يستدعي المأزق الوطني الفلسطيني المستفحل استدعاء العوامل والعمليات التي أثرت وتركت بصماتها ووقعها على المسيرة السياسية والاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني في سياق تأثيرات وتدخلات وتداخلات الواقع العربي والإقليمي والدولي. سأركز هنا على أبرز العوامل والعمليات التي احتفظت وتحتفظ بسمات مقيمة راهناً. ولهذه محركات «موضوعية» وأخرى «ذاتية» ليس من السهل دائماً توضيح الحدود بينها.

كيف نشخِّص العوامل والديناميات الفاعلة في المسار السياسي الفلسطيني؟ ما يلي محاولة رصد أبرز هذه العوامل والديناميات، على أمل أن تؤخذ كعوامل فاعلة في سياق تاريخي متحرك.

أولاً: تعرّض فلسطين التاريخية كلها لاستعمار استيطاني منذ أكثر من قرن: تتعرض فلسطين لاستعمار استيطاني رافقته عمليات تطهير عرقي منذ عام 1948. بعد استكمال احتلال عام 1967 بات الاستعمار الاستيطاني يشمل كل فلسطين التاريخية، ورغم أي نوايا مغايرة فلسطينياً، لم يوقف اتفاق أوسلو هذا الاستعمار، بل استخدم من قبل إسرائيل لتسريع وتيرته. ولهذا دلالات سياسية استراتيجية سآتي عليها لاحقاً. لذا، إن ما هو قائم في الضفة الغربية وقطاع غزة – كما في الأراضي التي احتلت عام 1948 حيث أقامت الحركة الصهيونية عليها دولتها «إسرائيل» – ليس احتلالاً، كما يطلق عليه في اللغة الرسمية السائدة عربياً ودولياً، وفي اللغة الفلسطينية الرسمية، بل هو استعمار استيطاني مدعوم بقوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية كبيرة وبإسناد دولي مؤثر. من هنا فإن توصيف ما تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة بالاحتلال هو توصيف قاصر وخادع، ويستجدي مواقف ومطالب سياسية فيها تراجع استراتيجي بعيد كل البعد من تحقيق العدالة والإنصاف لرواية وحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية؛ فهي تغفل حقيقة أن ما قامت به الحركة الصهيونية كحركة استيطانية استعمارية أوروبية، في النشأة والتكوين والأهداف، تجسد في ممارسة تطهير عرقي (إثني) في فلسطين تمثَّـل بطرد وتشريد ومصادرة أراضي نسبة كبيرة من سكان فلسطين الأصليين وممتلكاتهم، وبناء نظام قائم على الفصل والتمييز العنصري (أبرتهايد).

على صعيد الخطاب الصهيوني المدعوم بقوة من مراكز قوى دولية فقد تميّز برواية انشغلت في تشويه وتزييف تاريخ فلسطين وجغرافيتها وديمغرافيتها، وشيطنة النضال التحرري للشعب الفلسطيني ووصمه بالإرهاب واختزال قضيته إلى قضية البقاء في معازل من أراضي فلسطين التاريخية، واعتبار الجزء المحتل عام 1967 أراضي متنازعاً عليها لإسرائيل فيها حقوق تاريخية دينية، وأن المسألة الفلسطينية تُحل إذا ما قبل الفلسطينيون في البقاء في معازل مسيطر عليها إسرائيلياً واعترفوا بإسرائيل كدولة يهودية وتراجعوا عن حق العودة للاجئين، وعن القدس عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة، وقبلوا بوجود الكتل الاستيطانية (المستعمرات اليهودية الإسرائيلية). وهي رواية تتنكر للنضال الفلسطيني ضد الاستعمارين البريطاني والاستيطاني الصهيوني. بل ترى «المبادرة العربية للسلام» التي صدرت عن اجتماع القمة العربية عام 2002 في بيروت خطوة مهمة من حيث اختزالها فلسطين بأراضي الضفة والقطاع واستعدادها للاعتراف بإسرائيل إن انسحبت منها، ومن حيث اشتراطها موافقة إسرائيل على صيغة الحل لقضية اللاجئين (علماً بأن إسرائيل ترفض حق العودة الفلسطيني جملة وتفصيـلاً). هذا الموقف، كما هو اعتراف منظمة التحرير في عام 1993 بحق إسرائيل في الوجود، يمثل إقراراً بصحة الرواية التاريخية للحركة الصهيونية القائمة على حق الحركة الصهيونية بفلسطين بوصفها أرض دولة إسرائيل.

ومع تشريع الكنيست الإسرائيلي قانون القومية (تموز/يوليو 2018)‏[1] بجعل «إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي» بات نظام الفصل العنصري (الأبرتهايد) نافذاً في إسرائيل؛ حيث نجد واحداً من خمسة أشخاص هو من السكان الأصليين في البلد (من الفلسطينيين)، وليس فقط في الأراضي التي احتلت عام 1967، حيث القوانين السارية تميز منذ بداية الاحتلال على نحوٍ صارخ بين اليهودي الإسرائيلي والفلسطيني العربي، وحيث تسيطر الدولة الاستعمارية المحتلة على كل مناحي حياة الفلسطيني، بعد أن جزأت أراضي الضفة الغربية إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج) بحسب درجة الصلاحيات الممنوحة للسلطة الفلسطينية‏[2]، وحيث منحت نفسها السيطرة على الموارد الطبيعية (المياه والأرض والأجواء وما في باطن الأرض) والاتصالات والمعابر الخارجية والطرق الداخلية والقدرة على التحكم في الاقتصاد الفلسطيني عبر اتفاق باريس. وينسجم التحول السياسي اليميني المتشدد والعنصري في إسرائيل مع تنامي الاتجاه الشعبوي الرجعي والقومي اليميني العنصري في أوروبا وأمريكا وأماكن أخرى في العالم (بما يصفه البعض بصعود «لحظة الفاشية الجديدة لنظام الليبرالية الجديدة»).

إن سمة إسرائيل كدولة قائمة على الاستعمار الاستيطاني تفسر لماذا تحظى، عالمياً، بالتأييد الأشد من الدول التي قامت على الاستعمار الاستيطاني وعلى تعريض السكان الأصليين للتطهير العرقي، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأستراليا. ولماذا تحرص الحكومة الإسرائيلية على التودد وتمتين علاقاتها مع الحكومات والأحزاب الأكثر يمينية ورجعية سواء في أوروبا (مثل هنغاريا وبولندا ورومانيا وبلغاريا)، أو خارجها كما في أمريكا اللاتينية (آخرها كان مع البرازيل) والهند وبعض دول أفريقيا، والدول الأكثر يمينة في الوطن العربي.

ثانياً: سيادة حالة «إنكار» لواقع فشل اتفاق أوسلو و«حل الدولتين» (دولة إسرائيل ودولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقية): يشارك في حالة إنكار فشل حل الدولتين معظم القوى والمؤسسات الدولية، ومعظمها لا يزال يتصرف على أساس أن حل الدولتين مشروع قائم وقابل للتحقيق رغم ما أدخلته إسرائيل من تغييرات ديمغرافية وطوبوغرافية في الأراضي التي احتلتها عام 1967 ضد إرادة سكانها الأصليين. وفي هذا السياق نجد تصريحاً للرئيس الأمريكي ترامب (في بداية تشرين الأول/أكتوبر 2018) يؤيد فيه حل الدولتين، بعد نقله سفارة بلاده إلى القدس وقطع تمويله عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، ووقف مساعداته للسلطة الفلسطينية (باستثناء المخصصة للأمن حفاظاً على تواصل «التنسيق الأمني» بينها وبين إسرائيل)، وهي، أي السلطة، المرشحة لأن تقيم دولة فلسطينية، وبعد إغلاقه مكتب منظمة التحرير في واشنطن. لقد أغلقت الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس ترامب، وبتأييد وتنسيق كاملين مع اليمين الإسرائيلي المتشدد، الأفق أمام إمكان قيام دولة فلسطينية من خلال فرض قيود مستحيلة على ممارسة السيادة والسيطرة على حدودها ومواردها وترابط إقليمها. من هنا، فاستمرار الحديث عن «دولة» فلسطينية لا يخرج، في الواقع، عن نموذج من الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود على «بانتوستانات» أو معازل أو «غيتوات» حيث توجد كثافة سكانية فلسطينية.

ورغم إدراك قيادة السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير وجامعة الدول العربية وعدد وافر من المؤسسات الدولية ومعظم دول العالم والمؤسسات الدولية، فلا تزال جميعها تتمسك بحل الدولتين، في حين أن ما هو قائم لا يخرج عن دولة واحدة تمارس تمييزاً عنصرياً كما هو معرّف دولياً. ما هو قائم، هو حالة إنكار للواقع والتظاهر بما يخالفه. وفي هذا السياق تجدر ملاحظة إصرار عدد من المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية وغير الفلسطينية، ومعها وزارات ومؤسسات السلطة، على تبني برامج وخطط تقوم على الاعتقاد بإمكان تحقيق «تنمية مستدامة» تحت سلطة احتلال استعماري استيطاني مديد يسيطر على الأرض والأجواء والمعابر والموارد الطبيعية والاقتصاد والأمن. وما يحيّر فعـلاً، قيام نخب سياسية وغير سياسية فلسطينية بالترويج لفكرة أن امتلاك السلطة مؤسسات فلسطينية ذات مسميات دولاتية (من الدولة) سيوّلد ضغوطاً دولية كبيرة على إسرائيل (والولايات المتحدة) لإنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات والاعتراف بأحقية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة. ونجحت السلطة الفلسطينية عام 2011 في نيل شهادة من صندوق النقد الدولي أنها تمتلك مؤسسات قادرة على القيام بمهمات دولة ذات سيادة. رغم ذلك بقيت الدولة عصية على التحقق لأن التعطيل لم يكن لهذا السبب بل رفض قوة استعمارية استيطانية عنصرية مدعومة من أقوى إمبراطورية في العالم قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.

تجدر الملاحظة هنا أنه رغم مضي ربع قرن على قيام السلطة الفلسطينية فإن معدلات البطالة والإفقار بقيت عالية، بل شهدت ارتفاعاً في السنوات الأخيرة، إلى درجة أن مؤسسات للأمم المتحدة عبَّرت عن قلقها إزاء الوضع القائم في قطاع غزة وعدم قدرته على توفير مؤهلات للحياة البشرية بحلول عام 2020، وأن اقتصاده بات على وشك الانهيار التام بحكم الحصار المحكم المفروض عليه. كما تجدر الإشارة إلى ملاحظة أكاديميين كبار (سارة روي) بأن غزة تشهد «تسميماً بطيئاً لبشر أبرياء، أغلبهم من صغار السن، عبر المياه التي يشربونها، وعلى الأرجح عبر التربة التي يزرعونها»‏[3]. وكما شاهد العالم عبر الفضائيات والمراسلين الصحافيين كيف قوبلت المسيرات السلمية الأسبوعية التي بدأت بمناسبة يوم الأرض في 30 آذار/مارس 2018 بالقمع الدموي الذي قاد، من دون إي إجراءات عقابية من «المجتمع الدولي» إلى قتل أكثر من مئتي شاب وشابة، وإعطاب أجسام الآلاف من المواطنين.

ثالثاً: التعامل مع نضال وحقوق الشعب الفلسطيني وفق مقاربة «حالة استثناء»: ما يجري في ما يخص الحقوق التاريخية والوطنية والإنسانية هو وضع هذه الحقوق، على صعيد الممارسة الفعلية، خارج نطاق القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. يتضح هذا من حجب المساءلة والعقوبات عن القوى (كدول وتنظيمات وأفراد) التي قامت وتقوم بأعمال وممارسات معادية لحقوق الشعب الفلسطيني في تجمعاته المختلفة الإنسانية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والقانونية، بل تقترف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحقه. هناك أمثلة لا تحصى تاريخياً على ذلك، منذ وعد بلفور وتعرض الشعب الفلسطيني للتطهير العرقي في عام 1948، وللتشريد والتمييز والاحتلال منذ ذلك، وبعد عام 1967، وما يجري حجب ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير والاستقلال والعودة، وتعريض وجوده في مخيماته وتجمعاته المختلفة لمجازر (صبرا وشاتيلا) وللتدمير والتشريد (اليرموك)، ولحروب واجتياحات كما حصل في الضفة الغربية (احتلالها في عام 1967، وقمع انتفاضتها، واجتياح مدنها في عام 2002، ونشر المستوطنات على أرضها وتحويلها إلى معازل متناثرة)، وتحويل قطاع غزة إلى معسكر اعتقال وفرض حصار تجويعي وشن الحروب عليه (آخرها كان في عام 2014)، وقتل الجيش الإسرائيلي، بدم بارد، مدنيين يتظاهرون سلمياً لوقف الحصار وللتذكير بحقهم في العودة خلال ربيع وصيف وخريف وشتاء عام 2018ـ هذا عدا عن عشرات القوانين التي سنّت من إسرائيل لتشريع ممارسة التمييز العنصري (كان آخرها قانون القومية الإسرائيلي في صيف عام 2018) ضد سكان البلاد الأصليين الذين يمثلون أكثر من 20 بالمئة من حملة الجوازات الإسرائيلية.

تتوافر مئات القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1948 وبقيت حبراً على ورق. وهناك عدد مماثل صدر عن الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وبقي كذلك حبراً على ورق. ويبدو أن العدوى انتقلت إلى المؤسسات الفلسطينية، إذ باتت مؤسسات مثل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني تصدر قرارات لا يتم التقيد بها من دون أن يتم تفسير ذلك ومن دون محاسبة للإحجام عن التنفيذ. لذا بات يسود بين الجمهور الفلسطيني، ويشمل هذا جمهور الضفة الغربية وقطاع غزة، حالة من عدم الاكتراث بقرارات هذه المؤسسات، أو انعقادها من عدمه، لأن قراراتها لا تنفذ ولا تفسر أسباب ذلك. وبات يسود اعتقاد أنها تؤخذ لاعتبارات دعاوية من جانب النخب السياسية الأولى كوسيلة تأثير في القيادة السياسية في إسرائيل وفي الولايات المتحدة وأوروبا ودول إقليمية نافذة وتخويف هذه من تداعيات انهيار السلطة أو تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يولد حالة من عدم الاستقرار في دول مجاورة. لكن وظيفة هذه القرارات باتت مستهلكة تماماً بسبب غياب التنفيذ (مثل حل السلطة، ووقف التنسيق الأمني، وسحب الاعتراف بإسرائيل ووقف التقيد باتفاق أوسلو، وغيرها).

وفي سياق آخر يتم وصم انتقادات السياسة الإسرائيلية والسمة الاستعمارية العنصرية للصهيونية بالعداء للسامية، لإسكات النقد تجاه ما تقوم به إسرائيل من ممارسات عنصرية وعقوبات جماعية وتنكيل وعنف تعسفي، ولوضع إسرائيل وممارساتها فوق القانون والأعراف الدولية وخارج المساءلة، ويحجب في الوقت نفسه عن الشعب الفلسطيني حقه في النضال من أجل حقوقه الأساسية، بما فيها حقه في مقاومة الاحتلال والتمييز والممارسات التعسفية والقمعية والوقوف في وجه ما يحرمه حقوقه في المقاومة في وطنه الأم وما يشرّع التمييز والقيود والتعسف ضده.

لقد حُشر الشعب الفلسطيني في فضاء لامعياري (Anomic Space) قانونياً وقيمياً وأُخرج من مقتضيات القانون الدولي والقيم الإنسانية. إنه فضاء يتيح استخدام «العنف المطلق» ضده من دون حسيب أو رقيب. وعندما تتزاوج حالة الاستثناء مع حالة الطوارئ الدائمة (أي الاستثناء هو القانون ساري المفعول) يتحول النظام القانوي – السياسي إلى «آلة قتل» وقمع مطلقين. وهو ما طبقته حكومة الانتداب البريطاني عبر ما سمّته قوانين الطوارئ التي أتاحت للحركة الصهيونية ممارسة التطهير العرقي، وتتيح لإسرائيل حالياً الاعتقال «الإداري»، أي الاعتقال من دون محاكمة لفترة طويلة من الزمن، كما تتيح لها مصادرة الأراضي وبناء المستعمرات الخاصة باليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية.

هناك من يرى أن الدولة في إسرائيل تتكون بتسارع كنظام فاشي من حيث تقييد أسس الديمقراطية وتشريع التمييز الإثني – الديني وفرض معازل على سكان البلاد الأصليين وتصوير الفلسطينيين كمصدر تهديد لليهود الإسرائيليين، وبالتالي حجب السمة الإنسانية عنهم، ليصحبوا مجموعة إثنية – دينية يحق استخدام التطهير العرقي تجاهها‏[4].

رابعاً: تحلل الحقل السياسي الوطني إلى حقول «محلية»: هل التحلل هو من أبرز تحولات الحقل السياسي الفلسطيني‏[5] الذي هيمنت عليه وقادته مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية حتى اتفاق أوسلو وإقامة سلطة حكم ذاتي محدود على مناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فقد أدى تهميش وتغييب مؤسسات منظمة التحرير الجامعة لمصلحة التركيز على بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية على أمل أن تتحول من حكم ذاتي محدود الصلاحيات إلى دولة ذات سيادة وسلطة على إقليم مترابط (الأراضي التي احتلت عام 1967)، وأن يصار إلى حل لقضية اللاجئين وفق قرارات الأمم المتحدة. ما حصل هو اختفاء مؤسسات منظمة التحرير الممثلة لمكونات الشعب الفلسطيني من دون أن تقام مؤسسات دولة فلسطينية مستقلة؛ ولا تغيّر تسميات مؤسسات السلطة كمؤسسات دولة لها حكومة وقضاء ووزارات وشرطة وأمن ودوائر مختلفة، ووزراء ووكلاء ومدراء عامون، وكل التسميات التي تستخدم في دول تمارس قدراً ملموساً من السيادة، من واقع أن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة تخضع جميعها لاستعمار استيطاني واحتلال عسكري؛ ولا تتمتع بأية سلطة خارج سلطات حكم ذاتي محدود يبقى تحت سيطرة الدولة المستعمرة. ليس هنا مجال مناقشة العوامل والآليات التي قادت إلى تفكيك الحقل الوطني إلى مكوناته الجغرافية – السياسية وتحويل هذه المكونات إلى حقول سياسية منفصلة لها تنظيماتها السياسية ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية (فلسطينيو الضفة الغربية، وفلسطينيو القدس، وفلسطينيو قطاع غزة، وفلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948، وفلسطينيو الأردن، وفلسطينيو الشتات والجوالي). لقد رسخ ومأسس الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2007 ظاهرة تحويل السياسة الممارسة إلى شأن محلي بعدما كانت حتى بدايات التسعينيات، في جوهرها، شأناً وطنياً.

خامساً: انكشاف التجمعات الفلسطينية لمخاطر متنوعة: بدأ هذا الانكشاف، عملياً، منذ إخضاع فلسطين لانتداب استعماري بريطاني بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبُعيد إعلان بريطانيا وعد بلفور. واشتدت قسوة المخاطر المحيطة بالشعب الفلسطيني بُعيد انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية كما حدث عام 1948 (النكبة). وتراجعت حدة هذه المخاطر وانكشاف مكونات الشعب الفلسطيني لها مع إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الثاني من الستينيات بقيادة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. وتعالت وتيرة هذا الانكشاف بعد خروج منظمة التحرير وقواتها من بيروت في إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت في عام 1982، وبعد تشتت القوى السياسية المؤتلفة في مؤسساتها على أكثر من موقع، وتفاقم الانكشاف الفلسطيني بعد انهيار الدول الاشتراكية حليفة منظمة التحرير على الصعيد الدولي، وتواصل خلال وبعيد حرب الخليج (طرد معظم الجالية الفلسطينية في الكويت والعراق وليبيا).

وتجدد الانكشاف بعد خمود الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتوقيع اتفاق أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي وفرضه قيوداً جديدة على حركة وعمل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وزيادة ممارسات التمييز ضد الفلسطينيين في كل أراضي فلسطين التاريخية. كما شهدت سورية مظاهر عنف وتهجير للمخيمات الفلسطينية فيها بعد عام 2011. كما شهدت الضفة الغربية اجتياحاً في عام 2002 وحصاراً لرئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير ووفاته في ظروف ملتبسة في عام 2004. وشهد قطاع غزة ثلاثة حروب دموية تدميرية ضده في أعوام 2008، و2012 و2014، وحصاراً خانقاً منذ عام 2006 حوَّله إلى سجن تفتح بعض بواباته بين الحين والآخر وفق رغبة السجان أو «غيتو» (Ghetto) معرض إلى إبادة جماعية ذات وتيرة بطيئة منعاً لإثارة رأي عام دولي مطالب بإنهاء الحصار.

لكن انكشاف التجمعات الفلسطينية لا ينحصر في التهجير والتشريد والتعريض للحروب والعنف والعقوبات الجماعية، بل إلى تعريضها إلى معدلات عالية من البطالة والفقر والحرمان والتمييز مقارنة بمحيطها أو الدولة التي تقيم في كنفها. كما شهدت «الأونروا» خلال العقود الماضية تراجعاً في حجم وقيمة الخدمات التي تقدمها إلى اللاجئين بسبب تراجع المعونات المقدمة لها، من بين أسباب هذا التراجع مسعى طمس قضية اللاجئين الفلسطينيين، كما اتضح من قرار الإدارة الأمريكية الأخير وقف مساعداتها لهذه المؤسسة التابعة للأمم المتحدة.

يجدر التذكير هنا بأن السلطة الفلسطينية بحكم اعتمادها الملموس على التحويلات الخارجية (سواء من المساعدات أو تحويلات المقاصة من إسرائيل) هي عرضة دائماً للضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية، ومعرضة للإفلاس وبالتالي الانهيار في حال توقُّف أو تراجُع حجم ووتيرة التحويلات الخارجية.

سادساً: «تذرر» التجمعات الفلسطينية في فلسطين التاريخية وخارجها: أقيمت مؤسسات السلطة الفلسطينية في أوج صعود النيوليبرالية، وأخضعت منذ البداية لإشراف ورقابة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إضافة إلى رقابة الدول المانحة، وجميع هذه جهات تتبنى توجهات الليبرالية الجديدة التي تمنح القطاع الخاص (الرأسمال الخاص) سيطرة على الاقتصاد وعلى البنية المجتمعية، والتي تحد من دور السلطة المركزية (الدولة) في الاقتصاد. أي أن التحول من حركة تحرر إلى مشروع بناء دولة قبل دحر الاحتلال تم في سياق هيمنة توجهات الليبرالية الجديدة على الاقتصاد العالمي. هذا الوضع المترافق مع مأسسة سلطة حكم ذاتي ولّد تحولاً ملموساً في البنية الطبقية في الضفة والقطاع وساهم في بلورة أسلوب حياة جديد لفئات في المجتمع الفلسطيني مغاير لما ساد قبل نشوء السلطة الفلسطينية وبشكل محدد حتى الانتفاضة الثانية ووفاة الرئيس عرفات. مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية (وإن سبقها تمهيدات مهمة قبل ذلك) شهدت فيها مدن رام الله (والبيرة وبيتونيا) طفرة عمرانية غير مسبوقة وتوسعاً ملموساً في حجم الطبقة الوسطى، وفي بروز نزعة استهلاكية (بعضها أقرب إلى الاستهلاك الاستعراضي)، وظاهرة الاقتراض من البنوك. يعود جانب مهم من هذا التحول إلى تراجع ذهنية المناضل المرتبط بتنظيم سياسي مقاوم للاحتلال وسياساته لمصلحة ذهنية «الموظف» بعد تحول حركة فتح (التنظيم الفلسطيني الأكبر) إلى حزب حاكم وانخراط جزء مهم من قياداتها وكوادرها وعناصرها في وزارات ومؤسسات السلطة ذات البنية التراتبية، وانضم إليها، في هذا نسبة غير قليلة من كوادر وأعضاء التنظيمات التي انخرطت في مؤسسات منظمة التحرير. وبعد فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي في كانون الثاني/يناير 2006، وسيطرتها العسكرية والأمنية على قطاع غزة عام 2007، شهدت حماس تحولات شبيهة بالتي شهدتها حركة فتح وتنظيمات أخرى. بتعبير آخر أكبر تنظيمين فلسطينيين أصبحا تنظيمين حاكمين ومتعارضين على إقليمين منفصلين كلاهما يقع تحت سيطرة احتلال استعماري استيطاني، وكلاهما يعتمد، في تسيير أموره، على التحويلات الخارجية. وبات للطبقة الوسطى، موضوعياً، كما لفئات أخرى مرتبط وجودها بوجود السلطة واستمرارها، مصلحة في بقاء السلطة ومنع انهيارها واستثمار في تحولها لدولة مستقلة. وهي طبقة تشعر بأن وضعها مهدد نتيجة انسداد الأفق السياسي واعتماد السلطة على التحويلات الخارجية، ولا يسرها تفشي المحسوبية وغياب المحاسبة داخل مؤسساتها، لكنها تخشى من نتائج انهيارها على وضعها المعيشي ومكانتها الاجتماعية كطبقة وسطى.

التوسع في حجم الطبقة الوسطى (نحو ثلث القوى العاملة تقريباً) لم يغيِّر في بنية الطبقة العاملة، إذ بقيت هذه موزعة على عشرات الآلاف من المنشآت الصغيرة (أقل من خمسة مستخدمين)، لا تملك نسبة عالية منها عقود عمل ولا تتمتع بحقوق اجتماعية وتتقاضى أجوراً متدنية، هذا إضافة أن 12 بالمئة من قوى العمل الفلسطينية في الضفة والقطاع (جميعها من الضفة الغربية) تعمل في المستوطنات وإسرائيل بشروط وظروف عمل صعبة ومن دون أي أمان وظيفي أو حقوق ثابتة، وهي طبقة تعاني هزال التنظيم النقابي (أقلية تنتمي لنقابات عمالية). أما البرجوازية الصغيرة (من أصحاب رأس المال الصغير في الزراعة والصناعة والحرف) فتراجع حجمها ودورها بحكم تراجع حجم القطاع الإنتاجي نتيجة لهيمنة إسرائيل على الاقتصاد وسيطرتها على الموارد الطبيعية والمعابر وعلى محركات الاقتصاد الفلسطيني). أما الرأسمال الفلسطيني الفاعل في الضفة والقطاع فيغلب عليه الطابع العقاري (الاستثمار في العقارات) والتجاري (استيراد وتوريد) والمالي (بنوك وتغيير عملة)، وهو رأسمال حريص على المحافظة على علاقات سلسة مع بيروقراطية ونخب السلطة الفلسطينية من جانب، ومع سلطات الاحتلال المسهلة لعمله ورأسماله من جانب آخر.

سابعاً: هيمنة خطاب مشوّه لتاريخ وجغرافيا وتراث الشعب الفلسطيني وناكر لحقوقه الوطنية والاجتماعية والإنسانية: يجنح الخطاب السائد في وسائل الإعلام الدولي، وإلى درجة كبيرة في وسائل الإعلام الإقليمي والعربي وإلى حد ما الفلسطيني، كما في لغة المخاطبة الدبلوماسية الدولية، نحو اختزال التاريخ والجغرافيا الفلسطينية وتغييب الحقوق التاريخية والسياسية والإنسانية للشعب الفلسطيني بمكوناته الرئيسة. لقد جرى تقزيم فلسطين، في الخطاب السائد، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبات تعبير «الأراضي الفلسطينية المحتلة» يشير حصراً إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبات مصطلح الاحتلال ينطبق فقط على الضفة الغربية وقطاع غزة. بتعبير آخر اختزلت المسألة الفلسطينية إلى حدود الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وأخرجت منها الأراضي التي احتلت عام 1948.

هذا التشخيص لا يخص الخطاب السياسي الدولي، بل بات مهيمناً في الخطاب العربي الرسمي (كما تشير «مبادرة السلام العربية» لعام 2002)، إذ يرى أن الجزء المحتل من فلسطين يخص الضفة الغربية وقطاع غزة فقط. أما قضية اللاجئين فيتم القفز عنها، أو البحث عن تعريف للاجئين الفلسطينيين يستثني أغلبيتهم العظمى، بل عدّهم خارج صلب المسألة الفلسطينية، أو تحويل قضيتهم إلى قضية إنسانية تحل بمعزل عن حقهم في العودة إلى الأرض التي هُجّروا منها.

لا يخرج الطموح الأقصى للخطاب الفلسطيني الرسمي الراهن عن سقف إقامة دولة فلسطينية على حدود الأراضي التي احتلت عام 1967، وبات يَعُد الضفة الغربية وقطاع غزة «جناحَي الوطن» ويشير إليهما كالمحافظات الشمالية والجنوبية من الوطن الفلسطيني. تبقى الإشارة إلى قضية اللاجئين إشارة مبهمة، ومن غير الواضح مكان هدف العودة، هل هو المكان الذي هُجروا منه عام 1948 (وبأية جنسية يعودون) أم أنه أراضي الدولة الفلسطينية المنشودة؟ ما هو مغفل تماماً هو حق الشعب الفلسطيني التاريخي في فلسطين وعَدُّ إسرائيل دولة قامت على الاستعمار الاستيطاني. من هنا يتم طمس ما تعرض له الشعب الفلسطيني قبل عام 1967 من تطهير عرقي وتشريد وسلب وطن، وما قام به من نضالات متعددة الأشكال ضد الاستعمار العسكري البريطاني وضد الحركة الصهيونية الاستيطانية المسلحة.

تشويه الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني وتزييفها وتحريفها عمليات شارك ويشارك فيها ليس الحركة الصهيونية فقط بنخبها ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة (من وسائل إعلام، إلى مدارس وجامعات ونخب سياسية وغير سياسية)، بل تجد صدى من القوى اليمينية والرجعية والفاشية في العالم، سواء بين نخب ومراكز الدول المستعمِرة التي تألفت عبر عمليات استعمار استيطاني واسعة مارست التطهير العرقي ووضع السكان الأصليين في معازل أو «بانتوستانات»، أو لدى النخب في الدول ذات التوجهات اليمينية التي ترى في تبني الرواية الصهيونية وسيلة للتقرب من الولايات المتحدة ومن الدول المؤيدة لدولة إسرائيل.

ثامناً: تغييرات جذرية في الواقع السياسي الإقليمي والدولي خلال العقود الأخيرة: لا بد من الإشارة إلى تداعيات التحولات المتتالية التي شهدها الإقليم والعالم منذ أواخر السبعينيات وحتى اللحظة، والتي تركت وما زالت تترك تداعياتها على جوانب مهمة من المسألة الفلسطينية، ليس هنا مجال مناقشة تفصيلية وتدقيقية لهذه التداعيات وما تفرزه من تحديات وأولويات استراتيجية، بل الهدف هو التذكير بما دخل على الأوضاع الإقليمية والدولية من تغيير في ميزان القوى وما ترتب على هذا من مهمات نضالية للشعب الفلسطيني بعلاقة مكوناته بعضها ببعض، وعلاقات هذه بالمحيط العربي والإقليمي والدولي. لقد تمت مناقشة هذه في أكثر من موقع‏[6]، لذا نكتفي هنا بالإشارة إلى أن التحولات التي شهدها الإقليم (بما في ذلك الارتداد عن أهداف وشعارات الانتفاضات العربية) واستعادة النظم السابقة سيطرتها على هذه الدول وما رافق ذلك من تدمير وتهجير وتجويع أصاب الملايين. وهذه ليست تحولات داعمة لنضال الشعب الفلسطيني التحرري. بل شهد العقد الأخير تقارباً بين عدد من الدول العربية وإسرائيل تحت شعار مواجهة إيران وإضعاف نفوذها في الإقليم. صحيح أن الأسباب التي دفعت إلى تفجير الانتفاضات العربية ورفع شعارات تطالب بالعمل والحرية والعدالة ومحاربة الاستبداد والفساد، ما زالت قائمة بقوة. وهذا يشير إلى أن الانتفاضات لن تختفي، بل ستعود على الأرجح، وإن كان من غير الممكن التكهن متى وأين وبأية صور.

على الصعيد الدولي شهد عدد من دول العالم في العقد الأخير تحولاً نحو الشعبوية المحافظة والقومية العنصرية، كان من أبرز مظاهرها التحول في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية والهند وأوروبا الشرقية والغربية وفي دول أخرى. وهي تحولات تصب لمصلحة المشروع الاستيطاني العنصري والتوسعي الإسرائيلي كما رأينا، بجلاء تام في سياسة الولايات المتحدة برئاسة ترامب، إزاء القدس واللاجئين والعداء للحقوق الفلسطينية، وفي مواقف دول غربية وأمريكية لاتينية كما في الهند وأستراليا. لكن من الضروري قراءة ما يجري على صعيد الحركات الاجتماعية وقوى المعارضة من مواقف وتحركات مضادة لهذه التحولات اليمينية المتشددة، ورؤية مأزق إسرائيل التاريخي.

تاسعاً: الحقل الثقافي الفلسطيني بات الأقدر راهنا على التصدي لعمليات تشويه وتزييف الرواية التاريخية الفلسطينية وعلى توفير روابط بين مكونات الشعب الفلسطيني: مع تفكك الحقل السياسي الفلسطيني وهيمنة نخب سياسية محلية بديـلاً من نخب نطاقها وطني (أي لجميع التجمعات الفلسطينية)، وتراجع قيم الديمقراطية والروح التكافلية والتطوعية وذهنية العمل الجماعي، لمصلحة قيم تعلي الفردية وذهنية «الموظف» خلفاً لذهنية المناضل، بات من مسؤولية الحقل الثقافي (بأدواته وتعبيراته المختلفة الفكرية والأدبية والفنية والأدائية) حراسة الرواية التاريخية الفلسطينية والتمسك بالحقوق الجماعية، بما فيها الحقوق التاريخية، في مواجهة نزعات تشدد على المصالح الفئوية والمحلية والفردية. الرهان على الحقل الثقافي الفلسطيني لا يأتي من فراغ، بل لكون القيم الديمقراطية هي التي هيمنت على الحقل قبل النكبة ولفترة طويلة بعدها، وما زال الحقل يحتفظ بتيار ديمقراطي تقدمي رغم ما دخل عليه، بعد الانتفاضة الأولى، من نزعات يمينية ودينية أصولية وتوجهات تقدس الجهل ورغم المتغيرات التي شهدها العالم والمنطقة مع بداية التسعينيات.

أغلبية من المثقفين الفلسطينيين، سواء في الشعر أو الرواية والقصة أو الفن التشكيلي والغناء والمسرح أو في البحث التاريخي العلمي وفي الفلسفة والفكر، أو في السينما، كانت وما زالت صاحبة توجه ديمقراطي علماني (بمعنى فصل الحقل الديني عن الحقل السياسي أو الشأن الديني عن الشأن السياسي) وحملوا توجهات ديمقراطية في مرحلة مبكرة، وهذا ينطبق على الحركة الوطنية الفلسطينية (كأحزاب وتنظيمات وكقيادة وطنية) التي حرصت منذ العشرينيات من القرن الماضي على أن يكون في الصفوف القيادية الأولى فلسطينيون مسيحيون لإظهار طابعها الوطني في مواجهة الحركة الصهيونية التي تشدد على طابعها الديني‏[7]. والواقع أن منظمة التحرير حافظت على طابعها العلماني رغم ما دخل على العالم والمنظمة من تشوّهات على صعيد العلاقة بين الشأن الديني والشأن السياسي، واستخدام الدين في خدمة السياسة وللتغطية على قهر وقمع واستبداد وفساد النخب الحاكمة وفي الترويج للجدل والجهل. من هنا، ولكون الحقل الثقافي متحرراً إلى درجة ملموسة من دكتاتورية الجغرافيا السياسية ومن قوانين السوق‏[8] ومن موازين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية التي تكون حاضرة دائماً في حسابات القوى الفاعلة في الحقل السياسي، فقد شهد العقدان الأخيران نشاطاً مميزاً في مجالات الأدب والفن والسينما والمسرح والغناء والموسيقى والفكر وتنامي دور الجامعات ومراكز البحث والتفكير والدراسات الاستراتيجية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 والأردن ولبنان وأماكن أخرى.

لعل هذه الحيوية الملحوظة خلال العقدين الأخيرين بوجه خاص، مصدره الإدراك المتراكم من أن النكبة مستمرة وتشمل، بصورة أو بأخرى، مكونات الشعب الفلسطيني كافة، وأنها اشتدت مع تراجع فاعلية ودور مؤسسات منظمة التحرير والتنظيمات السياسية كمؤسسات وتنظيمات للكل الفلسطيني، واتضاح المأزق الذي تولّد من اتفاق أوسلو، ووهم الدولة المستقلة التي بررت توقيعه.

عاشراً: المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني في مأزق تاريخي استراتيجي: لعله بات واضحاً أن المفاوضات من دون أسس وهدف معلن لها ومن دون استراتيجية مسيطر عليها، لن تجدي، بل قد تتحول إلى أداة بيد العدو المفاوض لتمرير وتسويغ مشاريعه؛ وهذا ما حدث خلال عملية التفاوض وفق اتفاقيات أوسلو. فقد استخدمت إسرائيل المفاوضات لمواصلة وتكثيف استيطانها الاستعماري ومواصلة سيطرتها على الحدود والموارد الطبيعية والاقتصاد الفلسطيني ولتكريس اعتماد السلطة الفلسطينية على التحويلات الخارجية والحفاظ على تبعيتها وضعفها. لقد فشل مشروع بناء دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود الأرض المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وتم تحويل السلطة إلى أداة ترفع عن إسرائيل كدولة محتلة تكلفة احتلالها، ولتحمل مسؤولية حماية أمن إسرائيل وأمن مستوطنيها (من خلال «التنسيق الأمني» وأدوات أخرى). هذا إضافة إلى أن اتفاق أوسلو ساهم في عزل مكونات حيوية من الشعب الفلسطيني عن أهداف الكل الوطني في تقرير المصير، وكرس تقسيم فلسطين ومنح شرعية للرواية الصهيونية الاستعمارية عبر الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.

كما اتضحت حدود المقاومة المسلحة التي اعتمدتها حركة حماس، حيث باتت تستخدم ليس كأداة تحرير، بل في أحسن أحوالها كأداة ردع وتكريس سيطرة حماس على قطاع غزة. كما أنها، كحال استراتيجية المفاوضات، تكرس فعـلاً نخبوياً تمارسه فئة محددة من المجتمع، بمعزل عن أغلبية المجتمع الذي يتحوَّل إلى متفرج على هامش الفعل الوطني النضالي. فالمقاومة كفعل متعدد الأشكال والأبعاد، كما روت لنا الانتفاضة الأولى حين أشركت كل فئات الشعب في العملية التحررية عبر اللجان الشعبية والمختصة، وفسحت في المجال الواسع لتنوع وتعدد أشكال المشاركة لفئات مختلفة من الناس.

على الحركة السياسية والثقافية الفلسطينية طرح تصوُّر لحل عادل للصراع يحفظ حق العودة كامـلاً (كونه المعيار والمؤشر الواضح للنكبة الفلسطينية المستمرة)، ويبقي على فلسطين الموحدة ويطرح على اليهود الإسرائيليين صيغة حل غير طارد لهم لكن على قاعدة ديمقراطية ومساواتية نابذة للصهيونية كأيديولوجيا استعمارية عنصرية. وعلى الحركتين التقرير بخصوص عما إذا كان اليهود الإسرائيليون (وليس اليهود كجماعة دينية) يمثلون جماعة قومية بحكم ما كوّنوه من هوية قومية – ثقافية‏[9] والاستعداد لقبول حل عادل للمسألة الفلسطينية التي نتجت من الحركة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية ذات سمات عنصرية، والاستعداد للانخراط في دولة ديمقراطية واحدة على كل أرض فلسطين التاريخية مع فتح أبوابها لعودة اللاجئين الفلسطينيين، ولإلغاء القوانين العنصرية المعمول بها في أرض فلسطين. من دون دولة ديمقراطية واحدة تساوي بين حقوق الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين كقومية مشتركة وعلى استعداد لقبول أهالي البلاد الأصليين على قدم المساواة التامة في الحقوق والواجبات، لن يكون هناك أبداً حل عادل للصراع، بعد أن فشلت إسرائيل، خلافاً لما حدث، في مجتمعات استعمارية استيطانية من إبادة السكان الأصليين أو تحويلهم إلى أقلية صغيرة لا حول ولا قوة لها.

مع نهاية عام 2018 بات عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية لا يقل عن عدد الإسرائيليين اليهود، كما أن الهوية الوطنية عند فلسطينيي الشتات تتمتع بحيوية مستدامة ومتنامية، وهذا هو عنوان مأزق المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. والمخرج من هذا المأزق الاستراتيجي لن يكون في إبادة الشعب الفلسطيني، إذ لم يعد هذا ممكناً، بل في الاعتراف بحقه في وطنه والفسح في المجال لقيام دولة ديمقراطية واحدة على حدود فلسطين التاريخية يتعايش فيها الشعب الفلسطيني (كل الشعب الفلسطيني) واليهود الإسرائيليون على أسس ديمقراطية ومساواتية تامة. هذه هي المساومة التاريخية التي على قيادة الشعب الفلسطيني طرحها كحل للمسألة الفلسطينية وكمخرج لمأزق دولة إسرائيل التاريخي. وهي مساومة يفترض أن تطرح للنقاش الشعبي الواسع والمعمق في كل تجمعات الشعب الفلسطيني.

 

من العدد نفسه وفي الشأن الفلسطيني أيضاً إقرؤوا  عبثية الاستمرار في طريق أوسلو

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #السياسة_الفلسطينية #القضية_الفلسطينية #الصراع_العربي_الاسرائيلي #أوسلو # المأزق_الفلسطيني #المأزق_الاسرائيلي