أولاً: في الأخلاقية اللسانية

1 ـ تتصدر الثقافة الألسنية من حيث الأداء والتداول اللغوي أيّ بحثٍ يتناول العلاقة بين لغة الوسائل الإعلامية المرئية والمتلقّي (= المشاهد)، ثم يُفضي الأمر إلى نقاش مسألة التأثير والتأثّر، بين برامج البثّ التلفزيوني وجمهور المشاهدين، على اختلاف أعمارهم، وثقافتهم، واستعداداتهم النفسية، وهو ما ينتج أثراً، أو ظاهرة، تستوجب استطلاعَ رأي، وما يقدمه الاستطلاع من أرقام وشواهد، تشكّل الرصد، الذي يمدّ الباحث بمعطيات يوظّفها في تحليل الظاهرة اللغوية، وعلاقتها بالإعلام المرئي، وهو ما يسعف ـ بدوره ـ في تحديد المُدْخَلات والمُخْرَجات، وبالتالي يساعد في اقتراح مفردات الحل.

ثم تستبطن مكوّنات هذه الثقافة الألسنية لتكوين نسيج إشكالي يعكس سؤالاً محورياً يحاكي واقع الحال اللغوي، سلوكاً تداولياً، ويتقرّى مشاعر القلق المحسوس، الذي يترقّى يوماً فيوماً ليبلغ عتبة الوعي، الذي يصاغ وفق متطلبات تقنية السؤال، ليعبّر عن الضيق جراء الانحباس في الصمت عند حصول أزمة لغوية؛ بمعنى أن نقول: لماذا يجدر باللساني أن يصمت عندما يُثار النقاش حول «اجتياح» لغة أخرى «أجنبية» للغة العربية، أو عندما تتراجع العربية في موطنها تحت ستار متطلبات التنافذ الثقافي، أو ما تستوجبه التعددية اللغوية، أو ما يصدر عن مُخْرَجات يسجلها الواقع الإعلامي جرّاء مُدْخَلات يعتريها الخلل الكبير في سياسة أو إجحاف مناهج المفردات التربوية، التي عملت على تهميش اللغة العربية، وإحلال الأجنبية مكانها، منذ ما قبل سنوات الاستقلال، على اختلافها، في البلدان العربية، باستثناءات محدودة، وما كان يشكّل إرثاً ثقيلاً منذ العهد العثماني، فالاستعمار الغربي، وصولاً إلى التراخي في إلزامية اللغة الوطنية، في مختلف الصُعُد؛ ذلك التراخي المحصّن، دائماً، بخرق ما نصّت عليه دساتير البلدان العربية، التي تدّعي، ظاهرياً، اعتماد العربية لغة رسمية في التعليم والتداول.

فالمناخ اللغوي، السائد، حاضراً، ما هو إلا مُخْرَجات، لأحوال تلك المُدْخَلات، التي تم بثّها في جسد اللغة وعقلها، كي تصبح جنساً بيولوجياً يختفي بالتدريج، تماماً كما هو حال لغات اختفت، وبالتالي صِيْرَ إلى تذويب إرث لغوي؛ كل ذلك تحت مقولة مراوغة، ومخاتلة، مفادها أن تعددية اللغات لا تؤثر في الوحدة الفكرية والعاطفية للمجتمع العربي. هذا الأسلوب الممنهج، المتخفّي وراء ستار الانفتاح الثقافي، يحمل في طيّاته ازدواجية المشهد؛ فظاهره حق في قولة الانفتاح الثقافي، ولا أحد يرفضه حضارياً؛ وباطنه إلغاء الهوية اللغوية، والهوية العربية، ممّا تندرج نتائجه في التبرّؤ من الأخلاق اللسانية، وبالتالي الأخلاق العامة للممارسة اللغوية.

2 ـ ويكون من قبيل الاستدراك المسوَّغ، في هذا السياق، أننا في متصوَّر الأخلاقية اللسانية، لا نجاري وضعية جامدة، أو معيارية، ترفض ـ باسم الدفاع عن العربية ـ أيَّ شكل من أشكال التدخل، يرمي إلى التطوير في فلسفة اللغة العربية؛ فمسألة الإصلاح، أو التجديد، أو التنمية اللغوية، كلها مفردات توجبها سنن الحياة في التقدم.

وبقول آخر، لا يتعلق الحديث هنا بالدفاع، أو بضرورة الحفاظ على اللسان العربي، كونه قاصراً؛ فالاتجاه في هذا الدفاع يستوجبه الحفاظ على لغة، لها عدد من المتكلمين. أما واقع حالنا في الحديث عن اللغة العربية فهو مؤسَّس على نقاش مختلف، أجلى ما فيه أن اللغة العربية من منظورنا تمثّل السيادة الوطنية والقومية، وأن المجال الأمثل في الحوار هو كيفية دمجها في حركة التنمية الشاملة، وجعلها أداة للثقافة والعلوم والتقنيات العصرية؛ وهذا يتوازى في انتهاج تشجيع اكتساب اللغات الأجنبية، والاتصال المستمر مع مصادر العلوم والتقنيات الأكثر تقدماً.

ما سبق، يتطلب النقاش أو التشاور، الذي تمليه الممارسة اللغوية في النشاط الاجتماعي؛ فنحن، جميعاً معنيون، إلى درجة عالية من المسؤولية، بولوج التبادل اللغوي وقبول قواعده، كيما نحقق تدريجياً تنظيم وتكريس القناعات المشتركة، حول اللغة العربية، فننشئ، بالتالي فعلَ تواصلٍ مؤسَّس على ممارسات كلامية، يُفضي بها الحال إلى ما ارتضيناه بالأخلاقية اللسانية.

ومن البديهي، هنا، أن يخضع التواصل اللغوي لضوابط تتعلق بأخلاقيات المجتمع، ويؤدي عدم احترامها إلى سوء التفاهم، أو ما يعرف بالفوضى العُرْفية السائدة بين الناس. ما يؤكد هذا أن الاقتصار في التواصل اللغوي على معرفة تركيب جملةٍ ما، وفق أحكام مقررة في اللغة، لا يكفي، ويقصر عن الإفهام إذا ضلّ المتكلم طريق مَنْ يُوَجَّه إليه الكلام؛ فالتواصل يحتاج إلى ضوابط من المناخ الاجتماعي؛ وهي من قبيل الملاءمة، والوضوح، والتنظيم؛ وهذه، في حقيقة الأمر، عمليات تقودها فاعلية «عُرْفية»، تختلف من مجتمع لغوي إلى آخر.

ثانياً: مقولة تأثير الإعلام المرئي في المتلقّي

1 ـ من التساؤل المشروع أن نقول: هل نبدأ دراسة واقعنا اللغوي ـ الإعلامي من نقطة الشعور بالقلق، والخوف من تأثير ما يبثّه التلفزيون في اللغة العربية: تداولاً، ونظاماً نحوياً، وأداءً تعبيرياً، وكمّاً في المفردات، واختلافاً في السياقات والأساليب، وتأسيساً لسيادة لغوية جديدة، وابتداعاً لمعجم لغوي يتنامى في عهدة «تلفزيون الواقع»؟ وهل هذا التأثير سيقصر أمره على البنية اللغوية، أو يجوزها إلى قضية المعنى، والموقف، والسلوك؟

يحيلنا السؤال المتشعّب، في هذا الموضوع، إلى النظر في فعل التأثير؛ من زاويتين اثنتين: (1) إمّا الافتراض بقدرة الإعلام المرئي على إنتاج فعل التأثير المباشر في المشاهد (المتلقيّ)، فرداً أو جماعة، من غير ما مقاومة، وبالتالي يصوغ توجهاته، ويعيد صوغ معجمه اللغوي والفكري، وفق سياسات المادة الإعلامية المبثوثة، وهو ما يدفع إلى الافتراض بحصول التطابق الآلي بين التعرّض لوسائل الإعلام المرئي، والتأثر بها؛ وهذا افتراض محتمل في ضوء ما تملكه هذه الوسيلة الإعلامية من قدرة على إحداث تغيير ملموس، أو «تحديث» المتلقي التقليدي، والدفع به إلى فعل متابعة البرامج التي يتوسلها في إعادة تنظيم مشاهداته، أو، لِنَقُلْ: حياته؛ (2) وإمّا الافتراض المعاكس، الذي يرى في المتلقّي (= المشاهد) رفضاً، كلياً، أو نسبياً، أو شكّاً، بالمادة الإعلامية المبثوثة[1].

يندرج الافتراضان في اعتبار الإعلام المرئي نظاماً مخيالياً. ويكون المسار المخيالي باتجاه الفرض الأول، أو التأثير الفاعل لمصلحة قدرة البثّ التلفزيوني على تحقيق سياسته، إذا كان هناك ما يوفّر المساحة المطلوبة لإنفاذ مادته وإيصالها إلى المتلقّي (= المشاهد) لتحرز الاتجاه الموجب، العائد إليه بالفائدة المبتغاة؛ ومن أولى علامات هذه المساحة الواجب توافرها، أن يكون عقل المتلقّي (= المشاهد) ومشاعره أيضاً، غير قادرين على تمييز الصواب من الخطأ، ثم حصول فعل التسليم بالموافقة والتصديق لما يبثّ، وكأنه أمر مقبول، إلى حدّ غياب فعل النقاش أو التساؤل، ومن ثم اعتبار المادة المرئية مسلَّمةً، لا تُرَدّ.

أمّا إذا بدا فعل المقاومة، وهو اتجاه الفرض الثاني، يأخذ دوره الفاعل عند المتلقّي تجاه ما يشاهد، ومن ثم بدا سلوكياً وفكرياً في رد فعلٍّ، رافض، أو متذمّر، أو منتقد، أو ساخر، أو أنه انتقل من قناة إعلامية إلى أخرى، رافضاً ما شاهده؛ فذلك يكون علامة من علامات رفض التأثير، وبالتالي فشل سياسة البثّ في التأثير والإقناع؛ ثم، يجدر التأكيد ـ هنا ـ أن النظر في مجمل مسألة التأثير والتأثّر بين المُرْسِل والمرسَل إليه، مرتبط بشكل وثيق بالمناخ الحاضن لكلا الفريقين؛ بمعنى أننا لا ننظر إلى مسألة الأثر من موقع اللغة في الوسيلة التلفزيونية، بمعزل عن باقي المكوّنات التي تشكّل ثقافة «هذا المناخ»، بل نأخذ، بعين الاعتبار، دور النظام المعرفي الذي يتشكّل من أحزمة ثقافية ونفسية واجتماعية.

2 ـ في ضوء ما تقدم، تتبدّى عوامل التأثير الإعلامي في المتلقّي (= المشاهد) في عاملين فاعلين: عامل الكم؛ وعامل الشكل ومضمون المادة الإعلامية.

أ ـ في عامل الكمّ: جاء في التقرير السنوي (2012-213) لـِ: «البث الفضائي العربي»[2] أن الهيئات العربية التي تبثّ، أو تعيد بثّ قنوات فضائية، بلغ عددها حوالى 776 هيئة، منها 26 هيئة عمومية، و750 هيئة في القطاع الخاص. وتبثّ هذه الهيئات، وتعيد بثّ 1320 قناة تلفزية، من بينها: 168 قناة عمومية و1152 قناة خاصة متعددة اللغات ومتنوعة التخصص؛ أي يبلغ مجموع القنوات الموجّهة إلى المشاهد العربي (حتى نهاية العام 2013) 1320 قناة، مقارنةً بـ 696 قناة في العام 2009؛ وهذا يفسّر أمرين اثنين؛ أولهما، نجاح هذا القطاع الإعلامي من الناحية الربحية، والثاني، ازدياد أعداد  المشاهدين.

يضاف إلى هذا الكمّ، ما يمكن أن يشاهده المتلقّي العربي من قنوات عالمية، تجاوزت 5000 قناة، منها 3212 قناة غير مشفّرة، ممّا يعني اتساع دائرة اختيار المتلقّي العربي، أو تنقّله في المشاهدة من قناة إلى أخرى؛ وهو ما يعكس الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية في سياسة الإعلام المرئي؛ من حيث العمل على تحقيق أمرين مجتمعين: الربحية المادية، وبثّ النفوذ الإعلامي، والتوجيه السياسي والاقتصادي، ولا سيما الترويج، عبر الإعلان، لمنتجات تلك البلدان، في البلدان العربية.

أما لغة البثّ الفضائي المستعملة في هذه القنوات فتتصدرها اللغة العربية واللهجات المحلية، بينما تحافظ اللغة الإنكليزية على موقعها في صدارة اللغات الأجنبية المستعملة، تليها الفرنسية، إلى جانب ذلك يتم استعمال لغات إقليمية أخرى للتواصل مع مواطني الدول المجاورة للمنطقة العربية، كاللغة: الفارسية، والعبرية، والهندية، والإسبانية، والتركية[3].

وفي الجدول الآتي، بيان تفصيلي لتوزع لغة البثّ الفضائي العربي، في القطاعين العام والخاص:

لغة البثّ الفضائي العربي

أ –
القنوات العمومية
(القطاع العام) (مجموعها: 168 قناة)

العربية

145

الفرنسية

15

الإنكليزية

14

الأمازيغية

6

الإسبانية

3

العبرية

2

الحسّانية

2

ب –
القنوات الخاصة (القطاع الخاص) (مجموعها: 1152)

العربية

901 + 2 (مترجم ومدبلج) = 903

الإنكليزية

162

الهندية

18

الفرنسية

13

الكردية

3

الفارسية

2

أوردو/ماليزي

2

الأمازيغية

2

العبرية

1

التركمانية

1

الحسّانية

1

 

فالبثّ باللغة العربية، في القنوات العمومية بلغت نسبته المئوية 86,31 بالمئة، وبلغت نسبته في القنوات الخاصة 78,39 بالمئة؛ وتصدّرت اللغة الإنكليزية قائمة البثّ باللغة الأجنبية، في القنوات الخاصة بمعدل 65 بالمئة.

لكن هذه النِسَب لا تعني البثّ بالعربية الفصحى، «المعيارية»، فهناك الكثير من القنوات (قنوات: الموسيقا والمنوّعات، الدراما، الرياضية، العقارية، المرأة والأسرة، السياحية…) التي تبثّ العربية باللهجة المحلية، وهي أحياناً قليلة، تعتمد شكلاً من الفصيحة، ساكنة أواخر الكلمات، والمشوبة بالمفردات الخليط بين الفصيحة والدارجة. أمّا القنوات التي تعتمد الفصحى فتقتصر على القنوات: الإخبارية، والوثائقية، والدينية، وأحياناً التعليمية.

وبشكّل عام، تأخذ العربية منحىً سويّاً، في غالب ما ثبته الفضائيات المعرفية، ذات المضامين الجادة التي تستجيب لاحتياجات المشاهد العربي إلى المعلومة والثقافة والتربية.

ب ـ في عامل الشكل والمضمون: تتنوع مضامين التأثير الإعلامي التلفزيوني، وبالتالي تتنوع اللغة التعبيرية المستخدمة في هذا التنوّع تبعاً لشكل المادة ومضمونها. ويمكن إدراج هذه المضامين في سبعة أشكال، هي: (1) برامج الأخبار والمقابلات السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الثقافية عموماً؛ و(2) برامج الدراما التلفزيونية، والأفلام (على الشاشة الصغيرة)؛ و(3) برامج المباريات، أو ما يعرف بعروض الفائز الأول؛ و(4) الأغاني المصورة؛ و(5) برامج الترفيه والتسلية؛ و(6) البرامج الرياضية، و(7) الإعلانات، على مختلف أغراضها.

ويتجه تأثير البرامج الإخبارية، في المتلقّي، من خلال التركيز على مسألة الصراع على السلطة، في حين تسجّل الأخبار التي تمسّ حياة المواطنين مباشرة (سوق العمل، فرص التعليم، حرية المواطن…) تراجعاً ملحوظاً، إضافة إلى تهميش، شبه كلّي، لما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني؛ وهذا ما انعكس على المعجم اللغوي، إذ سادت لغة الفكر الواحد، وكثرت أساليب اللغة المختصرة، المفعمة بالشعارات، تلك التي باتت ممجوجة ، لا تثير اهتمام المتلقّي، جرّاء تكرارها وحصريتها. لكن ما يسجّل لهذا النوع من البرامج، اتساع مساحة استعمال العربية الفصحى، والتراجع النسبي الملحوظ للعامية.

بالمقابل، تمتلك البرامج الترفيهية المنوّعة قدرة على التأثير في المتلقّي، لما تمتاز به من حيوية، وتلوين في طرائق العرض، وهذا ينسحب على البرامج الرياضية، وعروض «الفائز الأول»؛ وهي جميعاً تعتمد العامية في تقديم المادة الإعلامية، مع تنويع باهت، تظهر فيه عبارات من اللغة العربية الوسطى، ذات التسكين لأواخر الكلمات.

ويبدو تأثير الأغاني المصوّرة قوياً في شريحة الشباب والمراهقين، وهو ما نلاحظه من شيوع بثّ هذا النوع من المادة الإعلامية، في «الفيديو كليب»، الذي بات يستحوذ على فترات، أخذت تزداد بشكل مطّرد، وعلى نسبة مشاهدين مرتفعة.

ما يلاحظ على هذا النوع من العروض التلفزيونية، أنه منتج صناعي وتجاري، يلبس مسوحاً ثقافية؛ فالغرض الأساسي للأغنية المصوّرة هو أن يقوم مقام الإعلان لتشجيع الجمهور على إجراء «معاملة تجارية» في شكل شراء الألبوم الموسيقي، أو الغنائي[4].

ولو قارنّا بين تعاقب الأغنية المصوّرة والإعلان، في القنوات الفضائية، لوجدنا الشبه واحداً؛ ففي كليهما يتحقق التأثير في المتلقّي الذي ينقاد إلى ابتياع السلعة، إضافة إلى شبهٍ ثانٍ، هو أن الأغاني المصوّرة استعارت «عناصر إعلانية» كثيرة، مثل: المشاهد المفتتة بلا رابط، والقَطْع الاعتباطي السريع، وغياب المنطق الفيلمي المتسلسل. ويعكس هذا كله صورة لغة عربية، باللهجة المحلية، باستثناء بعض الأغاني أو الإعلانات الذي يستوجب في بعض البلدان العربية، اعتماد الفصحى الميسّرة.

3 ـ ويلحظ المتابع أن «تلفزيون الواقع» ببرامجه يتصدر اهتمامات الأسرة غالباً، ويلقى من حيث مدة البثّ عند الأسرة المتلقية تزايداً ملحوظاً، هو في واقع الأمر تزايد شكلي، أو زمني، وليس قبولاً ورضىً من جميع أفراد الأسرة، لمضمون ما يبثّ من برامج؛ وهذا معطى مهم من الوجهة السوسيولوجية، وهو يتمثل في السؤال التالي: هل ازدياد عدد ساعات المشاهدة التلفزيونية، بكل تأثيراتها، يترتب عليه مُخْرَجات سلوكية ونفسية وثقافية على مستوى العلاقة الاجتماعية، ولا سيَّما الشباب؟ ويمكن أن تتبلور الإجابة، في هذا الصدد، في مجموعة نتائج، قدمتها استطلاعات رأي، في عدد من البلدان العربية:

ـ فالمشاهدة التلفزيونية للشباب مع العائلة لا تتعدى حدود الساعة إلى الساعتين، في حين يستغرقون من ساعة إلى ساعتين بصفة منفردة. وبدا أن الاتجاه السائد لدى الشباب، لجهة الاختيار، هو الانتقال الدائم بين القنوات الفضائية الوطنية والعربية والغربية، ولم يعد، بالتالي، تصنيف الفضائيات هو المحدد للاختيارات، بل البرامج هي التي أصبحت تتحكم في ذلك[5].

ـ وبشكل عام، فإن 55,3 بالمئة من الشباب لا تتوافق اختياراتهم مع اختيارات المتحكّم (الأب أو الأم أو الأخ الأكبر سناً) في اختيار القنوات والبرامج؛ والإناث هنّ الأكثر تعبيراً عن هذا الرفض؛ فقد وصلت نسبة اللواتي عبّرن عن عدم رضاهن عمّا يتم اختياره من برامج 61,3 بالمئة، في حين تقلّ هذه النسبة عند الذكور، حيث لم يعبّر عن هذا الاعتراض سوى 49 بالمئة. وهذا التباين بين الذكور والإناث يعبّر عن انقسام المشاهدة بين الجنسين، وفقاً لمحتويات البرامج. وطالما أن الذكور لهم سلطة على فرض البرامج، فمن الطبيعي أن تظهر المعارضة أكثر عند الإناث[6].

وهذا الموقف من تحديد اختيار البرامج، يحيل إلى مسألة الاعتراض عند المتلقّي، ولا سيَّما شريحة الشباب، أو ما يشكّل قصدية مضادة لدى الشباب؛ تكون هي في حدّ ذاتها وراء تحديد الاختيارات، وقلب أنظمة المعنى الذي يتجلّى في شكل المادة المعروضة، أو في مضمونها[7].

وتبدو هذه القصدية المضادة، ظاهرةً بشكل مباشر، في اختيار البرامج التلفزيونية، وفي استعدادات مسبقة لدى الشباب خاصة، في تصريحاتهم حول أهمية المسائل العاطفية؛ فقد أعطت نتائج استطلاع للرأي نسبة 64,5 بالمئة من يعتبرون هذه الأمور جديرة بالاهتمام، وهو ما ينعكس على علاقتهم بالمسلسلات التي تعالج هذه القضايا، حيث صرّح 42,7 بالمئة من مجموع 403، أنهم لا يشاهدون هذه المسلسلات[8].

لكنْ، في ما يعزّز القصدية المضادة، في شكلها غير المباشر، ويجعلها فعلاً مقاوماً للخلل الذي قد يحدثه الإعلام المرئي في توجهاته التأثيرية، وفي ما يبثّه من مادة إعلامية موجّهة، وفي ما قد يحدثه من خلل لغوي، وقصدية في اعتماد العامية في معظم برامجه؛ أقول: إن عوامل مضادة كثيرة تساعد المتلقّي في الحفاظ على توازنه الفكري، واللغوي. وأبرز هذه العوامل ما يختزنه المشاهد من تقاليد محافظة استقاها من مناخه الأُسري والاجتماعي، وما يؤديه دور التعليم من وعي، ولا سيَّما المرحلة التأسيسية منه، فالمتلقّي، جرّاء هذا، يمتلك الحد الأدنى من المفاهيم والاستعداد النفسي للاختيار، والقواعد اللغوية الأولى، ممّا يشكّل بذرة اختمار تنمو في وَسَطٍ تتداخل فيه القِيَم والمؤثرات الإعلامية، وتضطرب فيه أشكال التعبير. غير أن هذا كله، لا يجعل المشاهد رقماً ذرياً بلا جذور، وبلا هوية، وبلا قدرة على التمييز، وهو ما يضعف فرضية التطابق الآلي بين مسلّمة تأثير المادة الإعلامية في المتلقّي، الذي يتأثر تلقائياً بمضامينها، أو ينفي افتراض المتلقّي «الخامل» أو «الساذج»[9].

4 ـ وما تجدر ملاحظته هو ذلك الرابط بين أهداف الإعلام المرئي، المرسومة، وسياسته التأثيرية في المتلقّي، من خلال المادة الإعلامية المرسَلَة، من جهة، وما يستوجبه ذلك من رمز لغوي، يختص بكل مادة إعلامية؛ بمعنى أن سياسة تعزيز «النموذج»، وغرس هذا النمط من الشخصية في فكر المتلقّي وشعوره، مثلاً، يتطلب برامج مغامرة، وبرامج جوائز «سوبر ستار»، و«مَنْ سيربح المليون»، كما يتطلب إعلانات تجارية تركّز على المميّز والأفضل والمُشتهى والفريد بخصائصه الحسية، ويلحق بذلك البرامج الرياضية، التي تتوَّج بفوز البطل بالكأس، ثم يعلو المنصّة «الرقم الواحد». وهذا في مجمله يستوجب معجماً لغوياً خاصاً، يقدر على نقل المضمون والشكل الاحتفالي، في سياق من السرعة والاختصار، وحشد حقول لفظية طابعها الاندهاش والانبهار، في نسق جملي، قوامه الجملة القصيرة، والتكرار، والتركيز على مفاصل أساسية في المفردات بغرض شد الانتباه، والتأثير السريع في المتلقي.

وقياساً على هذا، تطول القائمة، وما تتطلبه من موجبات الربط بين هدف التسلية والبرامج الكوميدية، والانعتاق الروحي وما يقابله من برامج دينية، وتعزيز سلطة القانون وما يرتبط به من مسلسلات وأفلام عن دور الشرطة في بسط الأمن ومكافحة الجريمة، وتحقيق إشباع فضول المتلقي في الحصول على المعلومات، وما يناسبه من برامج إخبارية، وحوارية، ووثائقية. وفي كل هذا، وما يشاكله، تتنوع المفردات ـ المصطلحات، وكذلك شروط الأداء التعبيري، كي يأتي المبنى موافقاً متطلبات المعنى[10].

بقول آخر، لقد نتج من ظاهرة التفاعل بين المُرْسِل الإعلامي والمُرْسَل إليه (المشاهد) أشكالٌ سلوكية، وأنماطٌ تفكيرية، وقوالبُ تعبيرية، على مدى ما يزيد على خمسة عقود، ولا سيَّما في العقدين الأخيرين، زمن انتشار الفضائيات بوتيرة متسارعة، ما يجعلنا أمام واقع لغوي، يتنامى باتجاه التوسع في معجم الموضوعات، ويزداد غنىً في مفردات المعجم اللغوي، ويشهد تنوّعاً لافتاً في مستوى الأساليب وتراكيب الجمل، ويسجل انزياحات في مستوى دلالة الكثير من الكلمات، إضافة إلى ما يصدر عن شرائح أعمار المشاهدين، ولا سيَّما شريحة الشباب، من صور تعبيرية، تتمثل بابتداع التشابيه والاستعارات والكنايات، الخاصة بأمزجتهم.

هذا الواقع اللغوي المتفلّت، حالياً، من التدوين الكامل، والمنتشر على مساحات جغرافية، تستغرق الوطن العربي، يمكن أن نطلق عليه الأطلس اللغوي الإعلامي؛ وهو أطلس لغوي يذكّرنا بالأطلس اللغوي الذي قام لغويونا القدامى بمشروع جمع مادته، وتدوينه، بدءاً بمعاجم الموضوعات، ثم تطور التدوين إلى معاجم لغوية. وسنتزيّد في الحديث عن هذه المسألة في المشهد الثالث.

ثالثاً: اللغة والإعلام، في استطلاع الرأي[11]

سجّل تعزيز العلاقة المتبادلة بين الإعلام، ولا سيَّما التلفزيون، واللغة العربية، ظاهرة تقليص المسافة بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، وظاهرة الارتقاء الملحوظ للإمكانات التعبيرية، أو التنوعات اللغوية المرتبطة بالوسائل الإعلامية.

وقد أفرز هذا الانتشار والتداول، ولمّا يزل، أربعة أسئلة رئيسية، كانت موضوع استطلاع للرأي. ونوجز نتائج هذا الاستطلاع ، وفق الآتي:

1 ـ
هل أنتجت اللغة العربية، على صعيد المفردات (اللغوية والاصطلاحية) كمّاً يفي بمتطلبات ذلك الانتشار والتوسّع والتداول الجماهيري؟ وما هو واقع الإعلام الراهن، من هذا السؤال؟

وكان الاستبيان قد افترض أن نظام قواعد العربية، سجّل تقدماً في عدد من الأحكام الموجبة، والأصول المقررة، لكنه افترض بالمقابل أن عصر المعلومات المتعاظم يجْبه العربية بنظام المعالجة الآلية للغة، الأمر الذي يعني افتراض قيام الباحثين العرب بابتداع السُبُل التطويرية، ولا سيّما التطوير الدلالي، والوضع الاصطلاحي. فهل من الجائز القول إن اللغة العربية تتمظهر في المصطلحات والمفاهيم العلمية والتقنية والثقافية والإعلامية، وشتى تفرعات المعارف الإنسانية؟ لقد قدّر ذلك إيجاباً 54 بالمئة من المستجوبين، ورأى 54 بالمئة أن ذلك يتمظهر، أكثر ما يتمظهر في المصطلحات الإعلامية، وأن استخدام المصطلح الإعلامي، في العمل الإعلامي باللغة العربية، بلغ 61 بالمئة، بينما رأى 52 بالمئة ذلك في المفاهيم والمعلومات الإعلامية، و42,5 بالمئة في المفردات المعجمية، و28 بالمئة في تركيب الجملة، و30 بالمئة في تنوّع الأسلوب، و47 بالمئة في استخدام المجازات والاستعارات.

ثم، هل من الجائز القول إن اللغة العربية «تُطَعَّم» في وسائل الإعلام، بمفردات أجنبية، أو بمفاهيم وأفكار، بسبب الضرورة الفنية ـ التقنية التي فرضت نفسها بشكل ما، أو تحت عناوين مختلفة، كالدول المتقدمة، والأخرى النامية، والعالم الثالث، والاقتصاد الرخو، أو الفاشل، والعولمة…؟ لقد وافق على هذا القول 72 بالمئة، مقابل 13 بالمئة أنكروا ذلك. هذا الواقع سوّغ السؤال عن دور الإعلامي، عمّا إذا كان قد اطّلع على هذا المُسْتَجدّ من المفردات والمصطلحات والمفاهيم. وكان من المؤسف أن نسبة المطّلعين، بشكل دائم، لا تتعدى 8 بالمئة، وبشكل متقطّع 38 بالمئة، وجاءت نسبة الاطّلاع، لمرة واحدة، أو مرتين 32 بالمئة.

2 ـ
هل قدرت اللغة العربية على الوفاء بمتطلبات تنوّع وسائط الإعلام، وما لكلّ واسطة من لغة مهنية خاصة، مميزة، فجعلت لذلك معاجم مهنية لكلٍّ من التلفزيون والإذاعة وسائر الوسائط؟

لقد افترض الاستبيان ضمناً، أن تنوّع النقد الإعلامي، وأن تعدد وسائط الاتصال الإعلامية، يدفع بالمعجم العربي إلى ضرورة مماثلة معجم اللغة الإنكليزية (على سبيل المثال) الذي يسجّل تطوراً سريعاً على صعيد تنظيم مداخله ومحتوى بياناته، إضافة إلى الكمّ المتزايد في مدوّنة المفردات والمصطلحات؛ ذلك الكمّ الذي يستجيب لمستجدات حداثة المعلومات، وتقنيات العصر الحديث.

لذلك، كان التوجّه بدايةً إلى الإعلامي: عمّا إذا كان يقتني معجماً خاصاً بالمصطلحات الإعلامية؟ ويمكن اختصار نتائج اللائحة التفصيلية، في ما خصّ الإعلام المرئي، بما مفاده، أن نسبة 37,3 بالمئة يقتنون معجماً ثنائي اللغة (عربي ـ إنكليزي)، وما نسبته 31,1 بالمئة يقتنون معجماً أحادي اللغة (عربي، أو إنكليزي)، أمّا في ما عدا ذلك فراوحت النسبة بين 3 و10 بالمئة.

ما يسترعي الانتباه، هنا، أن نسبة اقتناء المعجم الخاص بالمصطلحات الإعلامية، الأحادي اللغة (عربي)، بلغت 31 بالمئة، يقابلها اعتماد 91,5 بالمئة من الإعلاميين اللغة العربية في قراءة الخبر وكتابته، أو التعليق أو التحليل، أو إعادة تحرير النص، مقابل اعتماد 32 بالمئة ذلك في الإنكليزية، وهو أمر يبرِّر الحاجة إلى وضع معجم متطور وعصري في المصطلحات الإعلامية.

3 ـ ما هو تقييم الإعلاميين لواقع اللغة الإعلامية الراهنة؟

أ ـ على صعيد النقد الذاتي

رأى عدد قليل جداً (7,5 بالمئة) أن ما تعلّموه في الجامعة، في اختصاص الإعلام، كان كافياً لمباشرة العمل، بلا أية صعوبة، مقابل 30 بالمئة يرون ذلك بشكل نسبي، و33,5 لا يرون ذلك كافياً. وبالتالي يرى الذين أجابوا، إيجابياً، بشكل نسبي، أو لم يكن كافياً، أن الاختصاص الإعلامي، في الجامعة، يتطلب تعديلاً في المقررات، بحيث تتجه إلى التطبيق (نعم: 72 بالمئة)، وإضافة مقررات اللغة العربية وآدابها وعلومها (نعم: 62 بالمئة)، وزيادة مقررات تتطلبها المستجدات التقنية الإعلامية (نعم: 71 بالمئة)، وزيادة مقررات الترجمة والتعريب (نعم: 54,5 بالمئة).

ب ـ على صعيد واقع اللغة العربية في النص التلفزيوني والإذاعي

قدمت النتائج ما يكشف عن واقع تراجعي، فاللغة لم تؤدّ دورها المطلوب بشكل كافٍ، في تنمية الثقافة العربية. ولا سيَّما نشر لغة عربية صحيحة، موحّدة، مما يساعد على تقوية الاتصال الجماهيري: 51 بالمئة، ورأى آخرون أن ذلك يؤدَّى بشكل مقبول: 41 بالمئة، وهذه نِسَب، على ما بينها من تفاوت، تضعنا أمام مسؤولية خطيرة، تُنذر بحضور لغوي قلق متزايد.

أمّا الأسباب المؤدية إلى التراجع فهي ـ برأي المستطلَع رأيهم ـ ضعف قدرة وكفاءة وسائل الإعلام في الوصول إلى المتلقّي عموماً (نعم: 53 بالمئة)، وأن ذلك عائد إلى ضعف وسائل الإعلام، بسبب تنوّع اللهجات المحلية (نعم: 68 بالمئة)، ويماثل هذه النسبة (69 بالمئة) ممّن يرى عدم قدرة وسائل الإعلام على بلورة لغة عربية فصحية مشتركة. وقد ردّ آخرون ذلك التراجع إلى غياب الخطط المفصّلة، المنسجمة مع الأهداف، والمبنية على نتائج البحوث والتقييمات الميدانية، عموماً (نعم: 79 بالمئة)، في حين أرجعت فئة أخرى (نسبتها 42 بالمئة) ذلك إلى عدم مواكبة اللغة العربية التقدم التكنولوجي السريع، الحاصل في وسائل الاتصال. واتجه البعض في تحليل ذلك إلى مستوى أداء اللغة العربية لدى المذيعين والمذيعات في محطات التلفزة، فهو ـ برأيهم ـ أداء وسط (37 بالمئة)، وانحصر التقييم الإيجابي بنسبة ضئيلة (9 بالمئة)، وهي نسبة تعزّز الأداء الوسط.

وسأل الاستطلاع، بشكل محدّد، عن أبرز خمس مشاكل يعانيها الإعلاميون جرّاء استخدامهم اللغة العربية، في عملهم الوظيفي، فكان ما نسبته 65 بالمئة أرجعوا ذلك إلى عدم إجراء مسح للأخطاء الواردة في الناتج، على اختلاف أشكاله، ومنه أداء المذيعين والمذيعات، وهي مسألة تسترعي الانتباه، وجديرة بالإجراء التنفيذي. أما المشاكل الأربع فتوزعت بين ضعف مستوى المحرِّرين، من حيث الصرف والنحو والمعجم والأساليب 56,6 بالمئة، أو تأثرهم بأساليب اللغة الأجنبية 41 بالمئة، أو اعتماد ازدواجية اللغة (فصحى ـ عامية) 54 بالمئة. أمّا التأثر باللغة الأجنبية فكان له 29 بالمئة، في حين رأى 46 بالمئة أن المشكلة متمثلة بضعف الثقافة العربية.

والذي يمكن استخلاصه، ممّا سبق من نتائج، يشير إلى أنه لا بد من تمكين الإعلاميين من قواعد العربية، وتأهيل مستواهم الثقافي، ولا سيَّما ما يتعلق بالتراث اللغوي العربي، والعمل على غرس مفاهيم الانتماء العربي، بعيداً عن حب الظهور بمظهر «التفرنج».

4 ـ ما هو دور الإعلام والإعلاميين في تنمية عناصر استخدام اللغة العربية؟

شكّلت نتائج الاستطلاع، من خلال أسئلة محددة، وواضحة، دور الإعلام والإعلاميين في تنمية عناصر استخدام اللغة العربية، في إطار اتجاهين رئيسيين: أولهما، ما يتعلق بتنمية عناصر البنى التحتية؛ من ذلك أهمية التنسيق أو التقارب بين وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية (الرسمية والأهلية)؛ فهذا الأمر بدا غائباً (35 بالمئة)، أو أنه ضعيف (30 بالمئة). أمّا من وجد فيه المظهر الإيجابي فلم يتعدَّ (9 بالمئة)؛ ومن ذلك ضرورة رفع مستوى ثقافة الإعلاميين، كي يستطيعوا أداء وظائفهم، لأن واقعهم غير مشجّع، وهو ما يظهر في ضعف اطّلاعهم، وانقطاعهم شبه الكامل عن متابعة ما يجري من حولهم، فالذين يقرؤون صحيفة واحدة، يومياً هم 16,5 بالمئة، ومجلة واحدة في الأسبوع، هم 27 بالمئة، ومجلة شهرية، هم 31 بالمئة، والذين يطّلعون على المنشورات العلمية والكتب والمجلات والبحوث المقدمة في المؤتمرات والندوات الإعلامية، لا تتعدى نسبتهم 37 بالمئة. وفي المقابل يُلقي الإعلاميون عجزهم على عاتق العربية؛ فـ 16 بالمئة منهم يتعلّلون بعجز في اللغة العربية ذاتها، و61 بالمئة منهم يتعلّلون بعجز عضوي في الثقة بها.

أمّا الاتجاه الثاني فيتعلق بتنمية عناصر استخدام اللغة العربية؛ من ذلك أهمية دور المصطلحات الإعلامية (نعم: 54 بالمئة)، وأهمية دور المفاهيم والمعلومات الإعلامية (نعم: 52 بالمئة)، وهذا يستدعي ضرورة إيجاد معجم خاص بالمصطلحات الإعلامية، بالعربية (نعم: 66 بالمئة)، أو باللغتين العربية والأجنبية (نعم: 85 بالمئة).

ويقترن بذلك، كلّه، ما اتجه إليه الاستطلاع، من معرفة موقف الإعلاميين من مسألتي الازدواجية اللغوية (الفصحى والعامية)، والثنائية اللغوية (العربية واللغات الأجنبية)، باعتبارهما ملمحاً بارزاً في العلاقة بين العربية وفئات مستخدميها؛ فالإعلام كما جاء في أحد أسئلة الاستطلاع، يشهد تطوراً مذهلاً في وسائله وتقنياته، مما يمكن استثماره في تقريب الشقّة بين الفرد المتلقّي ولغته العربية. ولكن لم يزل حظ هذه اللغة في برامج وسائل الإعلام موزّعاً بين عاميات دارجة، أو لغات أجنبية، فرأى صواب ذلك، ولا سيَّما حضور اللغة الأجنبية: 73 بالمئة. علماً أن مَنْ يعتمدون ثنائية اللغة في الحديث والكتابة، بشكل عفوي أو قصدي، لم يتجاوز 29 بالمئة، ورأى 54 بالمئة حضور الازدواجية في التعبير الشفهي، في حين رأى 48 بالمئة منهم تسرّباً في مفردات وتراكيب عامية إلى الأسلوب كتابةً ونطقاً.

وقد رصدت إحدى النتائج ملاحظة في غاية الأهمية، تتمثل بشكوى 40 بالمئة من الإعلاميين من غياب مرجعية لغوية، يمكن العودة إليها بشكل مستمر، أو عند الضرورة.

ولا بد من الإشارة، هنا، إلى نتيجة أخرى، تشير إلى رفض عدد من الإعلاميين اعتماد اللهجة العامية في تقديم البرامج، والحوار في المسلسلات والأفلام (25 بالمئة)، باستثناء 16,5 بالمئة، في حين ارتفعت النسبة في القبول إلى 51 بالمئة في البرامج الرياضية والفنية والفكاهية.

لذا، طرح سؤال عمّا إذا كانت «اللغة الثالثة»، أو ذلك المزيج من الفصحى والعامية مقبولاً في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، فجاء القبول بنسبة 9 بالمئة فقط، وأنها مقبولة، لكنها تحتاج إلى تطوير (21 بالمئة)، وأنها مقبولة، إلى حدٍّ ما (31 بالمئة)؛ أما الرافضون لها فكانت نسبتهم 30 بالمئة.

تعقيب

1 ـ من المتعذر إيجاد حل ناجع لما تشهده العربية من مسائل شائكة في قضية العلاقة مع الإعلام، بمعزل عن معالجة القضايا الرئيسية في «البنية التعليمية»، ولا سيَّما ما يتعلق بمناهج اللغة العربية، وطرائق تدريسها.

2 ـ ومن ثم تطوير المناهج في كليات الإعلام، بحيث تصبح اللغة العربية، وثقافتها، مواد أساسية، ويصار إلى إعلاء الجانب التطبيقي، في هذه المواد، وفق أصول التدريس الحديثة.

3 ـ ومن هذه البرامج المقترحة، أن يخضع طلاب الإعلام، وتحديداً من يتجه إلى الإعلام التلفزيوني، أو الإذاعي (الراديو) إلى تعلُّم علم الأصوات، والأداء، والصرف والنحو، وعلم الأساليب، في مختبر لغوي خاص بهذه الغايات.

4 ـ أن يكون لمجامع اللغة العربية، في كلٍّ بلد عربي، سلطة التدخل، في سبيل تصويب أخطاء الإعلاميين.

5 ـ دراسة العاميات، من منظور تأصيلها، وذلك بربطها بأصولها العربية.

6 ـ التبصير الدائم بالأخطار التي تهدد الأمة باستخدام العامية وإحلالها محل الفصحى، والربط الدائم بين الحفاظ على اللغة والحفاظ على بقاء الأمة وهويتها الفكرية والثقافية، والنظر إلى اللغة باعتبارها مقوّماً مهماً من مقومات الهوية الحضارية للأمة.

وفي هذا المناخ جاءت إحدى التوصيات في التقرير السنوي (2013) الصادر عن اللجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية، التي تضمّنت ضرورة مراجعة لغة الفضائيات بشكل جاد لحماية العربية «ممّا يتهددها من مخاطر الدخيل الأجنبي الذي حوّلها إلى لغة هجينة (…)»، والدعوة إلى «تضافر الجهود لوضع خطة عربية شاملة للفضائيات ووسائل الإعلام، وتشترك فيها المؤسسات المعنية  باستخدام اللغة العربية وتأمين مستقبلها» (ص 54).

7 ـ الحثّ، من قِبَل المؤسسات الجامعية، والمؤسسات الرسمية المعنية، على تأليف ونشر المعاجم المهنية ذات الصلة بالإعلام، وتوفيرها للإعلاميين بأسعار تشجيعية.

8 ـ توفير دورات تدريبية، معمّقة، للمحررين في محطات التلفزة والإذاعة، لتظل علاقتهم التعلّمية بالقواعد العربية وأساليبها، وكذلك التقينات الحديثة في التحرير، مستمرة باطّراد، وجعل شهادة الكفاية اللغوية شرطاً لتعيين المستجدّين منهم.

9 ـ ضرورة تبادل الخبرات المعرفية والتقنية بين الإعلاميين العرب، من خلال الندوات والحلقات النقاشية.

10 ـ عدم بثّ الأفلام والمسلسلات الأجنبية بلغتها الأصلية، أو المدبلجة باللهجة العامية، وتشجيع عرض الأفلام والمسلسلات، والبرامج الأجنبية الناطقة بالعربية الفصيحة.

11 ـ وقد يكون من قبيل التمنّي، الذي يرنو إليه المواطن العربي، ما يمكن أن يتوّج ما نحن فيه، ألا وهو العمل على كتابة ميثاق شرف إعلامي عربي، يتفق والقيم السامية للمجتمع العربي، ويضمن الارتقاء باللغة العربية الفصيحة في وسائل الإعلام العامة والخاصة، وإقراره من قِبَل الجهات المعنية.

 

قد يهمكم ايضاً  اللغة العربية : من التراجع إلى التمكين