مقدمة:

بنيت الوساطة التركية بين سورية وإسرائيل، على علاقة تركيا القوية بالبلدين، ما مكّنها من تأدية دور فعّال، وتحقيق نجاح صعب لم يكن أحد يتوقعه، في فترة بالغة التوتر والحساسية، شهدتها منطقة الشرق الأوسط في تلك الآونة، حيث أصبح احتمال الحرب كبيراً، إلا أن جهوداً تركية مكثفة بُذلت من أجل إعادة الطرف السوري والإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات التي ربما تؤسس لاتفاقية سلام وتنهي حالة العداء بينهما، وهذا ما سنقوم بالبحث فيه تالياً. لقد كانت هذه الدراسة قصة بحثٍ عما حصل خلال المفاوضات، واستكشاف ما جرى فيها، وفي ظل نقص شديد في المراجع والأدبيات التي تتحدث عن موضوعنا، فإن ما استطعنا الوصول إليه جدير بإطلاع القارئ عليه، علَّه يكون مقدمةً لبحثٍ أكثر أهمية في هذا المجال.

أهمية الدراسة: تنبع أهمية الدراسة من أهمية مسألة المفاوضات السورية – الإسرائيلية بشكل عام، وتداعيات مراحلها الأخيرة التي شهدتها جولات التفاوض بوساطة تركية، ومن النتائج التي توصل إليه البحث كذلك.

تساؤلات الدارسة: نطرح في هذا الدراسة سؤالاً محورياً عن: حقيقة ما حصل في جولات التفاوض، وهل اقتربت من توقيع اتفاق سلام سوري – إسرائيلي؟

فرضيات الدراسة: تفترض هذه الدراسة بأن جولات التفاوض اقتربت كثيراً وبشكل غير مسبوق من توقيع اتفاق سلام سوري – إسرائيلي.

منهج الدراسة: قمنا بالاستعانة بالمنهج البنيوي التاريخي، وكذلك منهج تحليل البيانات الذي ساعدنا كثيراً على التدقيق والبحث بعمق في الأخبار والتسريبات والتقارير والتصريحات، تلك التي كانت عماد البحث وأساسه.

الدراسات السابقة: لا توجد دراسات سابقة يمكن الإشارة إليها حول هذه المسألة قيد الدراسة، لذلك يتمنى الباحث أن تكون هذه الدراسة سنداً لعمل أكبر وأكثر أهمية في هذا المجال.

أولاً: الوضع الإقليمي والدولي إبان المفاوضات السورية – الإسرائيلية في تركيا

خرجت المنطقة بعد حرب تموز/يوليو 2006، باستنتاجات بالغة الأهمية، فقد لمست الإدارة «الإسرائيلية» تفكيراً جاداً لدى القيادة السورية بتحريك الجبهة السورية في الجولان باتجاه الحرب، وبخاصة بعد أن عمل «الإسرائيليون» على إفشال كل محاولات الرئيس بشار الأسد السلمية لعودة المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها، وتحقيق تسوية سياسية لقضايا الصراع في المنطقة، إذ بدأ يصرِّح بأن فشل «السلام» يعني خيار الحرب لاستعادة الأرض المحتلة.

في الوقت ذاته، فإن ابتعاد الإدارة الأمريكية عن القيام بدور جدّيٍّ في عملية «السلام» على المسار السوري، كان قد رسخ فكرة أن العمل العسكري هو الطريقة الوحيدة لاستعادة الأراضي المحتلة، وبخاصة بعد حرب تموز/يوليو 2006، التي كانت نتائجها قاسيةً على المؤسسة العسكرية «الإسرائيلية»، وعلى مفاهيم العقيدة القتالية «الإسرائيلية»، القائمة على مبادئ الحرب الخاطفة، والردع وتدمير العدو في ساحته. هذه المسائل أعطت القيادة السورية انطباعاً، بأن خوض حرب عسكرية ضد «إسرائيل» بات ممكناً، بعدما استُبعد ذلك لعقود حيث قام وزير الخارجية السوري «فاروق الشرع» بتحميل مسؤولية التصعيد «لإسرائيل»، مؤكداً أن «المقاومة ستستمر طالما بقي الاحتلال. إلا أن القيادات العسكرية ثم السياسية كررت في ما بعد رسالة مفادها أن «إسرائيل» بعثت «عبر قنوات مختلفة» برسالة واضحة إلى سورية لطمأنتها، بأنه ليس لديها نية في مهاجمتها، وأن استدعاء الاحتياط مرتبط فقط بالحرب في لبنان، وليس لغايات أخرى‏[1].

بشكل عام، يمكن القول إن العثرات الأساسية التي تقف حجر عثرة كأداء، للوصول إلى اتفاق «سلام» بين «إسرائيل» وسورية، تتمثل بعدة أمور أهمها أن: الفجوة بين المطالب السورية المتمثلة بالانسحاب «الإسرائيلي» إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، وبين موقف «إسرائيل» الذي يصر على أن الانسحاب يجب أن يكون إلى الحدود الدولية لعام 1923‏(*). وأيضاً مسألة المياه، إذ إن سورية تعاني مشكلة مياه. وكذلك الاتفاق على مسألة إخلاء المستوطنات في الجولان عند توقيع اتفاقية سلام، والجدول الزمني لإخلائها. كما زادت هذه العثرات لتشمل مسألة علاقات سورية مع إيران، و«حزب الله»، والفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها «حماس»‏[2]. وبالرغم من تزايد احتمالات وقوع حرب في هذه الفترة، إلا أن القيادة السورية وجدت أن فتح ملف المفاوضات مع «إسرائيل»، يمكن أن يحقق لها العديد من الأهداف، منها: استعادة الجولان في حال نجحت المفاوضات، أو على الأقل إعادة التركيز على المسار السوري. كما أن الدخول في المفاوضات، يؤكد رغبة سورية في «السلام»، وسعيها لتخفيف التوتر، واحتمالات استخدام الخيار العسكري بينها وبين «إسرائيل»، والتي تصاعدت خلال عام 2007. وإلى جانب ما ستسهم فيه عملية السلام في إنهاء العزلة على سورية، وتخفيف الضغوط الأمريكية عليها‏[3].

كل ما ذكر، مهّد الطريق لإعادة الحديث عن المفاوضات بين سورية و«إسرائيل»، بعد أن تعثرت عام 2000، وقدوم حكومة ليكود متطرفة رفضت آنذاك العودة إلى المفاوضات. لقد كان المبدأ السوري يركز على الترحيب بأي مفاوضات من شأنها عودة الحقوق السورية، إضافةً إلى فك العزلة التي فُرضت عليها، وإعادة دائرة الضوء والاهتمام لقضيتها. ومع تحسن العلاقات السورية – التركية، وعرض الطرف التركي الوساطة على الطرفين، وجدت سورية أن قبولها الوساطة إيجابي، وربما يحقق ما لم يكن متوقعاً، بالوصول إلى اتفاقية سلام بين الطرفين.

ثانياً: الوساطة التركية في المفاوضات السورية – الإسرائيلية

بدأت قصة المفاوضات في شباط/فبراير 2007، عندما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، الذي فوجئ بطلب أولمرت أن يكون وسيطاً بينه وبين الرئيس بشار الأسد، حيث قام بنقل «رسالة دراماتيكية» من أولمرت إلى الأسد في نيسان/أبريل 2007، وفيها يقول: «أنا أعرف ما هو ثمن السلام مع سورية»، حيث ألمح أولمرت إلى أن اتفاق السلام مع سورية ينطوي على «انسحاب كامل من هضبة الجولان»، وبالتوازي طلب معرفة «ماذا سيكون موقف سورية إذا وقِّع اتفاق مع إسرائيل بالنسبة إلى حلفائها مع إيران، حزب الله وحماس»‏[4].

وجاء الرد من الأسد أمام البرلمان السوري، بأن المطلوب من المسؤولين «الإسرائيليين» أولاً، إعلان رسمي، وغير ملتبس، حول رغبتهم في السلام؛ وثانياً، تقديم ضمانات عودة الأرض كاملة؛ وثالثاً: لا بد من ضمانات، لكي يتأكد السوريون أن الحديث ليس حول الأرض التي ستعود، لأن الأرض ستعود كاملة، ولكن سيتم النقاش حول موضوع الترتيبات الأمنية، وطبيعة العلاقات السلمية، كما حصل في التسعينيات من القرن الماضي أيام «اسحق رابين»‏[5].

وقد رد أيهود أولمرت، بما يشبه الاستجابة الواضحة من حيث المبدأ، إلى الشرط الأول الذي وضعه «بشار الأسد»، أي الإعلان الواضح عن الرغبة في «السلام»، كما أن الإشارات المتتالية بخصوص عودة الجولان، تعطي انطباعاً بأن إسرائيل قد قدمت للطرف الثالث (الوسيط التركي) التعهدات والضمانات التي طلبتها سورية، لانطلاق العملية السلمية على المسار السوري _ «الإسرائيلي»‏[6].

ولكن رغم وضوح المطلب السوري في المفاوضات، إلا أن الغموض «الإسرائيلي» ازداد في محاولة لكسب أكبر حجم من التنازلات الممكنة من الطرف السوري، حيث بلغت أعمال جس النبض بين الجانبين نقطة حرجة، عندما أبلغ الرئيس الأمريكي جورج بوش أولمرت، بأن هناك معلومات استخباراتية عن احتمال وجود بناء لمفاعل نووي قيد الإنشاء شمال سورية، فطلب أولمرت أن تقوم الولايات المتحدة بضرب الموقع، إلا أن الرئيس الأمريكي رفض ذلك، فقرر أولمرت توجيه الضربة بنفسه‏[7]. وبدلاً من اهتمام «إسرائيل» بهذه الوساطة، قامت في 6 أيلول/سبتمبر 2007 باختراق المجال الجوي السوري على الحدود الشمالية، وتوجيه ضربة استباقية لبناء زعمت أنه «مفاعل نووي سوري»، يتم بناؤه بمساعدة كوريا الشمالية.

وعلى الرغم من الوصول إلى قمة التوتر في العلاقات بعد الضربة الإسرائيلية، إلا أن الوساطة التركية وجدت طريقها إلى إقناع الطرف السوري بقبول فتح باب المفاوضات مع «الإسرائيليين» من جديد، والواقع أنه لم يكن هناك خيارات كثيرة أمام الطرف السوري الذي كان يضع نصب عينيه احتمال الحرب، ويخطط من أجله. وبعد أقل من شهر من الهجوم على المفاعل، التقى أولمرت نظيره التركي في لندن، وعادت القناة التركية إلى العمل، حيث تكثفت الزيارات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب لتبلغ مرحلة النضج. وما أعطى تحركات أولمرت زخماً وقوة، دعم وزيرة خارجيته تسيبي ليفني له، وكذلك وزير الدفاع إيهود باراك الذي أعرب عن موقف قاطع يؤيد استئناف المفاوضات مع دمشق حيث صرح بأن: «إخراج سورية من «محور الشر»، هو مصلحة استراتيجية لإسرائيل».

وجاء تسريب جديد للمعلومات حول المفاوضات المفترضة، لتكشف صحيفة هآرتس «الإسرائيلية» ما سمَّته «بنود اتفاق نهائي» مفترض بين سورية و«إسرائيل»، ينص في ديباجته على أن الهدف من المفاوضات، هو إقامة علاقات سلام تأكيداً لهذا الإنجاز، معتمداً في المفاوضات على ركائز أربع هي: «الأمن، والمياه، والحدود، وعلاقات التطبيع»، ولن يكون هناك اتفاق ما لم تتم معالجة كل القضايا في آن معاً، مضافاً إليها مسألة تحالفات سورية الاستراتيجية، أي علاقات سورية بإيران وحماس وحزب الله‏[8]، الأمر الذي رأت فيه سورية تدخلاً «إسرائيلياً» مرفوضاً، فلا يمكن أن يكون ثمن السلام التخلي عن الحلفاء. وعلى العكس من ذلك، فقد وقّعت سورية مع إيران مذكرة للتعاون العسكري، تزامناً مع انطلاق مسيرة التفاوض، وهذا لا يعني وفق المنطق السوري رفضاً قاطعاً لمناقشة مسألة التحالفات الإقليمية السورية، فلا بد من أن تشهد المنطقة «تغيراً» استراتيجياً في حال تحقيق السلام الشامل، وإعادة الحقوق، حيث يمكن لسورية أن تكون وسيطاً في مرحلة لاحقة.

وقبل الإعلان عن بدء الجولة الأولى غير المباشرة برعاية تركية، عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي سلسلة مباحثات عاجلة مع «شركاء السر»‏(*) لاستئناف القناة السورية، حيث أبلغهم بأنه سيلتقي لأول مرة مندوبين سوريين وإسرائيليين في إسطنبول، حيث أوصوا أولمرت بالدخول في المفاوضات، لأن منفعتها تفوق الضرر الناتج من إلغاء القناة‏[9].

لقد خطا أولمرت أخيراً باتجاه المفاوضات مع دعم كبير من الداخل، وكانت الأمور تتسارع باتجاه فك حالة العزلة التي فرضت على سورية، رغم عدم الرضا الأمريكي عن هذه الخطوة الإسرائيلية، وهذه المرة الأولى التي يتفاوض فيها السوريون والإسرائيليون، بدون تدخل أمريكي، ولكن المفاوضات بدأت بالفعل، وهذا ما سنتطرق إليه تالياً.

ثالثاً: جولات التفاوض غير المباشرة برعاية الوسيط التركي

تتويجاً للجهود التركية للوساطة بين سورية و«إسرائيل»، أعلن الطرفان عن محادثات غير مباشرة تجري بوساطة تركية، عقدت أولى جولاتها في إسطنبول في 19أيار/مايو 2008 على مدى ثلاثة أيام‏(**)، وقد سمحت هذه الجولة «بإيجاد أرضية مشتركة للتفاوض بين الطرفين»، كما «ولّدت ارتياحاً لدى الطرف الإسرائيلي»، حيث قرر أولمرت إقامة وحدة خاصة في مكتبه لمتابعة المفاوضات مع سورية، على أمل أن يتم الإسراع فيها. كما صرح وزير الخارجية التركي بأن المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل: «تجري على مبدأ الأرض مقابل السلام»‏[10]. حيث ترمي هذه المحادثات: «للتوصل إلى أساسٍ مشترك، حول مجمل القضايا المطروحة، والمتعلقة بالانسحاب، والإجراءات الأمنية، والمياه، والعلاقات السلمية العادية»‏[11].

هذا، في الوقت الذي نشرت فيه صحيفة معاريف الإسرائيلية خطة وُضِعت على طاولة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، تحت اسم مشروع «خطة قناة السلام»‏(*)، التي تقترح ترسيخ وتثبيت وتعزيز اتفاق السلام الذي يتبلور بين إسرائيل وسورية من خلال هذا المشروع «الذي هو مشروع دولي لنقل المياه من تركيا عبر سورية وهضبة الجولان»، والذي يفترض به أن يقدم حلولاً لقسم كبير من المشاكل المائية لسورية، وإسرائيل، والأردن، والسلطة الفلسطينية‏[12]. وتقوم الخطة على أساس نقل نحو (2 – 3) مليار متر مكعب من المياه في السنة من نهرين في جنوب وسط تركيا (سيان وجان) في منطقة مدينة أضنة. حيث لهذين النهرين تدفق سنوي مشترك هائل لنحو 14 مليار متر مكعب من الماء، ومعظم المياه تضيع من دون جدوى إذ تصب في البحر الأبيض المتوسط، كما سيتم توزيع المياه بشكل متساوٍ بين إسرائيل والأردن وسورية والفلسطينيين، حيث يتلقى كل طرف حق الوصول إلى كمية نحو 250 مليون متر مكعب في السنة. ويتم توجيه نحو 800 مليون متر أخرى، عبر نهر الأردن لتعبئة البحر الميت، وتشترى بشكل مشترك من الحكومتين الإسرائيلية والأردنية بالتعاون مع صناعات البحر الميت من إسرائيل والأردن. وبعد وصول هذه الخطة إلى الطرف السوري عبر السفير السوري في الولايات المتحدة عماد مصطفى، صدرت ردود فعل سورية مشجعة، حيث تمَّت مناقشة الموضوع مع الطرف التركي الذي أعلن موافقته على الخطة، وأن الحكومة التركية ستكون مستعدة لأن تبيعهم كميات كبيرة من المياه‏[13].

وفي تطور دراماتيكي على الساحة الإسرائيلية، توجه محققو الشرطة في 30 نيسان/أبريل 2008، بطلب للحصول على إذن المستشار القانوني للحكومة، بتنسيق التحقيق مع مكتب أولمرت بشكل فوري، حيث بدأ التحقيق مع أولمرت في 2 أيار/مايو 2008، في قضايا فساد، تلك التي جعلت إمكانية البناء على مستقبل أولمرت السياسي صعبةً جداً‏[14].

وجاءت الجولة الثانية التي عقدت بتاريخ (12، 13) حزيران/يونيو 2008، حيث استُكمل فيها النقاش حول المفاوضات، فقد صرح المسؤولون الأتراك المشاركون في المفاوضات: «أن النقطة التي توصل إليها الجانبان السوري والإسرائيلي هي «استمرار التقييمات الفنية للموضوعات المطروحة للتفاوض»، وأن هناك نيات حسنة، وإرادة كاملة لدى أولمرت في استمرار المفاوضات‏[15].

واستمراراً لأعمال الوساطة التركية، أعلن وزير خارجيتها علي بابا جان أن إسرائيل وسورية واصلتا جولة ثالثة من المفاوضات غير المباشرة في (1 – 3) تموز/يوليو 2008، على أمل التوصل إلى بدء محادثات مباشرة. كما أكد الوزير التركي أن الطرفين يمكن أن «يجتمعا إلى الطاولة نفسها لإجراء مفاوضات مباشرة»، إذا تم إحراز تقدم في إسطنبول. هذا في الوقت الذي قامت فيه الدبلوماسية الفرنسية بحراك واسع في «الشرق الأوسط»، بقيادة الرئيس الجديد «نيكولاي ساركوزي»، الذي توجه نحو المنطقة بمنهج مختلف، ورؤية جديدة، انعكست تعاوناً إيرانياً – سورياً في العراق بجدية للمرة الأولى، لتحسين الوضع الأمني فيه، حيث أقر مسؤولون أمريكيون بجدوى هذا التعاون، في ضبط الحدود، وتالياً وضع حد لتدفق المقاتلين والأسلحة عبر سورية، كما حدث تغير إيجابي في مواقف بعض القوى السياسية المعارضة في العراق، وفي مقدمها التيار الصدري، الذي قَبِل للمرة الأولى وقف نشاطات جيش المهدي التابع له‏[16].

كما نجح نيكولاي ساركوزي في إقناع أمريكا، بالرد على الإشارات الإيجابية من إيران وسورية، فكان التغير في دعوة سورية لحضور مؤتمر أنابوليس عام 2008، بل والعمل على إعادة صياغة خطاب الدعوة، ليتضمن إشارة واضحة إلى قضية الجولان، بعد التجاهل عام 2007عندما عقد مؤتمر أنابوليس في مصر من دون دعوة سورية، أو حتى الإشارة إلى الأراضي السورية المحتلة‏[17]. وقد أثمرت الجهود الفرنسية بدعوة كلا الطرفين – السوري والإسرائيلي – إلى حضور اجتماع قمة الاتحاد من أجل المتوسط؛ فقد حضر الأسد وأولمرت هذه القمة في باريس بفرنسا في 13 يوليو/تموز، حيث صدرت إشارات إيجابية كثيرة عن احتمالات عقد لقاء مباشر بينهما برعاية فرنسية، ولكن ما حصل هناك لم يتعدَّ ذلك، فقد كان يفترض أن يكون هذا اللقاء تتويجاً لنجاح المفاوضات الجارية في تركيا، التي كانت تعقد جولاتها في الفترة ذاتها، إلا أن تملص أولمرت من موافقة مكتوبة على الحدود حسب المطلب السوري، وطلبه لقاءً مباشراً مع الرئيس السوري أعطى نتائج معاكسة. فمن وجهة نظر أولمرت، أن هذا اللقاء سيعطيه دفعاً كبيراً في الداخل، في ظل وضع سياسي بالغ التعقيد، وعندها يسهل الحديث عن الثمن، إلا أنه حسب وجهة النظر السورية، لا يمكن عقد لقاء كهذا إلا بعد الموافقة الخطية على مطلب الحدود، وفي ظل استكمال ترتيبات السلام بين سورية وإسرائيل. بعبارة أخرى يمكن القول إنَّ ثمرات أولمرت من هذا اللقاء سترتد سلباً على الأسد، الذي لا يرى أي مصلحة في عقده، لتتعقد المفاوضات من جديد، وتعود إلى نقطة البداية من سيضحِّي، أو من سيدفع الثمن أولاً.

وفي ظل هذا الوضع، عقدت الجولة الرابعة في (28 – 30) تموز/يوليو 2008، وسط مؤشرات ضعيفة على حصول تقدم، في وقت اتهم وزير الدفاع الإسرائيلي «أيهود باراك» سورية بتعزيز الترسانة الصاروخية لحزب الله اللبناني‏[18]. فقد أكد بيان رسمي صادر عن مكتب رئيس الوزراء التركي إن: «الجانبين حققا تقدماً خلال المحادثات التي عقدت بطريقة مثمرة وإيجابية للغاية»، كما قال البيان إن الجانبين جددا رغبتهما المشتركة في عقد جولة أخرى، وحددا موعداً للجولة الخامسة في شهر أيلول/سبتمبر (عام 2008)، رغم أنه كان متفقاً منذ البداية على عقد جولات أربع، وبعدها سيتم الانتقال إلى المفاوضات المباشرة إذا ما نجحت هذه الجولات‏[19].

ومع عودة الوفد الإسرائيلي صدرت إشاراتٌ إيجابية، بأن احتمال عقد اتفاق سلام وارد وممكن، رغم تعقد الوضع السياسي لرئيس الوزراء أيهود أولمرت بسبب قضية الفساد، ونتيجة لذلك، أعلن أولمرت في 30 تموز/يوليو 2008 أنه لن يرشح نفسه للانتخابات الداخلية في حزب «كاديما» المقرر عقدها في 17 أيلول/سبتمبر 2008، وأنه سيستقيل عند إعلان نتائج الانتخابات، كي يستطيع الرئيس الجديد لحزب كاديما الحاكم، أن يبدأ مسيرة تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، إلا أنه رغم ذلك بقي مصمماً على إحداث اختراق ما على المسار السوري، حيث نشرت صحيفة معاريف صيغة اتفاق السلام المفترض. فحسب الصيغة المقدرة، فإن اتفاق السلام بين إسرائيل وسورية سيتضمن بعض الفصول:

1 – فصل عام، تعلن فيه الدولتان عن إنهاء حالة الحرب بينهما، وعن عقد السلام الكامل الذي يتضمن علاقات دبلوماسية، سفراء وما شابه. 2 – فصل مدني، يفصِّل موضوع التطبيع، وربما أيضاً أفكاراً للتعاون بين الدولتين بمشاركة دولية على هضبة الجولان. وفصل أمني، يتضمن انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من هضبة الجولان، وتجريد الهضبة من الجيوش.

كما سيكون هناك خفض كاسح للقوة السورية بين الجولان ودمشق، وهو سيتضمن أيضاً تجريداً من السلاح الإسرائيلي. كما ستكون هناك محطة إنذار مبكر على جبل الشيخ، وضمانات دولية مع مندوبي قوة متعددة الجنسيات على جبل الشيخ، وهناك بنود تقول إن الطرفين لن يتعاونا بأي شكل من الإشكال مع دول أو منظمات تعمل ضد الطرف الآخر، وبخاصة في ما يتعلق بتزويد السلاح، وإعطاء لجوء سياسي، أو مسألة إعطاء إمكانية لممثليات وما شابه‏[20].

إن هذه المفاوضات التي تجري برعاية تركية، تناولت ترتيبات الأمن، وعلاقات السلم العادية، وجدولة الانسحاب «الإسرائيلي» من الجولان، وملف المياه، مع تشديد سوري على أن الانتقال إلى المرحلة المباشرة، مرتبط بوجود الراعي الأمريكي، باعتبار أن الدور الأمريكي هو الأساس، والدور الأوروبي مكمل له، وذلك من أجل ضمان الانسحاب الكامل، وتوافر أرضية صلبة مشتركة في المفاوضات‏[21].

وبين تصعيد «إسرائيلي» مكتوم المعالم، وتهدئة سورية معلنة، استمرت الوساطة بين سورية و«إسرائيل»، حيث طلب الوسيط التركي من الطرفين المجيء إلى الجولة الخامسة، بإجابات عن سؤالين؛ حيث وجه السوريون سؤالاً للطرف «الإسرائيلي» يقول بأنه في سياق ترتيبات الأمن والسلام، إلى أي خط «إسرائيل» مستعدة للانسحاب؟، كما وجه سؤالاً للطرف السوري، يقول بأنه: في حال حدوث اتفاق سلام، كيف ستصبح طبيعة العلاقات السورية مع إيران وحزب الله وحماس‏[22].

وكما يعلق السفير الأمريكي السابق «مارتن أنديك»، بأن المقايضة تحولت من «الأرض مقابل السلام» والتطبيع، إلى مناطق إعادة الاصطفاف الاستراتيجي، ما يظهر تحولاً استراتيجياً مهماً بأن «إسرائيل» مستعدة للانسحاب من الجولان حتى خط الرابع من حزيران/يونيو 1967، حسب المطلب السوري، مقابل تخلي سورية عن علاقاتها بحلفائها في المنطقة.

وانطلاقاً من المطالبة الفرنسية بوساطة سورية في الملف النووي الإيراني، وتثبيت دعائم الاستقرار بالعراق، قام الرئيس السوري بزيارة مهمّة إلى إيران في 2 آب/أغسطس 2008، تلاها زيارة إلى تركيا في 5 آب/أغسطس، حيث أكد موقع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، أهمية هذه الزيارة وبأن: «وجهات النظر بين سورية وإيران، وبين سورية وتركيا متطابقة إزاء مختلف القضايا، وهو ما عبر عنه البيان الختامي الذي صدر في ختام زيارة الرئيس بشار الأسد إلى طهران، وكذلك البيان الصحفي لزيارة تركيا: (دعم المصالحة الفلسطينية، دعم الوفاق الوطني اللبناني، وحدة وسيادة واستقلال العراق، إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل لا سيَّما الأسلحة النووية)، وقد عبرت إيران مجدداً عن تأييدها حق سورية في استعادة الأراضي المحتلة في الجولان، كما أشاد رئيس وزراء تركيا بدور سورية الإيجابي في حل مشكلات المنطقة»‏[23].

أعتقد أن ما حصل كان إخبار الرئيس السوري القيادة الإيرانية بأنه يخطو تجاه توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، وأن هذا السلام لن يؤثر في العلاقة السورية – الإيرانية، وأن الأسد سيقوم بوساطة من أجل الملف النووي الإيراني، إلا أن القيادة الإيرانية وجدت هذا الأمر ليس في مصلحتها، فهي تريد من سورية وقيادتها دعم المشروع النووي الإيراني، والسياسة الإيرانية، لا أن تتوسط من أجل إيقافه، كذلك فإن الطرف الإيراني يعلم جيداً كم ستقيِّد اتفاقية السلام الطرف السوري، التي ستؤدي حتماً إلى وقف الإمداد والدعم عن حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، لذلك فمن الطبيعي أن تعارض إيران اتفاقية السلام، وأن تعمل مع «شركائها المتضررين» من أجل وقفها.

وخلال زيارته تركيا، قدّم الأسد عبر القناة التركية، وثيقة رسمية للطرف الإسرائيلي تتضمن ست نقاط تحدد مطالب سورية، وشدد على ضرورة حصول ردٍ إسرائيلي خطي عليها‏[24]. حيث أطلق المسؤولون الأتراك على هذه الوثيقة اسم «وديعة الأسد»، وقالوا لأولمرت: «إن الرئيس السوري مستعد للانتقال إلى مرحلة التفاوض المباشر مع إسرائيل بعد تلقيه الرد الإسرائيلي المقبول لديه على هذه الوثيقة»، وبعد مجيء إدارة أمريكية جديدة «مقتنعة» بضرورة تحقيق السلام بين البلدين، والمساعدة على ذلك‏[25].

وجاء تصريح الرئيس الأسد خلال انعقاد قمة الرباعية بدمشق في 4 أيلول/سبتمبر 2008‏(*)، الذي أكد أن العمل جارٍ لوضع «ورقة مبادئ» تكون أساساً لمفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وأضاف بالقول: «حددنا ست نقاط ووضعناها وديعة عند الجانب التركي، بانتظار أن تسلمه لإسرائيل..، وسيكون ردنا الإيجابي على النقاط التي تطرحها إسرائيل»‏[26].

لكن الوضع الداخلي الإسرائيلي، أدى إلى تأجيل انعقاد الجولة الخامسة، حيث أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم، تأجيل الجولة الخامسة المقرر عقدها في أيلول/سبتمبر 2008، بطلبٍ إسرائيلي، حيث بدا وكأن أعمال الوساطة قد فشلت، وبات الجميع بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية كذلك‏[27].

وبمجرد أن تم انتخاب تسيبي ليفني رئيسةً لحزب كاديما، قدم أولمرت استقالته بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر 2008، وبموجب القانون الإسرائيلي، فإن عليه مواصلة تولي مهام رئاسة الحكومة حتى تعيين رئيس وزراء جديد خلال فترة لا تتعدى 42 يوماً، وإذا ما فشلت فإن ذلك سيؤدي إلى تبكير الانتخابات العامة، وإلى مواصلة أولمرت تولي مهام رئاسة الحكومة الانتقالية حتى إجراء انتخابات جديدة في شباط/فبراير 2009، وتشكيل حكومة جديدة في شهر آذار/مارس.

وفي ظل تحسن العلاقات السورية – الأمريكية، اجتمع وزير الخارجية السوري «وليد المعلم» مع وزيرة الخارجية الأمريكية «كوندوليزا رايس» على هامش لقاءات الجمعية العامة بنيويورك، حيث تمت مناقشة قضايا لبنان، وفلسطين، والعراق، والأهم مسألة المفاوضات السورية ـ «الإسرائيلية»، حيث تم نقل الدعوة إلى رعاية أمريكية مباشرة لعملية التفاوض، وهذا يؤشر إلى انفتاح أمريكي – سوري على الحوار، بعد الضغوط الأمريكية التي مورست على سورية في السابق، حيث صرح المعلم بأن اللقاء كان «إيجابياً وبداية لحوار قادم»، كما أعربت رايس بحسب المعلم عن: «أملها في استئناف المحادثات» السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، وأبلغته استعداد الولايات المتحدة للمساهمة في هذه المحادثات»، حيث اعتبر المعلم أن «الدور الأمريكي مطلوب» عندما تتحول المفاوضات السورية – الإسرائيلية إلى مفاوضات مباشرة»‏[28].

وأخيراً انتزع الطرف السوري الكلمة التي يريدها من الطرف الأمريكي بعد تجاهل إدارة بوش، ملف السلام السوري – الإسرائيلي منذ أحداث 11 أيلول/سبتمر 2001؛ فالطرف السوري يعلم جيداً أن الإدارة الأمريكية هي الطرف الوحيد الذي يضمن التزام الإسرائيليين باتفاقية السلام، حيث يمكن الآن الحديث عن اتفاقية سلام برعاية أمريكية خلال فترة الإدارة الأمريكية الحالية من دون انتظار للإدارة الأمريكية الجديدة.

وفي 12تشرين أول/أكتوبر 2008، زار رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس» دمشق، حيث التقى الرئيس السوري لبحث آخر التطورات في الشرق الأوسط، وخصوصاً عملية المفاوضات، والسلام مع إسرائيل، حيث قال عباس إنه سيقوم «بمشاورات متبادلة حول ملف المفاوضات مع إسرائيل»‏[29]. وترافقت الزيارة مع تسريبات إعلامية نُقلت عن مسؤول فلسطيني رفيع المستوى، بأن عباس نقل رسالة من بوش اقترح فيها العمل على تحقيق حل سريع ومقبول في قضية هضبة الجولان، مقابل انقطاع سورية عن تحالفها مع إيران، وأنه معنيٌّ بتقدم المفاوضات الإسرائيلية – السورية قبل مغادرته البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2009، وأنه إذا ما استجاب الأسد للعرض الأمريكي، فإنه سيتخذ خطوات في هذا الموضوع في الأسابيع الآتية‏[30].

وفي 26 تشرين أول/أكتوبر  2008، أبلغت «تسيبي ليفني» رئيسة حزب كاديما الحاكم الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، أنها فشلت في تشكيل ائتلاف سياسي، ودعت لإجراء انتخابات عامة مبكرة. ومنذ أن أصبحت استقالة رئيس الوزراء أيهود أولمرت في أيلول/سبتمبر سارية، ومعها استقالة حكومته بشكل تلقائي، فقد أصبح مسؤولاً عن حكومة مؤقتة ستظل في السلطة حتى يتم تشكيل حكومة جديدة، تفوز بموافقة أغلبية الكنيست في الانتخابات التي ستجري نهاية شباط/فبراير المقبل، ما يعني إمكان استئناف المفاوضات السورية – الإسرائيلية، حيث كان أولمرت يخطط لوضع الاتفاق كاملاً أمام الكنيست، وإجراء استفتاء شعبي عليه إذا دعت الحاجة.

وفي 30 تشرين الأول/أكتوبر، نقل أولمرت رسالة عبر الوسيط التركي إلى الطرف السوري بأنه يمكن الآن استئناف المفاوضات، حيث يسعى أولمرت إلى محاولة الوصول إلى اتفاق سلام قبل موعد الانتخابات المحدد في 10شباط/فبراير المقبل، كما أنه يحظى بدعم كل من باراك وليفني في هذه المفاوضات‏[31].

وفي ضوء ازدياد وتيرة العمل الدبلوماسي بين سورية وإسرائيل، جاءت زيارة وزير الخارجية الدنماركي بير ستج مولر سورية وإسرائيل نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر، لتنعش مسيرة المفاوضات المتعثرة، حيث نقل رغبة الرئيس الأسد الانتقال إلى مفاوضات مباشرة، كرد على الإشارات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة خلال فترة ولاية بوش، إذا ما تلقى إجاباتٍ مرضية حول وثيقة النقاط الست التي سلّمها إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان؛ هذه الوثيقة التي ترسم الحدود على بحيرة طبرية‏[32].

وجاءت نتائج الانتخابات الأمريكية بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر سريعاً، لتُظهر فوز مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما على منافسه من الحزب الجمهوري جون ماكين، حيث أصبحت القيادة السورية أكثر تَرَوِّياً في محادثاتها مع إسرائيل، وفي انتظار استلام القيادة الأمريكية الجديدة زمام الحكم في البيت الأبيض‏[33].

وفي ظل ازدياد التوتر في الحدود حول قطاع غزة، وانتهاء الهدنة، واستهداف حركة حماس القرى الإسرائيلية بصواريخ الغراد والقسام، كرد على علميات الاغتيال، غطى الحديث حول توجيه ضربة إسرائيلية لقطاع غزة قطاعات الدولة الأمنية والسياسية كافة، حيث يلاحظ تركيز الصحافة الإسرائيلية على هذه المسألة بشكل كبير، ونقل الآراء السياسية والعسكرية حول هذه الأزمة. إلا أن أولمرت كان يحاول إتمام اتفاقية السلام مع سورية، ومع السلطة الفلسطينية، قبل اتخاذ أي قرار بشأن حماس وقطاع غزة، حيث كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية النقاب عن قيامه منتصف كانون الأول/ديسمبر 2008، بعقد لقاء سري في العاصمة البريطانية لندن مع أوساط على علاقة بالمفاوضات مع سورية، الذي أحيط بسرية تامة، وتم فيه تبادل رسائل مفصلة بين الأسد وأولمرت، حيث صرح أولمرت في المؤتمر السنوي لأبحاث الأمن القومي أنه: «بالإمكان تحقيق السلام مع سورية، وتوجد لإسرائيل مصلحة عليا باستمرار المسيرة الضرورية هذه، والتي تحمل مغزى استراتيجياً كبيراً بالنسبة إلى أمنها ومكانتها في المنطقة، ولتعزيز القوى المعتدلة فيها»، ما يدلل على أن اختراقاً ما حدث في المحادثات، حيث عاد أولمرت ليؤكد: «أن هناك إمكانية حقيقية وواقعية لاستكمال اتفاق بين سورية وإسرائيل قريباً جداً»، لتفتح احتمالات انفراج على المسار السوري المتعثر منذ ثمانية أعوام‏[34].

وفي 22 كانون أول/ديسمبر 2008، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي تركيا، حيث التقى نظيره التركي، وأجريا مباحثات حول مفاوضات السلام غير المباشرة، هذا الزيارة التي تأتي في وقت وصلت فيه المفاوضات غير المباشرة التي رعت تركيا جولاتها المتلاحقة، إلى مفترق طرق دقيق يترجَّح بين دفعها قدماً عبر تحويلها إلى مفاوضات مباشرة، وبين مراوحة مرجّحة خصوصاً بعد رفض إسرائيلي علني مضمون الوثيقة السورية التي سلمتها إلى تركيا، ترسم حدود الجولان المحتل، حيث تبرز بخاصّة النقاط الجغرافية الست التي كانت مثار خلاف بين الطرفين خلال المحادثات غير المباشرة على بحيرة طبريا، حيث كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن محافل دبلوماسية غربية، أن الوثيقة التي أعدتها سورية، ويعتزم أولمرت الرد عليها اليوم، لا تتضمن ست نقاط على خط مياه بحيرة طبريا، بل ثلاث نقاط، وكل نقطة تشكل في واقع الأمر مقطعاً منفصلاً على خط الحدود بين إسرائيل وسورية. النقاط التي يدور الحديث عنها: مقطع في الزاوية الشمالية الشرقية من بحيرة طبريا، مقطع آخر في منطقة حمات جدير، ومقطع آخر في المنطقة الشمالية. وهذه نقاط الخلاف بين الدولتين، والأتراك يحاولون الآن بلورة جسر لحل هذه المشكلة‏[35]. هذا، في ظل رفض أشد المتحمسين للسلام أيهود باراك الوثيقة التي وصفها بأنها «غير واقعية» موضحاً بأن: «موضوعات كثيرة أخرى كانت مطروحة على جدول المفاوضات مثل: المياه، والإنذار المبكر، وتحديد المناطق المجردة من السلاح»، جازماً بأنه:»من غير الممكن مناقشة كل هذه الموضوعات مع البحث في خط الحدود».

وفي 23 كانون الأول/ديسمبر 2008، عُقدت الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة في مكتب رئيس الوزراء التركي عبر الهاتف، حيث صرح في لقائه مع صحيفة نيوزويك بالقول: «عقدنا الجلسة الخامسة من المباحثات غير الرسمية بين السوريين والإسرائيليين..، في تلك الليلة كنت أتحدث مع الرئيس السوري بشار الأسد عبر الهاتف.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلي أيهود أولمرت‏(*)، ووزير الخارجية السوري»‏[36].

لقد كانت الجهود منصبة على تحويل المفاوضات غير المباشرة إلى مباشرة، ولكن أولاً يجب أن تكون هناك موافقة خطية على وثيقة الحدود السورية، حيث يؤكد أردوغان أنه منذ البداية: «اتخذ الرئيس الأسد موقفاً إيجابياً حيال تلك المحادثات. وفي تلك الليلة كنا قريبين من التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، فقد اتفقنا على الاستمرار بالمفاوضات حتى نهاية الأسبوع لحين التوصل إلى مخرج إيجابي»‏[37]. حيث عاد أولمرت، لمشاورة حلفائه بآخر التطورات، وعلى الرغم من إحراز المفاوضات غير المباشرة تقدماً ملموساً، إلا أن احتمال البناء عليها أصبح صعباً لأسباب عدة منها‏[38]:

1 – لم يكن لدى «أيهود أولمرت» الصلاحية، لإعطاء أي التزام «إسرائيلي» لأي قرار يتعلق بالانسحاب الكامل، نظراً إلى المرحلة الانتقالية من الحكم التي مرت فيها «إسرائيل».

2 – استحالة المتابعة في ظل الانتخابات «الإسرائيلية».

3 – عدم رغبة سورية بإنهاء المفاوضات، قبل تسلم «باراك أوباما» مقاليد الحكم في أمريكا، وتحديد هوية رئيس الوزراء «الإسرائيلي» المقبل، وطبيعة تكوين الائتلاف الحاكم.

لذلك سعى الطرف السوري إلى تحقيق نتائج في المفاوضات، هي التزام «إسرائيلي» واضح، بالانسحاب إلى حدود حزيران/يونيو 1967، وتحسين تعريف المعنى لكلمة «حدود»، وجعل مسار المفاوضات المباشرة، رسمية قبل تنصيب الرئيس الأمريكي، ما يحسّن احتمال تفضيل المسار السوري أمريكياً.

رابعاً: نتائج المفاوضات السورية – الإسرائيلية في تركيا

حملت جولات المفاوضات أفكاراً حقيقية، وهذا ما أكده الرئيس الأسد في أيلول/سبتمبر 2009، بأن «إسرائيل» وسورية كانتا «قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاقية سلام»‏[39]، وأن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» «أيهود أولمرت»، «أبدى استعداداً في المفاوضات غير المباشرة للانسحاب من كل هضبة الجولان»، مضيفاً بأن: «سورية طلبت من «إسرائيل» التوقيع على مستند تتعهد فيه الأخيرة بالانسحاب الكامل من هضبة الجولان، حتى حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، وأن «إيهود أولمرت» وافق على هذا المطلب‏[40]، وأبلغ رئيس الوزراء التركي «رجب طيب أردوغان» استعداده للانسحاب من هضبة الجولان»‏[41]، وحينها بدأ الحديث والدخول في التفاصيل غير المتعلقة بهذا الانسحاب. وقد حولت التطورات المتسارعة على الأرض الأنظار من هذه المفاوضات إلى حرب «إسرائيلية» جديدة شنتها على قطاع غزة، ما أدى إلى تجميد مسار المفاوضات السورية – الإسرائيلية، وتخريب دور الوساطة التركية في عملية السلام. ففي 27 كانون الأول/ديسمبر 2008، قامت «إسرائيل» بشن حرب على قطاع غزة، أطلقت عليها اسم عملية «الرصاص المسكوب»، واستمرت حتى 18 كانون الثاني/يناير 2009، حيث أعلن الطرف السوري توقف المفاوضات رداً على هذه العملية، ومعها توقفت المفاوضات وتعطلت.

وجاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية في شباط/فبراير لتعلن عن صعود تجمع ليكود إلى السلطة، بحصوله على الأغلبية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة بنيامين نتنياهو.

وقد رفض نتنياهو معاودة محادثات «السلام» غير المباشرة مع سورية بوساطة تركيا، مشيراً إلى أن أي مفاوضات جديدة يجب أن تكون مباشرة، رافضاً دور تركيا في إحياء المفاوضات غير المباشرة مع سورية، حيث دعا إلى أن تقوم فرنسا بدور الوساطة، وأنه يريد مفاوضات مع سورية من دون شروط مسبقة‏[42]. في ظل توتر العلاقات التركية – الإسرائيلية بشكل غير مسبوق بسبب العدوان على غزة، والحرج الذي سببه الإسرائيليون للقيادة التركية، حيث بدا وكأن الأتراك يعلمون موعد هذه العملية، لكن الأسد أكد التمسك بالدور التركي في المفاوضات المباشرة، وذلك لأسباب؛ أولها: الثقة التي تكونت بين الدولتين، وبين المسؤولين في البلدين. وثانيها: نجاح الوسيط التركي في وقت فشلت فيه غالبية الوساطات والرعايات منذ بدء عملية «السلام»، وحتى الآن. وثالثها: أهمية هذه المرحلة، أي المفاوضات غير المباشرة كأساس للمفاوضات المباشرة‏[43].

هذا في ظل ازدياد العلاقات التركية – الإسرائيلية سوءاً، حيث جاءت حادثة الاعتداء الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية وقتل تسعة ناشطين أتراك كانوا على متن سفينة «مافي مرمرة» في 31 أيار/مايو 2010، وهي جريمة أثارت التوتر في العلاقات التركية – الإسرائيلية خصوصاً بعد أن اشترطت أنقرة عودة العلاقات مع «إسرائيل» بثلاثة شروط أساسية وهي: تقديم اعتذار مكتوب موجه للشعب التركي، تعويض أهالي الضحايا، ورفع الحصار عن قطاع غزة‏[44]. تلك التي أزمت المشهد الإقليمي بشكل كبير. هذا، في ظل ازدياد النفوذ الإيراني في المنطقة، والذي يعارض أي اتفاقية حالية للسلام بين إسرائيل وسورية أو مع الفلسطينيين.

خاتمة

يظهر من خلال ما سبق، أنه على الرغم من البيئة الدولية والإقليمية غير المواتية، فقد كانت الوساطة التركية في المفاوضات السورية – الإسرائيلية فعالةً ومهمّة، حيث عُقدت خلال عام 2008 خمس جولات، تناولت المسائل الحساسة والمهمّة العالقة بين الطرفين السوري والإسرائيلي، وهي: ترتيبات الأمن وعلاقات السلم العادية، ومسألة الحدود وجدولة الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، وملف المياه، إضافةً إلى علاقات سورية بإيران وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، حيث وافق أولمرت على الالتزام خطياً بالحدود حسب المطلب السوري «وديعة أولمرت»، وبالتحديد حسب وثيقة النقاط الست التي قدمها الأسد عبر تركيا «وديعة الأسد»، إلا أن الوضع السياسي المتأزم لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وقضايا الفساد التي حُرِّكت ضده، كانت كفيلة بإنهاء حياته السياسية. وعلى الرغم من سعي الأخير إلى عقد اتفاقية سلام قبل الانتخابات، إلا أن التصعيد العسكري لحركة حماس في قطاع غزة، ووجود مصلحة إيرانية في التصعيد في غزة لإنهاء مسيرة المفاوضات، أدى إلى قيام إسرائيل بالهجوم على قطاع غزة نهاية كانون أول/ديسمبر، وهذا لا يعفي إسرائيل من مسؤولية شن هذه الحرب العدوانية، حيث أنهت هذه الحملة العسكرية جهود الوساطة التركية، وأوقفت مسيرة المفاوضات على الصعيدين السوري والفلسطيني، كما ساءت العلاقات التركية – الإسرائيلية بسبب هذه الحرب التي تزامنت مع قدوم حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، لم تعترف بمفاوضات أولمرت السابقة، وكذلك قدوم إدارة أمريكية جديدة من الحزب الديمقراطي كانت أولى أولوياتها الانسحاب من العراق، ولا تزال هناك رغبة أمريكية واضحة بتفضيل المسار الفلسطيني على المسار السوري.

لقد وصلت هذه المفاوضات إلى نقطة مهمّة جداً ومتطورة، إلى درجة الوصول إلى مرحلة تنسيق الترتيبات النهائية لاتفاقية السلام المفترضة، واستكمال رسم الحدود على عدة محاور على الجهة الشرقية لبحيرة طبريا، والأمر الأهم هو إمكان البناء على هذا المفاوضات مهما حصل في سورية المستقبل، وكيفما آلت إليه الأمور.

نعم، إنه ملف يمكن البناء عليه واستكماله طبقاً لما استطعنا جمعه من معلومات وتسريبات وتقارير عرضناها في متن البحث، لكن الوضع المعقد الذي تشهده الساحة السورية يلغي الآن أي إمكان لبحث هذا الملف. وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ستبقى إسرائيل متخذة الحياد مع المراقبة الحثيثة لما يحصل قريباً منها على الأرض السورية المشتعلة، والبحث عن مصلحتها في ذلك الصراع الدائر، والذي لا يعلم أحد كيف ستكون نهايته.

 

قد يهمكم أيضاً  مأزق “الدولة اليهودية” والصراع العربي ـ الإسرائيلي