المؤلف: عمرو موسى(**)

مراجعة: مجدي حمَّاد[1]

الناشر: دار الشروق، القاهرة

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 576 

 

– 1 –

أصدر عمرو موسى الجزء الأول من «مذكراته» بعنوان: كتابيه عام 2017، ليغطي الفترة الممتدة من النشأة إلى نهاية مهمته وزيرًا لخارجية مصر عام 2001. وهذا هو الجزء الثاني من «المذكرات»؛ الذي يغطى سنوات الجامعة العربية (2001 – 2011)، ولاحقًا سيصدر الجزء الثالث والأخير ليغطى الفترة منذ قيام ثورة يناير 2011 إلى تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية عام 2014.

إن هذه ليست مذكرات عادية، لأن عمرو موسى شخصية غير عادية، وهذا ليس «مدحًا» وهو يستحق الكثير منه، لكنه «وصف» لدوره ومهمته. إنه يمثل شخصية كاريزمية بكل ما للكلمة من معان، تنطوي على قدرة دينامية طاغية، وملكة هيبة آسرة… ما طبع المذكرات بطابعه.

إن هذا العرض يصدر عن انتماء قومي عربي الهوية والهوى، لا يتزعزع من المهد إلى اللحد، وتخصص علمي في الشؤون العربية والجامعة العربية منذ التخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1970، وعمل في الجامعة لمدة 15 عامًا، نصفها في تونس، والنصف الثاني عندما عادت الجامعة إلى القاهرة عام 1990.

لقد تعرفت إلى موسى منذ نصف قرن؛ كانت المقابلة الشخصية الأولى بيننا عندما كنت ضمن وفد مصر إلى «مؤتمر الشباب العالمي» الأول، الذي نظمته الأمم المتحدة عام 1970، لخمس من قادة الشباب في الدول الأعضاء، وتولى مع نبيل العربي مهمة متابعة أعمال الوفد ورعايته، من قبل بعثة مصر لدى المنظمة الدولية. وكانت المقابلة الشخصية الثانية بعد عقدين عندما حضرت إلى القاهرة مرافقًا المنجي الفقيه رئيس مكتب الأمين العام للجامعة بتونس، لترتيب عودة الجامعة إلى مصر، وكانت النصيحة أن نلتقى باثنين ممن يعرفون «مفاتيح السلطة» في القاهرة، للتمهيد للمقابلات مع كبار المسؤولين المصريين: موسى مدير إدارة الهيئات والمنظمات الدولية بوزارة الخارجية، وأسامة الباز مدير مكتب الرئيس للشؤون الخارجية.

– 2 –

من هذه المنطلقات كان يشغلني سؤال أساسي: هل ينبغي أن يوجد الأمين العام للجامعة حيث توجد المشكلات والأزمات، القائمة والكامنة، أم يترك ذلك للعلاقات الثنائية، مراعاة لحساسيات الدول والقيادات العربية، وهي كثيرة ومتنوعة؟ مع اعتقاد جازم بجدوى التوجه الأول. ولقد توجهت بهذا السؤال إلى موسى بعد قراءة «المذكرات»، لأني خرجت منها بأنه هكذا ينبغي أن يكون دور الأمين العام ومهمته: مزيج من المبادأة والمبادرة، قائلًا: هل كان هاجسك تقديم ما تراه واجبًا بشأن دور ومهمة الأمين العام، الذي يقوم على المبادرة إلى الحركة في مواجهة المشكلات والأزمات؟ أم أن هذه هي النتيجة المنطقية لعرض دوره ومهمته، التي تكشف عن هذا الخط الأساسي، الذي يربط التطورات بعضها ببعض؟ فكان رده مباشرًا: نعم… لقد كان هاجسي ودافعي الأساسي أن أؤكد أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه دور الأمين العام ومهمته، وأنني بهذا المعنى كنت أسعى إلى الارتفاع بدوره ليكون الدولة العضو الرقم 23، على أساس أن عدد أعضاء الجامعة 22 دولة!

إن هذا السؤال يطرح طبيعة دور الأمين العام في أية منظمة دولية؛ إن تلك المنظمات تقوم على أساس سيادة الدول الأعضاء، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. من ثم تحرص تلك الدول على وضع العديد من القيود على الأمين العام للمنظمة، حتى لقد ذهب ميثاق «منظمة الوحدة الأفريقية» عام 1963 إلى استخدام اصطلاح «الأمين العام الإداري» لنزع أية صفة سياسية عن الأمين العام. مع ذلك يلاحظ أن هناك سعيًا متواصلًا من جانب من يشغل هذا المنصب للتوسع في ممارسة دوره ومهمته بما يتجاوز النصوص، ما بلغ ذروته على يد «داغ همرشولد» الأمين العام للأمم المتحده، حتى دفع حياته ثمنًا لذلك عام 1961!

ولقد تعقد الأمر في حال جامعة الدول العربية لعدة اعتبارات، ترد إلى خصوصية وطبيعة العلاقات العربية – العربية؛ فمن الصحيح أن الجامعة قامت كمنظمة إقليمية على أساس احترام استقلال وسيادة الدول العربية، لكن هذه المنظمة نشأت في إطار حركة وعقيدة القومية العربية، التي أفرزت مبدأ «الشرعية القومية»، الذي يضع قيدًا واحدًا أمام الدول الأعضاء، وهذا مجال واسع ومفتوح أمام حركة الأمين العام… إذا رغب.

استفاد موسى من هذا المجال المفتوح إلى آخر مدى، امتدادًا لدوره على الساحة المصرية. لقد تبلورت «ظاهرة موسى» في السياسة المصرية حين نجح في تجاوز الحاجز الوظيفي الصارم: وزير ينفذ سياسة رئيس، وبخاصة وزير الخارجية الذي ربما لا يعلم باسمه أحد، وفي «نظام الرجل الواحد»، ليمد علاقات وصلات واسعة مع الشعب المصري، وبخاصة في مواجهة إسرائيل، انطلاقًا من مبدأ «العزة والكرامة»، وهي ظاهرة نادرة في تاريخ الدبلوماسية المصرية، لا سابقة لها ولا لاحقة. بل لقد «تحول موسى إلى أيقونة في قلب وعقل المواطنين باتساع الوطن العربي الكبير»، على حد تعبير إبراهيم المعلم ناشر «المذكرات» في تقديم الكتاب (ص 12). ولقد انتقل موسى إلى تولي منصبه الجديد وهو يحمل خبرات هذه التجربة، من هنا شاع، على غير أساس حقيقي كما أكدت «المذكرات»، أنه جرى إبعاده، وفي الحقيقة «ركنه» في الجامعة، وكان السؤال لافتًا: لماذا يجري التغني بحبه.. لا بحب الرئيس، وبخاصة حين يرتبط ذلك بكراهية إسرائيل؟! ولقد كان الانتقال فاصلًا بأكثر من معنى، هكذا وجه إليه مندوب إحدى القنوات التلفزيونية الإسرائيلية، وهو يغادر مبنى وزارة الخارجية للمرة الأخيرة، السؤال الآتي: «هل أنت سعيد بانتقالك إلى جامعة الدول العربية؟»، فكان رده الفوري: «بل أنتم السعداء»!.. وهو رد بالغ الدقة، ويستحق الكثير من التأمل.

– 3 –

إن موقف موسى من إسرائيل معروف ومنشور، فهو ينتمي إلى «مدرسة التسوية» التي قادها «السادات»، إن لم يكن رمزًا من رموزها، بل لقد عمد إلى توثيق شهادة بالغة الأهمية، في الجزء الأول من مذكراته بعنوان كتابي، يؤكد فيها أنه «سبق السادات بفكرة التوجه إلى إسرائيل مباشرة»! مع ذلك فإن سلوكه الرسمي ينطوى على درس بالغ الأهمية لهؤلاء الذين ينتمون إلى المدرسة نفسها في تعاملهم مع إسرائيل وقضايا التسوية، وبخاصة الذين انحدروا من منهج «سلام الشجعان»، فيما كانوا يتوهمون، إلى حضيض «سلام الإذعان»! فقد كان يتعامل من منطلق الندية الذي يتجاوز أحيانًا السياسة المصرية الرسمية، بل ومواقف الرئيس ذاته. وهذا يفسر ما ذهب إليه في مذكراته من أنه كان على يقين من أنه قد آن الأوان لمغادرته منصب وزير الخارجية، ما يوحى أن وجوده قد أصبح «عبئًا» على الرئيس، بمعنى من المعاني، في ضوء الضغوط الأمريكية والإسرائيلية.

على سبيل المثال؛ في مؤتمر في عمان انتقد «الهرولة باتجاه إسرائيل»، وقد رد عليه الملك حسين داعمًا تلك الهرولة، ومن هذا الحوار اشتق الشاعر الكبير نزار قباني قصيدته الشهيرة «المهرولون»! ثم عاد موسى وطرح مبدأ «الاشتباك» مع «صفقة القرن» عندما أعلنها «ترامب» مطلع عام 2020، واتخذ موقفًا نقديًا في مواجهة عمليات «التطبيع الرسمي» التي جرت بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.

فمنذ أن بدأت المفاوضات أخذت الوفود العربية تتصرف وكأنها تخلت عن كل بديهياتها، لتباشر «حوارًا» مع طرف تكاد تنسى أنه «عدو»، لولا أن «العدو» ذاته يذكرها بعداوته باستمرار! صحيح أن «التوازن الاستراتيجي» مختل لمصلحة إسرائيل، لاعتبارات ظرفية، لكن هذا لا يبرر أن يكون «التوازن النفسي» مختلًا أيضًا لمصلحتها، بحيث يكون «الإسرائيلي» قادرًا على التصرف كأنه يعطي بعضًا مما يملكه شرعًا، ويكون العربي قد أصبح مسلّمًا بالخسارة الأصلية، وساعيًا للاكتفاء بما قيل له إنه حقه، إن لم يكن ببعض هذا الحق. بل يمكن للمواطن العربي أن يشك في أن المفاوض باسمه مسكون بوعي حاسم مؤداه أنه إذ يفاوض «الإسرائيلي» فإنه، في قرارة نفسه، جازم في أنه «يتحاور» مع غاصب الأرض، لا المحتلة عام 1967 فقط، بل ولفلسطين كلها.

في هذا الجزء الثاني من «المذكرات» سجل موسى خلاصة موقفه من الصراع العربي- الإسرائيلي، بعد كل ما جرى، قائلًا: «إن الوضع الحالي الناجم عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين وسورية ولبنان منذ عام 1967، ورفضها حل الدولتين، وعملها الدؤوب على الإبقاء على الوضع الحالي بوصفه أمرًا واقعًا، وهو ما لا يصح لأي نظام عربي أن يقبله، ولا يحتاج ذلك إلى شرح طويل. ثم إن هذا الصراع ليس صراعًا بين «حقين»، وإنما هو صراع بين ادعاء يرفضه القانون الدولي بتجلياته ونصوصه كافة، وبين حق يستند إليه. إن أي تسامح عربي مع الاحتلال الأجنبي ووقائعه وآثاره، أو تردد في المطالبة بالإنصاف للفلسطينيين إنما يكرس اضطرابًا كبيرًا لا شك فيه؛ إذ يبقي القضية على جدول الأعمال الدولي والإقليمي، الحكومي والشعبي، لعقود قادمة، وتبقى النتائج النهائية للصراع معلقة، وتجعل الكثيرين يؤمنون بأن ما تراه اليوم ليس إلا محطة من محطاته، وليس محطة نهائية» (ص 525). وهي شهادة جديرة بالاعتبار.

هنا ينبغي تأكيد موقف كاتب هذه السطور من هذه المسألة؛ فهو يعتقد بيقين أنه ليس هناك أي سلام مشرّف مع إسرائيل، انطلاقًا من الموقف الناصري الحاسم والجازم، الذي يذهب إلى أن «الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود.. لا صراع حدود»، وأنه لا حل لذلك الصراع، مهما طال المدى، إلا الحل الحضاري الذي يقوم على تأسيس دولة ديمقراطية واحدة يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون على قدم المساواة. وعلى الذين يستنكرون هذه «اللغة الخشبية»، كما يقولون، ويدمغونها بعدم الواقعية، أن يستعيدوا ما حدث في جنوب أفريقيا منذ سنوات قليلة خلت، بعد نحو أربعة قرون من أسوأ نظام استعمار استيطاني وفصل عنصري عرفه التاريخ. وقد أصدر دراسات متعددة في تأصيل وتفصيل ذلك، لعل من أهمها ثلاثة كتب: أولها، نشره «مركز دراسات الوحدة العربية» بعنوان: السادات وإسرائيل: صراع الأساطير والأوهام، وثانيها، بعنوان: السلام الإسرائيلي في 3 أجزاء، وثالثها، إزالة إسرائيل، وقد نشرهما «مركز باحث للدراسات والاستشارات» ببيروت.

– 4 –

إن هذه «المذكرات» تؤكد أن موسى منذ اللحظة الأولى في مباشرة مهمات منصب الأمين العام للجامعة رفض منطق «الخطوط الحمر» في التعامل مع الدول والقيادات العربية، محصنًا بدعم الرأي العام العربي، لم لا وقد نصت «ديباجة الميثاق» حرفيًا على أن الجامعة نشأت «استجابة للرأي العربي العام في جميع الأقطار العربية»، ومستفيدًا من مكانته وهيبته الشخصية والرسمية، وبخاصة أن ذلك الميثاق جاء عامًا جدًا في ما يتصل بصلاحيات واختصاصات الأمين العام، ولم يضع عليه أية قيود تذكر.

من أبرز نماذج ذلك عندما طرح مبادرة إنشاء «رابطة دول الجوار العربي» على «مؤتمر القمة العربية» بمدينة سرت الليبية في عام 2010. تقوم هذه المبادرة، كما سجل موسى، على «فكرة أن يصبح النظام العربي مركز ثقل إقليميًا قادرًا على جذب الدول المحيطة به، وبناء علاقات معها تقوم على جملة من المصالح المتبادلة أو المشتركة في المجالات الاستراتيجية كافة، الأمنية والاقتصادية والثقافية، ويستهدف تنسيقها وتنظيمها وتعظيمها. وتسعى المبادرة إلى تحويل النظام العربي من طرف مفعول به أو متلق إلى طرف فاعل ومبادر في محيطه وفيما وراءه، في وقت تراجع فيه الدور العربي الإقليمي»، وهو ما فتح المجال لاختراقات متنوعة من دول الجوار؛ وبخاصة إسرائيل وإيران وتركيا وإثيوبيا (ص 508). لكن «مبارك» باغته بمنتهى الحده: «لا. لا أوافق.. ده فيه ضرر كبير هنا». فكان رد موسى بسرعة متسائلًا: «ليه يا سيادة الرئيس؟» ويضيف: كانت مفاجأة فيما يبدو، فالحكام العرب لم يعتادوا تقديم تفسيرات لقراراتهم، أو أن يسأل أحد: «ليه؟»، بدلًا من: «حاضر يا أفندم». صمت «مبارك» برهة ربما من وقع المفاجأة، ثم كرر: «كده .. ده كله ضرر وخلاص»، وطوى الموضوع.

لكن الدهشة كانت عامة؛ فقد دعاه الملك عبد الله لمقابلته في الرياض، حيث بادره بسؤال: «هل ترى يا عمرو أن من حق الأمين العام أن يطرح مبادرات دون أن يعرضها من قبل على الملوك والرؤساء للتشاور والاتفاق؟»، فرد قائلًا: «نعم يا جلالة الملك، وهذا ليس حقًا فقط إنما مسؤولية، أن يتقدم الأمين العام باقتراحات يراها مهمة في إطار حماية أو تعظيم المصلحة العربية، وأنها تقدم إلى الملوك والرؤساء فإن أقروها وأصدروا توجيهات بشأنها يبدأ الأمين العام وضعها موضع التنفيذ، وإن لم يوافقوا ينتهي الأمر. ويبدو أن الملك وجد الرد مقنعًا فانتقل إلى موضوع آخر» (ص531). هل يمكن تصور أن يعرض الأمين العام ما يعن له من مبادرات على 22 من الملوك والرؤساء والأمراء أولًا قبل التقدم بها إلى المجالس المعنية في الجامعة؟!

– 5 –

نموذج آخر هو ما ذهب إليه في «مؤتمر القمة الاقتصادية العربية» المنعقد في «شرم الشيخ» في 19/1/2011، أي قبل ستة أيام من اليوم الحاسم في مصر؛ حين قال مخاطبًا الملوك والرؤساء والأمراء العرب: «إن ثورة تونس ليست بعيدة عن هنا»، وأصابعه تشير إلى القاعة الواسعة! (ص 35)، وبخاصة أن «أكثر من حاكم عربي لم يتحرك من كرسيه لعشرات السنين، حتى ظن هذا وذاك أنه ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن، وأن التغيير ضار باستقرار البلاد، وليس في مصلحة شعوبها، وقد يؤدي إلى الفوضى» (ص 533). مع ذلك كان يتساءل: «لماذا أحذر والنتيجة واحدة هي الثقة الزائدة في الشخصيات «الأمنية» القائمة؟»، وبخاصة أن هؤلاء القادة «لم يدركوا عنف التاريخ ومكره. لم يدركوا معنى ولا مبنى ولا رؤية القرن الجديد» (ص 534).

من هذا المنطلق أدرك موسى أن تصاعد اصطلاحات «الشرق الأوسط الكبير» تحمل نذر خطر جسيم قادم بعنف، لأنها تهدف إلى إزالة النظام العربي، وبخاصة أنها تلطت خلف «شعار الديمقراطية»، وكان «النموذج العراقي» صارخًا في استخدامه لتدمير بلد عربي. من ثم فقد تبنى قضية «الإصلاح السياسي»، وكانت لديه بمثابة «عملة ذات وجهين»: على الوجه الأول إصلاح حال الدول العربية، الذي أصبح بندًا على جدول أعمال القمة العربية، وبخاصة منذ قمة تونس عام 2004، وعلى الوجه الثاني إصلاح حال الجامعة، لكي تكون هناك «جامعة عربية مختلفة» على حد تعبيره (ص 332). وعلى الوجهين كانت العراقيل متواترة، وكانت الصعوبات جمة، لأن الإرادة كانت غائبة. لكنه لم يصل إلى مغزى الحكمة البليغة التي ذهب إليها عبد الرحمن عزام، أول أمين عام للجامعة، حين قال لعدد من زائريه: «لم يكن هذا ما كنا نقصده، لقد جعلتوها أممًا متحدة»!

– 6 –

وفي إجمال حصيلة عمله كان في مقدور موسى أن يخلص إلى أن الجامعة «أصبحت عنصرًا فاعلًا في منطقة الشرق الأوسط، والمجال الأفريقي، ومجال البحر المتوسط، لكن كانت هناك حساسية لدى بعض الأطراف العربية من الدور الجديد للجامعة وأمينها العام. كان سبب تلك الحساسية ينبع من عدم توقع هذا الدور، وكذلك الشكوك فيمن يقف وراء ذلك الدور» (ص 333). ويضيف أن حركة الجامعة النشطة امتدت من القضية الفلسطينية (مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002 – جدار الفصل العنصري في محكمة العدل الدولية عام 2004 – الانقسام الفلسطيني عام 2007 – مؤتمر أنابوليس للسلام عام 2007 – قضية الاستيطان – العدوان على غزة عام 2008)، إلى الأزمة الحادة في العراق (احتلال العراق وسقوط «صدام حسين» – احتضان الحال العراقية عربيًا – معركة الهوية العربية في الدستور – مؤتمر الوفاق الوطني العراقي بالجامعة)، كما في لبنان (اغتيال رفيق الحريري – إنقاذ لبنان من صراع 8 و14 آذار – حرب تموز عام 2006 – اتفاق الدوحة عام 2007)، إلى مشكلات السودان (اتفاق السلام الشامل – انفصال الجنوب – الأزمة السياسية والإنسانية في دارفور – توقيع اتفاق أبوجا – السودان والمحكمة الجنائية الدولية)، والقرن الأفريقي واليمن وجزر القمر (رعاية مفاوضات السلام الصومالية – مواجهة أزمات اليمن الداخلية: تدهور الوضع الاقتصادي، تنظيم القاعدة، التمرد الحوثي، الحراك الجنوبي – في جزر القمر: تمويل الجامعة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتعددة والكثيرة، إنها أزمة انفصال جزيرة إنجوان، عودة الاستقرار وبدء عملية التنمية – موقف الجامعة من تهديد سيادة جيبوتي)، والمغرب العربي ( الأزمة بين المغرب وإسبانيا بشأن جزيرة ليلى – المباراة الكروية بين مصر والجزائر – التطبيع بين موريتانيا وإسرائيل – انقلاب عام 2008 الذي أطاح بالرئيس الموريتاني)، وليبيا (ثورة الشعب الليبي ضد القذافي – فرض حظر جوي على الأراضي الليبية – الخروج على التفويض العربي بحماية المدنيين الليبيين)، وغيرها، بل تعدى ذلك إلى قضايا نزع السلاح وأسلحة الدمار الشامل في المنطقة العربية، ومواجهة الهيمنة على الإسلام والمسلمين، فضلًا عن إقرار الدعوة إلى «قمة عربية ثقافية» حدد لها عام 2011، لكنها لم تعقد بسبب ظروف «الربيع العربي»، إلى جانب تنظيم المشاركة العربية في «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب» في سياق العمل على تصحيح صورة العرب السلبية عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر، كما في «مهرجان أرابيسك لفنون الوطن العربي» في «مركز جون كنيدي التذكاري للفنون الأدائية» في واشنطن عام 2009. ويخلص موسى إلى أن «كل تلك التحركات السريعة والنشطة للأمين العام جعلت الجميع يدرك أن أداء مختلفًا اختلافًا كبيرًا للجامعة عما سبق، فلم تعد تلك المنظمة بطيئة الحركة، ولا تجلس منتظرة فكرة من هنا أو هناك، أو تعليمات من هذه الدولة أو تلك» (ص 333)، وبخاصة مع ما شهدته من تطوير هيكل العمل العربي المشترك، والارتقاء بمستوى العلاقات العربية الدولية من خلال الجامعة.

إن مباشرة عمرو موسى لدوره ومهمته تكشف أنه كان يتحرك على جبهة واسعة من القضايا والتحديات والموضوعات، بل إنه لم يفصل بين المستويين الشعبي والرسمي، ويكتفي هنا بمثالين:

أولهما، على المستوى الشعبي في ميدان كرة القدم؛ فقد شهدت العلاقات بين مصر والجزائر درجة غير مسبوقة من التوتر المتصاعد، عقب مبارة لكرة القدم في إطار التصفيات المؤهلة لكأس العالم، فسارع في مساء اليوم نفسه إلى طلب مقابلة رئيس الجزائر، الذي طلب الإرجاء ما يدل على حدة المسألة، لكنه ظل يتابع الأمر حتى أمكن محاصرة هذه المواجهة، وخفض حدتها (ص 397 – 399).

وثانيهما، على المستوى الرسمي في ميدان نزع السلاح، وبخاصة السلاح النووي؛ فعندما تولى منصبه لم تكن هناك إدارة متخصصة في قضايا نزع السلاح ضمن هيكل الجامعة، فوضع خطة طويلة الأجل ذات أهداف كبرى في هذا المجال. بدأ بتأسيس إدارة متخصصة، ورفدها بعدد كافٍ من الموظفين، ثم وضع برنامجًا طموحًا لتدريبهم على جميع المستويات، استغرق نحو خمس سنوات، حتى أصبحوا كوادر رفيعة المستوى، ما سمح لهم بالمشاركة في المنظمات والمنتديات الدولية المعنية بالموضوع. هكذا انتقل إلى هدفه البعيد، وما اعتبره قضيته: إسرائيل ونزع السلاح النووي. فقد كان من الملاحظ أن الدول العربية كانت تدرج موضوع «القدرات النووية الإسرائيلية»، ودعوة إسرائيل إلى الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، على جدول أعمال «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» كل عام، لكنها تسارع إلى سحبه قبل التصويت بعدة أيام، خوفًا من الفشل الذريع، وخضوعًا للضغط الأمريكي والغربي المعروف، لنحو 18 عامًا. قرر دخول التحدي؛ وبناء على تخطيط دقيق استغرق تنفيذه ثلاثة أعوام، قسم الدول الأعضاء إلى ثلاث مجموعات: المؤيدة والرافضة والمتأرجحة، وحدد أسلوب التحرك مع كل مجموعة، من دون إثارة الموضوع صراحة، حتى جاء الموعد المنتظر فتقدم بمشروع القرار، ورفض أي اتصالات أو ضغوط للعودة عنه، حتى نجح في مسعاه عام 2009، ليعلق مندوب إسرائيل على ذلك: «إنه ليس قرار الدول العربية، إنه قرار الجامعة العربية .. قرار عمرو موسى!

– 7 –

يقتضي ما تقدم الإشارة إلى مستوى العاملين في الجامعة، الذين كثيرًا ما يجري دمغهم بعدم الكفاءة وتواضع المؤهلات، حتى من جانب الدول الأعضاء أحيانًا، رغم أنهم جميعًا من ترشيح هذه الدول بغير استثناء واحد! فقد أكد «موسى» أن الحقيقة هي خلاف ذلك: «وجدت أن تعليمهم راق، وخبرتهم ثرية، ولديهم الاستعداد للتطوير والعمل. كانوا لا يقلون في المستوى عن العاملين في أية منظمة أخرى… فقط يحتاجون التوجيه والثقة» (ص 45). وهكذا كتب في مقدمة شهادته: «أنتهز هذه المقدمة لأحيي مسؤولي الأمانة العامة لجامعة الدول العربية وإدارييها وموظفيها رجالًا وسيدات، الذين ارتفعوا بأنفسهم إلى مستوى التحدي» (ص 35). وكان من اللافت للنظر أيضًا التركيز – عن حق وجدارة – على مسألة تمكين المرأة في هيكل الجامعة إلى آخر مدى.

كذلك امتد مجال حركته قد من «السياسي» إلى «الثقافي»، كما يدل على ذلك، بصفة خاصة، تنظيم المشاركة العربية في «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب»، حيث أجرى موسى الاتصالات اللازمة بالأوساط الثقافية العربية والدولية، حتى توصل إلى اتفاق مع إدارة المعرض على أن تكون الثقافة العربية والكتاب العربي هما «ضيف شرف المعرض» عام 2004، حتى «نستطيع من خلاله إبراز الوجه الحضاري للوطن العربي، وقيمه السمحة، وتفاعله مع الثقافات والحضارات الأخرى» (ص 207)، هكذا «في مقابل الاتهام الموجه للعرب بأنهم يحملون العصي والخناجر والسيوف والمدافع، فسوف نذهب حاملين كتبًا ومراجع علمية وفنونًا وآدابًا وأفلامًا. سوف نحاول أن نغير الصورة النمطية عن العرب من خلال ذلك المنبر الأوروبي الثقافي المهم» (ص 206)، وبخاصة أن الفعاليات والأنشطة لا تقتصر على أسبوع المعرض، بل تستمر لعام كامل.

مع ذلك، شهدت هذه الفكرة معارضة رسمية حادة من أغلبية وزراء الخارجية العرب، حتى تساءل أحدهم: «هل مطلوب أن ندفع من أموالنا كي نحقق مجدًا شخصيًا لعمرو موسى؟»! (ص 208)، كما امتنعت تسع دول عربية عن دفع حصتها في الميزانية المقررة للمشاركة. بل إن وصول أصداء هذه الخلافات إلى الرئيس زين العابدين بن علي دعته إلى تأجيل القمة التي كانت مقررة في تونس. وكان طبيعيًا أن تحاول إسرائيل وبعض أنصارها في ألمانيا وأوروبا، شن حملة مضادة للتشويش على المشاركة العربية في معرض فرانكفورت، حتى إن السلطات الألمانية حققت في الاتهام الموجه إلى عدد من الكتب بزعم أنها «معادية للسامية»، وثبت كذب ذلك. مع كل ذلك حققت المشاركة العربية في المعرض نجاحًا هائلًا.

– 8 –

من ناحية أخرى؛ تمثل الحال الليبية جرحًا غائرًا في مسيرة موسى، فيما هو مستقر، على غير أساس، في صفوف كثرة من المتابعين، بغير تدقيق ولا مراجعة، على أساس تحميله، بغير مقتضى، تبعات قرار مجلس الجامعة العربية بشأن «إنشاء منطقة حظر جوي فوق ليبيا» عام 2011. ولقد أسهبت «المذكرات» في شرح تطورات هذه الفكرة عربيًا ودوليًا، وحقيقة دور موسى بشأنها، بما ينصفه بالكامل. وقد ذهب إلى ذلك أيضًا عبد الرحمن شلقم مندوب ليبيا لدى مجلس الأمن، في كتابه نهاية القذافي؛ حيث أكد أن موسى كان هو «الغائب الحاضر» أثناء مناقشات المجلس، وقد عارض بشدة الفقرة التي تنص على «استخدام كل الوسائل» في قرار المجلس، ثم رفض حضور أي اجتماعات لاحقة. لكن ما أضيفه هنا شهادة شخصية ربما تاهت في زحام الأحداث، حيث إنني سمعت بأذني مباشرة الرئيس أوباما وهو يقول علنًا: «إن موسى يرفض توسيع نطاق القرار بإنشاء منطقة الحظر الجوي»، ليسمح بالقضاء على معمر القذافي، وفي الحقيقة تدمير ليبيا.

فضلًا عن ذلك كان موسى على موعد آخر مع أوباما في لقاء مباشر؛ فقد دعي بصفته الشخصية، وبوصفه أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية، للمرة الأولى، للمشاركة في «قمة الدول الثماني الكبار» عام 2011، التي تعد كما يطلق عليها إعلاميًا «مجلس إدارة شؤون العالم». فقد بادر أوباما إلى سؤال موسى حين هم بمصافحته إن كان سيتعرض لإسرائيل في كلمته، فرد: «بالتأكيد»، فرد عليه أوباما قائلًا: «سوف أقاطعك وأرد عليك»، فعقّب موسى: «أنا أتفهم، وآمل أن تتفهم يا سيادة الرئيس»، وهو حوار له دلالته ومغزاه. وتعقيبًا على الأمر كله خلص موسى إلى «أن الجامعة العربية كانت في 2011 قد وصلت إلى درجة من الاعتراف الدولي بها لم تصل إليها من قبل»، حيث جلس بوصفه الأمين العام للجامعة على مائدة تضم «مجلس إدارة شؤون العالم»، ويتحدث مع أي منهم مباشرة في أي أمر يخص الوطن العربي (ص 532 – 533).

– 9 –

تؤكد المذكرات أن الموضوع العراقي ينطوي على دروس كثيرة، لكن من أكثرها أهمية مأساة النظم السياسية العربية، بالنظر إلى حال الكثرة من الحكام العرب. إن أغلبية هذه النظم تندرج ضمن «نظم الحزب الواحد»، والحقيقة أنها كلها يصدق عليها وصف «نظم الرجل الواحد»، سواء كانت ملكية أو جمهورية.

من هذا المنظور، سارع ناجي صبري الحديثي وزير خارجية العراق السابق، إلى توجيه نقد بالغ الحدة للمذكرات، وصل إلى حد «تكذيب» رواية موسى بشأن مقابلته مع صدام حسين، وذلك استنادًا إلى ما ورد في الصحف من مقالات للترويج للكتاب قبل صدوره، وكان لذلك النقد والتكذيب أهمية مضاعفة مصدرها أن الرجل كان مسؤولًا، كما أنه كان حاضرًا في ذلك الاجتماع. ولقد جاء رد المذكرات حاسمًا، لأن الكتاب بالمصادفة البحتة لم يتضمن أي ملاحق، عدا ملحق واحد؛ يتضمن محضر اجتماع موسى ووفد الجامعة مع صدام حسين، بنفس نصوصه المحفوظة في السجلات الرسمية، الذي يؤكد مدى دقة وصواب ما أورده موسى بشأن هذا الاجتماع. ويبدو أن الرجل قد هاله أن هناك من يجرؤ على الحديث مع القائد المهيب صدام حسين، رغم رحيله منذ سنوات، بما أورده موسى، لأن مجرد الاستماع إلى ذلك الذي قيل في حد ذاته مشكلة!

وأتذكر أن سفير العراق الرائع لدى مصر سابقًا نبيل نجم كثيرًا ما كان يطالبني بحَثِّ الكثير من الأصدقاء، وبخاصة من القيادات الناصرية، على قبول الدعوة إلى زيارة العراق، ومقابلة صدام حسين لأنهم يمكنهم أن يقولوا له ما لا يمكن أن يقوله أي عراقي آخر مهما علا شأنه!

وفي المسألة العراقية أيضًا جمعنا لقاء خاص في بيروت فتوجهت إلى موسى بسؤال: كيف سمحتم لحاكم العراق تحت الاحتلال بول بريمر أن يعين من يجلس على كرسي العراق في اجتماعات وزراء الخارجية العرب بمجلس الجامعة؟، فكان رده موجزًا وحاسمًا: «لكي أحافظ على عروبة العراق» .. ولم اقتنع وقتها. لكن المذكرات تشير إلى ما هو أخطر كثيرًا؛ فقد اكتشف موسى أن عملية وضع الدستور العراقي تسعى إلى نزع عروبة العراق، بنص يقول: «إن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية»، فتدخل لدى كبار المسؤولين في العراق، بل وحتى السفير الأمريكي ببغداد اتصل به حين علم بموقفه الجاد والحاد، حتى فوضه الجميع بوضع النص الذي يرتاح إليه، وتم تثبيته في الدستور: «إن العراق عضو مؤسس في جامعة الدول العربية، وملتزم بميثاقها، وتنفيذ قراراتها»، مع إضافة «إن العراق جزء من العالم الإسلامي» (ص 101 – 102).

– 10 –

لقد ذهب إبراهيم المعلم إلى «أن ما كشفه موسى في «هذا الكتاب بشجاعة وبجسارة أوصلنا إلى مكامن الخطر، وبؤر الخلاف، التي أعلنها بكل موضوعية وشفافية، ليدق ناقوس الحقيقة والخطر لمن أراد أن يدرس.. ولمن أراد أن يعرف؛ ليبني مستقبلًا أكثر تفاؤلًا وأملًا أكثر مما فات» (ص 12). وإذا كان الأمر بيدي لقررت عقد دورات تثقيفية محورها هذه المذكرات تضم كل الدبلوماسيين العرب الذين يلتحقون ببعثات دولهم لدى الجامعة، وكل الصحافيين والإعلاميين العرب الذين يتولون تغطية أعمال الجامعة، وكل أعضاء هيئات التدريس في الجامعات العربية الذين يتولون تدريس جامعة الدول العربية، سواء من منظور العلوم السياسية، أو المنظمات الدولية، أو القانون الدولي، أو الدبلوماسية.. لأنها تنطوي على دروس واقعية وعملية على طبيعة العلاقات العربية- العربية، ومؤسسات العمل العربي المشترك، وما ينبغي أن يكون عليه دور الأمين العام ومهمته؟.