هذا النص هو تقديم كتاب “مسيرة تحرر: مذكرات محمد فايق” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (أنظر المصادر أدناه).
فاجأني الأخ الأكبر العزيز السيد محمد فايق بطلب تقديم هذه المذكرات التي كان القارئ العربي، بل والأفريقي، وكل مناضل من أجل الحرية وحقوق الإنسان، في شوق لكتابتها. كان رد فعلي التلقائي هو الدهشة وكلمات خرجت مني عفويًا قلت فيها إنه سيدخلني التاريخ من دون مناسبة، وكنت أقصد بذلك أن كتابة مقدمة لمذكرات قامة رفيعة شامخة مثله شرف كبير رأيت أنني لا أستحقه. ولا يمثل هذا في تقديري أدنى مبالغة، فالسيد محمد فايق واحد من الرجال الذين سما عطاؤهم لوطنهم بلا حدود، وامتد هذا العطاء إلى قارته الأفريقية، فكان بطلًا منتصرًا في معارك تحرير بلدانها، واستمر عطاؤه لها بعد الانتصار في معارك الاستقلال في مجالات أخرى متعددة من دون انقطاع. كذلك حظيَ الوطن العربي بقبسٍ من عطائه وبالذات في الحركة العربية لحقوق الإنسان، ناهيك بمساهماته الدولية التي تلقى احترام الجميع وتقديرهم في قضايا حقوق الإنسان على الصعيد الدولي؛ فالسيد محمد فايق واحد من القلائل في التاريخ المصري الذين تنوع عطاؤهم ما بين الكفاح المسلح وطنيًا وأفريقيًا، والعمل الإعلامي والدبلوماسي والسياسي في مصر على أعلى مستوى، والحركة الحقوقية من أجل حقوق الإنسان على الصعد كافة؛ وطنيًا وعربيًا وأفريقيًا وعالميًا، وذلك كله من دون أن تشوب سيرته الذاتية شائبة واحدة، فقد عاش حياته مهتديًا بمنظومة أخلاقية رفيعة لم يحد عنها يومًا في نقض واضح لنصائح مكيافيلِّي في كتابه الشهير، وهو في هذا مطابق في سلوكه للزعيم جمال عبد الناصر الذي اختاره ليكون واحدًا من رجاله الأساسيين، وأوكل له مهماتٍ جسيمة في النضال المسلح والإعلام والدبلوماسية نجح فيها جميعًا باقتدار يشهد به التاريخ.
ويطيب لي أن تكون نقطة البداية في هذا التقديم عن المنظومة الأخلاقية لهذا الرجل، وبعض سماتها تظهر أول وهلة لكل من تعامل معه في بشاشته وهدوئه واحترامه للآخرين، ووفائه لكل من تعامل معه، وجديته الفائقة في العمل، ووطنيته الصادقة ومبادئه القويمة الراسخة، غير أن بعضها الآخر، كالاعتداد المطلق بالنفس، كشفت عنه لمن لم يعرفه عن قرب، المحن التي واجهها في حياته الممتدة، وأشدها قسوة الظلم الذي تعرض له من دون وجه حق في أحداث أيار/مايو 1971 التي أفضت إدارة السادات لها إلى الحكم عليه بالسجن لعشر سنوات من دون ثبوت أي تهمة عليه.
ورغم قسوة الظلم والسجن وحنينه الدائم إلى أسرته وخشيته عليها فإنه كان الوحيد الذي لم يتردد لحظة في رفض عرض الإفراج عنه بعد نصف المدة بشرط كتابة اعتذار للسادات عما ورّطه فيه زملاؤه، ونفى أن يكون أحد قد ورّطه، وقال قولته التي ستكتب في سيرته الذاتية بأحرف من نور: «لو كتبتُ مثل هذه الورقة سأفقد نفسي إلى الأبد، أما إذا كتب لي الله أن أعيش فسوف أخرج من السجن وأجد نفسي». وقد كتب الله له حياة ممتدة واصل فيها بعد خروجه من السجن نضاله السياسي والفكري والحقوقي كأقوى ما يكون، بينما كُشِف الزيف عن المؤامرات التي حيكت ضده. كذلك فإن النزاهة المطلقة تمثل بُعدًا من أبعاد منظومته الأخلاقية، وهو ما يتجلى في كلمات أحد وكلاء النيابة له أثناء التحقيق: «يا فندم إحنا دوّرنا وراك بإبرة لم نجد أي شيء مخالف للقانون، حتى إن سيادتك كنت تدفع ثمن مشروبات البوفيه، كما دفعت ثمن المطبوعات التي طبعتها الاستعلامات لحملة انتخاب سيادتك لمجلس الأمة»، وكان آنذاك وزيرًا للإرشاد القومي.
أما الوفاء لأصدقائه ولكل من عملوا معه فحدّث عنه ولا حرج، بدليل الإشارات الغزيرة إلى من تعامل معهم وإلى فَضْل كل منهم في مجاله، وهو ما تضيق به مساحة هذا التقديم، ويجده القارئ الكريم في كل مكان بين سطور هذه المذكرات. لكن تطيب لي الإشارة إلى الكلمات المؤثرة التي سطّرها محمد فايق كشهادة حق عن الراحِلَيْن الكرام حلمي شعراوي ومحسن عوض وسميرة الكيلاني، وليت العمر كان قد امتد بهم، رحمة الله عليهم، ليقرأوا هذه الكلمات الجميلة الصادقة، ومن قبيل الوفاء أيضًا أن أول أعماله بعد ترؤسه المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر كان اختيار بطرس غالي رئيسًا شرفيًا للمجلس مدى الحياة عرفانًا بفضله كأول رئيس للمجلس، وهو سلوك لعل القارئ الكريم يوافقني على ندرته.
كانت حياة محمد فايق سلسلة متصلة من النجاح، فهو الطالب المتفوِّق الذي كان مجموعه في الدراسة الثانوية يؤهله للالتحاق بكلية الطب، غير أنه تصادف أن تعلن الكلية الحربية عن قبول دفعة جديدة، فيطرح عليه والده فكرة التقدم إليها حتى لا يكون ولداه طبيبين، ويقبل الفكرة شريطة ألا تكون هناك واسطة في قبوله «ليترك فرصة للحظ»، لكن القدر شاء أن يُقبل ليؤدي دورًا تاريخيًا إلى جوار زعيم ثورة غيّرت وجه مصر والوطن العربي وأفريقيا والعالم الثالث.
وفي الكلية الحربية واصل تفوقه، وكان من أوائل الخريجين، واختار سلاح المدفعية ثم المدفعية الثقيلة المضادة للطائرات، وكان الأول دائمًا في جميع فرقيز ب الجيش التي دخلها، وتمشغفه الدائم بالدراسة حتى في المجالات غير العسكرية، فدرس الألمانية عامًا في مدرسة الألسن (كلية الألسن حاليًا)، والهندسة فرع المعمار في المعهد البريطاني، وتعلم رياضة الطيران الشراعي وحمل الرقم (19) بين من حصلوا على شهادتها في مصر، ثم رُشِّح لبعثة طويلة الأمد في إنجلترا للحصول على شهادة أركان حرب لم يكن في الجيش المصري سوى ضابط واحد يحملها، واختير في الوقت نفسه ضمن مجموعة لدراسة الهندسة العسكرية في دول أوروبية للحصول على درجة الدكتوراه لتدريس الهندسة العسكرية في الكلية الفنية العسكرية التي كان قد تقرر إنشاؤها.
وفي ذروة حيرة الاختيار صدر قرار تعيينه في الاستخبارات الحربية الذي حرم العسكرية المصرية ولا شك من قيادة فذة، لكنه غيّر مسار حياته ليضطلع بدوره التاريخي في مصر وأفريقيا. وإضافة إلى التفوق الذي ميَّز كل خُطى حياته مثلت القدرة على الصمود في مواجهة الشدائد سمة مهمة من سمات شخصيته الصلبة بلا حدود رغم وداعته الفائقة، ولا أدَل على ذلك من محنة السجن التي تعرّض لها ظلمًا، فقد بلور لنفسه فلسفة لمقاومة السجن وتفادي الأعراض التي سمّاها أمراض السجن كاليأس والاعتقاد في الخزعبلات والتديّن المفرط من دون مضمون سلوكي، ويُطلق عليها كذلك «بصمة السجن». وتمثلت هذه الفلسفة بالقراءة التي جعلته يلقي محاضرات على رفاقه في الليزر والميكروويڤ، وتأليف كتابه المرجع في موضوعه عن عبد الناصر والثورة الأفريقية، وممارسة ما هو متاح من الرياضة، وكذلك بعض الأعمال اليدوية النافعة، كالفلاحة التي لعل شجرة التوت التي زرعها في حديقة السجن وأكل ورفاقه من ثمارها ما زالت قائمة تشهد على إرادة صلبة لمناضل عظيم، والنجارة التي ما زال يحتفظ حتى الآن بمنضدة صغيرة من صنعه لتذكّره بمقاومته للسجن.
ولن أُفسد على القارئ الكريم متعة اكتشاف المحتوى القيم لهذه المذكرات الضافية لرجل أدّى دورًا تاريخيًا في مصر وأفريقيا، ولكني أكتفي بأن ألفت النظر إلى بعض ما ورد فيها من إضافات قيمة في شأن عدد من الموضوعات، وأول ما أود الإشارة إليه هو أن وطنيته الفائقة الصادقة جعلته يتوقف دائمًا عند نماذج المصريين البسطاء فرديًا وجماعيًا التي تعكس وطنية هذا الشعب العظيم، بدءًا بشيخ الصيادين في بور سعيد إبان العدوان الثلاثي الريس عبد المنعم، الذي نقله ورفيقه محمد عبد الفتاح أبو الفضل على مركب الصيد التي يقودها إلى بور سعيد في إطار دعم المقاومة ضد الاحتلال بقيادة عناصر قوات الصاعقة المصرية والاستخبارات العامة، حيث نجح الريس عبد المنعم في المناورة لتفادي نقاط الحراسة الإنجليزية، ثم دعاهما إلى منزلهما حيث كان قد أعَدَّ لهما وجبة شهية من سمك الشبار المشوي ما زال صاحب المذكرات يذكرها، ويذكر حرارة الترحيب الذي لقيه من أسرته بدافع وطني صادق، ومرورًا بالسيدة أمينة الغريب التي خصصت حجرة في منزلها لجهاز اللاسلكي الذي كان قد أتى به من القاهرة، وأفرغت دولابها لوضعه فيه؛ والدكتور يوسف خليل مدير المستشفى الأميري الذي ترك لهم ڤيلته لاستخدامها في أي وقت؛ واليوزباشي سمير غانم واليوزباشي جلال هريدي آنذاك اللذين قاما مع غيرهما من عناصر الصاعقة والاستخبارات العامة بعمليات خارقة بمعاونة آخرين من أبناء بور سعيد البواسل الذين لم يترددوا لحظة في تقديم العون والمشاركة في عمليات المقاومة التي لولاها لما نجحت الضغوط الخارجية في إجبار المعتدين على الانسحاب. وتتواصل سمة الوطنية الصادقة للمصريين عبر صفحات المذكرات والسنوات التي تغطيها لنجد الاستجابة الفورية من أم كلثوم لطلبه بعد عدوان عام 1967 بإعداد أغنية صغيرة من 7 – 8 أبيات عن مصر تحرك الشباب وتعطي الأمل، فانتقت أبياتًا من شعر إبراهيم ناجي في أقل من ساعة لحّنها الموسيقار العبقري رياض السنباطي في يومين أو ثلاثة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعرف فيها قصة هذه الأغنية، وكنت أحسبها من تراث الأغاني الوطنية إبان النضال ضد الاحتلال البريطاني.
كذلك تحدثنا المذكرات عن اتصال صاحبها بالشاعر الفنان الفيلسوف صلاح جاهين لإعداد أغنية عن العدوان على مدرسة بحر البقر إبان حرب الاستنزاف المجيدة فيجده قد انتهى من كتابتها بمطلعها الشهير «الدرس انتهى لموا الكراريس» ليلحنها الفنان المبدع سيد مكاوي فتهز المشاعر وما زالت، ويذهب جاهين إلى صاحب المذكرات وفي يده الورقة التي كتب عليها كلمات الأغنية بالحبر الأسود التي سالت عليها دموع المطربة شادية صاحبة الصوت العذب أثناء التسجيل، وغمرت الورقة باللون الأسود.
وسوف يجد القارئ الكريم في هذه المذكرات روايات تفصيلية صادقة لبعض القضايا التي أدى فيها دورًا قياديًا، أولها تحرير أفريقيا، وقد لفتني في هذا الصدد ما ورد في المذكرات في خصوص إقبال حركات التحرر الأفريقية على مصر طلبًا للمساعدة بعد تأكد نهجها الاستقلالي المعادي للاستعمار عقب تأميم القناة والانتصار في مواجهة العدوان الثلاثي. وتلاقى ذلك مع رؤية الزعيم جمال عبد الناصر لدور مصر في التحرر من الاستعمار في الوطن العربي وأفريقيا، وقد أحسن اختيار ساعده الأيمن في هذه المعركة، فأصبحت القاهرة قلعة للتحرر الوطني في أفريقيا، وأصبح الرجلان أيقونتين للنضال الأفريقي، ومن خلال هذا الدور حظيَ صاحب المذكرات بمكانة غير مسبوقة في أفريقيا حتى بعد أن زال عنه المنصب، وقد لمست هذا بنفسي من بعض اللقاءات التي حضرتها، وكان بعض الزعماء الساسة الأفارقة السابقين والحاليين حاضرين فيها، وعندما حضر الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا إلى القاهرة بعد الإفراج عنه بعام لم يذكر في محاضرته في جامعة القاهرة سوى اسمين هما جمال عبد الناصر ومحمد فايق، وكان عندما تقررت زيارته لمصر قد وافق على البرنامج الذي أعدته رئاسة الجمهورية مع إضافة بند واحد هو لقاء محمد فايق.
وعند إجراء انتخابات جنوب أفريقيا عام 1994 طلب مانديلا من لخضر الإبراهيمي ممثل الأمم المتحدة المشرف على الانتخابات، أن يدعو أربعة إلى حضورها هم جوليوس نيريري رئيس تنزانيا، وكينيث كاوندا رئيس زامبيا، والسيدة غراسا ميشيل أرملة الرئيس الموزمبيقي سامورا ميشيل، ومحمد فايق. أما روبرت موغابي رئيس زيمبابوي فقد دعاه ليكون ضيف الشرف الوحيد في احتفالات عيد الاستقلال 1992، ومن الأمور التي تدل على أصالة الدعم المصري لأفريقيا ما حدث بعد عدوان 1967 من طلب الرئيس النيجيري يعقوب جوون الدعم من مصر لمواجهة الحركة الانفصالية في بيافرا، وكان بحاجة ماسة إلى طيارين، فوجَّه عبد الناصر بالسماح للطيارين الذين تم الاستغناء عنهم لأسباب سياسية بالتعاقد على أساس فردي مع الحكومة النيجيرية، وكان منطقه أنه لا يريد لأفريقيا أن تنتكس بما حدث في مصر، وهو ما يؤكد أن سلامة الرؤية هي مفتاح نجاح أي سياسة رغم أي صعوبات. وقد فوض عبد الناصر محمد فايق بسلطات رئيس الجمهورية في تنفيذ القرار، وقام الطيارون المصريون بدورهم خير قيام في حسم الحرب لمصلحة الحكومة الاتحادية، بل قاموا بتأسيس مدرسة لتدريب الضباط النيجيريين على الطيران بدعم من القاهرة. وكانت مصر أول دولة يزورها الرئيس النيجيري بعد الانتصار، ووصل إلى القاهرة بصحبة محمد فايق بعد انتهاء مؤتمر القمة في أديس أبابا عام 1970، وأصر الرئيس النيجيري على نزول فايق قبله من الطائرة. كذلك تضم المذكرات تفاصيل المعضلة التي واجهتها السياسة المصرية في كانون الثاني/يناير1964 بسبب الانقلاب الذي وقع في زنجبار ضد الحكومة التي كان أعضاؤها من ذوي الأصول العمانية، وكيف كانت قياداتها راغبة في تدخل عسكري مصري رفضه محمد فايق من البداية، وركز على ضرورة حماية العناصر العربية مع الاعتراف بالنظام الجديد لأنه يمثل الأغلبية الأفروآسيوية في زنجبار، وهي معضلة ذكرتني بالقرار الرشيد الذي اتخذته السياسة المصرية في بداية الثورة بقبول حق تقرير المصير للشعب السوداني. ويحكي محمد فايق كيف تعرض لما يشبه «المحاكمة» لدى زيارته عُمان بعد نحو 45 عامًا من تلك الأحداث، غير أنه تمكن من تفسير دوافع السياسة المصرية آنذاك والدفاع عنها، ونجح في جعل الحاضرين يتفهمون ذلك الموقف المصري.
كذلك تسجل المذكرات الأداء الرفيع للسيد محمد فايق كوزير للإعلام (الإرشاد القومي آنذاك)، وقد بدأ عمله باستقبال فيروز كمؤشر على إيمانه بمكانتها وتأكيدًا لاهتمامه بالفن والفنانين العظام في ذلك الوقت، الذين كانوا يعَدّون قوة ناعمة ضاربة لدى مصر، وقد حفل سجل محمد فايق كوزير للإعلام بإنجازات متميزة، كتعيين مراسلين للإذاعة في الخارج لأول مرة، وإنشاء المركز الصحافي في وزارة الإرشاد، وتعيين أول متحدث رسمي لمصر وهو محمد حسن الزيات الذي كان قد عينه رئيسًا لهيئة الاستعلامات. ومن اللافت للنظر حرية الحركة التي كان يتمتع بها في اتخاذ القرارات بدليل اتصال الرئيس عبد الناصر به ليسأله عن صحة الخبر، ولما أكده له اقترح عبد الناصر أن يُعين بدرجة نائب وزير، وقد قُدر لمحمد فايق أن يؤدي عمله كوزير للإعلام في ظروف بالغة الصعوبة بعد عدوان حزيران/يونيو 1967 وتنحي عبد الناصر، والبحث عن النغمة الصحيحة للإعلام في تلك الظروف، ووفاة عبد الناصر، ثم تطور العلاقة مع السادات التي انتهت بأحداث أيار/مايو 1971. ومن الإنجازات التي يعتز بها محمد فايق كثيرًا نجاحه في تطوير وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى الحد الذي أفضى إلى إغلاق وكالة الأنباء العربية التي كانت تتبع الاستخبارات البريطانية غالبًا. ففي أيلول/سبتمبر 1969 طلب توم ليتل مدير الوكالة مقابلة فايق، وقال له إنه يحمل خبرًا أتعسه كثيرًا، لكنه سوف يسعده، وهو صدور تعليمات له من لندن بإغلاق الوكالة لأنها لم تعد قادرة على منافسة وكالة أنباء الشرق الأوسط.
وسوف يجد القارئ الكريم في هذه المذكرات تقييمات بالغة الموضوعية للنظام السياسي في مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، ولأسباب الهزيمة العسكرية في حزيران/يونيو 1967. وربما تكون هذه موضوعات تناولها الكثيرون قبل محمد فايق بموضوعية أو بغير موضوعية، لكن الفضل يبقى لهذه المذكرات في تعزيز البعد الموضوعي في التأريخ لهذه الأحداث. غير أن هذه المذكرات تتفرد بالتأكيد في تفنيد ما عُرف بثورة مايو 1971، وتفضح الملابسات المرتبطة بها، ومهزلة المحاكمات التي تمت والأحكام التي صدرت في إطارها بعد أن أُحيلت القضية على ما سُمي المدعي العام الاشتراكي بعد أن أكد القضاء المصري الشامخ نزاهته ورأى أن لا وجه للاتهام في القضية، وكم هو مذهل مقدار الأكاذيب التي ارتبطت بتلك الأحداث، والتي أعترف بأنني آنذاك قد صدقت جانبًا من رواية السادات لها رغم اعتراضي على نهجه وسلوكه بعد توليه الرئاسة.
تضم المذكرات كذلك معلومات جديدة عن المهمات التي قام بها محمد فايق بتكليف من الرئيس حسني مبارك الذي كانت تربطهما علاقة زمالة قوية منذ الدراسة في الكلية الحربية وسنوات الخدمة الأولى. وعندما أفرج مبارك عن مجموعة سبتمبر التي شملتها اعتقالات السادات بعد اغتياله، وكانت تمثل أطياف مصر السياسية كافة، بدأ يستعين بالسيد فايق في كثير من المهمات في سياق جهوده لاستعادة علاقات مصر العربية، فزار سورية والجزائر وليبيا والتقى ياسر عرفات، وحقق أقصى النتائج التي كانت تسمح بها السياسة المصرية آنذاك، ويجد القارئ الكريم تفاصيلها في صفحات هذه المذكرات، ناهيك بفائدة هذه التفاصيل في معرفة المزيد عن توجهات مبارك، وكيف يؤثر طول البقاء في المنصب في هذه التوجهات.
ولا تخلو هذه المذكرات الرصينة من وقائع بالغة الطرافة أكتفي هنا بذكر اثنتين منها، أولاها ما وقع أثناء رئاسة محمد فايق للجنة الوصاية أو لجنة تصفية الاستعمار المنبثقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة لخمس سنوات متتالية، وكان مقعد الوفد المصري يأتي عادة إلى جانب الوفد البريطاني بحكم الترتيب الهجائي، وفي أحد الاجتماعات بالغ المندوب الأسترالي كثيرًا في الإصلاحات التي تقوم بها بلاده لتأهيل شعب غينيا الجديدة للحصول على الاستقلال، فإذا بالسير هيوج فوت رئيس الوفد البريطاني (اللورد كارادون لاحقًا صاحب القرار 242 الشهير ولم يكن قد حصل على اللقب بعد) يرسل ورقة صغيرة إلى محمد فايق مكتوب فيها باللغة العربية «القرد في عين أمه غزال»، ونشأت بين الرجلين لاحقًا علاقة وثيقة، ويُذكر له أنه استقال من منصبه بعد ذلك احتجاجًا على تواطؤ حكومته مع حكومة روديسيا الجنوبية (زيمبابوي بعد ذلك) في إعلان الاستقلال من جانب واحد بما يعني تسليم الحكم لحكومة الأقلية العنصرية؛ أما الواقعة الطريفة الثانية فتتمثل بتوصية محمد فايق لأسرته بأن ترسل له أطول سيجار ممكن بعد أن حصل على موافقة إدارة السجن بأن تمتد مدّة التريّض خارج الزنزانة حتى ينتهي من تدخين السيجار.
أخيرًا كتب هذا المناضل الفذّ مذكراته لتكون تسجيلًا أمينًا صادقًا كعادته لعطائه لوطنه مصر وقارته الأفريقية وأمته العربية. وسوف تكون هذه المذكرات وثيقة بالغة الأهمية على مرحلة اضطلع فيها صاحبها بأدوار تاريخية حقق من خلالها إنجازات لا يمكن أن تُمحى؛ فاللهم اجزهِ ِخير الجزاء عن وطنه وقارته الأفريقية وأمته العربية.
اضغطوا على اسم الكتاب للحصول عليه:
هذا وكان المركز قد أجرى سابقاً مقابلة مع الأستاذ محمد فايق متوفرة على قناة المركز على يوتيوب
المصادر:
يشكل هذا النص تقديماً لكتاب مسيرة تحرر: مذكرات محمد فايق الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في تموز/يوليو 2023.
أحمد يوسف أحمد: أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية.
أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.