المؤلف: ديفيد هارفي

ترجمة: لبنى صبري

مراجعة: الوالي كوبي‏[1] محمد خيدون‏[2]

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 240

 

– 1 –

تطرح ديناميات التعمير التي تشهدها المدن والإشكاليات المرتبطة بها العديد من القضايا اليوم، حيث إن التطور المتزامن والمتلازم لكل من الرأسمالية والتعمير، الذي صاحبته مجموعة من المشاكل تتمثل أساساً بتزايد حدة اللامساواة والفقر والهشاشة والهامشية والعنف… إلخ، جعل مجموعة من الباحثين يتساءلون حول مدى عمق الارتباط بين سيرورة التعمير من جهة أولى، والرأسمالية من جهة أخرى، والمشاكل التي تعرفها المدن الكبرى اليوم من جهة ثالثة. في هذا السياق تندرج مقاربة ديفيد هارفي والذي يرى أن الرأسمالية بعد أن أحكمت قبضتها وسيطرتها على المدن، جعلت منها مجالاً لتصريف فائض الإنتاج، وهذا يجعل نشوء هذه المدن يسير وفق رغبة وطموح الرأسماليين، دون مراعاة حق فئات عريضة من الأفراد في إنشاء مدينة تقوم على مقاسهم وأهوائهم. وقد عمل ديفيد هارفي من خلال استثمار مفهوم الحق في المدينة على تحليل سيرورات تطور المدن وعلى إبراز آليات استغلال الرأسمالية للمجال الحضري كمكان لتصريف فائض الإنتاج، كما حاول أيضاً تحليل الآليات التي تقوم من خلالها بالاستيلاء على هذا المجال ووضعه تحت سيطرتها. وفي هذا السياق تساءل عن إمكان نشوء مدن متمردة، وثورة حضرية تناهض هذا الاستلاب، وتطالب باسترجاع السيطرة على المدينة، بعبارة أخرى باسترجاع الحق في المدينة.

يقع الكتاب في 240 صفحة من الحجم الكبير، موزعة على قسمين اثنين، القسم الأول الموسوم بـ «الحق في المدينة» يحتوي على أربعة فصول، والقسم الثاني المعنون بـ «ثورة الحضر» يتكون من ثلاثة فصول، إضافة إلى تقديم للمترجمة. ويتشكل الكتاب من عنوان رئيسي وهو مدن متمردة وعنوان فرعي وهو «من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر» بحيث يختزل العنوان الرئيسي أطروحة ديفيد هارفي حول المدينة، وحول الدور الذي قد تضطلع به في التغيير الاجتماعي، وتحديداً في التصدي للنظام الرأسمالي، أما العنوان الفرعي، فيتضمن إحالة ضمنية إلى هنري لوفيفر، الذي كتب مؤلَّفين أحدهما بعنوان الحق في المدينة، والآخر بعنوان الثورة الحضرية. ويشير هذا العنوان الفرعي إلى الأساس النظري والمفاهيمي الذي يستند إليه ديفيد هارفي ويناقشه في نفس الوقت، كما يشير في الآن ذاته إلى القاعدة والأرضية التي على أساسها تتشكل المدن المتمردة، والتي تكمن بالأساس في مفهوم الحق في المدينة وما يرافقه من حقوق اجتماعية سياسية واقتصادية وثقافية.

– 2 –

استهل الباحث في هذا الكتاب بمدخل عنونه «رؤية هنري لوفيفير»، حيث يعد هذا الأخير أول من صاغ مفهوم الحق في المدينة تأثراً واستجابة للموجة المدمرة التي عرفتها باريس في إثر غزو الشركات الأمريكية الرأسمالية خلال الستينيات من القرن الماضي، التي سعت لإلغاء خصوصيات المدينة وتنميطها ضمن نموذج استهلاكي خال من أي حس جمالي، وذلك داخل سيرورة واسعة لتطور الرأسمالية التي أصبحت تصرف أزماتها داخل المدينة، وتعتبرها مكاناً للتخلص من رأس المال المتراكم. وبالتالي فإن مفهوم الحق في المدينة لم يكن إبداعاً من نحت مخيِّلة لوفيفر، وإنما عبارة عن صرخة نابعة من أعماق المدينة وأحيائها الفقيرة، حيث ظهرت هذه الفكرة أيضاً في الفترة نفسها التي صاحبت ظهور الكتاب (سنة 1968) في مجموعة من الاحتجاجات داخل الوسط الحضري، وقد حاول لوفيفر من خلال هذا المفهوم أن يبرز أهمية هذه الاحتجاجات وقدرتها على إحداث التغيير، وذلك ضدّاً على التصورات الماركسية التقليدية – ولا سيَّما أن الكتاب صدر بمناسبة الذكرى المئة لصدور كتاب رأس المال لماركس – التي تقلل من قيمة الحركات الحضرية وتركز اهتمامها فقط على الحركات العمالية.

– 3 –

تناول ديفيد هارفي في الفصل الأول من الكتاب مفهوم الحق في المدينة من منظور تعريف بارك لها، الذي يرى أن المدينة هي بناء من شيْد الإنسان، ونتيجة لممارسات الإنسان على المجال المحيط به وعلى ذاته أيضاً، فهي عبارة عن سيرورة تشكيل الإنسان لذاته ومجاله، وبناء عليه يكون الحق في المدينة هو مطالبة بالحق في استرجاع السيطرة والتحكم في المصير من جهة، ومن جهة أخرى، عبارة عن مطالبة بالحق في استرجاع القدرة على التحكم في منتوج من صنع أيدينا، وهو ما عبَّر عنه ديفيد هارفي بعبارة «الحق في تشكيل مدينة على هوى قلوبنا»، وهو في واقع الأمر أكثر الحقوق أهمية.

إن المدينة حسب ديفيد هارفي، ولوفيفر أيضاً، هي امتداد لمبادئ الرأسمالية وتناقضاتها القائمة على الجشع والرغبة في تصريف فائض الإنتاج وتحقيق المزيد من فائض القيمة. كما أنها امتداد للاستلاب الذي تمارسه الطبقة البرجوازية وتجسيد له في الآن ذاته، حيث إنها تبنى، في نفس الوقت، من خلال الرأسمال الذي تمت مراكمته عبر استغلال جهود العمال، ومن خلال سلب العمل الجماعي الذي تم شيده من طرف سكان المدينة. وتتم هذه العملية حسب هارفي داخل سيرورة التطوير العمراني؛ فهذا الأخير يعَدّ متنفساً تصرف فيه الرأسمالية فائض الإنتاج، الوضع الذي يجعل من سيرورة الحضرنة نتيجة حتمية لتطور النظام الرأسمالي. وقد ابتدأت هذه السيرورة في باريس وامتدت إلى نيويورك في الولايات المتحدة، لتتحول بعدها إلى سيرورة جارفة تهدد باكتساح العالم؛ حيث تم دفع سكان القرى إلى الهجرة وسلبهم أراضيهم وتكديسهم داخل المدينة. كما تم أيضاً توزيع السكان داخل المدينة حسب مواقعهم الطبقية وفئاتهم الاجتماعية، وبذلك صارت مورفولوجية المدينة نفسها وبنيتها انعكاساً للّامساواة الاجتماعية الكامنة في النظام الرأسمالي، فشوارع المدينة وأحياؤها تبوح بما فيها من تفاوتات طبقية. في ظروف كهذه يتساءل ديفيد هارفي من داخل مقاربة هنري لوفيفر وتحديداً من داخل مفهومه «الحق في المدينة» عن إمكان وجود بديل حضري، وعن إمكان قيام ثورة حضرية تمكننا من استعادة السيطرة على مدينتنا.

– 4 –

في سياق إبرازه العلاقة الوطيدة بين الرأسمالية والاستثمار العقاري داخل المدينة، حاول ديفيد هارفي في الفصل الثاني أن يبين أن هناك جذوراً حضرية للأزمات الاقتصادية التي عرفها النظام الرأسمالي خلال سنوات 1929 و1973 و1987 ثم 2008، بدأت بمضاربات عقارية. ويشير هارفي في نفس السياق إلى أن للاستثمار العقاري والمنافسات العقارية دوراً في توجيه النظام الاقتصادي، وهو أمر أغفله ماركس، الذي ركز فكره أكثر فأكثر في تحليله للنظام الاقتصادي على عنصر الإنتاج، وغاب عن ذهنه ما أسماه «خصائص التوزيع» التي تتضمن الفوائد والإيجارات والضرائب والأجور… إلخ، وقد عجز العمرانيون الماركسيون بدورهم – حسب تعبير هارفي – عن فهم دور سوق العقارات في خلق ظروف أزمة 2007 – 2008 وما أعقبها من بطالة وتقشف، وذلك لأنه لم تكن هناك أي محاولة جادّة لإدماج فهم عمليات الحضْرنة والعناصر المكوِّنة لبيئة البناء في النظرية العامة لقوانين حركة رأس المال.

وتوقف ديفيد هارفي في الفصل الثالث عند إشكالية أساسية تطرحها المدينة، وهي تلك التي تتعلق بتدبير الكومونات، ورأى أن قوة العمل الجماعية هي التي تنتج الكومونات، فالمشاع ليس شيئاً وجد في لحظة معينة وفقد، وإنما هو شيء يتعرض باستمرار لعميلة الإنتاج وإعادة الإنتاج من طرف قوة العمل الجماعية، هذه الأخيرة التي تحرم من منتوجها بفعل عمليات التسييج والخوصصة، التي لا يمكن عدَّها ضمن هذا التصور سوى نهب لحقوق هذه الفئة الخلّاقة والمبدعة. إن اقتراح الملكية الفردية كحل للإشكاليات التي تطرحها الأملاك الجماعية هو اقتراح مضلل، فهذه الأملاك أُنتجت بشكل جماعي، والواقع أن هذا التصور المضلل يفرض نفسه بقوة ويسعى بكل عزم إلى الاستيلاء على الكومونات الحضرية من خلال تجريد السكان الأصليين من ممتلكاتهم، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة (من خلال الضرائب العقارية)، الأمر الذي يؤدي ليس فقط إلى حرمان فئة منتجة لمنتوجها الخاص، وإنما أيضاً إلى تدمير هذه الكومونات وتخريبها.

والمدينة هي نفسها عبارة عن كومونة أنتجها العمل الجماعي، وبالتالي فإن الحق في المدينة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال منح الحق في استخدامها لكل من شارك في إنتاجها، والنضال من أجل هذا الحق يكون ضد القوى الرأسمالية التي تستحوذ على عائدات أنتجتها الحياة المشتركة لأفراد آخرين، وتدمر المدينة ككومونة اجتماعية وسياسية صالحة للعيش فيها.

إن فكرة الكومونات، شأنها في ذلك شأن فكرة الحق في المدينة، من السهل على القوى الرأسمالية الاستيلاء عليها. ففي الأزمة الاقتصادية الأخيرة استولى القطاع الخاص على الكومونات على اعتبار أن ذلك هو الشرط الأساسي لإنعاش النمو، الأمر الذي يستدعي إيجاد طرق مبتكرة لاستخدام سلطة العمل الجماعي من أجل الصالح العام، والحفاظ على القيمة المنتجة تحت سلطة قوة العمل الجماعية التي أنتجتها.

– 5 –

أبرز ديفيد هارفي في الفصل الرابع من خلال مثال تجارة النبيذ أن النظام الرأسمالي يحقق العائد أساساً من خلال الاحتكار، وهو ما يعد تناقضاً كامناً في صلب هذا النظام، حيث إن موجة العولمة والنيوليبرالية التي تطالب بفتح الحدود أمام السلع والرساميل تتعارض مع مبدأ الاحتكار؛ ففي الآونة الأخيرة أدى التطور التكنولوجي في وسائل النقل والتواصل إلى تسهيل حركية المنتوجات، وهو الأمر الذي أدى إلى تشديد المنافسة وتقويض العائدات الاحتكارية المرتبطة بالمجال المحلي، أو بصيغة أخرى المنتوجات المحلية. لكنْ بما أن النظام الرأسمالي لا يمكنه التخلي عن هذه العائدات، فقد بقي متمسكاً بأهمية المستوى المحلي، وذلك من خلال دعم الخصوصيات المحلية، وإبراز تأكيد المنتوجات المحلية لهذه الخصوصيات.

يؤدي سعي الرأسمالية إلى الارتكاز على الخصوصيات المحلية لتحقيق عائدات احتكارية إلى نتائج متناقضة، فهو يحاول جعل مدينة ما جاذبة فيقوم بتوفير كل البنى الأساسية الكفيلة بجلب المستهلكين، لكنه في الآن ذاته يقوم بتدمير التفرد والخصوصية التي تميز المدينة، ويوشك على جعلها مدينة لا تختلف عن أي مدينة أخرى. وهو الأمر نفسه الذي حدث في برشلونة، فهذه المدينة بحكم رأسمالها الرمزي اجتذبت الكثير من السياح والمستثمرين، وسرعان ما بدت المراحل اللاحقة من تطوير الواجهات البحرية تماماً مثل غيرها في العالم الغربي، كما حلت المتاجر العالمية محل المتاجر المحلية وأزاح التحسين العمراني مجمعات سكنية قائمة منذ زمن بعيد، ودمر النسيج الحضري القديم وفقدت برشلونة بعضاً من علامات تميّزها.

– 6 –

رأى الكاتب في الفصل الخامس أن المدينة هي مجال حيث تتمظهر بالصورة الأكثر جلاء الهيمنة الطبقية واللامساواة الاجتماعية؛ وهي أيضاً مجال حيث تتشكل المقاومات الأكثر جرأة لهيمنة النظام الرأسمالي، وقد تبين ذلك بصورة واضحة خلال القرن التاسع عشر عبر مجموعة من التمردات والاحتجاجات التي بنى الحضر مسرحاً لها، والتي أثارت انتباه السياسيين إلى ضرورة إعادة هيكلة المدينة بحيث تصبح أكثر قابلية للضبط والمحاصرة من طرف القوى الأمنية.

وفي هذا الصدد ينتقد هارفي التصورات الماركسية الكلاسيكية التي ترى أن المعمل قاعدة الهيمنة والاستغلال، وأن الثورة وزوال النظام الرأسمالي يتحققان فقط من خلال ثورة عمالية تعيد توزيع الثروة والسلطة وتخول للعمال استرجاع السيطرة على ما صنعوه بأيديهم، ويرى عوضاً من ذلك أن استلاب فائض القيمة الذي تمارسه الطبقة المهيمنة داخل المعمل، يتمظهر ويتجلى بصورة أوضح داخل المدينة والوسط الحضري، حيث ينعكس النهب الذي يعانيه العمال على حياتهم اليومية وعلى استعمالهم اليومي للمجال، بل حتى إنه يتكرس ويزداد عمقاً وحدّة، حيث تقوم الرأسمالية من جديد بنهب أجر العامل من خلال المتاجر والعقارات وغيرها. كل هذا يجعل الحضر مكاناً استراتيجياً لمقاومة النظام الرأسمالي، كما يجعل كل الحركات الحضرية متضمنة بُعداً طبقياً. فمطالبات هذه الحركات باستعادة حق معين مهما كان جزئياً، هو مطالبة بالحق في المدينة، والذي هو عبارة عن مطالبة بالتحكم في المنتوج الجماعي (منتوج ساهم في إنتاجه البناؤون والسائقون والنجارون… إلخ وليس العمال فقط) الذي تحتكره القلة، والتي تنطوي بدورها ضمن حركة أكثر شمولية وهي مناهضة الاستغلال والاستلاب الذي يمارسه النظام الرأسمالي.

– 7 –

يدين الكاتب في الفصل السادس مجموعة من النعوت التي وُجّهت للمشاغبين ولأعمال الشغب التي تمت في شوارع مجموعة من المدن، ويثير الانتباه إلى أن ما قام به هؤلاء الشباب لا يختلف عما قامت به الرأسمالية لشوارع المدينة، بل حتى إنه أقل ضرراً مما يقوم به الرأسماليون، الذين يهددون سلامة المناخ والعالم بأسره، ولا أحد يستطيع الوقوف في وجههم، على عكس أعمال الشغب التي سرعان ما يتم سحقها والقضاء عليها. إنه شكل آخر من اللامساواة الكامنة في النظام الرأسمالي، ففي الوقت الذي يحاسب المشاغبون على أعمالهم التخريبية بكل صرامة، يفر وينجو الرأسماليون من أعمال أكثر وحشية وأشد ضراوة.

في الفصل السابع والأخير استحضر ديفيد هارفي حزب وول ستريت كمثال على الفساد الذي يمكن أن تصير إليه الأوضاع عندما يجد النظام الرأسمالي حريته ويشق طريقه إلى أعلى مراتب السلطة، حيث سيطر هذا الحزب في الولايات المتحدة الأمريكية على النظام السياسي وقام بإفساده من خلال فرض هيمنة المال والثروة على السياسة، كما نهب ثروات المواطنين والدولة، وأخضعهم بكل السبل الممكنة، وسعى كذلك إلى تضليل النقاشات العامة وصرفها عن المشكلات الحقيقية التي يجب تناولها والتي تتعلق أساساً، حسب هارفي، بالإشكاليات السياسية والاقتصادية العميقة داخل المجتمع وبالحرب الضروس التي يخوضها حزب الأغنياء ضد الفقراء وعامة الشعب.

– 8 –

وفي هذا الصدد يشيد هارفي بمجموعة من الحركات التي تمنح بصيصاً من الأمل في إطاحة النظام الرأسمالي والهيمنة السياسية التي يمارسها، والتي ابتدأت بوادرها في الأعوام الأخيرة بمجموعة من المبادرات باحتلال فضاء عام مركزي من طرف مجموعة من المحتجين وجعله مكاناً للنقاش. وتمثل هذه المبادرات حسب هارفي خطوة مهمة جداً في سبيل استعادة السلطة والثروة، وذلك أنها تعبير ملموس، عن أفكار لم يتسنَّ التعبير عنها عبر قنوات أخرى، تتمثل برفض الطبقة المسحوقة للاستغلال والاستلاب الذي تعانيه في ظل النظام الرأسمالي. ويشير هارفي في سياق مساندته لهذه الحركات بضرورة توحيد الصفوف ووقوف جميع الفئات المستغلة ضمن وحدة متجانسة في وجه الأقلية المسيطرة، وذلك أولاً، من أجل استعادة الحق في المجال العام، وثانياً، من أجل تحقيق مدينة بديلة ونظام سياسي واقتصادي بديلين.

ومن ثم، تتلخص أطروحة ديفيد هارفي في هذا الكتاب، في أن هيمنة النظام الرأسمالي وسيطرته تتجلى بصورها الأكثر جلاءً داخل المدينة، حيث لا مساواة ولا عدالة اجتماعية تشمل كل جزء من جوانب الحياة الحضرية اليومية؛ فالاستلاب هو جوهر المدينة، هو الذي كان أساس قيامها منذ البداية، وتطورها هو امتداد له. ومعنى ذلك، أن المدن تظهر نتيجة لاستثمار فائض القيمة، هذا الأخير الذي يُستلب من طبقة عاملة مسحوقة، وإعادة توظيفه داخل المدينة في شكل استثمارات عقارية وتجارية… إلخ، فينتج من ذلك تدمير للمدينة كمجال حامل لخصوصيات ثقافية ولمضامين سوسيوتاريخية من جهة، ومن جهة أخرى استيلاء على منتوج خلقه العمل الجماعي، ليصبح تحت سيطرة أقلية مهيمنة. وبناء على هذا الأساس يكون الحق في المدينة هو الحق في استرجاع سيطرتنا على المدينة وقدرتنا على تغييرها وتكييفها مع هوى قلوبنا، والمطالبة بهذا الحق هو عبارة عن تصدٍّ للنظام الرأسمالي، الذي يعَدّ أصل كل المشاكل الاجتماعية، وهو ما يجعل المدينة اليوم والحركات الحضرية – وليس الحركات العمالية – حسب هارفي، بصيص الأمل الوحيد للقضاء على الاستلاب والاستغلال الذي تمارسه الرأسمالية.

ختاماً، لا بد من أن نشيد بهذا العمل الذي يمكن اعتباره مرجعاً مهماً لفهم التحولات التي عرفتها المدينة، وما زالت. ويمكن القول إن التحليل الذي يقدمه ديفيد هارفي في هذا الكتاب يسلط الضوء وفق رؤية نقدية على مجموعة من الظواهر الحضرية، كما يمنح أفكاراً مهمة حول سيرورة التعمير ونتائجها على المدينة والمجتمع، وينفتح في نفس الوقت على آفاق جديدة وطموحات كبيرة في مجتمع بديل يتحقق عبر الحركات الاحتجاجية الحضرية، وبذلك تكون المدينة ليس مسرحاً للتغيير فقط ولكن قاعدة ومنطلقاً أساسياً أيضاً نحو تغيير شامل يتحقق عبرها نظام اقتصادي واجتماعي أكثر عدالة.