المؤلف: مروى الشاكري

مراجعة: فيصل درّاج(**)

الناشر: مطبعة جامعة شيكاغو، الولايات المتحدة الأميركية

سنة النشر: 2014

عدد الصفحات: 439

 

ـ 1 ـ

ليس غريباً أن تحظى أفكار تشارلز داروين، مؤسس نظرية التطور وصاحب كتاب أصل الأنواع، بحضور لافت بين المفكّرين والمثقفين العرب، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فقد كان في كلمة «التطوّر» ما يرضي أفكاراً عربية، ترفض الجمود العثماني، كما التخلّف بعامة، وتنظر إلى حياة جديدة مليئة بالحركة والتجدّد. وإضافة إلى هذا المنظور الذي لبّى تصوراً ليبرالياً نهضوياً، كان هناك الميل النهضوي إلى الفصل بين العلم والدين، إذ للعلم مجاله وآثاره المادية ـ العملية، وإذ للكون وللمجتمع أسبابهما التي تفسّر حركتيهما، وإذ للدين مجاله الذي يشبع حاجات روحية. وكان في الأمرين ذاك الانفتاح على الغرب الذي يعاين تقدم الغربيين، وينظر إلى تخلّف الشرق المستمر منذ قرون. ولهذا عثر داروين على مجموعه المريدين، أو أشباه المريدين، أدباء كانوا أو رجال دين أو فئة ثالثة مشغولة مباشرة بالعلم وقضاياه.

انجذب الأديب اللبناني جبران خليل جبران، المؤمن بالطفرة والارتقاء والكاره للمؤسسة الكهنوتية، إلى أفكار داروين، وعبّر عن إيمانه بالتطور بأشكال مختلفة. فقد أعجب جبران بشبلي الشميّل وأفكاره المادية والنشوية، واعترف بنظرية النشوء والارتقاء، فلا عودة إلى الوراء إلا في الظاهر، ولا يوجد انحطاط، بل تقدم وتطور وارتقاء. ولم يكن الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، الذي انشغل بمسائل العلوم الطبيعية، بعيداً من هذا الاتجاه، فكان مأخوذاً بدوره بالتجديد والتطور. كما أن الروائي المصري نجيب محفوظ، وفي ثلاثيته الشهيرة بخاصة، لم يكن بعيداً من الآراء الداروينية. ولم يرفض جمال الدين الأفغاني، رغم تحفّظاته الأكيدة وحسبانه الديني، تعاليم داروين الرفض كله، ذلك أن الأفغاني كان يتابع العلوم المستجدّة، ويتوقف أمام العلل والأسباب، ويعتقد أن الإسلام يتضمن جميع الحقائق العلمية. وكان تلميذه الشيخ محمد عبده، ومع كثير من الاختلاف، يؤمن بالتطور بعامة، وبالتطور الاجتماعي بخاصة، ويتابع المكتشفات العلمية، ويعمل على مصالحتها مع الإسلام. أمّا أثر الداروينية في «المفكرّين»، فتجلى في أفكار شبلي الشميّل، الطبيب الذي درس أفكار سبنسر الإنكليزي وبوخنر الألماني، وآمن بمنظور تطوري اخترق المادة الطبيعية كلها، واشتق منها مخلوقاً متميّزاً هو «الإنسان العاقل»، الذي جاء من المادة وسيطر عليها. وكان في أفكار فرح أنطون وقاسم أمين أبعاد «تطورية» واضحة، فطالب الأول بـ «إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد»، كي يعيش تطوره السليم، ووحّد الثاني بين العلم والمستقبل، على اعتبار أن ما هو قائم اليوم لن يكون قائماً في المستقبل.

إضافة إلى كل هؤلاء، كان هناك المصري إسماعيل مظهر، الذي ترجم الفصول الخمسة من كتاب داروين أصل الأنواع عام 1918، ودعا إلى أفكاره في مجلة العصور (1972 ـ 1930)، وتابعها لاحقاً في مجلة المقتطف بين عامي (1945 ـ 1946)، وألّف كتاباً عنوانه مذهب النشوء والارتقاء عام 1923، وعاد وطوَّره في ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء عام 1942. وكان هدفه من كل ذلك الدفاع عن التغيير والتجديد، والدفاع عن الروح العلمية، وفصل العلم عن الدين، وإن كان في الطور الأخير من حياته عدّل من فكره تعديلاً كبيراً. أما المفكّر الآخر، الجدير بالوقوف عنده في هذا المجال، فهو: فؤاد صروف (1900 ـ 1985)، لا بسبب الجهد الذي كرّسه للدفاع عن العلم الحديث، بل لدوره في مجلة المقتطف بين عامي 1927 و1944، التي أسسها عمّه يعقوب صروف عام 1876، واستمرت في الظهور إلى عام 1952، والتي كانت ملاذاً للدفاع عن النظر العلمي والأفكار التطورية.

ـ 2 ـ

عالجت الباحثة مروى الشاكري في كتابها الكبير الواسع التوثيق، القضايا السابقة المشار إليها، واقتفت آثار فكرة التطور الداروينية في الفكر العربي مدة قرن من الزمن تقريباً. فوفقاً لما جاءت به، فإن اللغة العربية لم يكن فيها مكان مريح للألفاظ التي حملتها نظرية داروين، ارتبط ذلك بكلمة «الأنواع» أو كلمتي «الاصطفاء الطبيعي»، و«التطور» التي جاء بها حسن حسين وهو يترجم «إرنست هايكل». والأساسي في هذا أن العرب قرأوا داروين أولاً في اللغة الإنكليزية، حال غيره من «العلماء التطوريين» مثل لامارك وهايكل وجورج كوفييه، ولم يعرفوه باللغة العربية إلا لاحقاً.

ولمّا لم تكن اللغة العربية ملائمة لاحتضان فكر علمي غريب عنها، كان يقصده أبناؤها بلغات غير عربية، وكان عادياً أن تفد أفكار داروين إلى الشرق الأوسط عن طريق مفكّرين أجانب، حال: إدوين لويس، أستاذ الجيولوجيا والكيمياء في الكلية السورية الإنجيلية التي غدت لاحقاً الجامعة الأميركية في بيروت، الذي أثارت محاضرته عن الداروينية لغطاً كثيراً في الأوساط العلمية، دفعته إلى الاستقالة التي أدت إلى إضراب الطلاب دعماً للأستاذ المستقيل عام 1882. وواقع الأمر أن الحديث عن نظرية داروين بقي مقصوراً غالباً على البعثات التبشيرية البروتستانتية، التي قرّبت النظرية إلى أسماع بعض الطلاب العرب. ومن المحقق أن الأيديولوجيا الدينية المسيطرة، في شكليها الإسلامي والمسيحي، لم تكن ترحّب بأفكار داروين، سواء الإسلامي منها الذي يقول «إن الله جميل ويحب الجمال»، أو المسيحي الذي يؤكد «أن الله خلق الإنسان على صورته». ومع أن النهضويين بين العرب كانوا يحتفون بالعلم والتقدم العلمي بعامة، لم يكن بإمكانهم أن يدخلوا إلى تفاصيل نظرية داروين، التي أزاحت الإنسان عن موقعه المركزي في الكون، بالمعنى الديني.

ولعل صعوبة التوفيق بين قبول الاكتشافات الواعية والمحافظة على التعاليم الدينية هو الذي قاد جمال الدين الأفغاني إلى موقف مرتبك، إذ شنّ في البدء هجوماً على أفكار داروين، من دون أن يساجلها علمياً، ثم انتهى إلى موقف معتدل معتبراً أن ما جاء به عالم الأحياء الإنكليزي عرفه العرب المسلمون قبل زمن. وعلى خلاف ذلك، كان حماس محمد عبده، المؤمن بالتطورية الاجتماعية وقارئ سبنسر، لا تحفُّظ فيه، معتمداً على اجتهادات صديقه الإنكليزي: ويلفرد بلونت. وواقع الأمر أن حماس عبده كما غيره، كان يعود إلى أسباب اجتماعية، إذ إن في التطور ما يحرر المصريين من السيطرة الخديوية والعثمانية، وما يشير إلى قدرتهم على حكم ذاتهم والتحرر، تالياً، من السيطرة الإنكليزية. ولا غرابة أيضاً في أن تتقاطع الأفكار التطورية مع النزوعات الاشتراكية والإعلاء من شأن العلم، وآية ذلك شبلي الشميّل وفرح أنطون، ناهيك بالفرضية الجاهزة التي تؤكد أن الإسلام «علميّ» بطبعه، وأنه يتصالح مع العلوم جميعاً.

ـ 3 ـ

كان في التراث العربي ما يقيم جسراً، ولو شكلانياً، بين الموروث والأفكار التطورية، كأن يقارن إسماعيل مظهر بين كتاب الحيوان للجاحظ، وكتاب أصل الأنواع، وأن يتم الرجوع إلى أبي العلاء المعري، الذي تحدّث شعراً عن «الحي المستحدث من جماد». ولأن ما جاء به العالم الإنكليزي كان موجوداً «منذ زمن «عند العرب»، فقد كان من السهل الترويج للفكر التطوري بين المتعلّمين العرب. فما قال به داروين يمكن تأمله في كتابات «إخوان الصفا»، الذين تحدّثوا عن متواليات الوجود وارتباطها ببعضها البعض، بل إن إسماعيل مظهر، التطوري الأكثر حماساً بين النهضويين العرب، قارن بين لامارك وسبنسر، من ناحية، والمؤرخ ابن خلدون من ناحية أخرى. كان في تلك المقارنات التي تضع السببية الاجتماعية في إنتاج العلوم جانباً، ما يرضي «الأنا العربية»، بمقدار، لكنها انطوت أولاً على سياسة ثقافية «فقيرة»، ذلك أن مريدي داروين أرادوا أن يبيّنوا للقارئ العربي أن أفكاره ليست غريبة عن «تراثنا، وأنهم لا يلتمسون من الغرب شيئاً، بقدر ما «يستردّون حقوقهم»، وهي سمة لازمت التنوير بين الذين أرادوا أن يصالحوا بين الأفكار الوافدة وتعاليم الدين الإسلامي.

أنجزت مروى الشاكري في كتابها الواسع أمرين: قرأت فكر النهضة العربية وهي تقرأ استقبال ممثليها لكتاب داروين الذي ظهر عام 1859، وقرأت تناقضات هذا الاستقبال الذي أراد أن يجمع بين «الأصالة والمعاصرة». وواقع الأمر أن لكتاب داروين سياقه الأوروبي الذي كان يحقق نهضة أوروبية شاملة، داخل العلوم وخارجها، مأخوذاً بالجديد وطارداً «فلسفة الأصل»، إذ لا أصل إلا ما أنجزه الإنسان الأوروبي الحديث، بدءاً من اللغة والتاريخ، وانتهاءً بالإنسان، وهي سمة طاغية من سمات القرن الثامن عشر. وعلى خلاف ذلك، لم يكن في السياق النهضوي العربي إلا «الرغبة في التقدم»، فحملوا أفكار داروين وذهبوا إلى المعرّي في القرن التاسع وإلى ابن خلدون في القرن الرابع عشر. لقد نظر المثقفون العرب إلى الماضي وهم يتطلعون إلى المستقبل، حاملين في خطابهم تناقضات عديدة، من دون أن يدروا.