يرى المفكِّر والمُحقِّق وأستاذ الشِّعر الجاهلي في الجامعة الأردنيَّة ناصر الدِّين الأسد أنَّ الخوف على اللغة العربيَّة ومستقبل الأُمَّة ليست له أسباب حقيقية، ويعتقد أنَّ الرَّبيع العربي فيه خير كثير، فقد أزال عن كواهل الشُّعوب حُكَّاماً استبدُّوا وطغوا كثيراً على شعوبهم وهادنوا أعداءهم. لذلك هو متفائل باستعادة مصر لدورها القيادي في الأُمَّة العربيَّة، ويجدُ أنَّ الأجيال التي شهدت التَّغيير الحالي، والذي يراهُ أقرب إلى الانتفاضات والانقلابات منه إلى الثَّورة، سوف تميل إلى الاستقرار قريباً، وسيظهر أثر ما حدث فيها، وعلى مستوى حياتها. والأسد يجد أنَّ أسباب الغضب كانت موجودة، وأنَّ القول باستكانة الأُمَّة للاستبداد والظُّلم قول مجحف بحقِّ الشُّعوب التي ظلَّت دوماً تنشد الحُريَّة.

ويأخذ الأسد، المولود آخر عام 1922 في مدينة العقبة، جنوبي الأردن، على أكثر الحداثيين العرب أنهم خرجوا عن أصل معنى الحداثة، وأثاروا قضايا دونما تأصيل معرفي لها، ويراهم في طريق التناقص. وينتقد دور مجامع اللغة في مختلف البلدان العربيَّة، ويأخذ عليها تراجع دورها وانحسار أثرها في المجتمع. أما الجامعة، بوصفها مؤسسة تعليميَّة وبحثيَّة، فإنه يجدها اليوم في البلدان العربيَّة بحاجة إلى روحٍ جديدة، ودورٍ مختلف، ومسؤوليَّة رياديَّة، لبناء المستقبل العربي المقبل.

وناصر الدين الأسد هو:

ـ الرئيس المؤسس للجامعة الأردنية ـ وهي الأولى في الأردن ـ سنة 1962. وهو الرئيس المؤسس لمؤسسة آل البيت (المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية) سنة 1980، والوزير المؤسس لوزارة التعليم العالي في الأردن سنة 1985، وعميد كلية الآداب والتربية في الجامعة الليبية، والمشارك في تأسيس تلك الجامعة سنة 1959.

وهو، وإنْ كان يؤكد أنه مستمر في البحث وسبر المعارف، وإكمال ما كان أخّره عن مشروعات علميَّة، إلا أنَّه لا يُخفي رغبته في ترك التَّدريس الجامعي هذا العام، وكتابة مذكّراته التي تحفل بتجربة غنيَّة لسيرة معرفيَّة تنوَّعت خبراتها ومعارفها وإسهاماتها في سبيل الثَّقافة العربيَّة.

فإلى حوار «المستقبل العربي» معه.

نشأْتَ على حافَّة الصَّحراء؟ هل تعتقد أنَّها أثّرت فيك وفي خيارتِكَ في البحث في اللغة وشعر الجاهليَّة؟

لا أدري لماذا استخدمت تعبير «حافَّة الصَّحراء»، بل عشتُ في أعماقها، وما تركت بلداً من الجنوب الأردنيِّ إلا مررتُ به، فقد ولدتُ في العقبة ـ قبل أنْ تُضمَّ إلى إمارة شرق الأردنِّ ـ ومنها ذهبنا إلى كلِّ بلدات الجنوب من الكرك والمزار والشوبك ووادي موسى والطَّفيلة، وأخيراً معان. ثم عدتُ مُدَّةً يسيرة إلى العقبة، ومنها سئم والدي الوظيفة الحكوميَّة، خصوصاً أنَّه ترك بيئة كان يأنس بها، وهي بيئة الحسين بن علي الكبير، وجاء إلى شرقي الأردنِّ في وقت سابق لانضمام الجنوب إلى شرقي الأردنِّ، إذ كان تابعاً للحكومة الهاشميَّة في مكَّة المُكرَّمة.

ولكني أريد أن أقف معك عند استعمالك لمصطلح «الصحراء». فنحن هذه الأيام نخلط بين الصحراء والبادية. وهذا غير صحيح. فالصحراء هي الرمال وكثبانها، وليس في الأردن رمال إلا قرب الحدود الشرقية والشرقية الشمالية، وطبقات خفيفة من الرمال مستجدة في مناطق أخرى قليلة (بسبب التصحّر)، والباقي كلّه بادية. وهي أرض كالذهب خصبة صالحة للزراعة حين يتوافر لها الماء، وهو متوافر، ولكنه يحتاج إلى استنباط.

هل أثَّرت البيئة في اختيارك لشعر الجاهليَّة؟

دائماً أرجع ميلي الأدبي إلى هذه البيئة المفتوحة، وهي البادية، وليس بالضرورة أن نربط البادية بالبدوي، بل هي بيئة كبيرة، واليوم اختلف البدوي عما نعرفه في تراثنا. وأنا حين أخرج إلى البادية أحسُّ بأنَّ عينيَّ زادتا حدَّة، وأصبحتُ أرى ما لم أكن أراه في المدينة، وأحسُّ بكلِّ أعضائي نَشَطتْ، ونحن نقول هذا عن البادية ونأخذ خيرها، لكن لها مشاقّها الكبيرة التي لا تُصيبنا.

وإذا عدنا إلى سؤالك الأوَّل، أقول: ربما كان اتجاهي الأصلي هو أنْ أقول الشِّعر، لا أقول أن أكون شاعراً، فهُناك فرق بين الشاعر ومن يقول الشِّعر، فأبو تمَّام والبحتريُّ والنَّابغة هؤلاء شعراء وضعوا أنفسهم تحت كَلكَلِ الشِّعر، ولكنّ كثيراً من العلماء قالوا من الشِّعر الجيد وأكثره مقطوعات، غير أنهم ليسوا شعراءَ، والشِّعر إن لم تعطه كلَّك لا يعطِيك بعضه.

لنعد إلى خطواتك الأولى، التَّنقل وذاكرة الطفولة الموزَّعة بين عمَّان والقدس؟

لا ذكريات لي عن الطفولة، ربما بسبب كثرة تنقلي وسرعته مع الأسرة في سنّ الطفولة بحكم عمل والدي في بلاد جنوبي الأردن، أما ذاكرتي فقد بدأت في الصِّبا، أي حين كنت في العاشرة وما بعدها، أي بعد عام 1933، وهي سنة المجيء إلى عمَّان. ولو كتبتُ مذكّراتي، لتجاوزتُ الطفولة، لأني لا أكاد أذكر شيئاً منها، فهل أنا بغير ذاكرة طفوليَّة أو بغير طفولة؟

ما الذي يُلازمك من تلك الفترة؟

أولاً شخصيَّة سموِّ الأمير عبد الله بن الحسين مؤسس المملكة، الذي أرسل إليَّ سماحة قاضي القضاة السيد أحمد السَّقاف ليحملني إليه بعد وفاة والدي وقال لي: «والدك لم يمت، بل أنا والدك»، فكانت بداية لارتعاشات نفسيَّة ربطتني به، وكنت إذا تأخرت عن زيارته يعاتبني، ومرة أغلظ بالعتاب وقال: أنت لست ابن محمد الأسد، فذلك رجل وفيٌّ، فلِماذا تَقْطَعُني». ولم يقل تُقاطعني، وكان ـ رحمه الله ـ مغرماً بتوجيه الأسئلة، وأحياناً عن جزئيات صغيرة لا يعرفها المسؤول، وجهل الآخر بها كان يَسُرهُّ كثيراً.

كيف بدت عمَّان آنذاك؟

هي منذ نشأتها ملتقىً عربيٌّ، ليس لها أهلٌ محدّدون، وقد بدأت بقبائل عربيَّة تتجوَّل في أنحائها، وهي قبائل عربيَّة لا تزال تحيط بها حتَّى اليوم، لكنها توطَّنت القُرى والمدينة، وأقبلت على التعلّم، ثم جاء الشَّركس مهاجرين منذ عام 1868، وزادت هجرتهم بعد الحرب الروسيَّة ـ العثمانيَّة عام 1877، والتفَّ حولهم بعض التُّجار من مُدن الشَّام، وبخاصَّة دمشق، ومن مدن فلسطين، وبخاصة نابلس والخليل، ثم تعرضتْ عمَّان لهجرات وموجات لجوء متعدِّدة من مختلف الأقطار العربية بعد أعوام 1948 و1967 و2003 و2012 وغيرها، فأصبحت ملتقىً عربياً عامَّاً، كأنَّما تحققت فكرة الحُسين بن علي في الثَّورة العربيَّة التي قصدت وحدة البلدان العربيَّة!

من تذكر من معلميك في مدرسة عمّان؟

درست في مدرستين؛ الأولى في جبل اللويبدة، وكانت تسمى «مدرسة العجلوني» نسبة إلى مالك بنائها اللواء محمد علي العجلوني، وفي السنة السابعة من الدراسة نقلونا إلى مدرسة أمام المدرج الروماني، مجاورة للديوان الأميري، تسمّى «المدرسة العسبلية» نسبة إلى مالك بنائها محمد العسبلي. وأكثر من درّسوني كانوا بغير شهادات جامعيَّة، بل كانوا من الأزهر الشريف أو من مدارس عثمانية، وكان في مقدمتهم حسن البرقاوي[1] الذي تلقيت منه حُبَّ العربيَّة، وكان حين يُنشدُ الشِّعر ويشرحُ نصَّاً، يذوب في هذا النَّص. وأحبُّ أنْ أُشير إلى شاب صغير جاءنا من السلط حينما أنهى المرحلة الثانويَّة (الصف العاشر من السلط)، وأفدنا منه فوائد كثيرة، وهو أحمد العبد الدبعي الذي كان أول مُدرِّس وصلنا بالشِّعر الجاهلي ونماذج من المُعلَّقات. ولا أملُّ من ذكر سعيد الدُّرة معلم التاريخ، ووالد الفنان مهنا الدُّرة الذي وصلنا بالشِّعر السِّياسي، فإذا حدّثنا عن الخوارج وصلنا بشعرهم، وإذا تحدّث عن عبد الله بن الزبير أورد لنا من شعر الحزب الزبيري، وكذلك إذا تحدّث عن الشِّيعة وصلنا بشعرهم، وإذا ما تطرَّق إلى الحزب الحاكم ـ وهو حزب الأمويين ـ ذكر شعرهم. وأقول ذلك لنعرف مستوى التَّعليم اليوم ونقارنه بزمن مضى!

وأول معلم جاءنا من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت هو حسين سراج الشاعر الروائي ابن الشيخ عبد الله سراج الذي كان قد تولى رئاسة الوزارة في الأردن، وكذلك الشاعر حسني فريز، ثم كاظم الخالدي من القدس، ثم الشاعر عبد المنعم الرفاعي لسنة واحدة في السنة الأخيرة (الثامنة)، انتقل بعدها إلى الديوان الأميري، ثم أصبح سفيراً ورئيساً للوزارة.

وماذا عن المدرسة؟

كان في شرق الأردن ثلاث مدارسَ ثانويةٍ متوسطة، وواحدة ثانوية كاملة، وكانت مدرسة السَّلط الثانويَّة الوحيدة الكاملة، أي الدراسة فيها عشر سنوات، في حين كانت الدِّراسة في المدارس المتوسطة تستغرق ثماني سنوات. وكان في عمَّان مدرسة متوسطة، بقيت إلى أوائل الأربعينيات، ثم تطورت إلى الثانوية كاملة، وكذلك في إربد، وفي الكرك. وحين نتذكّر أنَّ هذه الإمارة كانت كذلك قبل أقلَّ من ثمانية عقود، ونظرنا إلى الوقت الحالي، فإنَّنا نُعجَب بهذا الانتشار، وهذه المستويات من التَّعليم، وعدد الجامعات، والنَّهضة العلميَّة في بلد موارده قليلة مثل الأردنِّ.

القدس، ماذا كانت تَعْني لكَ؟

هي أول مدينة أراها، فعمَّان كانت بلدة أو قرية كبيرة. وصلتُ إلى القدس في عام 1939، في قمة الاضطِّرابات السِّياسيَّة، فحين أنهيت الثَّانويَّة المتوسطة سألني الأمير عبد الله: ماذا تعمل؟ فقال الشيخ أحمد السَّقاف[2]، قاضي القضاة: يعمل في ديوان قاضي القضاة. فقال لي الأمير: لماذا لا تُكمل علومك؟ وكان والدي قد تُوفي، فقلت: لا أقدر، فقال: أكمل دراستك، وامضِ إلى مدرسة السَّلط. وخصَّص لي مبلغاً قليلاً للأسرة، ثم بعد شهر استدعاني سمير الرفاعي، وكان مديراً للمعارف، وكنت الأوَّل على ثانوية عمَّان، وجرت العادة إرسال الأول للدِّارسة على نفقة الحكومة، وأرسلني إلى القدس. وكانت الدراسة قد بدأت، وكانت الكلِّية العربيَّة أعلى مؤسسة علميّة في الأردنِّ وفلسطين، وطلبتها يُخْتارونَ من أوائل الصف الثَّاني الثَّانوي في مدارس فلسطين، والتَّنافسُ عليها كان شديداً.

من تَذكرُ من أساتذتك فيها؟

من أساتذتي فيها د. إسحاق موسى الحسيني[3]، وهو أوَّلُ من درَّبني على البحث العلمي النَّظري والعملي ـ في ذلك المستوى طبعاً ـ وكان مدير الكلية المربي المشهور أحمد سامح الخالدي[4]، ومُدرِّس التَّاريخ د. نقولا زيادة[5]، المؤرخ والرَّحالة المعروف. وفي الفلسفة درَّسنا د. جورج حوراني[6]، شقيق ألبرت حوراني وسيسل حوراني، وهو رجل زاهد، وكان لا يعرف العربيَّة، فتعلمنا الفلسفة (حتى الإسلامية) باللغة الإنكليزيَّة، وكان إذا رأى الجوَّ صافياً خرج إلى حديقة الكلية، ولبس عباءة وجلس على كرسي، وتحلقنا حوله على طريقة القُدامى، وزوجته سيدة قبطية من الزقازيق، في ما أذكر.

أتذكر أحداً من الطلبة؟

كان معي رفاق وزملاء كثر، منهم توفيق صايغ[7]، وهو من رواد قصيدة النَّثر في ما بعد، وإحسان عباس، ومحمود السمرة، ومحمد يوسف نجم، وجبرا جبرا، وسواهم كثير، وكان بعضهم قبلي بسنة، وبعضهم بعدي بسنة.

كيف كان تحصيلك، وكيف كانت الدِّراسة؟

بقيتُ في الكلية العربية في القدس أربع سنوات بين عامي 1939 و1943، وقد وفّقني الله بأن أكون الأوَّل في جميع السنوات. والكليَّة آنذاك أعلى معهدٍ تعليمي في فلسطين والأردن، وفيها تكوَّنت لديّ المعرفة بالتُّراث الفكري والأدبي، وبتراث الأُمم والحضارات. وفيها تعلمتُ المنهج العلمي، والأسلوب الموضوعي في البحث، وكانت الدِّراسة فيها في السنتين الأخيرتين باللغة الإنكليزيِّة، عدا دروس اللغة العربيَّة.

هل سَكنتَ في المنازل الدَّاخليَّة؟

نعم، سكنت في المنازل الدَّاخلية مع الطلبة الآخرين، وكنت أسكن وحدي، وأعود إلى عمَّان في الإجازتين اللتين كانتا في الرَّبيع والصيف، ولم تكن الدّراسة مختلطة، وكان في جوارنا مدرسة زراعيَّة يهودية تعجُّ بالبنات والبنين.

وبعد الدِّارسة في القدس؟

عدتُ إلى عمَّان عام 1943 مُدَّة قصيرة، ودرّست في مدارسها (مدرسة عمّان الثانوية المتوسطة)، ثم يسَّر الله لي أن ذهبت لإتمام دراستي في القاهرة على نفقتي، مُلتحقاً بجامعة فؤاد الأوَّل (جامعة القاهرة الآن). وكنت أعمل وأنا أدرس في القاهرة في عدَّة أعمال، ومنها أنَّ أ. إسحق موسى الحسيني أخبرني أنَّ سميَّهُ إسحق عبد السلام الحسيني سيصدرُ مجلة الوحدة في القدس، وكان يريد لها مُراسلاً في القاهرة، وأنَّه رشَّحني لأكون هذا المراسل. وتقاضيتُ مبلغاً كان يسدُّ الرَّمق، ثم جاءني أستاذ هندي كان يُعِدُّ الدُّكتوراه في القاهرة، ومعه كتاب ديني بالإنكليزيَّة يرغب في ترجمته إلى العربيَّة، ويعلِّقُ عليه ليكون رسالته الجامعيَّة، وطلب مني ترجمته بأجر، ولما أنهيت الترجمة قال لي: إنَّه عرض التَّرجمة على شيخ في الأزهر، فقال له الشيخ: هذه ترجمة ممتازة فيها نَفَسٌ قرآني.

كيف كانت القاهرة آنذاك؟

كانت القاهرة حينذاك مركز الإشعاع العلمي والأدبيّ والفنيّ الأوَّل في الأقطار العربية، ومُلتقى المثقَّفين والأدباء، وكانت الحياة الأدبيَّة تضجُّ بمعاركها ومنتدياتها ومجلاتها الرَّاقية، فتهيأت لي فرصة التَّعرف إلى الحياة الثَّقافيَّة ومواكبتها بكلِّ أبعادها الأدبيَّة والفكريَّة، كما شَهدتُ التَّغيرات الحادَّة التي ألمّت بالحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة. وتهيأ لي في هذه المرحلة التَّعرف إلى رواد كبار، أمثال طه حسين، وعباس محمود العقَّاد، وأمين الخولي[8]، وأحمد حسن الزيات، وشوقي ضيف[9]، وبعض هؤلاء تتلمذت على أيديهم، وحظيت بعنايتهم وصداقتهم، واكتسبت منهم ما ساعد على إنضاج تجربتي، وصقل قدراتي، كما كان لي شرف صداقة العلامة محمود محمد شاكر[10] والأخذ عنه.

شهدتُ الملكيَّة في مصر وحركة الطلبة والأحزاب والصُّحف التي كانت في غاية النَّشاط، وكان الملك فاروق يحب أن تكون له صلة بالجامعة، فيرعى الخريجين، وفي رمضان كان يدعوهم إلى الإفطار، ولديّ صورتان له بتوقيعه، واحدة منهما عن تفوقي في الليسانس (وكنت قد نلت جائزة د. طه حسين للأول في الليسانس)، والصورة الثَّانيَّة عن التَّفوُّق في الماجستير.

تخرّجت في قسم اللغة العربيَّة من جامعة القاهرة عام 1947، ماذا فعلت بعدها؟

عدتُ إلى عمَّان، ثمَّ إلى القدس، إذ عملت مُدرِّساً في المدرسة الإبراهيميَّة، وقدَّمتُ برنامجاً إذاعياً لمدة شهر من الإذاعة العربيَّة لمحطة الشَّرق الأدنى بعنوان: «حديث الصباح»، لكنَّ إقامتي لم تدم طويلاً، فما إنْ أُعلن قرار تقسيم فلسطين عام 1947، واضطربت الأحوال، حتَّى عجَّت فلسطين بحركات المقاومة، وقامت الحرب بين العرب واليهود عام 1948، وأغلقت المدرسة أبوابها، وكنت ربَّ أسرة تتكون من زوجتي وطفلي البكر بشر، ثم سنحت لي فرصة العمل في ليبيا، فقصدتها مع اثنين من المعلمين المصريين، وأسسنا مع بعض المعلِّمين الليبيين أول مدرسة ثانويَّة مُتوسِّطة في طرابلس. ثم عدتُ إلى القاهرة عام 1949 لدراسة الماجستير، والتَّدريس في المدرسة الإنكليزيَّة في مصر الجديدة، ونلت الماجستير من كلِّية آداب جامعة فؤاد الأوَّل عام 1951 عن أطروحتي «القيان والغناء في العصر الجاهلي». وظللتُ أعلّم في المدرسة الإنكليزيَّة حتَّى عام 1954، وكنت خلالها أحضّر الدكتوراه، وتخرجت في جامعة القاهرة عام 1955 عن أطروحتي «مصادر الشِّعر الجاهلي وقيمتها التَّاريخيَّة».

كيف تُقيِّمُ مصر بين ثلاثة أزمنة: الملكيَّة وثورة يوليو وربيعها الرَّاهن؟

يعزُ عليَّ أنْ أقول ما أقول، فقد كانت مصر مطمح كلّ عربي، وفيها رجال قدوة لرجالنا وزعمائنا، والآن مصر لا تزال ملأى بالشعراء والأدباء والسياسيين، ولكن إحساسنا هو بفقدان النُّخبة المتميزة التي كنا نعرفها أو نسمع بها في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، فحين نقابل بينهم في الماضي وبين أكثر من هم في الحاضر نجد الفرق واسعاً. ربَّما كان السَّبب في ستَّة عقود من الحُكم العسكري الذي يغيِّر النُّفوس، شأنه شأن كلِّ حكم مستبدٍّ.

أتخشى على مصر؟

لا أخشى على مصر على الرغم من كل ما يحدث، فأنا متفائل بمستقبلها القريب، وستعود لتتسلم راية القيادة للأُمَّة العربيَّة.

ما رأيكم بالرَّبيع العربيِّ؟

فيه الخير كلُّ الخير، لأنَّه أزال عن كواهلنا حكاماً قتلوا شعوبهم بما مارسوه من طغيان واستبداد، وما كان يمكن أن يزاحوا لولا هذه الثَّورات التي سُميت «الرَّبيع العربي»؛ خذ مصر مثلاً، عُزِلتْ ثلاثين سنة عن أُمَّتها حتَّى إنَّ الأمَّة استكانت لشيءٍ من اليأس، فالخلاص وحده من أولئك الحكام مهما تكن النتائج المؤقتة مغنم كبير.

والربيع في فصول السنة في المشرق العربي ـ وأحسبه كذلك في المغرب العربي ـ سريع التقلب شديد التغيّر، وكذلك شأن الربيع في الأوضاع العربية، لم يستقرّ منها وضع بدأ فيه الربيع العربي، وأرى أن الوقت الآن مبكر لإبداء الرأي الناضج العلمي في هذا الموضوع، ما عدا في أمر واحد في غاية من الوضوح، وهو أنه أزاح عن كاهل الأمة العربية في أربعة من أقطارها ـ ننتظر القطر الخامس ـ حكاماً اتصفوا بأبشع صفات الطغيان والاستبداد وقهر الشعوب، وعزلوا قضايا أمتهم عن مصالح هذه الأمة، وحرصوا على بقاء الاستعمار الفكري الثقافي الاقتصادي لتحطيم كوامن القوة في الأمة.

أما الهوية الثقافية العربية، فهي ثابت مستقر لا تتأثر مهما تغيرت الأحوال، وأمَّا الوحدة الثقافية فهي قائمة على الرغم من كل المحاولات لتجزئتها وتفتيتها وجعلها عدة ثقافات (ثقافة شمال أفريقيا، ثقافة الشرق الأوسط، ثقافة دول الخليج). وهذه الآن هي الحملة التي نواجهها، ومع ذلك تظلُّ الثقافة العربية واحدة مع كلِّ هذه الأقطار، حتَّى ولو حاول الغرب استغلال الربيع العربي لتفتيتها والنيل منها.

أمَّا قضية فلسطين، فلن تذهب وتذوب، وستظل في ضمير كل عربي، ولا خوف على حضورها في الوجدان والوعي العربي، بالرغم من انشغالات الربيع العربي، وسعي الشعوب العربية إلى الحرية والانعتاق والتحرَّر.

ألا ترى أنَّ موقف المُثقَّف العربيِّ من الرَّبيع كان مُلتبساً؟

ذلك لأنه كان مرتبطاً بقيادة زالت، فلا شكَّ في أنَّ بعض المثقَّفين سيكونون مُتحفظين على ما حدث، وحتَّى اليوم نشهد في مصر تلهُّفاً على عودة النِّظام السَّابق، هذا أمرٌ في جِبلِّة النَّاس، فسبحان الله كأن كلَّ عهدٍ جديدٍ كُتِبَ علينا فيه أنْ نترحَّم على العهد الذي قبله.

في حصار باريس كانت قصيدة بول إيلوار (الحرية) تطبع بالملايين وتوزَّع على الباريسيين لكسر الحصار النَّازي عن باريس الذي استمر من 19 أيلول/سبتمبر 1870 إلى 28 كانون الثاني/يناير 1871. هل تعتقد أنَّ الفعل الثَّقافي والشِّعر ما زالا يمتلكان تلك السَّطوة وهذا الحضور؟

الشِّعر ما زال حاضراً، لكنَّ بعض ما حصل في البلدان العربية ليس ثورة، وأنا حريص على التَّوقف عند البدايات. وما حصل في بعضها، هو أشبه بانقلاب، وهناك اضطراب، ولذلك تجدُ النَّاس يتوقون إلى الاستقرار، ولكنْ حين يمضي وقت كافٍ على التَغيير، ويصبح التَّغيير استقراراً، تنشأ أجيال تنسى العهود السابقة وتطمئنُّ للتَّغيير، فإذا ما حَقَّقَ التَّغيير وعوده بالحريَّة والديمقراطيَّة نَعِمَ الجيل الذي عاصره بالتغيير، وإلا تعرَّض التَّغيير لتغيير جديد. وهُناك تصعد موجة من الثَّقافة الجديدة في المجتمع، ويحضر فيها الأدب والشِّعر بقوة.

هل تعتقد بوجود دور للغرب في إحداث الرَّبيع العربيِّ؟

لِمَ لا؟ لا استبعد ذلك، ولكن ليس لديَّ معلومات. الغرب له مصالح، ولا أستغرب أن يكون له أثرٌ ولو غير مباشر، لكن أساس التَّغيير جاء من حاجة داخلية عند العرب أنفسهم، والغرب لا يُحدث شيئاً إلا إذا كان له أساس في الداخل، فهو يستثمر ما هو في الداخل.

ولكن بعض محقبي النهضة العربية رأوا الغرب مسؤولاً عن إحداث التَّغيير منذ حملة نابليون، ويراه بعضٌ كذلك اليوم، وإذا عدنا إلى تاريخ العرب نجد أنَّهم طوال خمسة قرون من الحكم العثماني كانوا يتوقون إلى الثَّورة على الاستبداد؟

أكثر الشُّعوب كان يظهر عليها قبل الثَّورات أنها استكانت واستسلمت للدَّعة، ثم تحدث الثَّورات فجأة لأنَّ أسبابها منها ما هو خفيٌّ، فلا يظهر علناً، ومنها ما هو بطيءٌ، ولكن تأتي شرارة سريعة فتوقد العوامل الخفيَّة والعوامل البطيئة، فتحدث الثَّورة؟ وهذا ما حدث عربياً، فالشَّعب المصري شعب لديه سماحة ويسر في التعامل، ولديه تقدير لمتطلبات الحياة، لكنَّ مصر تظلُّ بلد الثَّورات، منذ الإسلام الأوَّل. ألم يكن جلُّ الثُّوار على عثمان ـ رضي الله عنه ـ من أهل مصر؟ وقد توالت الثَّورات فيها منذ الاحتلال البريطاني، وهذا الشعب على خلاف ما يَظهرُ عليه، وكذلك شأن الشعوب العربية الأخرى. فمن كان يظن أن الذي حدث في تونس أو اليمن أو ليبيا كان سيحدث؟

عند مطالعة أبحاثكم، نجد أنَّكم عندما تطرقون أمراً، تحيدون عن كلِّ ما سبقكم من جهود، وتطرقون الموضوع وكأنه أوَّل مرَّةٍ يبحث، وتمارسون حياداً علمياً بالغاً، فكيف تستطيعون ذلك؟

مردُّ ذلك إلى الطبائع. منذ الصغر كنتُ أُكثر من الإصغاء، وحين أُسأل عن أمر أحتاج إلى ثوانٍ للرَّدِّ، وسبحان الله، منذُ صغري كنت أميل إلى الأسلوب العلمي في التَّحليل لِما أسمع وأقرأ. أما السَّبب في الحياد العلمي، فلأنِّي حينما كنت أحلل بعض المواقف لم أكن أعتقد بصواب كثير منها، وهذه ثمرة من ثمار الاتصال بالبحث العلمي في تراثنا، وهو قائم على أنْ لا نُصدِّق ما نسمع إلا بعد تقليبه على أوجهه المختلفة، وتحليله تحليلاً نقدياً.

ولكنَّك تتناول الموضوع وكأنَّه يبحث لأوَّل مرَّةٍ؟

وأضف إلى ذلك بعد خمسين عاماً من التَّدريس، فإني أُدرِّس الآن ما كنت أُدرسه وكأنَّه لأوَّل مرة، فأُعِدّ له كأيِّ مُدرِّس جديد. هذا من الطَّبائع.

لمن تُدينُ في تكوين هذا المنهج؟

للدَّكتور اسحق موسى الحسيني، والشَّيخ أمين الخولي، اللذين كانا عالمين جليلين، وكذلك للدَّكتور شوقي ضيف، ومحمود محمد شاكر ـ هؤلاء الأربعة أصحاب فضل كبير عليّ في ترسيخ مفهوم البحث العلمي لديّ. وقد أفدت من بعضهم خارج الدَّرس، كما استفدتُ في الدَّرس نفسه.

ما هو تقييمك لطلابك؟

كَثُرَ الكلام على مستوى الطَّلبة في السَّنوات الأخيرة، لكن تجربتي تجعلني أتردَّدُ في الحكم عليهم، فالطَّلبة مختلفون في مستوياتهم، وأشهد أنَّ بعض الذين درَّستهم في السَّنوات العشر الأخيرة كانوا من مستويات فكريَّة ومعرفية عالية مع جدٍّ في تحصيل العلم والبحث العلمي. وحين أصبح بعضهم أساتذة في الجامعات نقلوا صفاتهم العلميَّة إلى بعض طلبتهم. وبقيت صلتهم بي مستمرة.

أكثر ما تحبُّ أنْ يتخذوه منك؟

ما فكَّرتُ في ذلك، أنا أمامهم مطروح ومبسوط، وكلٌّ يأخذ ما يتناسب مع طبيعته. ذات مرَّة جاءني ثلاثة أساتذة، اثنان منهم يعملان في جامعة، والثَّالث من جامعة أخرى، وكان مُستاءً لأنَّ أستاذاً في الجامعة الأردنيَّة كتب مقالاً ينتقد قصيدة له كان نشرها، فكتب مقالة غاضبة يردُّ على النَّاقد، فسألت أحد الأستاذين الأولين: هل كنت تردُّ عليه لو كنت الأستاذ المنقود؟ قال: لا لن أرد لأنَّي أنا تتلمذت على يديك، وهذا أسلوبك، وكنت توصينا أنْ لا ننزل إلى المهاترات.

يجد القارئ في أبحاثكم التزاماً باقتران العروبة والإسلام وعدم الفصل بينهما؟

نعم، هما صنوان، ولا أستطيع الفصل بينهما، لأنَّك تعلم أنَّ الآيات التي تحدّثت عن اللسان العربي في القرآن متعددة، والحديث النبوي المشهور عن الرسول، عليه الصلاة والسلام، عندما قال: «ليست العربيَّة لأحدكم بأمّ ولا أب إنما هي اللسان»، أو كما قال: «فالربط بين العروبة والإسلام ربط محكم». وقال سلمان الفارسي، رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ الله (ﷺ): «يَا سلْمَانُ! لَا تبْغضْني فَتُفَارِقَ دِينَكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ أَبْغَضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: تبغضُ العَرَبَ فتبغضني»[11]. وأنا لا أفرّق بين العروبة والإسلام، فإذا كانت المشكلة بيننا وبين غير المسلمين من العرب قلنا: إنَّ الجامع بيننا وبينهم الثَّقافة. ومن اختلفت ثقافتهم عن ثقافتنا ليسوا بعرب.

تأسيس الجامعة الأردنيَّة عام 1962 كان أول محطاتك الإدارية. ماذا تَعْني لك تلك التَّجربة، وماذا تتذكر منها، وكيف ترى مستوى الجامعات اليوم؟ وكيف ترى مساهمتك في تأسيس عدد من الجامعات العربية الأخرى؟ وما هي ذكرياتك عن كلية الآداب في الجامعة الأردنية بالذات؟

بل قبلها شاركت في تأسيس الجامعة الليبية، وكنت عميد كلية الآداب والتربية فيها سنة 1959، وبعدها شاركت في تأسيس الجامعة الأهلية في عمّان، وتوليت رئاستها مدة سنتين، وكذلك توليت رئاسة مجلس أمناء جامعة الإسراء في عمّان مدة عشر سنوات. أما عن كلية الآداب فقد كانت أولى كليات الجامعة الأردنية في الإنشاء، وقد اجتمع فيها خيرة الأساتذة من جامعات مصر وسورية والعراق، وعدد في المستشرقين الذين يحسنون اللغة العربية، فألقوا فيها محاضرات تدريسية لطلاب السنة الرابعة، مثل: أومبرتوا رستياتو الذي أصبح عميد كلية الآداب في جامعة اليرموك. فكانت كلية الآداب ملتقى فكرياً أكاديمياً جامعاً. وأنا الآن أستاذ شرف في الجامعة الأردنية.

أما الجامعة الأردنية، لخصوصيتها عندي، فإني أذكر أنني سكنت في بيت كان لمدير المستنبت الزراعي الذي بنيت الجامعة على أرضه، وكانت معي زوجتي وأولادي، وكان الملك الحسين بن طلال ـ رحمهُ الله ـ يفاجئني ويطرق الباب في الصباح، وأحياناً ما أكون نائماً، وفي أيام الثَّلج يأتي ومعه الماء والبطانيات للطَّالبات في السَّكن الدَّاخلي. أما حين تسأل عن الجامعات الأردنيَّة، فلا يزال جوهرها بخير، لكنَّنا نحتاج إلى أن نتدارك إصلاحها قبل أن تنهار.

أمَّا العمل الجامعي، فيحتاج إلى من يؤمن به ويعطيه وقته وجهده كلَّه، ومن يحبُّ طلبته والوجود بينهم. لكن، للأسف، نحن نجد اليوم من رؤساء الجامعات من يعزل نفسه، ولا يراه الطَّلبة ولا الأساتذة، ويتعامل ورقياً في قضايا الجامعة، فتأتي إليه الأوراق من العمداء ونواب الرئيس، ومثل هذا العمل اليومي لا يطوِّر الجامعة، ولا يحقِّقُ لها معنى الجامعيَّة والأكاديميَّة، لأنَّ تحقيق الأكاديميَّة والجامعيَّة لا يأتي بتطبيق القانون فقط، أو بالاشتراط بأنْ يكون رئيسها بدرجة أستاذ. قد نجد الآن مئات من حملة درجة الأستاذيَّة، ولكن، ليس كلُّ واحد منهم قادراً على أن يكون رئيساً للجامعة، لأنها ليست محض وظيفة إداريَّة. وأظن أنَّ الوقت قد حان للنَّظر الجاد إلى تطوير أعلى درجات المسؤوليَّة الجامعيَّة.

كتب طه حسين عن الروح الجامعي[12] عام 1938، وهو ما يحمل المضامين ذاتها؟

وكنت قد ألقيت عن هذا المعنى محاضرة في الشهور الأولى من تأسيس جامعتنا الأردنية (أوائل سنة 1963)، وسأكتب قريباً عن هذا الأمر أيضاً، وكنت قد ظننتُ أنَّ التَّقاليد الجامعيَّة أُرسيت عندنا، ولكنْ أجدُ أنَّ الأمر بحاجة إلى حديث طويل مستقلّ.

تعدَّدت خبراتكم بالعمل الجامعي، فأي الجامعات أحببت؟

استفدتُ كثيراً من السنتين اللتين قضيتهما في عمادة كلية الآداب والتربية في الجامعة الليبيَّة عند التأسيس، إذ اشتركت في تأسيسها بين عامي 1959 و1961، وبعدها جاءني المرحوم الوزير عبد الوهاب المجالي إلى القاهرة (وكان وزيراً في وزارة وصفي التل الأولى)، وقال: تأخرت علينا، أجبنا، فقلت: بماذا؟ قال: نريد أن نؤسس جامعة، وتريدك الحكومة أن تؤسسها، ألم يُحدِّثك فلان؟ وكان وزيراً في الحكومة الأردنيَّة، وقد كُلِّفَ لبحث الأمر معي عندما يزور القاهرة، وكنت آنذاك أعمل في جامعة الدول العربيَّة، ولكنَّه ـ أي الوزير ـ مع أنَّه قابلني، لم يحدّثني بالأمر، وبعدها جئت إلى الأردن، وأراد الله أن أكون الرئيس المؤسس للجامعة الأردنيَّة.

هل تعتقد أنَّ الجامعات تحظى اليوم بإدراك حقيقي من الدول العربيَّة، أم أنَّها مجرد مؤسسات تستكمل عملية تأثيث الدولة القطريَّة بما يلزمها؟

الذي حدث في الجامعات العربيَّة شبيه بما حدث في كلِّ شيء، وهو العناية بالكم والكثرة، من دون العناية بالنَّوع، لذلك فإن هذه الجامعات لا يمكن أن تُحدث تغييراً في العقول إذا بقيت على ما هي عليه، وسيعتمد بعض طلبتها على أنفسهم في ما يصلون إليه من مناهج وأفكار ومعلومات. وأمر الجامعات شبيه بكلِّ المؤسسات العامَّة في بلادنا، فهي مجرد استكمال لمظاهر الاستقلال الرسمي، ومن أجل هذا نجد أنَّ بعض جامعاتنا، وقد بلغ عددها في اتحاد الجامعات العربية، ما يزيد على 210 جامعات بين خاصة وحكومية، وبعضها أنشئ منذ مئة وخمسين عاماً، ليس له اليوم أيُّ إسهام في العلم أو الحضارة المعاصرة العالميَّة.

في ظلِّ الحديث عن تحديات اللغة العربيَّة وضرورة مواجهتها، هل أنت مطمئن إلى مستقبلها؟

نعم، أنا مطمئن، فهي حين انبثقت واجهت أعتى اللغات الثَّقافية في زمانها، وهي: الإغريقيَّة واللاتينيَّة والفارسيَّة والسريانيَّة، ولم يكد يمضي نصف قرن حتَّى أصبحت هذه اللغة عالميَّة طوت في أردانها اللغات الأُخرى التي كانت عالميَّة. وقد تعرّضت بعد ذلك منذ القرن التاسع عشر إلى اتهامات كثيرة ومقاومات شديدة، ولكنها شقت طريقها، وهي اليوم تسيل بسهولة على أقلام الكتّاب، ولكن ينقصها أن تستبحر في العلم التجريبي عن طريق تدريس الطِّب والصَّيدلة والهندسة وسواها باللغة العربية، لكي تسير على قدمين هما: الثقافة النظرية، والثقافة العلمية التجريبيَّة، وهو أمر قادم لا شكَّ فيه، وربما كان بأسرع مما نتصوَّر. وستظل لغتنا عرجاء تسير على قدم واحدة، إذا بقيت معزولة عن العلم التجريبي.

ما هو دور مجامع اللغة العربيَّة، وأنت اليوم عضو في مجامع اللغة العربيَّة في دمشق والقاهرة والأردن، هل دورها في زمن سابق كان أفضل؟

كانت في ما مضى أفضل، لأنَّ الأعضاء كانوا أفضل، وكانوا يبرزون في المجتمع عن طرق الكتابة في الصُّحف أو المحاضرات العامَّة، أما الآن فلا تكاد تَجد عضواً في مجمع اللغة العربيَّة يكتب عن اللغة أو عن المجمع أو يدخل في مساجلات فكرية من خلال الصُّحف أو المحاضرات. لذلك أصبح عمل المجمع ضيّقاً محصوراً بين جدران بناء المجمع، وهو ما ينطبق على كلِّ المجامع اللغوية العربية. والحديث عن هذه المجامع ـ وقد أصبح عددها الآن نحو ستة مجامع في البلدان العربية المختلفة ـ حديث طويل لا يدل على أن الذين يتابعون أعمال هذه المجامع راضون عنها، وإن كانوا يقرّون بأن عدم رضاهم راجع إلى أسباب خارج المجامع نفسها، وأن أعضاء تلك المجامع يبذلون جهودهم في حدود الممكن. أما دور المجامع في تطوير اللغة العربية فهو محصور في وضع عدد من المقابلات العربية للمصطلحات العلمية والفنية الأجنبية، وإخراج عدد من المطبوعات اللغوية، في مقدمتها عدد من المعاجم. وأما ما سوى ذلك، فليس للمجامع دور واضح مذكور.

لِمَ لا تحاول ممارسة الكتابة الصَّحفيَّة اليوم على الرغم من أنَّك فعلت هذا وأنت شابٌّ؟

لم أجرّب الكتابة الصحفية بعد تلك السِّن التي أشرتَ إليها، لأني أكره الزِّحام، وكنت قد جربت العمل في الإعلام في الإذاعة في القدس عام 1947، وحاول عيسى الناعوري[13] ـ رحمه الله ـ أن يدعوني إلى الكتابة الصَّحفيَّة في مجلته القلم الجديد، وقمت بجزء يسير من ذلك، لكن لم أستمر. وكنت أكتب في جريدة الوحدة المقدسية بطلب من صاحبها إسحاق عبد السلام الحسيني في سنتي 1946 و1947، ثم توقفت. وكان عملي الإذاعي والصحافي حينئذ يجد له مكانة. أما اليوم فإن عدد الكتبة في الصحيفة الواحدة من صحفنا اليومية في الأردن يزيد على الثلاثين يومياً، ويتسابق الكتبة من مصر والأردن إلى الكتابة في بعض الصحف اللبنانية والخليجية. وكل ذلك زحام يضيع الكاتب في عجاجه، وأنا كما ذكرت لك أكره الزحام وأكاد أختنق فيه.

هل ثَمَّة مشاريع علميَّة مؤجلة لديكم؟

نعم، ثَمَّة شيء ما زال يجول في بالي، وهو أن أنقطع عن التَّدريس في نهاية الفصل الدِّراسي الحالي، وأن أعكف على استكمال بعض البحوث التي كنت بدأتها ولم أستطع أن أكملها، وبعضها بحوث جديدة، ولا يزال حبل الأمل ممدوداً، إن مد الله في العمر، ثمَّ سأبدأ بكتابة مذكّراتي.

تتنوَّع اهتمامات الأسد المعرفيَّة بين النَّاقد والباحث والشَّاعر والمحقِّق، أيُّ تلك الحقول أقرب إليك؟

أُؤكد دائماً للطَّلبة وحدة التُّراث العربيِّ، فلا نستطيع أن نفرِّق بين موضوع وموضوع، وبحث وبحث، إذ كان سلفنا موسوعيين يجمع الواحد منهم معارف شتى في الطِّبِّ والشِّعر والفقه والفلسفة. كانوا يُلمّون بطرف من كل موضوع، ثم يحيطون بواحد منها. وما أضرَّ بعلومنا اليوم إلَّا التَّجزئة والفصل بين المعارف، لذا أجد من العسير عليَّ تفضيل صنف منها، فأنا في كلِّ هذه المعارف، وإنْ كنت لم أبلغ في أحد منها ما كنت أرجوه.

الأسد المسؤول والمدير والرئيس في مسيرتك، كيف تقرأ تجربته؟

لم يكن عندنا في الأردن من يمكن أن يتصدَّر لمسؤولية تأسيس الجامعة الأردنيَّة قبل نصف قرن، ولذلك استعارتني الحكومة الأردنية من جامعة الدول العربية، حيث كنت أعمل بعد عودتي من عمادة كلية الآداب والتربية في الجامعة الليبية في بنغازي. وحين اجتمع أول مجلس أمناء، أرادوا تعييني رئيساً، فطلبت منهم أن أُعيَّنَ في بادئ الأمر أستاذاً، ثمَّ عميداً لكلية الآداب فقط، ذلك لأن رئيس الجامعة لا يستطيع أن يباشر عمله من دون أن يكون للكلية عميد آنذاك، لكون الجامعة بدأت بكلية واحدة هي الآداب، ولم أعيّن رئيساً للجامعة إلا بعد أن أنشأنا كُليَّتي التِّجارة والاقتصاد وكلِّية العلوم، مع أني دعيت من القاهرة من جامعة الدول العربية لأؤسس جامعة في الأردن وأكون رئيسها. ومن أجل هذا، استعنا بأساتذة ومفكرين من مختلف بلداننا العربية، بل إنني دعوت أساتذة من المستشرقين، منهم فرنسي وهو شار بيلا، وإيطالي وهو روبرتو ريتزيتانو، وألقيا محاضرات تدريسية على طلبة كلية الآداب، وامتحن بها الطَّلبة، ولم تكن محاضرات عامة، وهي مطبوعة في كتابين. وهكذا كانت كلية الآداب في أول تأسيس الجامعة مجمعاً علميّاً ثقافيّاً فيه عدد من خيرة أساتذة البلدان العربية والمستشرقين، فكان البحث العلمي والمناهج الفكريَّة تتواصل باللقاءات المستمرة والأحاديث التي يعقدها الأساتذة خارج الدَّرس. وقضيت في ذلك ستّ سنوات، ثم استقلت من الرئاسة لأسباب لا مجال لذكرها، ورفض جلالة الملك الحسين، رحمه الله، استقالتي، فطلبت من رئيس الديوان الملكي آنذاك بهجت التلهوني أن يشرح للحسين حالي وظروفي، فقبل استقالتي على أن تكون لمدة عام. وجاء ـ رحمه الله ـ إلى مكتبي في الجامعة، وودّعني وقال: لا تطل غيبتك عنا.

وبعد ذلك، اتصل بي عن طريق رئيس ديوانه سنة 1988، وكنت سفيراً للأردن في السعودية، وطلب مني أن أتولّى الرئاسة مرة أخرى، وقال: أريد منك أن تصلح الجامعة. ولكنني لم أقض إلا سنتين في هذه الرئاسة الثانية، ولا أكتم عنك أني لم أستطع إصلاح شيء لأسباب أيضاً لا مجال لذكرها هنا. وأدرك الحسين الموقف، فكلّفني أن أنشئ مؤسسة آل البيت (المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية)، وقضيت عشرين سنة إلا شهرين حتى أصبح المجمع الملكي صرحاً عالمياً فيه ما يزيد على مئة عضو من علماء المسلمين من مختلف أنحاء الدنيا، ومختلف الأعراق واللغات.

وفي أثناء هذه السنوات، كلفني ـ رحمه الله ـ أن أؤسس وزارة التعليم العالي في الحكومة التي رأسها زيد الرفاعي سنة 1985، وقضيت في الوزارة خمس سنوات، وكنت في الوقت نفسه مستمراً في رئاسة المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت).

ولكل مرحلة من هذه المراحل حديث يتناول كثيراً من الإنجازات وتفصيلاتها يضيق المجال عنها هنا.

وماذا عن نظمك للشِّعر؟

منذ صغري بدأت أنظم الشِّعر؛ وفي المجموعة الشعرية التي أصدرتها بعنوان همس وبوح وضعت تاريخ كلِّ قصيدة. فحين كان عمري 16 سنة بدأت بالكتابة، وكانت أوَّل قصيدة أطمأنت إليها نفسي وأنا في سن 18. والشِّعر يحتاج إلى بواعث، وكأنَّ الشاعر يحتاج إلى ربيع كلَّ مرة لتجديد النَّظم.

لكنَّ معرفة النَّاس بك شاعراً غير شائعة؟

ذلك لانشغالي بالكتابة الأدبية والتحقيق العلمي والعمل الجامعي والتدريس والمناصب الدبلوماسية والوزارية، وأظن أنَّ اهتماماتي المتعددة شغلتني، لكنها لم تطفئ جذوة الشِّعر في نفسي، وقد قلت: «إنَّ الشِّعر إذا لم تعطه كلك لم يعطك بعضه».

وماذا عن علاقتك بالشُّعراء المعاصرين؟

كانت بيني وبين المرحوم محمود درويش صلة مبكرة، وكنت قد دعوته إلى إنشاد أوائل شعره في الجامعة الأردنيَّة، لكني لست من مذهبه الشِّعري، مع تقديري لمحاولاته وتجاربه. وكذلك بيني وبين سميح القاسم صلة ومودة. وفي القاهرة، توطّدت صلتي بالشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، وبالشاعر المبدع محمد الفيتوري قبل أن يترك القاهرة ويذهب إلى ليبيا، وبقيت بيننا مراسلات وزيارات، ثم لا أدري أين هو الآن، وكذلك الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.

لمن تميل من الشُّعراء المعاصرين، إذن؟

أميل إلى الشَّاعر العراقي عبد الرَّزاق عبد الواحد[14]، وهو اليوم مقيم في عمَّان. وأظنُّ أنَّه يحتاج إلى رعاية خاصَّة، وأنا أتحدّث عن ميلي، وأحب قصيدته يا صبر أيوب ومطلعها:

قالوا وظلَّ.. ولم تشعر به الإبلُ

يمشي، وحاديهِ يحدو.. وهو يحتملُ..

ومخرزُ الموتِ في جنبيه ينشتلُ

حتى أناخ َ ببابِ الدار إذ وصلوا

وعندما أبصروا فيضَ الدما جَفلوا

صبرَ العراق صبورٌ أنت يا جملُ!

ومن الشُّعراء الأردنيين الأحياء، أفضِّل شاعرنا حيدر محمود، فهو متنوِّع الموضوعات، ورحم الله الشاعر حبيب الزيودي، إذ كان يمكن أن يكون شاعراً له مكانته. وفي مصر اليوم، يوجد شعراء جيدون، ومنهم فاروق جويدة[15]، وفاروق شوشة[16]، وشخص لم يشتهر بعد، وهو حسن طلب، وأما شعراء الخليج فقد أسرفوا في الشِّعر النَّبطي، ومنهم شعراء مجيدون في طليعتهم غازي القصيبي، وقد عرفته حين كنت سفيراً في العربية السعودية.

في التأصيل النقدي للقضايا الأدبية التي سعيت طوال مسيرتكم إلى تكريسها، هل تعتقد بأنَّنا لا نزال نحتاج إلى سنوات للوصول إلى ما وصل إليه العالم الغربي في النَّظريات النَّقديَّة، وأين ترى حضور الحداثيّين والبنيويين العرب؟

كثيرون لا يميلون إلى النَّظريَّة الحداثيَّة في النَّقد، ولا يكادون يستسيغون فردينان دوسوسير[17]، ولا رولان بارت، ولا نعوم تشومسكي[18]، وهم يرون أنَّ ما ذكروه من وجود شِبْه اتصالٍ بتراثنا، وخاصة عبد القاهر الجرجاني[19]، أولى منه أن نعود به إلى الجرجاني نفسه، وأن نوسعه ونطوِّره ونحدِّثه من داخلنا نحن، وليس مما نستجلبه، وخاصة أنَّ هذه النَّظريات الحداثيَّة مستمدة من فلسفة أوروبيَّة كثير منَّا لا يعرف عنها شيئاً، لذلك نأخذ النَّتائج من دون الأصول، والظَّواهر من دون الجواهر، ومع ذلك فأنا أدعو طلبة العلم جميعاً أن يعرفوا هذه النَّظريات وأسماء أصحابها على أنَّها من جملة المعارف التي لا بدَّ من أن يعرفوها، ولكن عليهم أنْ يتجاوزوا ذلك.

وكيف تقيِّم حالة النَّقد العربي اليوم؟

عندنا مجموعة في جامعاتنا العربيَّة لا يزالون غير معروفين على النِّطاق العامِّ، لكنَّهم يبشّرون بالخير، وأكثر الأدباء مارسوا النَّقد. فطه حسين والعقَّاد والرافعي وإبراهيم المازني وغيرهم كانوا أدباء ونقّاداً في الوقت نفسه، بل هم حملوا راية النَّقد. ثم جاء النُّقَّاد من دون أن يكونوا أدباء، مثل أنور المعداوي[20]، وبقي منهم الآن شاعر مثل أحمد عبد المعطي حجازي[21]، وإذا كان بعضهم لا يستسيغ شعره، لكن نقده الذي كان ينشره في الأهرام كان نقداً مقبولاً عند كثيرين، وليته استمرّ فيه، فليس له مثيل في الوقت الحاضر.

وماذا عن الحداثيين والبنيويين اليوم؟

الحداثة وما بعدها تمثَّلت حضوراً في الشِّعر وحده، ولذلك هجم علينا أكثر هذا الشِّعر غير المفهوم وغير المستقيم لا لغة، ولا أسلوباً، ولا معنى، ولا مضموناً، ويحسُّ بعضنا أنَّه لا ينتمي إلينا، ولا يمكن أنْ تُبنى عليه نهضة شعريَّة أو ثقافيَّة، وقد انقضى عليه ما يزيد على 70 سنة، وهي مدَّة كافية للحكم على التجربة.

والتَّجربة التي تتحرك في الفضاء، في الفراغ، لا يمكن أنْ تُصبح لها جذور في الواقع، فإذا تركت الشعر لا تجد أثراً للحداثة، ولا لما بعدها. وربما كان أفضل الحداثيين في الشعر هم الروّاد، وفي طليعتهم الشاعران المتميزان صلاح عبد الصبور، ونزار قباني (أنا أعدهّ في طليعة الحداثيين)، رحمهما الله، وقد ربطتني بهما مودّات وذكريات، وهما من أوائل الروّاد.

وإذا أردنا التوسع قليلاً، فإنّ الفرق كبير بين مصطلح «الحديث» و«الحداثي» في رأي النقاد المحدثين من عرب وأجانب. وقد مضى على هذا الشعر «الحداثي» ثلاثة أرباع القرن منذ زمن رواده العرب الأوائل، وخاصة المصريين والعراقيين، ولا يزالون في مراحل التجربة التي يتسع مداها مع السنوات حتى دخل في هذا النوع من الشعر من ليس له بالشعر صلة، بل ليس له في الكتابة أصلاً أية صلة، وأكثر هؤلاء الواغلين في هذا الشعر لا يعرفون من اللغة العربية وقواعدها وأصولها حتى ما يعرفه تلاميذ المدارس الثانوية. ولو كان الأمر أمر تجارب فنية أو فكرية، لكان الأمر مقبولاً، بل كان مطلوباً إذا نهض به من يستطيع حمل رسالة التجربة والتجديد، وهي رسالة أشبه ما تكون بـ «الأمانة» التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، فقد أبى أن يحملها كثيرٌ من القادرين عليها، وأشفقوا منها، فكيف بمن لا يكاد يقيم لسانه، ولا قلمه، سطراً صحيحاً من النثر أو بيتاً من الشعر. فالاعتراض ليس على فكرة التجربة والتجديد في حدّ ذاتهما، وإنما على هؤلاء المتطفلين عليهما. ونحن محتاجون في كل جوانب حياتنا إلى التجربة الجادة والتجديد الواعي، وإلى «التغيير» الذي ينهض به أهله القادرون عليه.

وماذا عن أدونيس؟

أدونيس انتهى، ما عاد لهؤلاء جمهور، إلا قلة قليلة يشايعونهم لعدة أسباب، وعلى طرف لساني وقلبي كلام كثير ليس هنا مجال البوح به.

من القضايا التي تشغل الرأي العام العربي مسألة حقوق المرأة في زمن الديمقراطيَّة، كيف ترى تحقيق ذلك؟

لا يجوز أولاً أن نشنَّ حرباً بين الرِّجال والنِّساء في ما يتصل بحقوق المرأة، فحقوقها يجب أن تكون واضحة ومضمونة، يضمنها ديننا، وتضمنها أخلاقنا العربيِّة وشيمنا الشَّخصيِّة. لذلك، لا أحبُّ الاستكثار من الحديث عن هذا الأمر، ولا أستحسن تأليب النِّساء ـ عن غير فهم ـ على الرجال. فالرجل صديق للمرأة، وراعٍ لها، ولا يجوز أن يُعدَّ عدوَّاً أو منافساً. وأنا أؤيد دراستها إلى أعلى الدرجات العلمية، وأؤيد توليها المناصب العليا إذا كانت جديرة، وأؤيد دخولها البرلمان بحسب تطور المجتمع، فإذا كانت تستطيع فلا مانع من ذلك.

ماذا تقول لدمشق اليوم؟

أن تتقي الله في نفسها، والحديث إليها كالحديث إلى كلِّ مدينة عربية، وحاكمها مسؤول عن شعبه، فإذا كان شعبه أو أكثره لا يريده، عليه أن يُسلِّم المسؤوليَّة إلى غيره.

هل لك تخوفات على الأُمَّة؟

كما أني لا أخاف على اللغة، كذلك لا أخاف على الأُمَّة، فهي اليوم في مرحلة الضَّعف، والضعف يظهر كثيراً من العيوب، لذلك كثرت عيوب الأُمَّة الآن، لكنها ليست في مرحلة الاحتضار، كما يشيع بعضهم، وعلينا دائماً أن نبث روح الأمل والتَّفاؤل عن فهم ووعي وبصيرة بالمستقبل. صحيح، أننا نحن في حالة ضعف، لكن ثمَّة فرقاً بين الضَّعف والاحتضار.

كيف ترى حضور القبيلة في المجتمع العربيِّ؟

نحن عملنا مشكلة في قضية القبيلة، فقد أضعفت الحكومات شيوخ القبائل وزعماءها، وفي الوقت نفسه نمت العقليَّة القبليَّة في إدارة الدولة والمؤسسات، وأسأل اليوم عن دور الزعامات القبلية هل يدين لها أحد؟

يلقبونك بشيخ العربيَّة، وتقرّهم في ذلك، رابطاً إياه بمقولة الشيخ الأكبر ابن عربي، وهي: «الشَّيخ من حملَ عنك المشقَّات، وأدخلك منازل القربات، والشَّيخ من نقل اسمك ومحا رسمك، والشَّيخ من أمات نفسك قبل أنْ تموت، وجال بروحك في عالم اللاهوت والملكوت»، هل ذلك اقتراب من ابن عربي وإقرار بالصِّوفيَّة؟

عندي لابن عربي موقع تقدير لغويٍّ، أدبي بياني. أما الاستشهاد به الذي ذكرته، فأنت وحدك تحمل تبعاته.

ابن عربي لماذا؟ وكيف ترى الصوفيَّة؟

لا أحد يجهل مكانة ابن عربي، وهو مقدَّر عند كثيرين من أتباعه وغيرهم، ولكنْ في حقول مختلفة. وأمَّا عن موقفي من المتصوِّفة، فأنا أحبُّ ما هو ماسٌّ بأطرافها، أما الإغراق فيها، فيتنافى مع طبيعة الإنسان العربيِّ عامَّة، وهو أقرب إلى غير طبيعة العرب.

لماذا؟

لأنَّ العربيَّ لديه وضوح كامل، وهو ابن البادية والفضاء مفتوح أمامه. لذلك، لا تجدُّ عربياً يميل إلى الإسراف في التأويل والإغراق في الرُّموز، لذلك قلت لك: أنا ألمس من الصوفية أطرافها، ولا أحبُّ التَّعمُّق فيها.

يتهم بعضهم القصيدة العربية بالتفكك الموضوعي والعضوي، ما رأيكم في ذلك؟

هذا كلام الذين لم يقرأوا قصيدة واحدة كاملة من القصائد الطويلة الجاهلية والإسلامية، وإنما اكتفوا بقراءة مختارات مدرسية من أبيات متفرّقة. وأنا أتولى تدريس هذا الموضوع لطلبة الدكتوراه خلال السنوات العشر الأخيرة. والدارس الجادّ الذي يربط مطالع القصائد الجاهلية بنهاياتها، ثم يتتبع سياق القصيدة، يدرك الربط الوثيق في القصيدة في وحدة واضحة، هي وحدة «الجو النفسي» للشاعر، على الرغم من تعدد الأغراض والموضوعات الشعرية التي توهم أن القصيدة مفكّكة.

يقول الراحل نزار قباني في نص نثري له: «القصيدة العربية عندما وصلت إلى إسبانيا كانت مغطاةً بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي»، ما رأيكم؟

هذا كلام شاعريّ جميل، ولكنه ليس حكماً نقديّاً. فليس من شك في أن البيئة الأندلسية أثرت في الشعراء، ولكن في بعض شعر المشرق ما لا يقلّ رونقاً حضارياً زاهياً، وفيه ما هو سوى ذلك، وفي الدراسة الجامعية نتجنّب الأحكام العامة.

ختاماً، أعود إلى ما اشتهر به ناصر الدين الأسد، ومطاولاً سمعته بالآفاق، فبعد المعركة النَّقدية التي دارت حول طه حسين وكتابه «في الشِّعر الجاهلي»، والتي عُدَّ فيها كتابكم الموسوم «مصادر الشِّعر الجاهلي» ردّاً حقيقياً على دعاوي طه حسين، وتأصيلاً جاداً وعلمياً للشِّعر الجاهلي، هل تعتقد أنَّنا الآن بحاجة إلى تلك المعارك النَّقديَّة التي ساهمت في إثراء السَّاحة النَّقديَّة العربيَّة، ثمَّ ما هو رأي الأسد في مصادر الشعر الجاهلي وموقفه من نظرية طه حسين في ذلك الشعر؟

تعرّض كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي لكثير من الردود عليه حين صدر وخلال الأعوام التالية في حياته. وكان منهج الذين تناولوه بالردّ أن يقفوا عند النصوص والروايات التي وردت في الكتاب، ومعالجة طه حسين لها، والردّ على آرائه رأياً رأياً. وقد نجح أكثرهم في ذلك، بما يغني عن التصدّي لآراء طه حسين بهذا الأسلوب الجزئي. أما مصادر الشعر الجاهلي، فقد نظر إلى الأمر نظرة أخرى، ورأى أن المشكلة الحقيقية هي في أن نجيب عن سؤال محدد هو: هل كان للرواة العلماء في القرنين الثاني والثالث الهجريين، من أمثال أبي عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي، وحماد الراوية، والمفضل الضبي وأمثالهم، مصادر أخذوا منها الشعر الجاهلي، وخاصة دواوين الشعر الجاهلي؟ وقد أسهب مؤلف مصادر الشعر الجاهلي في ذكر القرائن والشواهد والترجيحات على أن الرواية الشفهية للشعر الجاهلي كانت متصلة مستمرة منذ الشاعر نفسه إلى هؤلاء الرواة العلماء، ثم أسهب أيضاً في ذكر الشواهد والحجج على وجود دواوين مدوّنة لهؤلاء الشعراء الجاهليين ولقبائلهم. وهكذا أنهى مشكلة الشك في الشعر الجاهلي، إذ قدم مصادره الأولى التي غفل عن ذكرها الذين كتبوا في الموضوع، وهي مصادر تشمل الرواية الشفهية المتصلة والتدوين لدواوين الشعراء وكتب القبائل.

أما في دراستي، فقد تجنّبتُ في جميع الردود على طه حسين التعرّض لشخصه، واقتصرت على مناقشة آرائه وأحكامه. لذلك ارتفعت المعارك (كما سمّيتها) على أن تكون مهاترات تمسّ الشخص نفسه (في ما عدا بعض ردود مصطفى صادق الرافعي، وزكي مبارك)، ونحن اليوم محتاجون إلى معارك نقدية ترقى إلى مستوى المساجلات الفكرية الموضوعية البعيدة من المسّ بالأشخاص. وكتابي ليس ردّاً مباشراً على طه حسين، وإنما هو محاولة جادة للرجوع إلى أصل الموضوع من جذوره في بحث المصادر الأولى للشعر الجاهلي التي أوصلته إلينا.

إننا محتاجون إلى معارك نقدية ترقى إلى مستوى المساجلات الفكرية الموضوعية البعيدة من المسّ بالأشخاص.