المؤلف: أمين هويدي

مراجعة: محمود علي الداود‏[1](**)

تقديم: خير الدين حسيب

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 320 ص

ISBN: 9789953827919

 

عندما فاتحني أخي وصديقي خير الدين حسيب بمراجعة الطبعة الثانية والمنقحة لكتاب كنت سفيراً في العراق 1963 – 1965: الفرص الضائعة للوحدة العربية لمؤلفه السفير أمين هويدي رحبت بالفكرة نظراً إلى ما كانت تربطني من صداقة وعلاقات عمل مع السيد السفير؛ كما كنت شاهداً قريباً من الأحداث المهمة والمصيرية التي وقعت خلال تلك الفترة من خلال عملي كمدير عام للعلاقات العامة ومن ثم مديراً عاماً للشؤون العربية في وزارة الخارجية. وقد تم اختياري باقتراح من وزير الخارجية صبحي عبد الحميد ممثـلاً شخصياً للرئيس عبد السلام عارف في شؤون الخليج العربي، وعُيِّنت بعد ذلك مستشاراً لمجلس الوزراء في حكومة طاهر يحيى، ورئيساً لديوان مجلس الوزراء وكالة في حكومة عبد الرحمن البزاز. وفي هذه الفترة حضرت العديد من اجتماعات القمة ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية العرب وكنت عضواً في الوفد العراقي الرسمي الذي زار القاهرة والجزائر بعد أيام قليلة على نجاح حركة 8 شباط/فبراير 1963 وكنت عضواً في الوفد العراقي في مؤتمر القمة بالدار البيضاء عام 1965 مع الرئيس عارف عندما قام عارف عبد الرزاق بانقلابه الفاشل.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أمين هويدي لم يكن سفيراً تقليدياً يعمل في سياق البروتوكولات الدبلوماسية، وإنما كان سفيراً واسع المهام والصلاحيات وينطبق عليه باللغة الإنكليزية تعبير «Ambassador at Large». وكما وصفه خير الدين حسيب في تقديمه الرائع بكونه كان سفيراً استثنائياً لطبيعة المهمة المحددة والخطيرة التي كُلِّف بها في العراق في تلك المرحلة التاريخية ومرجعيته المباشرة هو الرئيس جمال عبد الناصر. من هذا يتضح أنه لم يكن كبقية السفراء مرتبطاً بوزارة الخارجية المصرية بل كان مرتبطاً بشخص الرئيس، كما أنه لم يكن يعمل من خلال وزارة الخارجية العراقية فقط بل كانت اتصالاته مباشرة مع القيادات العراقية العليا وكانت الأبواب مشرعة له. ولا بد من أن الرئيس جمال عبد الناصر فكّر كثيراً لاختيار أمين هويدي سفيراً في بغداد في مرحلة دقيقة من العلاقات العراقية – المصرية والعلاقات المصرية – العراقية – السورية. وقد حدد الرئيس مهمة السفير أمين هويدي في مقابلة قصيرة ومهمة وتاريخية عشية مغادرته إلى بغداد عند منتصف ليلة 1 – 2 آذار/مارس 1963 في منزله في منشية البكري، ولم يكن قد تبقى له في القاهرة قبل إقلاع الطائرة التي ستقله إلى بغداد سوى ثلاث ساعات. وخاطبه الرئيس بلهجة واثقة وواضحة حول مهمته الجديدة ومسؤوليته بالعمل بما في وسعه من جهد للتقريب بين بغداد والقاهرة؛ إذ إن الترسبات التي صنعها الاستعمار وانقادت إليها الرجعية تركت آثارها في العلاقات بين البلدين وأوصاه الرئيس بالصبر وعدم القفز إلى النتائج إلا إذا كان هناك ما يبررها، وأنه المسؤول الوحيد أمامه دون تدخل من أحد طوال وجوده في بغداد.

قدّم السفير أمين هويدي أوراق اعتماده كسفير للجمهورية العربية المتحدة في 5 آذار/مارس 1963 للرئيس عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية وألقى خطاباً قومياً مطولاً أجابه الرئيس عارف بكلمة تحمل كل مشاعر الصداقة والوفاء، وقد ارتجل خطابه تاركاً جانباً خطاباً دبلوماسياً أُعد له سلفاً. ومن الوهلة الأولى شعر السفير الجديد أن الرئيس لم يكن حر نفسه، كما أشار إلى الفتور الذي أبدته الصحافة لما قاله الرئيس والسفير في مراسم تقديم أوراق الاعتماد، إضافة إلى الاستقبال الفاتر الذي قابله السفير عند وصوله إلى مطار بغداد. ولكن ذلك لم يفتَّ في عضده وكان مصمماً على تحقيق المهمة التي أوكلها إليه الرئيس جمال عبد الناصر. ومنذ بداية عام 1963 وحتى نهاية عام 1965 كان السفير يعمل ليـلاً ونهاراً وسراً وجهاراً بهدف تحقيق التقارب بين العراق ومصر وتحقيق الوحدة العربية. وكاد ينجح ويصل إلى الهدف.

– 1 –

هذا الكتاب يتناول بموضوعية ومهنية الجهود الدبلوماسية الرسمية والشعبية المضنية التي بذلها السفير من خلال سبعة أقسام إضافة إلى تقديم حسيب ومقدمة المؤلف، وهي: (1) الموقف في العراق قبل مباحثات الوحدة؛ (2) مباحثات الوحدة الثلاثية؛ (3) بداية النهاية… حكومة العبث في طريقها إلى السقوط؛ (4) انقلاب تشرين الثاني/نوفمبر 1963؛ (5) الحكم القومي بعد انقلاب تشرين الثاني/نوفمبر 1963 (6) انقلاب 15 أيلول/سبتمبر 1965؛ (7) نهاية المطاف. ويتضمن الكتاب ملحقين مهمين: الأول عن اتفاقية 17 نيسان/أبريل 1963؛ والثاني عن القوانين الاشتراكية. ولا شك في أن هذا الكتاب هو مصدر أساسي للباحثين والمؤرخين والدبلوماسيين للاطلاع عن كثب على الأحداث التاريخية التي وقعت ودور السفير أمين هويدي في إدارتها أو التأثير فيها أو كان مهندساً لها.

– 2 –

هل نجح السفير أمين هويدي بتحقيق وصية الرئيس جمال الناصر في التقارب مع العراق وترصين الطريق إلى الوحدة؟

يتميز السفير أمين هويدي كما وجدته بشخصية عربية مرموقه وجذابة؛ كان رحمه الله حسن الخلق جم التواضع عذب الحديث، تشعر بصدق مشاعره العربية. كما كان يتصف بالأناقة والكرم، واستطاع هو وعائلته الكريمة أن يدخل إلى قلوب الكثير من العراقيين. ورغم تعقيدات الساحة السياسية العراقية والصراعات والمنافسات بين الكتل السياسية الرئيسية وهي: 1 – حزب البعث العربي الاشتراكي؛ 2 – القوميون العرب؛ 3 – القيادات العسكرية ذات الولاءات المختلفة؛ 4 – الرئيس عبد السلام عارف؛ إلا أنه يُشعر الجميع بأنه قريب منهم. ولا شك في ثقافته العالية وحبَّه العميق للعراق وإيمانه بثقل المسؤولية التي وضعها الرئيس جمال عبد الناصر على كاهله لأن يكون صديقاً للجميع. ورغم كل التحديات التي جابهته – وخصوصاً من بعض قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي – إلا أنه نجح في أن يكون جسراً بين هذه القوى بالتوصل إلى اتفاقية 17 نيسان/أبريل 1963 بين الجمهورية العربية والعراق وسورية، التي أشارت إلى أن الوحدة بين الأقطار الثلاثة تقوم كما يريدها الشعب العربي على أساس الديمقراطية والاشتراكية، وأن تكون وحدة حقيقية متينة تراعي الظروف القطرية لتحكم عرى الوحدة على أساس من الفهم الواعي لا لتكريس أسباب التجزئة والانفصال، وتجعل من قوة كل قطر قوة للدولة الاتحادية للوطن العربي، ومن الدول الاتحادية قوة لكل قطر فيها وللأمة العربية (مقدمة الميثاق ص 266) وكانت هذه الاتفاقية خطوة مهمة على طريق الوحدة.

وفي ما يتعلق بمشروع الاتفاقية العسكرية بين العراق وسورية، التي عقدت في أيلول/سبتمبر 1963، وافقت الجمهورية المتحدة بناءً على توصيته على دعم المشروع رغم أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يطلع عليه.

– 3 –

أثر انقلاب عارف عبد الرزاق وتداعياته في العلاقات المصرية – العراقية وفي دور السفير هويدي بالذات

كانت العلاقات المصرية – العراقية تسير بصورة حسنة، وخصوصاً بعد انقلاب تشرين الثاني/نوفمبر 1963 وإطاحة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كاد يحتكر السلطة بعد حركة 8 شباط فبراير/1963. كما كانت العلاقات المصرية – العراقية ممتازة خلال الحقبة التالية خلال حكومتَي طاهر يحيى وعبد الرحمن البزاز، وكان موقف الرئيس عبد السلام عارف متجاوباً مع نداءات الوحدة ولكنه كان حذراً من الاستعجال في الأمر يوافقه بهذا الرأي رئيس الوزراء الجديد عبد الرحمن البزاز.

كانت الساحة السياسية بكل صراحة بيد الرئيس عارف والقيادات القومية. وفي نفس الفترة كانت هناك تحركات في صفوف القيادات العسكرية القومية متناقضة ومتصارعة وقسم منها يدعو إلى الوحدة الفورية، ولكن الجميع كانوا يتنافسون على السلطة. وكان الرئيس عبد السلام عارف يشعر بثقل ضغوط القيادات القومية، فأراد تفتيت نشاطاتهم بتعيين رمزهم الأساس العميد الركن الطيار عارف عبد الرزاق رئيساً للوزراء على أمل إطاحته في المستقبل. وبادر رئيس الوزراء، الجديد بالإعلان عن انقلابه ليلة 15 أيلول/سبتمبر 1963 وتنحية الرئيس عارف.

وبعد ساعات من إعلان الانقلاب كان قادة عسكريون مستقلون معظمهم من الموصل قد أحبطوا هذه المحاولة؛ وكان للعقيد الركن بشير الطالب قائد الحرس الجمهوري دور مهم في إفشال الانقلاب، وقد تعاون معه آمر قيادة قوات بغداد العميد سعيد الصليبي (وكان من أقرب أصدقاء عارف عبد الرزاق ومحل ثقته) الذي غيّر اتجاهه مما يدل أنه كان على اتفاق مسبق مع الرئيس عبد السلام عارف. كانت الأسباب التي أوردها عارف عبد الرزاق في إعلان انقلابه غير مقنعة، كما كان موضع استغراب ومعارضة من الكثير من الفئات الشعبية. كما أن اختيار عارف عبد الرزاق أن يقوم بالانقلاب في فترة انعقاد مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء كان اختياراً سيئاً. واتضح أن الانقلاب لم يكن له علاقة بالسياسة الداخلية للرئيس عارف بقدر ما كان خطوة شخصية انفعالية للتمسك بمزيد من السلطة؛ علماً أن قائد الانقلاب كان رئيساً للوزراء وقائداً للقوة الجوية ويتحكم بقوات عسكرية كبيرة إلا أنه فشل في مخططاته. ولكن الانقلاب ترك تداعيات سلبيات عميقة على مسيرة الوحدة في العراق ومصر.

كنت يومئذ برفقة الرئيس عارف في الدار البيضاء حيث ينعقد مؤتمر القمة العربي الثالث. وكان توقيت الانقلاب ووقعه في مؤتمر القمة سيئاً للغاية. أصيب الرئيس عارف بصدمة ولكنه ظل متماسكاً واضعاً اللوم على الجمهورية العربية المتحدة، مؤكداً أن الانقلاب من صنع القاهرة. كانت شقة الرئيس عارف على مقربة من الشقة المخصصة للرئيس جمال عبد الناصر في فندق المنصور بالدار البيضاء المخصص لانعقاد المؤتمر واستضافة الرؤساء والملوك، وقد طلب مني ترتيب موعد عاجل مع الرئيس، لكن التشريفات المصرية أعلموني أنه نائم وقد علمت فيما بعد أن المقابلة تحققت.

لقد كان انقلاب عارف عبد الرزاق عمـلاً انفعالياً لا مبرر له إطلاقاً؛ وبعمله هذا قوَّض الجهود الكثيفة التي بذلت عبر ثلاث سنوات من أجل التقارب بين مصر والعراق، ثم تحقيق الوحدة الثلاثية. لقد أصبح الرئيس عبد السلام عارف يشك في نوايا القاهرة، كما أصبح يشك في كل الكتل القومية حوله، وخصوصاً مع التكتلات العسكرية التي ساهمت في الانقلاب.

وقد أصيب السفير أمين هويدي بخيبة أمل شديدة وخصوصاً عندما شعر بأنه فقد ثقة الرئيس عارف. وفي مقابلته الأخيرة مع رئيس الوزراء الجديد عبد الرحمن البزاز أبلغه الأخير صراحة أن الرئيس لم يعد يثق في شخصه. وهذه إشاره مهمة شعر بعدها السفير هويدي بأن وجوده في بغداد أصبح بعيداً عن الحكمة وضرره أقرب من نفعه.

– 4 –

في الختام أسجل أن السفير أمين هويدي هو أحد أهم الرموز الدبلوماسية التي قابلتها وتعاملت معها في حياتي الدبلوماسية، ولكن التعقيدات والأحداث غير المتوقعة في السياسة العراقية قد تؤتي بما لا تشتهي السفن. وتبقى تجربته الاستثنائية درساً بليغاً في الدبلوماسية العربية. ولا بد من أن النهاية كانت بالغة القسوة حينما رأى هذا البناء الشامخ (الوحدة) ينهار أمامه من دون أن يستطيع أن يفعل شيئاً.

كلمة أخيرة لا بد من تسجيلها، وهي أن انقلاب عارف عبد الرزاق كان ضربة قوية للوحدة العربية ولجهود دبلوماسية مضنية بذلها السفير أمين هويدي بتوجيه من جمال عبد الناصر، كما كان ضربة قوية لأهداف وآمال الأمة العربية وللمصير المشترك. ورغم عدم وجود أي وقائع تظهر علاقة الجمهورية العربية المتحدة بهذا الانقلاب الذي قام به تكتل قومي وحدوي محسوب على القاهرة، إلا أن الرئيس عارف ومنذ الدقيقة التي سمع فيها أنباء الانقلاب وضع علامة الاستفهام على موقف القاهرة ولم يعد مطمئناً لدور السفير أمين هويدي ودوره في العراق. وقد مهدت هذه الأحداث المؤسفة لعودة حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة والتحكم بمصير العراق على مدى العقود الثلاثة المقبلة.