إن تصور التراث ماضياً منقطعاً، غير متصل بحياتنا، خطأ علمي ومعرفي، كما إن تصوره مرجعاً وحيداً ناظماً لمستجدات الوقائع والأحداث ننحبس فيه خطأٌ في حقه وفي حق الحاضر والمستقبل معاً.

تتعدد واقعاً صور حضور التراث، تاريخاً وديناً وعرفاً واجتماعاً وآثاراً، ولكن أبرزها وأخطرها – بلا شك – هو حضوره المصمت المنغلق لدى جماعات التطرف الديني وفي القلب منها السلفية الجهادية وتنظيماتها.

لكن هذه العلاقة، بين جماعات التطرف والتراث الفقهي وأعلامه لم تنل ما تستحق من اهتمام لدى خطابنا المعاصر ومشاريعه الفكرية التي اهتمت بنقد التراث أو تثويره، أو استلهام وإيجاد حوامل منه للتنوير والنزعة الإنسانية والنهضة المعاصرة، ولكن تم تناسي علاقة التراث بجماعات التطرف، وقراءتها له وأدوات استنادها إليها رغم عِظم خطره وتصاعده خلال العقدين الماضيين.

ولا نبالغ إذا قلنا إن كثيراً من القراءات المعاصرة للتراث، جاءت لجوانب محددة منه، وأحياناً هامشية في حضورنا المعاصر، وكثيراً ما أتت بدوافع معرفية، غير قراءة تأثيرها وأثرها الراهن، حيث انحصر كثير منها في الجوانب العقلانية، أو الفرقية أو الكلامية، وكشفاً لمناطقها المهملة والمنسية فيه، مع سيادة الزخم والتراث الفقهي والتقليدي، واستمراريته دون سواه في حقب التاريخ العربية المتوالية وحتى الآن.

ولم يكن للمؤسسات الدينية الرسمية كبير دورٍ في كشف هذه العلاقة وتحقيقها، حيث بينما وقفت قراءة التراث الفقهي والعقدي – وهو جوهر الديني – لديها في إعادة النشر والتحقق، أو دفاعاً عن مواقفها التاريخية المذهبية أو الكلامية، ضد خصومها وآخريها، ولكن دون أن تلتحم نقدياً وبشكل كامل، بتأويلات هذا التراث الحركية العنيفة – القديمة والمعاصرة – على السواء، ودون أن تنحاز – في غالبيتها – انحيازاً واضحاً إلى الراهن أو المستقبل، وبقيت في زوايا قراءاته التقليدية والسكونية دون غيرها؛ والأخطر برأينا دون أن تحدد هويات معرفية واضحة لما تبلور من أنساق في هذا التراث، غارقة فقط في التفاصيل، دون أن تحدد ضوابط أو ترسم حدوداً معرفية ومنهجية تضبط الجديد المتوالد والمنتوج المحدث في طور الاستدعاء المعاصر، لم تحدد هوية لفقه أهل السنة والجماعة واعتقادهم أنه جماعة استقرار وتوسط ترفض الخروج وتسكت عن الفتن بين الصحابة، وهو ما يفسر استمرارها واستقرارها، بينما نحت واتجهت الإمامية السنية الجديدة ممثلة بجماعات الإسلام السياسي والجهادي، بصيغتيهما الكلامية والسلفية، نحو جعل الإمامة أصلاً والجهاد قتالاً من أجلها، والخروج من أجل الحكم والحاكمية كما هو تعبيرها المعاصر.

ثمة فجوات فهم واضحة بين ما ندرك من تحديات وما نفهمه منها، وقد احتكرت هذه الجماعات كثيراً من أبواب التراث الفقهي والكلامي، وادعته سنداً ومعيناً خاصاً لها، يتم توظيفه وتأويله من أجل غايتها الحاكمية والإمامية المعاصرة، وهو الاستدعاء الذي كان مهملاً ومنسياً من النظر النقدي الشرعي والعقلي، من آخريها وخصومها، إلا نادراً ولم يكتب له الاستمرار أو الانتشار.

وتبقى الإشكالية أنه رغم ضجيج التطرف والدعوات إلى مواجهته كـ «الحرب على الإرهاب» و«مكافحة التطرف والتطرف العنيف» وغير هذا، إلا أن الاهتمام الغالب ظل محصوراً في التنظيمات دون التنظيرات، وفي القادة العمليين دون القادة الفكريين، والممارسات دون الخطابات، رغم أن الأفكار وبنيتها، والتنظير خطاباً وممارسة خطابية هو الأهم في قراءة وتحليل التطرف وعملياته وذهنياته، فعبره يتم التبرير وعبره يتم الانتشار والتجنيد وتتكون كياناته وزعاماته.

نمثل هنا، في هذه الدراسة التقديمية، بحالة استدعاء شيخ الإسلام ابن تيمية وتيارات السلفية الجهادية، التي تنسب إليه كثيراً من مواقفها، وهو الأكثر حضوراً وتكراراً في خطابها وتبريراً لممارساتها.

تمثل هذه العلاقة بين «خطاب ابن تيمية وتراثه» من جهة و«خطاب السلفية الجهادية المعاصرة» ممثلة بمنظِّريها وتنظيماتها من جماعات الجهاد القطري إلى جماعات الجهادية المعولمة، من جهة ثانية، ثم في «مراجعاتها التصحيحية» من جهة ثالثة، نموذجاً دالاً على تخبط هذه الجماعات وخطاباتها في قراءة التراث، وعلى خطأ متابعتها في هذا الانتساب والتوظيف للتراث في ممارساتها العنيفة، وهو ما سنوضحه في ما يأتي من محاور هذه الدراسة.

لقد امتد تأثير ابن تيمية (المولود سنة 661 هـ – والمتوفى سنة 728هـ) منذ القرن الثامن ولا يزال حاضراً حتى الآن، تتشابه وتشتبه قراءاته عند كثير من المتحيزين له أو عليه، ولأسباب كثيرة تتعلق أحياناً بالتزوير عليه، ونسب أقوال لم يقلها إليها، كما تتعلق أحياناً بخطابه وطريقته في الكتابة والاستطراد الطويل، وتفريقه في كتابته بين القاعدة والآراء الشاردة، وهو ما شدد عليه دائماً في أكثر من موضع من قبيل قوله: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم»[1]. ولكن الأخطر في حالتنا هو تأويله من قبل منظّري السلفية الجهادية، وتنظيماتها كالقاعدة وداعش، خارج سياقاته وخارج أصوله وتوظيفه لخدمة غاية الحاكمية المحدثة، ويعارض – كما سنورد – اعتبار مسألة الإمامة والحكم من مسائل أصول الدين كلية.

ورد ذكر ابن تيمية في أول نص جهادي وهو الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج خمساً وعشرين مرة؛ لكن رغم ما يثبته التحليل الإحصائي هنا من كونه الأكثر وروداً وتكراراً في كتابات مرجعياتها الجماعات الجهادية منذ هذا النص الأول وصولاً إلى الجيل الحالي الذي يمثل الجيل الثالث من منظّري السلفية الجهادية بتنظيماتها المختلفة، وأنه ركنٌ وعلامة الإسناد السلفي الرئيس عند هذه التيارات فكراً وتنظيماً، فإن ابن تيمية لم يكن مرجعاً آمراً وملهماً ومقلداً لدى السلفية الجهادية، بل كان موظفاً لإلباسها الصبغة السلفية والتأصيلية، فتم تأويله وتفسيره وحرفه بعيداً من دلالات خطابه الأصلية، ولكن هذا الحضور والورود الكثيف والمتكرر له جعل البعض يتصورونه مرجعها الأول، ويحمِّلون تبعات ممارساتها العنفية، سواء في ذلك تنظيمات الجهادية القطرية إلى تنظيمات الجهادية المعولمة.

وليس أدل على أنه حضر تأويلاً وتوظيفاً، من استخدام السلفية الجهادية لابن تيمية في مرحلتين متناقضتين، استخدمته في تأسيساتها الأولى، كما استخدمته في المراجعات التي قدمتها لهذه التأسيسات، كما أن قراءتها لها اعتمدت على شوارد اقتطفت غلطاً وخطأ أحياناً بعيداً من نصوصها، وبعيداً كذلك من مجمل خطابه وقواعده الكلية، بصيغة انتقائية وتأويلية لا تبالي بمعارضته وتخطئته متى خالف غايتها.

كما أنه حاضر وبقوة في تيارين متعارضين، أولهما الدعوات السلفية غير الجهادية، وثانيهما الفكريات والتنظيمات السلفية الجهادية، التي تنازعته معها ووظفته لتبرير الجهاد كمنهج في التغيير، وهو ما بدأ منذ مرحلة مبكرة ونضج مع تيار الصحوية في الخليج أو ما يعرف بالسلفية القطبية بالخصوص، التي ربطت ودمجت فتوى التتار عند ابن تيمية بتأويلات الحاكمية عند سيد قطب الذي نؤكد أنه لم يقرأ ابن تيمية ولم يعرف مؤلفاته، ولم يرد له ذكر في أهمها حركياً كـ هذا الدين أو معالم في الطريق أو تفسيره الظلال أو غيرها من المؤلفات المؤثرة في فكرية جماعات الخروج السلفي الجهادي وحركيتها.

أولاً: فتاوى ابن تيمية وبواكير السلفية الجهادية

إن بداية تعرُّف الجهاديين إلى ابن تيمية كانت مصادفة، وليس تأسيساً عبر فتواه في التتار وأهل ماردين[2]، وهو ما يمكن التأريخ له حسب الرواية الأشهر بعام 1958 مع تأسيس أول مجموعة جهادية مصرية على يد شاب مصري عشريني يدعى نبيل البرعي سنة 1958 حين وجد على سور الأزبكية في مصر كتيباً صغيراً يضم فتاوى جهادية لابن تيمية منها هذه الفتوى، فرأى في ابن تيمية جهادياً لا سلفياً فقط، كما ترى الدعوات السلفية التي كانت شائعة في مصر حينها، وطار بها مؤسساً أولى هذه المجموعات، التي توالت وظلت مجموعات متفرقة لم تنتظم في تنظيم واحد إلا مرتين، أولاهما سنة 1979 مع محمد عبد السلام فرج وقتل السادات، وثانيهما مع أيمن الظواهري وقيادته لتنظيم الجهاد منذ أواسط الثمانينيات حتى انضمامه إلى القاعدة سنة 1997.

وهكذا، كان لقاء المنظِّرين الجهاديين عشوائياً مصادفة، لم ينظمه نظام فكري أو تنظيم عملي منذ البداية إلا طموح ومغامرة حديثي السن المتسرعين في إلقاء التّهم والأحكام. كما تأخرت أدبيات هذه المجموعات الخاصة ما يقرب من العقد ونصف العقد، رغم تأثرها بتجربة الصدام الناصري – الإخواني والفكر القطبي. ويتضح شتاتها من اختلاف روايات نشأتها بين مؤرخيها وعناصرها؛ إما على يد الظواهري الذي يرى نفسه مؤسس أول مجموعة جهادية مع عبد القادر عبد العزيز في ضاحية المعادي المصرية سنة 1965، وكل منهما يدعي أنه كان أميرها، وأنها كانت بداية تأسيس ما يعرف الآن بالسلفية الجهادية حيث اهتما بكتب وإصدارات الدعوات السلفية حينها، وإما على يد محمد عبد السلام فرج عام 1979 ورسالته الفريضة الغائبة التي انطلقت من مفهوم الدار وقتال العدو القريب بحكم تحول الدار/الدولة لدار كفر استناداً إلى فتوى ابن تيمية الشهيرة في التتار أو أهل ماردين، وهو ما سنوضحه في ما يأتي:

وقف الاستدعاء الأول لابن تيمية عند محمد عبد السلام فرج على آراء متناثرة ومتفرقة في وصف التتار، وموالاتهم غير المسلمين، إسقاطاً على الحالة المصرية بعد معاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1978 وكذلك غيرها من النصوص التي تنص على تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله، وأحكام الديار، وهي الدولة بمفهومنا المعاصر والحديث، وقتال الباغين والخارجين عن شرع الله، اعتماداً على فتوى التتار التي لم ينتبه لوصف الدار المركبة فيها، كما واصل خطأً في نقلها وقع فيه ناشر الفتاوى فرج الله الكردي سنة 1909 يحقق محل الفتوى فيها، ولا مجموع آراء ابن تيمية بشكل كامل في هذه المسألة.

يقول نص الفتوى حسبما نقله محمد عبد السلام فرج: «أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن بلد تسمى (ماردين) كانت تُحكم بحكم الإسلام ثم تولى أمرها أُناس أقاموا فيها حكم الكفر، هل هي دار حرب أو سلم؟ فأجاب: أن هذه مركب فيها المعنيان؛ فهي ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه»[3]، ثم يوالي فرج تأكيده بعدم تعارض مفهوم الدار المركبة عند ابن تيمية، مع آراء الفقهاء الآخرين في التقسيم الثنائي لدار إسلام ودار كفر، ويرى الكل واحداً، كما نقل عنه الكثير من الآراء العامة في التتار وشريعة حكمهم في الياسق، وغيرها في حكم اختيار دين الإسلام وغيره، مساوياً بين الحكم والدين كما ذكر مؤسسا الحاكمية المودودي في المصطلحات الأربعة وسيد قطب في أغلب مؤلفاته. والأمر ليس كذلك عند ابن تيمية، فمسألة الدين أوسع عنده من مسألة الحكم، كما أنه تجاهل لما ضبطه وقيده من أقواله الأخرى، كاشتراط الاستحلال والقصد والإعذار بالجهل والعجز والتأويل وغير ذلك في مسائل التكفير.

هكذا استخدم محمد عبد السلام فرج، وغيره، من منظِّري السلفية الجهادية هذه الفتوى في إسقاطاته على الحالة المعاصرة في المحاور الثلاثة التي نظمت الفكر الجهادي والسلفي الجهادي كله وهي: حكم الدار حسب غلبة الأحكام عليها؛ حكم الحاكم بغير ما أنزل الله؛ التوحيد الكامل هو الجهاد، لإقامة الدولة الإسلامية.

ثم ينتهي محمد عبد السلام فرج إلى إسقاط كل ذلك على حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات وجواز حربه وقتله، ولو قتل بعض المسلمين تترُّساً!

ونلاحظ في هذا الاستناد إلى فتوى التتار عدداً من الأخطاء نحددها في ما يأتي:

1 – الانفصال عن مجمل خطاب ابن تيمية ومفاهيمه

يعد هذا الاقتباس في الفريضة الغائبة وسائر النقول عن ابن تيمية فيه، دالّاً على مشكلة الانفصال عن مجمل خطاب ابن تيمية، فلا تحقق مفاهيمه وتعبيراته في فتاويه، التي يعبر بها عن سياقاته المذهبية والزمنية، كما ينفصل عن قواعده الكلية ومقولاته الحاكمة، في الإمامة والتكفير وغيره، مكتفياً بنص منقول خطأ – كما سنوضح – كفتوى في محل للفتوى لم يحقق موقف ابن تيمية شاملاً منه؛ فقد أثنى على أهل ماردين في فتاوى أخرى، ولم يكن عداؤه لهم إذا عدنا لتاريخ هذا الصراع إلا جزءاً من الصراع السني ضد صحوة شيعية في زمانه بعد تحول بعض حكام التتار للمذهب الإمامي دون المذهب السني، وداخل شرعية الدولة المملوكية الرهان الأخير لأهل السنة حينئذ بعد سقوط خلافتهم، بما رأوه من خيانة أو تعاون بين المذاهب الأخرى والتتار.

كما يتجاهل هذا النص، وكثير يشبهه، النظر – أو النظرية السياسية عند ابن تيمية – كما سنوضح مكتفياً بتمكينه وتعميقه السلفي لمفهوم الحاكمية الذي كان تأويلاً لغوياً منفصلاً عن التراث السلفي نفسه.

2 – خطأ في نص الفتوى المعتمد عند الجهاديين

فالنص المنقول يختلف عن نص الفتوى الأصلي في المخطوطة الوحيدة لهذه الفتوى، وسائر الفتاوى، ويظن أنه تم تصحيفه ونقله خطأ لمختلف منظِّري الجهاديين ولسائر نشرات الفتوى، منذ أن طبع فرج الله الكردي الفتاوى سنة 1907، حيث يقول النص الصحيح: «ويعامل الخارج على شريعة الإسلام بما هو أهل له» ويوجد النص الصحيح في المصادر التالية:

– النسخة المخطوطة الوحيدة الموجودة في المكتبة الظاهرية وهي برقم (2757) في مكتبة الأسد بدمشق.

– في ما نقله ابن مفلح (توفي 763هـ) في الآداب الشرعية وهو من علماء الحنابلة، وتلميذ ابن تيمية وقريب العهد منه فقد نقلها على الصواب (ويعامل) في الآداب الشرعية[4].

– نقلت الفتوى في «الدرر السنية» (12/248) على الصواب.

– نقلها الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار على الصواب[5].

3 – غياب تحقيق محل الفتوى وهو تتار ماردين

خلط المستندون إلى فتوى ماردين بين رواية ابن كثير في تاريخه عن جهاد ابن تيمية للتتار، وهو لم يكن في ماردين ولكن كان جهاد دفع على أبواب الشام ضد حكام تحولوا لنصرة الإمامية على السنّة، كما تجاهلوا أن فتواه كانت إشكالاً نظرياً ومعرفياً ولم تكن مسألة عملية يترتب عليها قتال أو سلام، ولكن أتت لإزالة الحرج لدى جند الشام من مواجهة التتار حكام ماردين وهم مسلمون، ولكن على غير مذهب السنَّة وعلى غير طباعهم.

كما أن جهاد ابن تيمية ضد التتار لم يكن في ماردين، ولكن كان في معركة أخرى هي معركة شقحب سنة 702هـ، وكان دوره فيها الدعوة والتوسط ومحاولة الحل، ولم يواجه قتالاً فعلياً إلا ضد الفرق الأخرى التي كانت صاعدة وتمثل خطراً على مذهبه حينئذ، فواجه مع المماليك الشيعة والنصيرية في جبل كسروان سنة 704هـ بعد الظن بممالأتهم التتار على المماليك السنّة.

ونذكر دلالة على ذلك أنه في سنة 674 هـ حرّم والي المماليك في الشام على أهل لبنان التشيع والرفض. ويحمِّل كثير من مؤرخي الشيعة في لبنان ابن تيمية المذبحة التاريخية التي حدثت بفتواه لشيعة جبل كسروان من النصيرية والعلوية، وهو فيهما راوٍ وليس بشاهد، مما يجعل ما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في النهاية أقوى من روايته.

وطوال عهد ابن تيمية، لم تتحرر ماردين من سطوة التتار، ما يجعلنا نؤكد أن الفتوى لم تكن موقفاً عملياً داعياً للجهاد فيها، وخاصة أن أغلب أهلها من الترك والأكراد حينئذ، كما أتى في رد ملكها السعيد على هولاكو في الحصار الأول، وهي ما زالت كذلك، حتى الآن، ويدين معظمهم بالبكتاشية إحدى فرق العلويين الغالية، وهو ما يجعلنا نرجح أن فتوى ابن تيمية فيها كانت بحثاً نظرياً في مسألة افتراضية؛ فقد صالحت ماردين وصاحبها الملك المظفر هولاكو سنة 658هـ، ولكن بشروط الإدارة المغولية لها[6].

كما لم ينتبه فرج وغيره، كأبي محمد المقدسي وناصر الفهد وعبد القادر بن عبد العزيز وغيرهم من منظِّري السلفية الجهادية، إلى دلالة النص الكلية ولا لمحلة الفتوى التي ولد بها ابن تيمية سنة 661 هـ، وأجاب على أهلها وفتاويهم مرات مثنياً على إيمانهم[7]، والتي كانت فعلياً داراً مركبة ثقافياً وفكرياً وسلطة وحكماً، وكان للحنابلة في هذه البلد ولأسرة ابن تيمية خاصة، شأن عظيم، على مدار التاريخ. ولم يحقق هؤلاء من هو قازان، وكيف سعى ابن تيمية لمقابلته مرتين، وكيف كان دور وزير قازان الإمامي رشيد الدين الهمداني في منعه من ذلك، كما روى ابن كثير، مكتفين بإسقاط كلي على الوضع المعاصر يفتقد التحقيق، كما يفتقد الاستبانة؛ فقد كانت دار مركبة ثقافياً واجتماعياً، فهي مركز للحنابلة ومركز للعرفان والفلسفة الإشراقية ومركز للصابئة وعاصمة لآخر خلفاء بني أمية في آن، كما كانت داراً مركبة السلطة، فقد فتحت صلحاً بعد حروب كثيرة وموت حاكمها على يد هولاكو – وقد اتخذها الأخير قاعدة لتنظيم هجماته[8].

كما لم ينتبهوا كذلك إلى كون ابن تيمية ناصحاً لحكام وأمراء التتار، وليس مكفراً مستحلاً، انطلاقاً من تصوره للولاية والإمامة وكونها مسألة قدرة خالصة وسلطان نافذ وليست مسألة دينية خالصة، بل قد تكون دنيوية خالصة كذلك، وهو ما يتضح تعريفاً ومفهوماً لها في قوله: «وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين»[9] ورغم أنه سلطان ظالم إلا أن ابن تيمية يؤكد وجوب طاعته في رسالته المظالم المشتركة وغيرها.

من هنا لم تكن المسألة عنده سوى نصح ومواجهة، لم يعرف عنه الخروج ولا المواجهة مع حكام عصره، أو الدعوة إلى الانقلاب الإسلامي التوحيدي عليهم شأن منظِّري الحاكمية والجهادية المعاصرين، واكتفى بنصح أمراء المماليك والتتار، وما تحرك متخذاً موقفاً إلا في إطار مشروعيتهم وشرعيتهم.

ونرى ما سطره في منهاج السنّة يقع في باب النصيحة لـ خدابنده، ونرى سعيه لمقابلة قازان التي حرص عليها مرتين، حيث حجب بينه وبينه في المرة الأولى، ثم التقاه في الثانية، مقابلة ناصح غير مكفر، وغير مستحل، كما قابل غيره من أمراء التتار الكبار. يقول ابن كثير نقلا عن الذهبي: «فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه وقام وقعد وطلع وخرج واجتمع بالملك مرتين وبقطلوشاه وببولاي وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول»[10]. وهذا الموقف ليس موقف المستحل المكفر، ولكن موقف داعية يدرك إسلام التتار ويدعوهم إلى الالتزام به.

ثانياً: تراجع مسألة الإمامة والحكم عند ابن تيمية

لم يؤلف ابن تيمية – رغم كثرة تأليفاته التي وصل بها البعض لألف مجلد – في مسألة الإمامة أو الخلافة أو الأحكام السلطانية، شيئاً، باستثناء السياسة الشرعية التي تهتم بسياسة المحتسب وإدارة المجتمعات، وكذلك رسالته المظالم المشتركة. وتركز اهتمامه – كما يروي تلميذه البزار – على باب العقائد والأصول.

وهو ما يؤكد أنه رغم تجلي هاجس الخوف والتحذير من اختراق الآخر، عقيدياً وفكرياً، للمنظومة الإسلامية في العديد من كتابات ابن تيمية، وخاصة في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم[11] وغيره من الكتب التي كتبها ضد الجهمية والباطنية وتناول فيها الفلاسفة العرب واليونان، في أجزاء متفرقة[12]، إلا أنه في هذا الكتاب الأصيل في هذا «التحذير من متابعة أهل الجحيم» في تصوره ركز على الاعتقاد والعبادة ولم يحذر من التشبه بهم في مسائل الحكومة والحكم وأنماطه ولم يتشبث بنمط الخلافة منه.

فرأى أن نمط الخلافة يمكن أن يشوبه الملك، وقد شاب النبوة عند داود وسليمان، وكان يدرك أنه أُثر في العهد الأول عن وصف الخلافة الأموية بالهرقلية والكسروية، بعد أن صارت ملكاً، أو النقد الناصح الذي كاله بعض الزهاد والعلماء لأبي جعفر المنصور حين رأى أبهة ملكه، وعاب عليه التشبه بملوك الفرس[13]. وجاء تركيزه في هذا الكتاب وفي غيره على البدع العقدية والمذهبية، فخصص الجزء الأكبر منه للصوفية وعلى تهمة الحلولية ورد على مقولتهم في الولاية، كما بحث في جزء كبير منه مسألة المغالاة في الأئمة وآل البيت، وغير هذا من مسائل[14].

وما يعنينا هنا أن تحليل مضمون دقيق لاقتضاء صراط المستقيم لا نجد فيه كلاماً عن الحكم ونمطه الذي كان من أكثر الجوانب الإسلامية استفادة من الأمم والثقافات غير الإسلامية، سواء في تنظيمه أو أبهته، بل العقيدة والفقه والأمة هي أولوية ابن تيمية ومقولته الحاكمة، وليس باب الولايات التي جعلها بحسبها والقدرة عليها في السياسة الشرعية إلا نزوعاً نحو مسألة التنظيم المدني والقبول بالبدعة الحسنة فيه.

بل يرى ابن تيمية أن تقديم مسألة الإمامة والحكم على مسائل الدين في فهم الدين، يكاد يصل بأصحابه إلى الكفر، وأنه أمر مرفوض، فهي ليست من المسائل المتقدمة ولا من مسائل الصدارة والشرف في الإيمان، وقد جاء ذلك أثناء رده على ابن المطهر الحلي في منهاج الكرامة وقول الأخير: «الإمامة هي أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين» وهو ما رده ابن تيمية بقوله: «إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنّيهم وشيعيِّهم، بل هذا كفر فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام»[15].

ويرفض ابن تيمية ربط البعض بين الإمام أو القائد أو الدولة – كما هو ربط الجهاديين المعاصرين – وبين حفظ الشرع والدين والإيمان وما شابه، وأن النبي كان مطاعاً لكونه كان حاكماً وغير ذلك من حجج أنصار الإمامة والحكم من طرق عديدة، مؤكداً ومفصلاً أن الأمة وليس الإمام والفرد هي حافظة وحارسة الشرع، وأن ثبوت الإمامة وأي ولاية إنما هو بموافقة أهل الشوكة وحاصلها القدرة والسلطان. لكنه يرى أن الخروج ليس حلاً على جور الأئمة، بل هو مثار الفتن وتفتت وانهيار القوة، ويشدد على الضد وهو أن الصبر على جور الأئمة من اعتقاد أهل السنَّة والجماعة، وأن الخروج كان مذهباً قديماً لبعض أهل الحديث ثم عادوا عنه، وهو ما يضاد منطق الخروج المعاصر، فيقول ابن تيمية في باب «الصبر على جور الأئمة» قياساً على المصلحة والمفسدة من هذا الأمر: «ولهذا أمر النبي (ﷺ) بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم، ما أقاموا الصلاة، وقال: أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم»[16] وهو ما نجده في قوله كذلك في رسالتيه المظالم المشتركة والسياسة الشرعية، وجعل ابن تيمية من أصول أهل السنة والجماعة، لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، بينما جعله أهل الأهواء – كالمعتزلة – من أصول دينهم[17].

ويتضح النهج الواقعي والمقاصدي في فهمه ونظره السياسي باشتراطه موافقة أهل الشوكة على انعقاد الإمامة، وأن مقصودها الإمامة والسلطان، والقدرة ليس غير، فيقول في منهاج السنّة عن ثبوتها وطرقها: «تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً، حتى يوافقه أهل الشوكة، الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان»[18].

وليس هذا الفهم والتوظيف الاختزالي لدى السلفية الجهادية ومنظريها، بلا استثناء في مرحلة التأسيس قبل مرحلة المراجعات، قاصراً على فتوى التتار بل يلف مختلف قراءاتهم لتراث ابن تيمية وللتراث الفقهي الإسلامي بمجمله، قراءة افتقدت ذكاء وواقعية ومقاصدية هذا التراث وتاريخيته، فضلاً عن أخطاء فهمه وقراءاته.

ثالثاً: في دعوى الصلة بين توحيد الألوهية والحاكمية

روَّج ووظَّف كثير من منظِّري السلفية الجهادية علاقةً متصورين: نظرية التوحيد عند ابن تيمية وتصور الحاكمية الذي ورثوه عن سيد قطب والمودودي اللذين لم يقرآ ابن تيمية، وفسروا مفهوم توحيد الألوهية بما صور به هو توحيد الربوبية، حيث يبدو توحيد الألوهية عند ابن تيمية هو توحيد الطاعة والعبادة والالتزام بأوامر الشرع. من هنا أكد منظّر سلفي جهادي كأبي محمد المقدسي أن الحاكمية أخَص خصائص عقائد الألوهية، والحاكمية هي السلطة والقيادة والسلطان بتعبيرات المودودي، وهذا تفسير مغاير كلية لتصور ابن تيمية لتوحيد الألوهية كما سنوضح في عدد من النقاط:

1 – توحيد الألوهية والطاعة أوسع من فكرة الحكم

إن توحيد الألوهية بمعنى توحيد الطاعة والعبادة أوسع من فكرة الحكم، ففكرة أن كل تشريع غير إلهي وغير سماوي كفر لم ترد عند ابن تيمية.

2 – تعريف الطاغوت تعريف لمجمل الكفر

يعرِّف ابن تيمية الطاغوت بما هو أوسع من الحكم بغير ما أنزل الله، فيقول: «سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الْأَصْنَامَ طَوَاغِيتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا قَالَ: «وَيَتَّبِعُ مَنْ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ». وَالْمُطَاعُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْمُطَاعُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ – سَوَاءٌ كَانَ مَقْبُولاً خَبَرهُ الْمُخَالِفُ لِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ مُطَاعاً أَمْرهُ الْمُخَالِفُ لِأَمْرِ اللَّهِ – هُوَ طَاغُوتٌ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْ تُحُوكِمَ إلَيْهِ مَنْ حَاكَمَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ طَاغُوتٌ وَسَمَّى اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَعَاداً طُغَاةً وَقَالَ فِي صَيْحَةِ ثَمُودَ: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾»[19] وهكذا يتضح أن مفهوم الطاغوت عند ابن تيمية في أصله ينطبق على الأديان الأخرى، اعتقاداً أو شريعة، ومخالفة الإيمان بالدين الصحيح واعتماد السحر والخرافات.

ويؤكد ذلك أن سبب نزول الآية ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا﴾[20]، كما يذكر ابن تيمية، هو ذهاب كعب بن الأشرف «إلَى الْمُشْرِكِينَ وَرَجَّحَ دِينَهُمْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ»[21] وينقل عن سنن أبي داود في الفتاوى تفسير عمر بن الخطاب (h) لها بأن «الجبت هو السحر وأن الطاغوت هو الشيطان»[22] ويذكر أنها نزلت في أهل الكتاب الذين ذكر القرآن في موضع أول أنهم آمنوا بالجبت حيناً وفي موضع آخر أنهم آمنوا بالطاغوت وفي موضع ثالث أنهم آمنوا بهما معاً[23].

يتضح مما سبق أن حشر وحصر السلفية الجهادية لابن تيمية في اعتبار أن مخالفة الحاكمية وعدم تحكيم الشريعة يعنيان أن الدولة غير إسلامية هو شرك في التشريع لا نجده عند ابن تيمية وفق هذا المنطق، بل إن مفهوم الطاغوت عند ابن تيمية يركز على المبالغة في الطغيان ومجاوزة الحد واتباع الشياطين والسحر ويشمل الأديان الأخرى والأمم الأخرى والظلم والمبالغة فيه. يقول ابن تيمية في تأكيده هذا الاتساع: «وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْبَغْيُ. فَالْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَارِهاً لِذَلِكَ: طَاغُوتٌ؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الْأَصْنَامَ طَوَاغِيتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا قَالَ: «وَيَتَّبِعُ مَنْ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ». وَالْمُطَاعُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْمُطَاعُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ – سَوَاءٌ كَانَ مَقْبُولاً خَبَرهُ الْمُخَالِفُ لِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ مُطَاعاً أَمْرهُ الْمُخَالِفُ لِأَمْرِ اللَّهِ – هُوَ طَاغُوتٌ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْ تُحُوكِمَ إلَيْهِ مَنْ حَاكَمَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ طَاغُوتٌ وَسَمَّى اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَعَاداً طُغَاةً»[24].

3 – تجاهل النظرية السياسية عند ابن تيمية

إن موقف ابن تيمية من مسألة الإمامة الذي أشرنا إليه، يتم تجاهله من قبل هذه الفكريّات والتنظيمات، ويبدو تجاهل النظرية السياسية التأسيسية في منهاج السنّة أو المتناثرة في الفتاوى والمظالم المشتركة وغيرها، تكاد تكون مقصودة أو مجهولة عند منظري السلفية الجهادية، ولا شك في أن إهمالها في مسائل التشريع والحكم والإمامة وتحكيم الشريعة أمر يصيب استنتاج صاحبه بالخلل والزلل. كما يتم الخلط إذ إن توحيد الألوهية أخص بالعقائد والعبادات الشرعية، لا المسائل الاجتهادية والزمنية كمسألة الحكم.

وهذا يتضح في نصوص ابن تيمية وتلامذته، ويوضحه ابن أبي العز الحنفي بقوله: «إن التوحيد المطلوب هو توحيد الألوهية، الذي يتضمن توحيد الربوبية، فلو أقر الرجل بتوحيد الربوبية، الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب (منازل السائرين) وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله ويتبرأ من عبادة سواه كان شركاً من جنس أمثاله من المشركين»[25]. وهنا يلاحظ أن المقصود به الفئات المخالفة اعتقاداً أو المنحرفة تشريعاً في مسائل العبادة حسب هذا التصور، بالآخر هنا هو المتصوفة والمتفلسفة والعرفانيون، وليس مفهوم الحاكمية المتعلق بالحكام ورجال الدولة القديمة أو المعاصرة.

4 – تأويل ابن تيمية في مسائل شرع البندق والياسق

تعد مسألة شرع البندق التي نقلها عبد السلام فرج في الفريضة الغائبة وغيره، أقرب المسائل لتنظيرات الحاكمية المعاصرة وإسناداتها؛ وفيها يقول ابن تيمية إنها قدح في العدالة وليست كفراً، وسنورد مسألة التتار في موضعها وتحقيقها أن ابن تيمية لم يكفرهم بعد أن أسلموا، نجده يقول حين سئل: رجل تولى حكومة على جماعة من رماة البندق، ويقول‏:‏ هذا شرع البندق، وهو ناظر على مدرسة وفقهاء‏:‏ فهل إذا تحدث في هذا الحكم والشرع الذي يذكره تسقط عدالته من النظر، أم لا‏؟‏ وهل يجب على حاكم المسلمين الذي يثبت عدالته عنده إذا سمع أنه يتحدث في شرع البندق الذي لم يشرعه الله ولا رسوله أن يعزله من النظر، أم لا‏؟‏ فأجاب بعدم تجويزه لأحد أن يحكم بين أحد «أن يحكم بين أحد من خلق الله، لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش ولا الفقراء، ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله‏.‏ ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى‏:‏‏ ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾‏‏»[26]، وقوله تعالى‏: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[27]، ثم يضيف: «فيجب على المسلمين أن يحكِّموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم، ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق، أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله، وحكم الله ورسوله، وهو يعلم ذلك، فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم الياسق على حكم الله ورسوله، ومن تعمد ذلك فقد قدح في عدالته ودينه، ووجب أن يمنع من النظر في الوقف، والله أعلم‏»[28].‏ ونلاحظ هنا قول ابن تيمية؛ فقد قدح في عدالته ودينه، ويمنع من النظر في الوقف! ولم يقل بتكفير ولا استحلال ولا خروج! ويبدو السياق لغة ناصح محذر لا لغة مهدد مكفر خارج عن الطاعة! وهنا نضم هذا إلى ما أجاز ابن تيمية في رسالة المظالم المشتركة وغيرها، وكذلك تلميذه ابن القيم في الطرق الحكمية للحاكم أن يطبق من السياسة ما رآه مصلحة وعدلاً وإن لم يأتِ به الشرع.

5 – المركزية للتوحيد لا للإمامة والحكم

تتضح مركزية التوحيد عند ابن تيمية، في أنه ما ألحت وأكدت ودعت إليه نصوص الكتاب والسنّة، وليس الإمامة والحكم، التي غاب ذكرها، وهذه نقطة مهمة لا ينتبه لها الموظفون لابن تيمية من السلفية الجهادية وتنظيمها، جماعات الإمامة السنية، كما لا ينتبه لها معارضوه والمتحيِّزون عليه في الخطاب العربي المعاصر نتيجة هذا الربط السابق، فابن تيمية يلح على أن الإمامة لم يذكرها الله كشرط وفارق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، أو بين الحق والباطل في الإيمان، وهو ما يدل على تراجع هذه المسألة، حيث يقول: «من المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها والقرآن مملوء بذكر توحيد الله وذكر أسمائه وصفاته وآياته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقصص والأمر والنهي والحدود والفرائض بخلاف الإمامة، فكيف يكون القرآن مملوءاً بغير الأهم الأشرف؟»[29].

كذلك اتجه ابن تيمية للتنفير المستمر من التكفير، مؤكداً أن موقف أهل السنّة هو عدم التكفير لأهل القبلة بذنب، ويقول: «أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ إذَا كَانَ فِعْلاً مَنْهِيّاً عَنْهُ؛ مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَرْكَ الْإِيمَانِ وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ مِثْلَ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ؛ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِ الْحُرُمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنْ قُلْت فَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ وَفِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. قُلْت: لَكِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إذَا تَرَكَهُ الْعَبْدُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِناً بِوُجُوبِهِ؛ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِناً بِوُجُوبِهِ تَارِكاً لِأَدَائِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ بَلْ أَدَّى بَعْضَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ وَهُوَ الْعَمَلُ»[30].

هنا تمثل مسألة توحيد العبادة والألوهية المركز الأصيل وغاية الإسلام وأساس دعوته، خاصة في مواجهة انحرافات بعض طرق التصوف والتأويل الباطني، وتركيز خطاب ابن تيمية وسيرته على تصحيحها ومواجهتها، قد التقطه منه نظرياً ابن أبي العز الحنفي، وفهمه كذلك، كما التقطه منه عملياً وجهادياً – بشكل تجاوز ابن تيمية على مستوى الفعل – الإمام محمد بن عبد الوهاب في دعوته التي حددها دعوة للتوحيد، وكان أتباعه يصفون أنفسهم بالموحدين، ويقول: «أما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد»[31]، رفضاً مقيداً لانحرافات بعض المتصوفة دون إطلاق وفرضاً لتصوره التوحيدي المغاير والمعادي لتصورات الاعتقاد المشوهة عند القبورية وعند المتكلمين من الأشاعرة وأهل السنة وغيرهم من أهل الفرق الأخرى.

6 – في حداثة تصور الحاكمية وعدم أصالته

نرى أن ثمة مشكلاً كبيراً لإسقاط أو اقتطاع فتاوى ابن تيمية على الواقع المعاصر، الذي يحتفظ بتصورات وتحديات خاصة تختلف عن تلك التي كانت في عصر ابن تيمية أو عصور الخلافة الأولى[32]، وهي أن عصر شيخ الإسلام ابن تيمية لم تكن أزمته مع تصورات الحكم والشريعة وتطبيقها، كما هي الأزمة في العصر الحديث وسقوط الخلافة التي ظهرت بعدها وكرد فعل على سقوطها تيارات الإسلام السياسي المعاصرة، فكانت استعادتها هدفاً لبعض هذه الحركات ذات الطابع الأممي والحكمي – كحزب التحرير مثلاً – وكذلك تطبيق الشريعة وأسلمة القوانين للحركات ذات الطابع الوطني والإصلاحي الإسلامي، وهي قضايا تختلف عن تلك التي كانت في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية وأولوياته التي كانت عقيدية وباطنية مذهبية وكلامية فلسفية في المقام الأول، والغزو الخارجي بدرجة ثانية عبر غزو أو اختراق العالم الإسلامي؛ فولاءات الدولة وصراعاتها كانت مركز تصور الدولة في عهد ابن تيمية ولم تكن شريعتها أو تطبيقها بالدرجة الأولى، فكان ابن تيمية يتحرك من داخل منظومة الدولة ولم يحضر عنده أو في سيرته توجه مناهضتها أو السعي لتغييرها أو الانقلاب عليها، كما شاهدنا عند كثير من المصلحين السياسيين والأيديولوجيين قبله وبعده، من أول الفرق الخارجة على الخلافة حينئذ أو إصلاحيي العصر الحديث كالأفغاني حتى حسن البنا وما تفرع عن ذلك من حركات إسلامية وجهادية أخرى.

لم يرد ذكر لتعبير «الحاكمية» في تراث ومجمل مؤلفات ابن تيمية، ولم يرد لها ذكر في التراث الفقهي سوى مرة واحدة عند كاتب مجهول، لا يزال نصه مخطوطاً لم ينشر، وهو طوغان شيخ المحمدي (كان حياً سنة 878هـ/1473 ميلادية) المعروفة وكتابه المقدمة السلطانية في السياسة الشرعية[33]؛ إلا أننا لا نجد له أثراً ولا شهرة، وهو ما يؤكد هامشيته وعدم أصالته، بالعكس مما ذكره نصر عارف، من أن المودودي وقطب لم يأتيا بمحدث غير مسبوقين إليه، بل سبقهما البعض بالقول به، فيقول نصر عارف: «قضية الحاكمية لم تبدأ – كما يعتقد – مع سيد قطب والمودودي، وإنما هي موجودة ومثارة في مخطوطة»[34] ويكفي أن كلا الرجلين لم يطلع على المخطوط المذكور لطوغان محمدي المجهول في زمانه بمعايير علم الرجال.

ونؤكد أنه لم يستبق الاستناد إلى هذا المفهوم ولا ورد ذكره في كتب أصول الدين المختلفة والاعتقاد وتبقى محاولة إثبات أصالته محاولة تأويلية وغير صحيحة.

ثالثاً: مفهوم الشريعة وغائية العدل عند ابن تيمية

جعل ابن تيمية فصلاً في فتاويه حول حد الشريعة ومفهومها، وهو ما لم يجعل مثله للخلافة أو الإمامة التي غابت عن اهتماماته التأسيسية وحضرت فقط في منهاج السنّة من باب الحجاج مع الإمامية.

وتقع المرتبة المتقدمة للشريعة عند ابن تيمية في اتساعها لكل الدين؛ فقد وردت كلمة «شريعة» في القرآن مرتين لتعني طريق الله ومجموع الدين بأوامره ونواهيه جميعاً، وسنّة الإسلام وطريقته، وهي تشمل العديد من المعاني، دليلاً على ذلك كما يأتي:

1 – فهي ترادف السنّة وترادف العقيدة وترادف العقائد والأقوال والممارسات السلطانية والطرق الحكمية إلى غير ذلك مما احتواه نص ابن تيمية التالي حيث يقول «فالسنة كالشريعة هي‏:‏ ما سَنَّه الرسول وما شرعه، فقد يراد به ما سنَّه وشرعه من العقائد، وقد يراد به ما سنَّه وشرعه من العمل، وقد يراد به كلاهما‏.‏ فلفظ السنَّة يقع على معانٍ كلفظ الشرعة؛ ولهذا قال ابن عباس – وغيره – في قوله‏ تعالى: ﴿جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾[35]‏‏،‏ سنة وسبيلاً‏.‏ ففسروا الشِّرْعةَ بالسنّة، والمنهاج بالسبيل‏»؛ ثم يضيف البعد العملي لهذا المفهوم الشامل، الذي اجتزئ كلامياً ونظرياً في عقيدة أهل السنّة، لتشمل مختلف الممارسات، بما فيها الممارسات السلطانية والطرق الحكمية، وهو ما ينص عليه نصاً هنا بقوله: «واسم ‏(‏السُّنَّة) و‏(‏الشِّرْعة)‏ قد يكون في العقائد والأقوال، وقد يكون في المقاصد والأفعال‏.‏ فالأولى في طريقة العلم والكلام، والثانية في طريقة الحال والسماع، وقد تكون في طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية‏، فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة‏.‏ وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة، أو المذهب، أو الرأي»[36]‏ ولكن أصل المفهوم حسب ابن تيمية يتسع لكل ذلك.

كما يتماهى مفهوم الشريعة عنده مع مفهوم الحكم في المعاد وهو الأقرب إلى الاعتقاد، والمعاش وهو الأقرب إلى الفقه، ما يدل على اتساعها اعتقاداً وفقهاً، فحسب تلميذه ابن القيم يقول: «إنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكَم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلّها، ومصالحُ كلّها، وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتّأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه»[37].

يمكن أن نحدد سمات مفهوم الشريعة عند ابن تيمية في أربع سمات رئيسية كما يأتي:

الأولى، الشريعة كل الدين وأشمل من العقيدة والفرائض؛ يتسع مفهوم الشريعة عند ابن تيمية للفقهين الأكبر والأصغر، فقه الاعتقاد وفقه الأحكام العملية. فالشريعة ليست جانباً آخر غير العقيدة، بل العقيدة والتوحيد جزء منها كما يتضح في أقسام التوحيد عنده، هي كل الدين، وليس فقط أحكام الشرع العملية. وهذا الاتساع اتسعت معه وبه جهود ابن تيمية في خدمة الشريعة. يقول ابن تيمية في حد الشريعة: «اسم الشريعة والشرع والشِّرْعَة فإنه ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال. وقد صنف الشيخ أبو بكر الآجُرِي كتاب ‏الشريعة، وصنف الشيخ أبو عبد الله ابن بَطَّة كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية‏، وغير ذلك‏‏، وإنما مقصود هؤلاء الأئمة في السنّة باسم الشريعة‏:‏ العقائد التي يعتقدها أهل السنّة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر، ونحو ذلك من عُقُود أهل السنَّة، فسموا أصول اعتقادهم شريعتهم، وفرقوا بين شريعتهم وشريعة غيرهم‏، وهذه العقائد التي يسميها هؤلاء الشريعة هي التي يسمي غيرهم عامتها «العَقْليات» و‏«‏علم الكلام»، أو يسميها الجميع «‏أصول الدين‏»، ويسميها بعضهم ‏«‏الفقه الأكبر»‏ وهذا نظير تسمية سائر المصنفين في هذا الباب «‏كتاب السنَّة» كالسنة لعبد الله بن أحمد، والخَلاَّل، والطبراني، والسنة للجُعْفي، وللأَثْرَم، ولخلق كثير صنفوا في هذه الأبواب، وسموا ذلك كتب السنَّة ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة»[38]‏.‏

ويشتمل عنده الحكم الشرعي الاعتقاديات والعمليات ومقتضياتها، فيقول: «والصحيح أن اسم الحكم الشرعي يَنْطَبق على هذه الثلاثة، وقد يقال‏:‏ بل الحكم الشرعي يقال على ما أخبر به، وعلى ما جاء به من الخطاب ومقتضاه، وهذا – كما قلناه – في العلم الشرعي، فتدبر هذه الأصول الثلاثة‏:‏ العلم الشرعي، والحكم الشرعي، والشريعة‏.‏ والله أعلم‏»[39].

يضيف أيضاً عن شمول الشريعة بقوله: «والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمداً (ﷺ) جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق‏.‏ لكن قد يُغَيَّر – أيضاً – لفظ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنّة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات»[40]‏.

الثانية، الشرائع قد تكون متأولة يجوز الاجتهاد فيها: يفرق ابن تيمية بين أنواع الشرائع، فهناك شرع منزل يجب الالتزام به، ولعله الاعتقاد هنا والقطعي منه، كما يشير إلى أن هناك شرعاً متأولاً يجوز الاجتهاد فيه، كما أن شرعَ مبدَّلٍ يكون كذباً وفجوراً، وهو ما يوضحه ابن تيمية بقوله: «شرع مُنَزَّل، وهو‏:‏ ما شرعه الله ورسوله‏.‏ وشرع مُتَأَوَّل، وهو‏:‏ ما ساغ فيه الاجتهاد‏.‏ وشرع مُبَدَّل، وهو‏:‏ ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع، أو البدع، أو الضلال الذي يضيفه الضالون إلى الشرع‏.‏ والله أعلم‏»[41].‏

الثالثة، الأمة حارسة وحافظة الشرع وليس الإمام: يضع ابن تيمية الأمة على حراسة الشريعة وليس الخليفة – كما أسلفنا – ويلزم كل مسلم مؤمن بها بالتسليم بها، رافضاً ادعاء البعض نقصانها أو استعاضة بعضهم عنها بالفلسفة أو الباطن أو السياسة والياسق وما شابه، وهو يجعلها مسؤولية إنسانية هنا لا مسؤولية دولة أو إمامة وظيفتها حراسة الدين وسياسة الدنيا، وهو ما يوضحه قوله في ذلك «وبما ذكرته في مسمى الشريعة، والحكم الشرعي، والعلم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كل ما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك، والحمد لله رب العالمين، وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾[42]. قد أوجب طاعته وطاعة رسوله في آي كثيرٍ من القرآن، وحرم معصيته ومعصية رسوله، ووعد برضوانه ومغفرته ورحمته وجنته على طاعته وطاعة رسوله، وأَوْعَدَ بضد ذلك على معصيته ومعصية رسوله‏.‏ فعلى كل أحد من عالم، أو أمير، أو عابد، أو معامل أن يطيع الله ورسوله فيما هو قائم به من علم، أو حكم، أو أمر، أو نهي، أو عمل، أو عبادة، أو غير ذلك»[43]‏.‏‏

تنظم الشريعة وفق هذا المفهوم العلاقة بين الأمراء والعلماء من جهة والمأمورين من جهة أخرى، ويبدو في النص التالي ميل ابن تيمية للطاعة، إلا في ما لا تجب فيه الطاعة، يقول عن الخروج على الشريعة: هو «خروج عن طاعة الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه، فقال‏: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ﴾[44]‏ فإنه قد قال‏: ﴿‏مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ﴾[45] والطاعة له دين له‏.‏ وقال النبي ﷺ:‏ «‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني‏»‏‏.‏ والأمراء والعلماء لهم مواضع تجب طاعتهم فيها، وعليهم هم – أيضاً – أن يطيعوا الله والرسول فيما يأمرون‏.‏ فعلى كل من الرعاة والرعية، والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله في حاله، ويلتزم شريعة الله التي شرعها له»[46]‏.‏

الرابعة، غائية العدل أصل الولايات؛ يجعل ابن تيمية مقصد الشريعة العدل وحاكمها وغايتها الأخيرة في حكم الناس والولايات، ولعل لهذا المعنى وضع رسالته في السياسة الشرعية الذي يحدد رافدها في آية الأمراء فيصف رسالته في السياسة الشرعية بقوله: «وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله[47]، ويقول ابن تيمية: «وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل. فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة»[48].

وهنا مسألة مهمة وجوهرية في فهم مجمل خطاب ابن تيمية وليس فقط مفهوم الشريعة عنده، أو مدى الأصالة بادعاء كونه تأصيل الخروج المعاصر؛ فقد أكد ابن تيمية في أكثر من موضع أن أمور الحكم والإمامة أمور من الفقهيات والعمليات وليست من الإيمانيات، ويقول ذلك صريحاً مقدماً مبدأ العدل فوق مبدأ الإيمان، حين يقول في كتابه الحسبة: «ولهذا يروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة»[49] ويفتح ابن تيمية الباب متسعاً في تصور الحكم الإسلامي وتنظيم ولاياته وفق الأحوال والأعراف، دون أن يقيده بشكل محدد له فيقول: «عموم الولايات وخصوصها، وما يستفيده المتولي بالولاية، يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع»[50].

خاتمة

تجاهل منظِّرو السلفية الجهادية واقعية ومقاصدية ابن تيمية في الشأن العام، وتبعهم في ذلك خصومهم، وعبره اتهم ابن تيمية بعضهم، بينما نلاحظ واقعيته ما يتعلق بالشأن العام عند ابن تيمية ينحو فيه نحو الواقعية ويعتمد النهج والمدخل المقاصدي الذي يؤمن بضرورات الشريعة ومقاصدها وفقه الموازنات، ويتضح ذلك في مواقفه من الجهاد الذي يؤكد ابن تيمية أنه أوسع من القتال، عكس ما ذهب إليه منظِّرو السلفية الجهادية بدءاً من محمد عبد السلام فرج إلى غيره، ويرفض اعتباره علامة ظهور الإسلام وانتصاره، ويؤكد أن ظهور الإسلام إنما يكون بالدعوة والبيان لا بالسنان، وأنه تشريع ضرورة تم فرضه على مراحل وتدريجياً، ويؤكد ابن تيمية أنه لا يكون تطبيقه إلا تدريجياً كذلك.

كما ضبط ابن تيمية موقفه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، ولم يعرف عنه أنه يرفض تعصب المغالين كما يرفض تفريط المفرطين في هذه المسألة، وقدم في ذلك الخوارج – الذين لم يسموا أنفسهم بهذا الاسم – فيقول في ضبط هذه المسألة: «من يريد أن يأمر وينهى – إما بلسانه وإما بيده – مطلقاً من غير فقه ولا حلم ولا صبر، ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر[51]… فيأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معتقداً أنه مطيع لله ورسوله، وهو معتدٍ في حدوده، كما نصب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي، كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه»[52].

ويؤكد ابن تيمية في موضع آخر، أن الظلم القصاص – والقصاص مفردة أثيرة عند الجهاديين المعاصرين – إن كانا جائزين، إلا أن كليهما لا يصح لا يكون عدواناً، ولا معصية، فلا يرد على الزنا بالزنا ولا القتل بالقتل، ويحرم التمثيل بالأسير والجثث، من حرق وتغريق أو ما شابه، كما نسب إليه ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام مؤخراً، حين نقلت تدليساً نصاً سردياً له لا يتضمن حكمه، وتجاهلت الثابت من آرائه وأحكامه الثابتة الواضحة، فهو القائل في منهاج السنة أن التمثيل بالكافر «ضرر في الدنيا والدين مع تضمنه غاية الحمق والجهل»[53].

اختزلت السلفية الجهادية وتنظيماتها، من الجهادية القطرية إلى القاعدة إلى تنظيم الدولة، ابن تيمية في فتوى التتار دون تحقيق، وابتسرت آراءه في النقد الموضوعي لمخالفيه، وخلطت بين نقد وتكفير المقولات ونقد وتكفير المعينين الذين قد يعذرون بالتأويل أو الجهل أو غير هذا، فيؤكد أنه لم يقل بتكفير معين، ويلح على التفريق بين تكفير المقولة وتكفير صاحبها قائلاً: «لا يلزم إذا كان القول كفراً أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفاراً لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم»[54].

هذه مقالة موجزة لا يتسع المجال للاستطراد فيها بأكثر من ذلك، ولكنها تكشف مشاكل تأويل التطرف السلفي الجهادي لابن تيمية في مرحلته الأولى، رغم مراجعات بعضهم، واستثماره وخطأ متابعة الخطاب المعاصر لهم في ترديد صحة العلاقة بين خطاب ابن تيمية في القرن الثامن وبين هذه الجماعات المعاصرة، التي أساءت الفهم ولم تحسن النقل، وتتحرك بخطابه توظيفاً وتأويلاً لغايتها الحاكمية وإن تنكرت لذلك.

 

قد يهمكم أيضاً  الإسلاميون في السلطة: تجربة الإخوان المسلمين في مصر

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السلفية #الأصولية_الإسلامية #ابن_تميمة #السلفية_الجهادية #دراسات