نشأ جيلي في زمن ساده التفاؤل بخصوص مستقبل وطننا العربي، بل انتشر في زمني في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ذلك الشعور الإيجابي بإمكان تجديد الوطن العربي فكرًا وعملًا وحقوقًا وحريات. كان ذلك أحد أهم المحركات الناتجة من هزيمة 1967 التي هزت كل العرب. لكن جيلي سيكتشف عبر التجربة والتضحية مدى صعوبة تغيُّر الوطن العربي، فقد توطنت فيه سلوكيات خاطئة حول الفساد وأسلوب الحكم، وتعمّقت في أبعاده عقد فكرية حول الحرية والحقوق ساهمت في منع تطوره وفرضت عليه التراجع والضعف السياسي. فنحن العرب كنا أكثر انقسامًا مما اعتقد جيلي، كما أن أثر إسرائيل وحروبها وأثر النفط والمال والثروة في إفساد أساليب الحكم كما في إفساد الأحزاب والتيارات ساهم في تغذية الاستبداد. ذلك النظام العربي، الذي اعتقدنا أنه قابل للنمو، لم يسعَ منذ الاستقلال لرعاية التجديد إلا ضمن حدود، بل اكتفى هذا النظام في أحسن حالاته برعاية المظهر العمراني وبناء دولة ريعية يتلقى فيها المواطن الدعم والوظيفة على حساب الإنتاج والمشاركة والجوهر الإنساني. لقد جثم الواقع على صدورنا فأصبحنا كعرب ومنذ وُجدنا في دول حديثة مستقلة عبئاً على أنفسنا.

وعند المقارنة بين حرب 1973 والوضع الراهن، نكتشف كم تراجع الوضع العربي بسبب نخبه وقياداته وبسبب سياسات أنظمته. فما بدا في عام 1973 أنه بلدان عربية في طريقها إلى التقدم وفرز طبقات وسطى حديثة؛ تحول مع الوقت إلى حالة بطالة مقنعة في بلدان غنية، وبطالة دائمة في بلدان فقيرة، وفساد مالي واقتصاد ريعي غير إنتاجي. وما بدا أنه هوية عربية جامعة في ظل هويات وطنية فرعية تحول مع الوقت إلى هويات مفككة. جاء كامب دايفيد بقيادة السادات 1979، ووقعت الثورة الإسلامية في إيران، ثم اندلعت حرب إسرائيل على لبنان ومنظمة التحرير عام  1982، واستمرت الظروف الصعبة تحيط بالوضع العربي: صراعات أهلية، مجازر، حرب عراقية – إيرانية، غزو عراقي للكويت، تحرير الكويت عام 1991، حرب أمريكا على العراق وسقوط الدولة العراقية. خلال عقود تغير كل شيء، بل تحولت الهوية العربية إلى هويات طائفية تأثرًا بالنموذج الإسرائيلي، ثم تحولت الهويات الوطنية إلى هويات طبقية وقبلية وفئوية بسبب عدم تطوير النظام العربي في قضايا أساسية كحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية والمساحة الديمقراطية. هكذا تحول العرب من حالة واعدة نسبيًّا في عام 1973 إلى الاقتصاد الريعي والطبقية المبالغ بها والفقر والبطالة والديون والاحتكار المالي والسياسي عام 2020. لقد حاول العرب الخروج من هذا المأزق التاريخي من خلال ربيع 2011، لكن ذلك انتهى بتصفية (مؤقتة) للروح الربيعية، وذلك بسبب الثورة المضادة التي عمّت الإقليم العربي. فقد فشل قطاع كبير من النظام العربي في استيعاب الظروف العميقة للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أدت بالأساس إلى شعور فئات كبيرة في عدة بلدان عربية بالظلم والحاجة إلى التحرك لتغير أوضاعها.

أولًا: من أسباب التردي العربي

لا توجد إجابة واحدة عن أسباب هذا الوضع المركب المتراجع. إحدى الإجابات مرتبطة بنشوء سلطات في الخريطة العربية جذبتها الرأسمالية الجديدة بتوحشها. هذه الحالة أدت إلى انغماس السياسيين العرب في الجمع بين المنصب السياسي وتجميع المال، وبين المنصب السياسي وتطويع الاقتصاد الوطني ليصبح اقتصادًا خاصًا وملكًا لقادة وسياسيين. في الجوهر لا توجد في الحالة العربية مساءلة ونقاش علني وحريات مضمونة. فمن صفات القيادات السياسية، في زمن توحش الرأسمالية، مضاهاة كبار رجال الأعمال بقدراتهم المالية التي تجيزها إداراتهم غير المساءلة.

هذا هو الفارق الكبير بين مرحلة جمال عبد الناصر الذي لم يترك وراءه شركات وأبناء متنفذين، وبين ما سيقع فيما بعد انقضاء مرحلة السادات. ونجد الفارق نفسه بين الرئيس الجزائري بومدين الذي لم يجذبه المال والرئيس بوتفليقة (رغم الإرث النضالي للرئيس بوتفليقة عندما كان وزيرًا للخارجية)، ونجد الفارق نفسه بين الرئيس نور الدين الأتاسي في ستينيات القرن العشرين والرئيس الأسد بعد ذلك. حب المال والسعي لاقتنائه وتسليم الأقارب والأبناء والزوجات للسلطة السياسية بأي ثمن في ظل تسليع السياسة والإدارة وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد شخصي.

وتتضح مشكلة العرب عبر طريقة انتقال السلطة بعد موت القائد، ففي عملية الانتقال قلّما نجد مكانًا للشعب أو للمجتمع بكل فئاته، ومع انتقال السلطة يستطيع الحاكم الجديد الاستفراد بالسلطة بصورة مطلقة إن قرر ذلك، فلا يوجد من يحد من سلطاته، ولا قوانين حاسمة تمنع الاستفراد، ولا حريات صحافية تسمح بالنقد، ولا برلمانات تضع حدودًا وقلّما نلتزم بالإطار الدستوري. نحن في إقليم قادته يحكمون مدى الحياة، وجمهورياته لا تتغير إلا بالانقلاب والثورات، ومعظم ملكياته، وبدرجات مختلفة، تعيش إما حالة من التكلس وإما حالة مناقضة لها تقوم على الانبهار المطلق بالنماذج الغربية في ظل ضعف في الانتقال الذي يوازن بين القيم وبين التجديد وبين الأسلوب السابق والأساليب الجديدة.

وقد انتقل المرض الرسمي العربي إلى المجتمع وأصبح بالتالي أكثر تغلغلًا في ثقافة المجتمع. لقد أصبحت الثقافة العربية مسطحة بسبب ثقافة البعد الواحد، وذلك في إطار تحول قطاع من ممثليها إلى الرأي الأحادي شبه الرسمي، هذا خلق ثقافة ركيكة لا تقبل النقد والتقييم، ثم حوَّل الثقافة وقطاعًا من المثقفين إلى سلطة رقابة وتقييد حريات. الثقافة لا تنمو إلا بالحرية والابتعاد من الوطن العربي بأن نظامًا كهذا يؤدي إلى الفشل، لكن مسـؤولية كل فشل توضع على الجنود وبسطاء الناس وصغار الموظفين وقلّما توضع على صناع القرار الأساسيين. وهذا يترافق في وطننا العربي مع غياب النموذج واختفاء دور الشعوب العربية في اختيار القادة. وبطبيعة الحال في ظل نقص قيم القيادة المرتبطة بالإنجاز والعدالة والمساءلة لا يوجد في الوقت نفسه مشروع وطني جامع يعزز مكانة الإنسان والتعليم والبحث والاستقلال والاقتصاد والحريات وخدمات العلاج.

يمكن القول إن الدول التي تخضع للهيمنة الدولية الشرسة، كدولنا العربية، والتي تشعر، في الوقت نفسه، بالضعف العلمي والتجديدي والسياسي في إقليم محاط بالدول القوية تنكفئ في نزاعاتها نحو الداخل. فعوضًا من أن تفجر هذه الدول والمجتمعات بنى التنمية والعدالة والنجاح في الداخل والخارج تبدأ بالانفجار نحو الداخل. وهذه هي أحد أهداف الهيمنة الدولية تجاه الخليج وتجاه الشرق الأوسط. فالشعور بالضعف الذاتي كما والتفكك وعمق التحكم الخارجي بما فيه الصهيوني الإسرائيلي تحول إلى عنصر رئيسي في عدائية العرب تجاه بعضهم بعضًا وعدائية الكثير من النخب السياسية تجاه شعوبها. تحوَّل الفشل مع الخارج بل والهزائم المفروضة على الأمة العربية إلى فشل في الداخل، والفشل في الداخل تحول إلى فشل في الخارج وإلى آلية للتدمير الذاتي.

يتحول جزء من هذا الانفجار نحو الداخل إلى انتحار ذاتي، فقد دأبت الأنظمة العربية على خلق أعداء وهميين لمجرد الاختلاف السياسي كما هو حاصل في عدد كبير من الدول العربية مع كل التيارات الشعبية والسياسية القائمة في المجتمع. ففي السابق كان التيار القومي عدوًا للكثير من الأنظمة، وفيما بعد أخذ مكانه التيار الإسلامي بشقه السياسي السني والشيعي، بل يمكن التأكيد أنه حتى المجموعات الإسلامية العنيفة، بكل تناقضاتها، أصبحت أكثر عنفًا بسبب التوسع في السجون والقمع والفساد وغياب حقوق الإنسان. السياسات الرسمية العربية المرتبطة بالفساد واحتكار السلطة لفئة صغيرة من الناس أدت إلى الكثير من العنف كما إلى الدولة الأمنية البوليسية، وهذا أدى بدوره إلى سقوط مشروع الدولة وزيادة الاستعداد للعنف.

مع غياب النموذج في الوطن العربي نكتشف أننا لا ننتمي عمليًا إلى النموذج الغربي أو حتى الصيني أو الروسي أو غيرها. لقد بنينا في منطقتنا نموذج اللانموذج، فقلّما ننجح خارج منظومات تكرس القمع والأمن والنهي والفرض والفوقية. عالمنا في حالة ضياع، لأنه يرفع شعار الأمن منذ عشرات السنين، لكن هذا الأمن في تراجع بسبب غياب العدالة ونقص الحريات وطرائق القيادة البليدة.

وتجيد قيادات العرب لغة الغرب حول حرية المرأة وحول بعض الحريات الشكلية، فهي في خطابها للغرب مع المرأة ومع الحريات الشخصية وتبدو بأنها تؤمن بالتعايش بين الديانات (كل الديانات)، بل وتؤمن بالتطبيع مع إسرائيل وتسعى للحوار مع أكثر المسيحيين واليهود تديُّنًا، بينما لا تقوى على فتح حوار واحد مع تياراتها السياسية، نجدها تتفاهم مع التيار الديني الأمريكي والإسرائيلي وتعجز عن التفاهم مع التيار الاسلامي العربي. لكن هدف الكثير من قيادات العرب أن تأخذ من الغرب الشرعية لقمع مجتمعاتها بالصورة التي تجدها مناسبة.

وتبدو الحالة العربية مستعدة لتقديم نموذج لليبرالية شكلية مفرغة من معظم شروط العدالة والحقوق. فالحريات الحقيقية هي بالأساس حريات سياسية قبل أن تكون حريات شخصية كما تُوهِمنا بعض الدول بأن الإنسان عليه أن يأكل ويؤمن حاجاته ومن ثم ترك السياسة للقادة. لكننا شاهدنا كيف دمرت الفردية القيادية الوطن العربي على مدى عدة عقود فسهلت على الصهيونية مهمتها في تفتيت المنطقة. ستكون أزمة القيادة في المرحلة القادمة أخطر نقاط ضعف النظام العربي. إن إنتاج النماذج السلطوية في منطقتنا، التي تحرض على الاجتثاث، أصبح السائد.

ثانيًا: الخوف من الخارج، التبعية للخارج

بينما يتصادق عدد من العرب مع الولايات المتحدة نجد أن العلاقة مع الولايات المتحدة لم تعد تقوم على أرضية التكافؤ كما كان الأمر نسبيًا في السابق. فالتوازن في العلاقة الأمريكية – العربية الذي عرفناه في سبعينيات القرن العشرين لم يعد قائمًا اليوم. موقف العرب في 2020 وخصوصًا بسبب طريقة الرئيس ترامب وطبيعة مطالبه منهم، هو الموقف الأعقد للبلدان العربية. لقد هدد ترامب البلدان العربية وعددًا من دول الخليج بأمنها وبأموالها، كما هدد بسحب الحماية إذا لم يتم تمويل ميزانيته عبر شراء أسلحته. قبلت بعض الدول أن تكون ضحية لعقلية وأطروحات ترامب، لكن يجب أن نسجل أن عددًا من الدول حافظت على احترامها لنفسها ولتوازناتها؛ كما نجد مع الكويت ومع المغرب على سبيل المثال لا الحصر.

لقد تمادى ترامب تجاه العرب كما لم يتمادَ أي رئيس أمريكي منذ عدة عقود؛ إذ هدد في الوقت نفسه مصالح البلدان العربية من خلال صفقة القرن ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس. كما أنه يتدخل في أوضاع عدد من البلدان العربية إلى درجة تهديدها بأن عدم إسهامها في فوزه بالرئاسة (من خلال التطبيع والتحالف مع إسرائيل) سيكون مدمرًا لها أمام إيران. لقد استغل الرئيس ترامب خوف عدد من النخب العربية من إيران وتوسع إيران في الإقليم بهدف إحكام سيطرته على منطقة الخليج بالتحديد، وبهدف الحد من الخطر الإيراني على دولة إسرائيل. الرئيس ترامب ليس مهتمًّا بوضع إيران في العراق أو غيرها، بل إن جل الاهتمام مرتبط بمبيعات السلاح وإسرائيل. إن موقف ترامب من إيران أوصل الأمور إلى الحافة من دون أن يساعد ذلك على التوصل إلى حل سياسي.

من جهة أخرى يعاني الموقف الأمريكي الذي يعتمد عليه عدد من البلدان العربية الاهتزاز. فهو مكبَّل الآن بين جائحة كورونا التي خرجت عن حدود السيطرة، ومكبل بالآثار الاقتصادية الكبرى لهذه الجائحة، ومكبّل بسبب الحراك الشعبي الأمريكي الذي لا يقر بالسياسات الأمريكية الداخلية والخارجية. وفي كل الحالات أدت سياسات الرئيس ترامب إلى تفجير التناقضات الأمريكية ووضعها على المحك.

والملاحظ أنه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة، فهي الدولة التي أزاحت النظام العراقي بقيادة صدام حسين ودمرت الدولة العراقية وفتحت الباب للسيطرة الإيرانية على العراق، وهي نفسها التي تركت حلفاءها الأكراد عند أول منعطف عام 2019 بسبب الضغط والتدخل العسكري التركي. لقد كانت الولايات المتحدة أكثر التزامًا تجاه مسؤولياتها عندما كانت مصالحها العالمية تتطلب السيطرة في الشرق الأوسط، لكن مصالحها تغيرت، وهي اليوم أضعف بسبب حروب متتالية في كل من أفغانستان والعراق وبسبب تحولها إلى دولة لديها اكتفاء نفطي ذاتي، وبسبب أولوياتها تجاه الصعود الصيني.

لهذا أصبح الدور الأمني الأمريكي مكان جدل في الوسط العربي والخليجي، فبسبب سياسات ترامب لم تعد التزامات الولايات المتحدة مضمونة النتائج. لقد بدأ الشك يطفو على السطح في صفوف عدد من الدول العربية التي تعتمد على الأمن الأمريكي، وبدأ التفكير في الاستعانة بتوازنات أخرى وبدول عالمية أخرى، إضافة إلى تركيا بالتحديد بما لها من ثقل يوازي الثقل الإيراني. لكن قطاعًا من العرب ارتبط بالولايات المتحدة بصورة أكبر كما تؤكد لنا السياسة السعودية والإماراتية والبحرينية وكذلك المصرية منذ عام 2016 إلى لآن.

ثالثًا: الصهيونية في النظام العربي

سعى بعض العرب للتحالف مع ترامب ومع إسرائيل والصهيونية لينقذ وضعًا يصعب إنقاذه، وهذا أساس الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي المعلن منذ منتصف آب/أغسطس 2020. بل يتضح أن عددًا من سياسات الإمارات قد تأقلمت مع السياسة الإسرائيلية في العداء المبالغ فيه لإيران ثم لتركيا وللإخوان المسلمين وللتيار الشعبي والحقوقي العربي وللانتخابات التونسية على أمل أن يكون ذلك طريقة لعدم عودة ربيع عربي أو حركات احتجاج تسهم في تغير الأوضاع العربية باتجاه المساءلة والمطالب الشعبية. وبعض العرب تورط في حروب ونزاعات كما هي حال حرب اليمن وحرب ليبيا، وحصار قطر. إن التحالف الإماراتي ــــ الإسرائيلي المعلن في آب/ أغسطس 2020 أوصل هذه السياسة إلى قمة من قممها.

إن قيام بعض العرب بالتماهي مع المروية الصهيونية للتاريخ والنزاع لن يغير من الطبيعة الاستيطانية والإجلائية والعدائية للصهيونية. بل إن هذا التماهي سيزيد من العنجهية التي تعبر عنها الأساليب الإسرائيلية، وهذا سيطيل من أمد الصراع ويضيف إليه تعقيدات جديدة. إن تقرب بعض العرب من الصهيونية ومن الإدارة الأمريكية الراهنة عبر صفقة القرن ومن خلال مؤتمر البحرين في حزيران/يونيو 2019 ومن خلال الثقافة والدراما والاتفاقات الأمنية، يثير مزيدًا من الحزن على الحالة العربية. الحالة العربية حتى الآن لا تعرف كيف تفرض على أعدائها تغيير سياساتهم القائمة على الاحتلال والتميز وأخذ أراضي الغير وممتلكاتهم بالقوة.

إن الإعجاب بالقوة وبقوة الاستعمار والاستيطان والظلم الصهيوني ليس غريبًا. إن الإعجاب بإسرائيل، كما عبّر عن نفسه في عامَي 2019 و2020، سيؤدي إلى إعادة إنتاج الأزمة العربية. والإعجاب بالعدو ليس بالأمر الجديد، فقد ساد في زمن الثورة الجزائرية نخب جزائرية أعجبت بالمستعمر الفرنسي وسعت لاستمرار احتلاله للجزائر، وساد جنوب أفريقيا، قبل نجاح مانديلا، نخب سمراء وقادة قبائل أعجبوا بالعنصرية البيضاء وسيطرتها بينما ألقت كل اللوم على الملوّنين. إن الفشل وعدم القدرة والعجز ينتج نخبًا محلية تزداد إعجابًا بالعدو الصهيوني وذمًّا للضحايا والشعوب.

إن دخول إسرائيل عبر بوابة الأمن والخطر الإيراني إلى منطقة الخليج سيضمن لإسرائيل عدة مكاسب، أهمها عزل بعض دول الخليج عن إمكان تحقيق حوار بنّاء مع إيران، كما ستسعى إسرائيل لعزل الخليج عن القدس، وعن مناصرة القضية الفلسطينية وعن العلاقة مع تركيا. كما ستفتح العلاقةُ المجالَ للتجسس على كل العرب المخالفين والمعارضين ممثلين بالبلدان العربية المخالفة للتوجه الأمريكي الصهيوني أو بالشعوب والمعارضين المخالفين لتلك التوجهات من كل المدارس. وإن نجح هذا التوجه سيؤدي بالطبع إلى فراغ إقليمي كبير، وهذا بدوره سيقوي نفوذ كل من إيران وتركيا، وبخاصة عبر إمساكهم ببوصلة التصدي للنفوذ الصهيوني. إن مقاومة السياسة الإسرائيلية ليست ترفًا بل قضية مصيرية تدق على أبواب منطقة الخليج.

رأينا في السابق كيف تركت إسرائيل حزبَي الكتائب والأحرار وحيدَين في المعركة بعد عدوانها على بيروت عام 1982. ورأينا في السابق كيف ألقت إسرائيل مسؤولية مجازر صبرا وشاتيلا على الجماعات المسيحية في محاولة منها للتنصل من أي مسؤولية تجاه المجزرة. ورأينا كيف تخلت إسرائيل عن أنطوان لحد في جنوب لبنان في عام 2000 وذلك عند تحرير بقية جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي من جانب حزب الله.

وتعلم إسرائيل بصورة غريزية أن الحركة الشعبية العربية متضامنة دائمًا مع الشعب الفلسطيني. لهذا تعادي إسرائيل الرسمية والصهيونية الحركات الشعبية في الإقليم ببعدها القومي والإسلامي والوطني والحقوقي. إن سياسة التطبيع الراهنة التي تنتهجها إسرائيل بقيادة نتنياهو واليمين هدفها واضح وبسيط: فرض الاحتلال والاستيطان وجعله مقبولًا لدى العرب، بل تسعى السياسة الإسرائيلية وسياسة الليكود لجعل العرب يتعاملون معها انطلاقًا من مخاوف بعضهم من بعض، ثم انطلاقًا من هزيمتهم النفسية التي تؤهل بعضهم لقبول الاستسلام حول الصهيونية والقدس والأرض. بل والأهم أن ترسل إسرائيل إلى الفلسطينيين تحت الاحتلال، أنها هي من تتصالح مع الوطن العربي بينما تحاول فرض الاستسلام على الفلسطينيين مستغلة موضوعة تخلي العرب عنهم. لكن في الجوهر هذا ليس صحيحًا، فلا الشعوب العربية تخلت، كما أن قطاعًا ليس صغيرًا من النظام العربي يعارض الخطوة الإماراتية سرّا وعلنًا.

إن هدف إسرائيل الأساسي أن تكون قوة متفوقة في الإقليم. وهذا يشمل كل مجال سياسي واقتصادي وعسكري وتكنولوجي. لهذا تستثمر إسرائيل في بناء قدراتها الذاتية باستقلالية. لكن المشاريع العربية، لا تقوم على قدرات ذاتيه، بل نجدها تستجدي عودة الاستعمار بعد فشلها في إدارة الدولة، وهذا بطبيعة الحال سيضعها في بوتقة التبعية ليس للغرب فقط بل للصهيونية المتداخلة مع الغرب أيضًا. إن دولنا تشتري التكنولوجيا والخدمات الأمنية وتعتمد على البيوت الاستشارية لدراسة مشكلاتها. إن التكنولوجيا والخطط البراقة التي توزعها علينا المؤسسات الاستشارية ليست بديلًا من نهضة الشعوب والعمل لنشر الحكمة والتعليم وبناء العدالة.

رابعًا: النظام العربي والمواطن العربي

فقد جزء مهم من النظام العربي صوابه وتوازنه منذ الربيع العربي 2011، وهو يعيش هاجس أن كل تعبير ونقد وتجمع هو مقدمة لربيع جديد. لدى النظام العربي حساسية مفرطة من كلمات «الشعب» و«الديمقراطية» و«الحرية» و«التداول على السلطة» و«العدالة». لهذا وجدت الدول العربية أنها تحتاج إلى أجهزة استخبارات جبارة لمراقبة المواطنين والبحث في خصوصياتهم ومنعهم من التعبير. فلدى السلطات العربية الكثير لتخفيه عن أعين الشعوب.

إن عدم المقدرة على بناء حالة تحالف مع الشعوب وعدم المقدرة على الانحناء لإرادتها يمثل أكبر معضلة للنظام العربي. إن الانتقال نحو كرامة الإنسان ومساواته بالحقوق والانحناء للإرادة الشعبية هو جوهر المرحلة في الوطن العربي، بل يؤدي نقص الكرامة والعدالة إلى خلق حالة بؤس في الحالة العربية. على النظام العربي أن يمتنع عن البحث عن دكتاتور ووكيل جديد لقوى الخارج على حساب قوى الداخل في كل مكان. لقد تغيرت شعوب العرب، وهي ستزداد تغيرًا، وما السعي لإبقائها حبيسة النظام السياسي غير المساءل إلا مقدمة لكوارث سياسية جديدة.

في كل حضارة نقاط ضعف، لكن في حضارتنا العربية ضعف واضح في غياب المقدرة على استيعاب الآخر أكان مختلفًا في الرأي والتحليل، أو في الدين والطائفة والقبيلة أو اللغة واللون، بل لدينا نقص فاضح في عدم المقدرة على استيعاب الأغلبية، فما بالنا بالأقليات، وهذا كله بسبب الثقافة السياسية التي يكرسها النظام السياسي.

لنفهم ثقافتنا الراهنة، يجب أن نعيَ أن الدولة غير المساءلة لن تنتج ثقافة ديمقراطية أو ثقافة تسامح، أو وحدة وطنية أو مواطن مستقر في بلده وأرضه ومكانه. فالدولة غير المساءلة تحتفي بثقافة تمجد صانع القرار إن أصاب أو أخطأ، وهي ثقافة ستقمع المختلف كما والمواطن.

إن أسوأ أنماط تصفية التنوع جاءت في منطقتنا مع الاستيطان الصهيوني، وهو الأكثر شراسة بحق سكان البلاد الأصليين. بل يمكن القول إن النموذج الهيكلي للدولة اليهودية يفرز العنصرية والتفرقة في كل سياسة وقانون. لكن الاستيطان الصهيوني وطريقة عمله وانتهاكه للحقوق وسرقته للأرض أصبح نموذجًا معتمدًا في بلدان عربية شتى، وذلك من حيث إمكان قيامها بأكبر الجرائم بحق مواطنيها وشعوبها من دون أن يحاسبها أحد.

خامسًا: الحراك العربي والمخرج

حراكات العرب في عام 2019-2020، واستمرار النقد والتعبير رغم المخاطر تؤكد أن الجسد المتكلس الذي أصبحنا عليه كعرب ما زال بنبض في الحياة. بل تؤكد الحراكات العربية الثورية في لبنان والعراق وسورية والجزائر أن الناس أصبحت آخر خط دفاع عن الدولة والمستقبل. إن الشعوب هي الموضوع، وهي المسؤولة عن تطوير فكر جديد مفاده «الشعب مصدر السلطات» وذلك لضمان بناء الدولة وتأمين الحياة. فبعد فشل السياسيين وبعد أن عم القمع وسيطر الخارج على الداخل، تتدخل الشعوب بحثًا عن مشروع ضيعته طبقات السياسيين المسيطرة. وتؤكد لنا الموجة الجديدة من السخط والاحتجاج أنه لا يزال لدى العرب وفي أوساط أجيالهم الجديدة حلم متحرك.

في العلم الاجتماعي والسياسي التمرد جزء من الإنسان، وهو يقع عند الحاجة إلى تغيير حال وإنارة طريق، فالحضيض يحرك الناس، بل يتحرك الناس عندما تتساوى قيم الحياة مع قيم الموت، وبخاصة حين يصبح الإنسان عاريًا بلا حقوق. وفي هذه الحالة تفقد آلة القمع والموت قيمتها، وهنا تبرز بين الناس أعلى قيم الشجاعة والتضحية كما نشاهد في الحراكات العربية وفي الصدور العارية التي تستقبل الرصاص. إن التغلب على الخوف وتحدي المصاعب طبيعة إنسانية، وهي طبيعة جماهيرية تعطي الناس قوة تتجاوز قوة القمع. في هذه الحالة لا يعود للرصاص من أثر، فالروح الجماعية تتحول إلى قوة أكبر من كل القوى، وهذا ما أكدته ثورات التاريخ وثورات أوروبا الشرقية وحالة سقوط الاتحاد السوفياتي وحالات أخرى كالحراكات السلمية التي تندلع اليوم من هونغ كونغ إلى الولايات المتحدة.

حين تفقد الناس الثقة بنظام وبسياساته وأساليبه تسقط شرعيته. وإن اهتزت الشرعية في أعين كتل رئيسية من المجتمع ستهتز لا محالة أركان النظام التي ستعتمد على الأمن بصورة مُبالغ بها. كل نظام يفقد ثقة الناس والمواطنين معرض للاهتزاز. وحين تخرج الناس إلى الشوارع والميادين نجدها تكتسح المساحة العامة. هكذا تعيد تأكيد مكانتها بوصفها مصدر الشرعية ومصدر السياسة. لكن شرط كل هذا سلمية الحراكات وسلمية وسائل التعبير، فمن خلال السلمية، مهما كان شكل القمع، توجد فرصة لتفكك قوى النظام القديم وبروز تيارات ونخب من النظام نفسه ومن الشارع والشعب قادرة على التوصل إلى اتفاق يضمن الانتقال السياسي الديمقراطي والإصلاحي. إن السلمية شرط من شروط تحريك فئات المجتمع وأجزاء مهمة من النخب. لكن هذه السلمية لن تمنع وقوع أحداث عنف، ولن تمنع تحول الوضع إلى صدامات تستخدم فيها الأسلحة. الوطن العربي بين نموذجين، النموذج السلمي وهو الأفضل للحالات التي يضع النظام حدودًا لاستخدامه للنيران والأسلحة كما ويتفادى إنزال الجيش واستخدام القوة المفرطة. لكن إن لم يتحلَّ النظام بالحكمة ويضبط آلة القمع والعنف فسيقع مع الوقت ما هو أقرب للنموذج السوري والليبي. نحن في صراع بين النماذج.

كل شيء في هذا الإقليم متحرك، كل شيء ينبئ بغضب السكان ورفضهم للواقع وخوفهم من المجهول. الحراك العربي، أو الصيغة الثانية من الربيع العربي، بل والأصح الصيغة الجديدة التي ستبرز بعد زوال الوباء العالمي (كوفيد 19) سيحركها الاقتصاد وسقوط الدولة الريعية وسواد البطالة وسيطرة 5 بالمئة على الاقتصاد، لكن سيحركها أيضًا التهميش والظلم والقمع وفشل الدولة في تحقيق العدالة. إن الاحتكار السياسي، وغياب الحوار العلني والمساءلة وسيطرة الأجهزة الأمنية على السياسة، وانتشار الفساد والجشع وزيادة عدد نزلاء السجون تنذر بالمزيد من الحراكات والثورات.

إن المؤشرات تنبئ بأننا نجلس على بركان ينفجر على مراحل ودفعات. وفي كل دفعة جديدة تبدو كرة الثلج واضحة المعالم، إذ تنتقل بين المكان والآخر لتصل إلى مناطق جديدة لم تصلها من قبل. تتدفق الأخبار مؤكدة بأن سكان الإقليم العربي ليسوا سعداء بينما يتعايش أغلبهم بسلبية مع أنظمة خالية من صيغ تنظر إلى المصلحة العامة كهدف أساسي من أهداف الدولة، بل قلّما تتطلع تلك الأنظمة إلى مصلحة المواطن كأولوية. في هذا الإقليم سيطرة لشخصيات تتمتع بالسلطة لأجل السلطة والسيطرة لأجل السيطرة بل والفساد لأجل الفساد، وهذا يـؤدي إلى مجتمعات مفككة قابلة للانفجار. إن حراكات الأجيال الشابة هي أساس المرحلة، وستكون تلك الحراكات بوجهها السلمي والصاخب والغاضب شرطًا أساسيًّا لتحريك النخب السياسية الأكثر تهميشًا وحرصًا على المصلحة العامة. لن ينقذ الإقليم العربي في دوله المختلفة سوى تحالف واسع بين قوى التغيير الملتزمة ببرامج تؤدي إلى بناء الاقتصاد العادل والحقوق والكرامة الإنسانية والحريات في ظل الدولة المساءلة. تلك أبعاد أساسية في عملية تحقيق استقلال وطني حقيقي.

 

قد يهمكم أيضاً  كيف فرّ المستقبل من حُسبان العرب؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التردي_العربي #التطبيع #النظام_العربي #الحراك_العربي #المواطن_العربي