصاً قولك إن المسيح ليس واحداً، بل ثلاثة، وإن التوراة جرت أحداثها في جزء من شبه الجزيرة العربية، وليس في فلسطين؟

الصليبي : لم يكن هناك أية ردّة فعل من قبل الغرب، عدا واحدة وردت في جريدة التايمز اللندنية وكانت عادلة. إلا أنني تلقيت رسائل غاضبة من قراء عاديين وغير عاديين مشحونة بالنقد.

 

 كيف أجريت أبحاثك التي أوصلتك إلى القول إن التوراة جاءت من جزيرة العرب؟

الصليبي : تبيّن لي من خلال أبحاثي أن التوراة أنزل في غرب العربية السعودية، أي في الحجاز وعسير، حيث عاش الإسرائيليون القدامى، وذلك بحسب ما أرّخت لهم كتب التوراة.

 

 لماذا اعتبر قسم كبير من القراء أن كتابك: «التوراة جاءت من جزيرة العرب» كتاب خطير؟

الصليبي : لا أعرف لماذا اعتبر هذا الكتاب خطيراً. لكن البعض ظنّ أنني أدعو إسرائيل إلى السعودية. وهذه الفكرة جاءت من رأي رديء جداً نشر في مجلة نيوزويك . وقد تلقيت مذّاك انتقادات لاذعة وهجوماً من الذين أعتقد أنهم يعملون لصالح الإعلام السعودي، إلا أنني لم أُعر الأمر اهتماماً كبيراً.

 

 هل تؤكد الآن، وبعد مرور حوالى ربع قرن على صدور الكتاب، أن ما جاء فيه صحيح علمياً؟

الصليبي : صار عندي الآن إثبات كامل على صحة مقولة أن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية هو مسرح الأحداث التوراتية. لست فلكياً ولا أفهم شيئاً عن الفلك والرياضيات، لكن أحد قرائي الإنكليز، ويدعى أنطوني لابس ( Antony Laps )، وهو لغوي متخصص بأسماء الأماكن، نبّهني إلى أن أورشليم التوراتية لا يمكن أن تكون من الناحية الفلكية في القدس في فلسطين التي تقع على خط عرض يفوق 31 درجة شمالي خط الاستواء، وذلك للسبب الآتي:

يرد في سفر أشعياء من التوراة الأصحاح 38، الآية 8، وفي سفر الملوك الثاني الأصحاح 20، الآيات 8 ـ 12، قصة تفيد بشكل واضح بأن أشعياء كان يعلم أن ظل الدرجات على المزولة يعود أدراجه، وأن الملك حزقيال لم يعرف ذلك. ونظريتي الخاصة أن أشعياء، الذي يعتقد عدد من علماء التوراة أنه كان تدرّب على علم الفلك على أيدي الآشوريين، خدع الملك حزقيال لكي يعتقد أن ما يراه كان أعجوبة، والواقع أنه كان شيئاً عادياً يحدث في أورشليم عسير، وليس في أورشليم التي نشأت لاحقاً في فلسطين. وهذا كله يوضح أسبابَه دنيس سافوا (Denis Savoie) في كتابه: الساعات الشمسية: تركيبها، تخطيطها وبناؤها واستخدامها.

 

 هناك من يعتقد أنه تم تغيير بعض أسماء الأماكن في العربية السعودية بعد نشر كتابك.

الصليبي : لا أعلم ذلك، لأنني لم أذهب إلى هناك منذ ذلك الحين. وأضيف أنه، وفي الغرب صدر: الكتاب المقدس جاء من المملكة العربية السعودية . وقد تلقّاه الناس بشكل جيد. وقد أوصى طلابي بنشره، فنُشر. وأعتقد أن معظم الذين اطلعوا عليه اعتبروا الكتاب عملاً قيّماً وصالحاً للنشر. ولهذا تم نشره.

 

 هل كانت هناك ردّة فعل غربية ضد الكتاب؟

الصليبي : لقد اتُّهم الناشرون، ولا سيما الإنكليز والألمان بشكل خاص، بمعاداة السامية، وتم توبيهخم بسبب نشر الكتاب.

 

 هل نُشر الكتاب بالإنكليزية فقط؟

الصليبي : تُرجم الكتاب إلى تسع لغات، منها اليابانية والماليزية والفنلندية والإسبانية.

 

 علام ركّز الغربيون في نقدهم للكتاب؟

الصليبي : قالوا، عبر الصحافة، إنني جاهل، وبصفتي عربياً لا أستطيع فهم معنى اليهودية، وإنني لاسامي متعصَّب.

 

 كيف كانت ردود الفعل الغربية بعد صدور كتابك الثاني في الغرب {Secrets of the Bible People} أي «أسرار شعب الكتاب المقدس»؟

الصليبي : هذا الكتاب أزعجهم كثيراً لأنني قمت بتفسير بعض قصص الكتاب المقدس، وقدّمت تفسيراً وقراءة جديدين. التفسير الجغرافي أزعجهم أكثر من القراءة. وقد تلقيت مراجعات تهكمية كثيرة، إلا أنها اعترفت بوجود مقاربة جديدة جديرة بالاعتبار.

 

 هل تربط ذلك بسيطرة اليهود في العالم؟

الصليبي : لا أعتقد أن الأمر يتعلق باليهود فقط .. فقد كانوا مثقفين توراتيين، ولا يريدون رأياً آخر يخالف ثقافتهم.

 

 وماذا عن كتابك «من هو يسوع» ( Who was Jesus )؟

الصليبي : بيع بشكل رئيسي في إنكلترا، وتم إصدار طبعتين منه على الأقل، ولم أتلق أية انتقادات عليه، عدا واحدة في التايمز الإيرلندية، وكانت مرضية. وعندما صدر الكتاب باللغة العربية، أقبل الناس على شرائه وأظهروا اهتماماً كبيراً به. واللافت أن القراء المسلمين أظهروا اهتماماً أكبر من اهتمام المسيحيين. إلا أنه تعرّض للهجوم من قبل رجال الدين الكاثوليك، خاصة في لبنان والأردن وفلسطين. وعلى سبيل المثال، أرسل بطريرك القدس اللاتيني عتاباً شديداً إلى جريدة الدستور الأردنية لأنها قرظت الكتاب، وهناك كهنة أردنيون كان لهم الموقف نفسه، وقد قامت إحدى الصحف اللبنانية البارزة بتخصيص جزء من ملحقها لشتمي شتماً كاملاً، كما قام أحد الخوارنة بتحليل دمي، وأقدمت الكنائس الكاثوليكية على منع كتابي بالإنكليزية والعربية في بيروت.

 

 هل كانت هناك ردّات فعل في مصر؟

الصليبي : لا أعتقد أنه قد سُمح بدخول الكتاب إلى مصر. لقد حاولوا منع الكتاب في الأردن، لكنهم فشلوا.

 

 ألم تخف على حياتك؟

الصليبي : لا. فالتهديدات كانت عبر وسائل الإعلام والتلفزيون الكاثوليكي.

 

 كتابك عن يسوع صدر منذ خمسة عشر عاماً، فهل ما تزال الآن مقتنعاً ومتمسكاً بما جاء فيه، خصوصاً قولك بأن يسوع ليس واحداً بل ثلاثة أو أكثر؟

الصليبي : إنني مقتنع بذلك أكثر من أي وقت مضى. ومن الجديد الذي زادني تمسكاً برأيي، وهو ليس موجوداً في الكتاب، ما يفيده وهب ابن منبِّه (جد ابن هشام صاحب السيرة النبوية )، وهو من أصل يهودي يمني في كتابه: التيجان في ملوك حمير عن تفاصيل معيّنة تتعلق بسيرة عيسى بن مريم، وكذلك ما يفيده الطبري ومصادر قديمة أخرى عن أن قبر عيسى بن مريم كان موجوداً حتى القرنين الأولين من ظهور الإسلام على رأس جبل جمناء جنوب المدينة المنوّرة. أما الكتابة على شواهد هذا القبر، فكانت بالفارسية، ما يعني أن وفاته كانت في عصر الفرس الذي انتهى مع فتوحات الإسكندر قبل ذلك التاريخ بثلاثة قرون.

 

 يوحي كلامك بأن هناك أكثر من عيسى!

الصليبي : نعم. هذا صحيح. هناك ثلاثة يُكنّون بـ«المسيح»: عيسى بن مريم، ويسوع من آل داود المطالب بعرش داود، وهو ولد في وادي جليل في منطقة الطائف، وصلب حتى الموت في القدس، والثالث هو إله العيس (في الحجاز)، وكان إلهاً للخصوبة. أما كلمة «العيس» فتعني ماء الفحل.

 

 هل كان عيسى بن مريم يهودياً؟

الصليبي : لا لم يكن يهودياً، لأن اليهودية ظهرت في تلك الحقبة، بل كان إسرائيلياً، وليس يهودياً. وهناك اختلاف وفرق بين الاثنين. الإسرائيليون شعب، أما اليهود فكانوا ينتمون إلى ديانة.

 

 وماذا عن يشوع؟

الصليبي : يشوع ليس عيسى. وكذلك، فإن يشوع غير موسى، وقد خلفه (أي موسى) في قيادة بني إسرائيل. أما اسم «يشوع»، فأرامي يصبح بالعربية «يسوع» بقلب الشين إلى سين.

 

 ذكرت في كتابك أن يشوع أمير عبري.

الصليبي : إنه أمير إسرائيلي من سلالة داود، وبالمصادفة قال الطبري إن القرآن يقول إن عيسى بن مريم لم يصلب، بل شبَّه لهم. وجاء الطبري ليقول إن الشخص الذي شبّه لهم أنه عيسى بن مريم كان اسمه «يشوع». كانت هناك أشياء لم أعرفها واطلعت عليها عندما قمت بتأليف كتابي عن يسوع.

 

 ماذا كانت تدعى والدة المسيح؟

الصليبي : لا أعتقد أن والدة يسوع كانت تدعى مريم. خالته كانت تدعى مريم.

 

 وهل هذا موجود في الكتاب المقدس؟

الصليبي : في العهد الجديد، في كل مكان يقولون إن اسم والدته هو ماري، باستثناء إنجيل يوحنا الذي لا يأتي إلى ذكر اسمها، لكن حين كانت قرب الصليب يقول يوحنا: قرب الصليب وقفت والدته وخالته ماري. فإذا كان اسم خالته ماري، لا يمكن أن يكون اسم والدته ماري. وفي ما تبقى من النص يقول والدته فحسب دون أن يذكر اسم ماري.

 

 هناك أربعة أناجيل تتحدث عن يسوع كأنه الرب.

الصليبي : الأناجيل لا تتحدث عنه بصفة الرب، بل تتكلم عليه بصفته ابن الله، كما تتكلم على كل إنسان بصفته ابن الله. ابن الله تعني ملوك اليهود. فقد كان الملك عند اليهود يدعى ابن الله، وكان يدعى المسيح.

 

 وماذا عن القديس بولس؟

الصليبي : في الواقع كان بولس معاصراً ليسوع. ويبدو أنه لم يلتقه شخصياً، وهو لم يذكر أنه التقاه شخصياً، لكنه رآه في رؤية بعد موته.

 

 هناك إشارات في كتابك تقول إن بولس ذهب إلى شبه الجزيرة (السعودية الآن).

الصليبي : بولس قال إنه ذهب إلى بلاد العرب، وقد يكون ذهب إلى أي مكان بين دمشق وعدن، لأن هذه المنطقة كانت تُعرف بهذا الاسم. وقد كان في دمشق، أي في بلاد العرب، وبالتالي فإن بلاد العرب بالنسبة إليه كانت تعني أبعد كثيراً. وقد ذكر أنه عانى كثيراً خطر العصابات والصحراء … والرياح. وفي هذه الحال، لا بد من أنه قطع مسافة كبيرة.

 

 تقول عن القديس بولس إنه أصل «نظرية» المسيح.

الصليبي : نعم، فبولس هو من قدّم النظرية القائلة إن يسوع هو الرب.

 

 إذاً، كيف تفسّر وجود أربعة أناجيل تتحدث عنه كأنه الرب؟

الصليبي : الأناجيل لا تتحدث عنه بصفته الرب.

 

 هل تلقي الضوء على مسألة تأسيس الكنيسة؟

الصليبي : المسيح لم يؤسس كنيسة. الرسل الذين جاؤوا بعده هم من أسسوا الكنيسة. وإذا أخذت ما قاله متّى عمّا كان المسيح يقوله لبطرس: أنت الصخرة التي ستبنى عليها كنيستي.. فهذا يعني أنه لم يؤسس كنيسته في حياته.

 

 لقد قدمت في كتابين لك هما: «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، و«من هو يسوع؟» قراءة انقلابية للديانتين اليهودية والمسيحية. وقد لاحظ كثير من المؤرخين والباحثين أنك لم تقم بهذه القراءة بالنسبة إلى الإسلام. هل تجيب عن هذه النقطة بوضوح؟

الصليبي : لا أعتقد أن المسلمين يحبّذون أن يقوم شخص غير مسلم بالعبث بكتابهم المقدس. أعتقد أن اللياقة والحذر مطلوبان في هذا السياق.

 

هل تخاف الكتابة عن تاريخ الإسلام؟

الصليبي : نعم، أعتقد أنني خائف.

 

 هل تؤمن بالعروبة، هل تعتقد بأنك عربي الهوية والانتماء؟

الصليبي : نعم، أنا عربي.

 

 تقول إنك عربي، لكنك لا تتحدث عن العروبة.

الصليبي : ألا ترى معي أن القومية العربية عبِّر عنها بكثير من اللاواقعية؟

 

 سؤالي يتركز حول مشروع حضاري عربي جديد يقوم على قواعد ومبادئ واقعية، وعلى قاعدة الديمقراطية.

الصليبي : إذا جاء يوم أصبحت فيه مجموعة من الدول العربية ديمقراطية بحق، وتأخذ بجدية وعمق بما تنصّ عليه الحياة والقواعد المدنية، ولا تفكّر تفكيراً دينياً قبلياً .. فهذا جيد إن حصل، ويفتح آفاقاً جديدة، ويجعل العروبة أقرب إلى الإنسان العربي وواقعه.

 

 وهل تؤيد الوحدة بين الدول العربية؟

الصليبي : يستطيع العرب أن يتعبدّوا بقدر ما يريدون، لكن الديمقراطية هي طريق ودليل. وهذه الأخيرة تفتح الباب إلى الوحدة أو التعاون أو ما شابه. لكن أن تكون هناك شعوب أو دول يكره بعضها البعض الآخر، وتتنافس تنافساً سلبياً، فأمر سيىء. إن اتحاد أنظمة غير ديمقراطية سيكون مفتعلاً وسيئاً.

 

 هناك قسم كبير من المؤرخين العرب وغير العرب يتحدثون ويأخذون بفلسفة التاريخ، فأين أنت من هذا؟

الصليبي: لا أتعاطى القضايا الفلسفية، ولا أدخل الفلسفة في كتابة التاريخ.

 

 عندما تكتب التاريخ، فمن أي منطلق؟

الصليبي: أول شي يحضر أمامي، ودون أي لبس، هو الواقع.

 

 أي واقع؟

الصليبي : وجود الإنسان هو واقع. ولادته واقع. موته واقع. حياته اليومية واقع. أيضاً هناك أحداث، وهي وقائع أيضاً. ويمكن لأشخاص متعددين ومختلفين أن يروا الحدث نفسه من زوايا مختلفة. أن يؤرخوا للحدث من زوايا مختلفة. فوصف الحدث يتم بطريقة غير موضوعية.

والصعوبة الكبيرة تبقى، في كل حال، في التحديد الدقيق لطبيعة الحدث. وعلى المرء أو المؤرخ أو الباحث أن يأخذ في الاعتبار التفسيرات والرؤى المختلفة للحدث. وفي نهاية الأمر، أو الخلاصة، هناك الواقع وتفسيره. وهنا يمكن للمتابع أو المهتم أن يجد ما يقنعه وما لا يقنعه.

 

 كلامك يصيب في جزء كبير منه ما يسمّى الموضوعية في قراءة الحدث وكتابته.

الصليبي : عامل الذاتية موجود وحاضر دائماً. والكتابة التاريخية ذاتية لأن التاريخ تفكير والتفكير ذاتي. الحدث التاريخي بكل مستوياته لا يفكر، وعلى المؤرخ أو الباحث أو الإنسان أن يفكر فيه ويحاول تفسيره. ولهذا تأتي التفسيرات كلها من المفسر والشارح والمؤرخ، لا من الحدث نفسه.

 

 بهذا المعنى يعتبر كمال الصليبي أن الحقيقة ذاتية الطابع والمضمون.

الصليبي : هذا صحيح. فالبحث عن ماهية الحقيقة التاريخية لطالما كان قائماً. والفرق بين الحدث وتاريخه يشبه الفرق بين مقابلة تلفزيونية مباشرة، ومسرحية تعرض على شاشة التلفزيون. فعندما تنظر إلى المسرحية تعرف مباشرة أنها مسرحية، وعندما تنظر إلى مقابلة تلفزيونية تبثُ على الهواء مباشرة تعرف فوراً أنها مقابلة أو إعادة بث مقابلة. من حركات الجسد والحوار ترى الفرق بين الحوار الطبيعي والحوار الأدبي. التاريخ أدب، والمؤرخ يكتب، لهذا فهو يتسم بالتكلف، ولا يشبه مقابلة تلفزيونية مباشرة أو برنامجاً حدثاً، وفي هذا الضوء، كتابة التاريخ هي محاولة إعادة تكوين ذاكرة الحدث، وهذان أمران مختلفان تماماً.

 

 في كتاباتك يلاحظ القارئ أنك تشكك في سوية الجنس البشري!

الصليبي : استنتاجك صحيح. الجنس البشري مليء بالعيوب. وهذا وصفه القديس بولس بالخطايا السبع القاتلة، ومنها: الغرور والشهوة، والبخل والحسد… إلخ. وورد في القرآن: { وما أُبرئُ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم }.

 

 هل تربط هذا السوء باعتماد التكنولوجيا المدمِّرة لحياة البشر، والتلاعب بالجينات وقيادة العلوم قيادة سلبية؟

الصليبي : العلماء علماء، ولا يمكن منعهم من القيام بأعمال واكتشافات حول الطبيعة. للأسف نحن بشر، نميل إلى عدم تحمل المسؤولية. إنه واقع الحياة، وعلينا التأقلم معه. وهذا قد يصبح مدمراً في نهاية الأمر.

 

 عُقدت مؤتمرات دولية عدة لمعالجة مسألة تلوّث البيئة والتغير المناخي، وما تسبَّبه المجتمعات الصناعية من كوارث على شعوبها وشعوب العالم الثالث. كيف تنظر إلى هذه الإشكالية التي تتعلق بالحضارة البشرية والوجود البشري؟

الصليبي : عبر متابعتي المتواضعة لهذه القضايا، فهمت أن ما من اتفاق دولي كامل حول كيفية السيطرة على الجشع الإنساني، وبالتالي، فهذا الجشع هو الذي يسبب الكوارث الاجتماعية والسياسية والطبيعية في بلدان العالم الثالث وغيرها.

 

 يعتقد كثيرون أن الجشع الإنساني مرتبط لا بطبيعة الإنسان، بل بالأنظمة الاقتصادية، كالنظام الرأسمالي وما بعد الرأسمالي!

الصليبي : الإنسان يمتلك روحاً، وبالتالي فإنه يستطيع أن يمتلك الوعي، لكن الشركة أو التكتلات الاحتكارية لا يمكن أن تشعر لا بالروح ولا بالوعي. وعلى مستوى آخر، فإننا لا نستطيع العيش دون الشركة. ولذا علينا أن نتحمّل، على أمل أن تشبه طبيعة الشركة طبيعة الإنسان الفرد أكثر.

الشركة منظمة لها أهدافها ومصالحها، وهي تبرّر الجشع من الناحية الاقتصادية، وأهدافها تتجه إلى تحقيق الربح الخالص، بغضّ النظر عن الأساسيات الإنسانية.

 

 إذاً، أنت تحلم بجنس بشري مختلف عن الذي نراه في العالم.

الصليبي : من حسن الحظ أن حياتي شارفت على النهاية، ويمكن استثنائي.

 

 هل تخاف من الموت؟

الصليبي : لا. فالناس يموتون في نهاية المطاف. وعندما يموت الإنسان ينتهي العرض بالنسبة إليه.