المؤلف: أمين معلوف

ترجمة: نهلة بيضون

مراجعة: عثمان عثمانية 

الناشر: دار الفارابي، بيروت

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات: 320 

 

مقدمة

في سنة 2005 نشر الكاتب الأمريكي الشهير جارد دياموند (Jared Diamond) كتابًا حمل عنوان الانهيار: كيف تحقق المجتمعات الإخفاق أو النجاح؟(1) كشف فيه أن هناك عدة عوامل تؤدي بـ«الحضارات» إلى الاختفاء، هي: التغير المناخي؛ الجيران العدائيون؛ انهيار شركاء التجارة الأساسيين؛ المشاكل البيئية واستجابة المجتمع للعوامل الأربعة المذكورة. وهناك الكثير من المؤلفات والكتابات الأخرى التي تنظر كل منها من زوايا معينة إلى أسباب انهيار الحضارات ومحاولة كشف العوامل التي تسهم في بقائها واستمرارها.

قد يعتقد القارئ أن أمين معلوف يحاول هو الآخر، من خلال كتابه الجديد غرق الحضارات، أن يستقرئ أسباب فشل الحضارات ويستحضر عوامل بقائها ونجاحها، لكن الأمر مختلف تمامًا. هو يقدم قراءة لما شهده من أحداث في النصف الثاني من القرن العشرين، يعتقد أنها أوصلتنا إلى العالم الذي نعيش فيه اليوم، وهو عالم متفكك تسير سفينته بثبات نحو الغرق.

يأتي كتاب عضو الأكاديمية الفرنسية هذا، بعد دراستين سابقتين أعتقد أنهما مرتبطتان به بنحو أو بآخر: الهويات القاتلة واختلال العالم. الأول كان قد أثار جدلًا واسعًا حول ما إن كانت الهويات الدينية تحرّض على العنف، وبخاصة في ظل مقارنة غير متكافئة لا تأخذ في الحسبان السياق التاريخي بين العرب والغرب. أما الثاني فقد تجاوز مسألة الهويات إلى الاختلالات الاقتصادية والمالية والمناخية والاضطرابات القيمية التي تهدد البشرية جمعاء.

قسم معلوف كتابه إلى أربعة أقسام: فردوس يحترق؛ شعوب تائهة؛ سنة الانقلاب الكبير؛ وأخيرًا عالم متفكك، تغطي بداية «الأحلام الهشة» التي ورثها عن والديه كما يذكر في إهدائه للكتاب، وصولًا إلى المخاطر التي تحدق بنا في هذا القرن، وتهدد بتفكيك العالم.

– 1 –

جاء الفصل الأول أشبه بسيرة ذاتية للكاتب، ساق فيه الظروف التي نشأ فيها وما ورثه من أخبار عن حياة عائلته في مصر قبل صعود معاداة الأجانب، ومغادرتها إلى البلد الأم لبنان. مصر كانت ملتقى لوافدين من جنسيات وخلفيات دينية وثقافية كثيرة، وكان الجميع يعيش في تناغم، بل كما كان يبدو أن مصر آنذاك كانت تخط طريقها نحو الحداثة بخطى ثابتة، فطه حسين الذي أثار جلبة بما كتبه حول الشعر العربي الجاهلي عُيّن وزيرًا للتربية والتعليم عام 1950، وهذا يدل على مصر ذلك العصر.

لكن المجزرة التي سمح بها تشرشل في مصر سنة 1952 وما تلاها من تصادم مع بريطانيا في شأن قناة السويس، أطلق سلسلة أحداث مأسوية تجاه الأجانب، انتهت بتجريدهم من ممتلكاتهم، وهذا ما دفع بجد معلوف لأمه وأهلها إلى بيع ممتلكاتهم بأبخس الأثمان، ومغادرة مصر إلى أماكن مختلفة، وكانت أم الكاتب قد عادت إلى لبنان، بلد أمين معلوف الذي غالبًا ما يعود إليه في كتابه. فلبنان كان مثالًا على التنوع والتعايش بين الأديان بانسجام وتناغم، لكن نظام الحصص قوّض ذلك التعايش وأبقى البلد حبيس منطق فاسد.

وقد كان انتصار جمال عبد الناصر فيما بعد، يعَدّ بحسب الكاتب موتًا لـ «مصر الكوزموبوليتية والليبرالية»، وأطلق في ذات الوقت قضية الوحدة العربية التي احتلت الصدارة، بعد أن أصبح البطل الأوحد لشعوب المنطقة.

– 2 –

لو لم تكن المجزرة التي سمح بها تشرشل في 25 كانون الثاني/يناير 1952، يعتقد معلوف أنه كان «من الممكن أن يسود شكل آخر من الوطنية، وأن يسلك مستقبل مصر والعالم العربي مسلكًا مختلفًا كل الاختلاف» (ص 47). لكن لا يخفي الكاتب أن فكرة الوحدة العربية التي أصبحت في أوجها مع عبد الناصر، كان يمكن أن تؤدي بالوطن العربي إلى منحى آخر، لكن تاريخًا مهمًا في تاريخ العرب سيكون سبب انتكاستهم التي ستستمر فيما بعد، هو 5 حزيران/يونيو 1967.

فـ «حرب الأيام الستة» كما يحلو لإسرائيل تسميتها، ستمثل صدمة لن يتكمن العرب من تجاوزها، كما ستُفقد عبد الناصر مكانته الدولية، وكل من خلفوه من رؤساء لمصر، وتفقد فكرة القومية العربية كل صدقيتها، فقد «كانت المأساة التي يطلق عليها العرب اليوم ببساطة اسم سبعة وستين منعطفًا حاسمًا على طريق الشقاء والضياع» (ص 165). بل إن هذه الهزيمة لن يتغلب عليها العرب أبدًا، وصاروا نتيجة لذلك شعبًا تائهًا.

لكن إسرائيل التي خرجت منتصرة في الحرب، وكاسبة الكثير من المزايا على المستويين الداخلي والخارجي، كان انتصارها مفجعًا لها كذلك بحسب الكاتب. فهذا الانتصار أدخلها في الاستمرار في الاحتلال إلى ما لا نهاية، والحكومة الإسرائيلية التي ستوعز بإخلاء مئات الألوف من مواطنيها اليهود تجازف بإشعال فتيل حرب أهلية، وبالتالي تجد نفسها أمام طريق مسدود.

– 3 –

ما جعل العرب على هامش التاريخ، بحسب ما يراه معلوف، هو متلازمة نشأت عن مجموعة من الأحداث التي حدثت كلها في «سنة الانقلاب الكبير» 1979 أو حولها. تلك السنة شهدت حدثًا مهمًا سيدخلنا في «عصر بالغ التناقض ستشهد فيه رؤيتنا للعالم تحولًا، بل وستنقلب رأسًا على عقب» (ص 168). شهدت هذه السنة ميلاد ثورة المحافظين في منطقتين مختلفتين في العالم: بريطانيا وإيران.

وستأخذ أفكار كلتا الثورتين اتجاهًا مؤثرًا في العالم، «فأفكار السيدة ثاتشر ستنتقل بسرعة فائقة إلى الولايات المتحدة مع وصول رونالد ريغان إلى سدة الرئاسة. أما الرؤية الخمينية لإسلام ثوري ومحافظ على السواء، معاد بشدة للغرب، فستنتشر في جميع أنحاء العالم، وتتخذ أشكالًا شديدة التنوع، وتطيح المقاربات الأكثر توافقية» (ص 169).

إضافة إلى ذلك، تولِّي دينغ شياو بينغ الحكم في الصين في كانون الأول/ديسمبر 1978، ووصول يوحنا بولس الثاني إلى رأس الكنيسة الكاثوليكية في تشرين الأول/أكتوبر 1978، وهو منصب يتولاه أول مرة شخص غير إيطالي، وكل منهما كانت له ثورته المحافظة الخاصة به. وعلى الرغم من عدم الترابط بين الأحداث الأربعة السابقة، إلا أنها تصبّ كلها في «روح العصر» كما يرى معلوف.

وعلى الرغم مما جاء به هذا «الانقلاب الكبير» من فوائد ومنافع على البشرية، وبخاصة تشجيع انطلاقة بعض بلدان الجنوب كالصين والهند مثلًا، بما يُعدّهُ معلوف تقدمًا، إلا أنه يُعد «تقهقرًا» على صعيد «التفاقم المستمر والمعمم للتوترات المرتبطة بالهوية، الذي انتشر مثل المخدر في شرايين أبناء عصرنا، وهو يشمل اليوم المجتمعات البشرية كافة» (ص 213). وقد شكلت تلك السنة انطلاقة لأصولية متناقضة، تقليدية اجتماعيًا ومتشددة سياسيًا، ستؤثر في العالم أجمع.

– 4 –

لا تنفك المسائل المرتبطة بالهوية تشغل معلوف، «ففي عالم يسود فيه الغليان المرتبط بالهوية، كل إنسان هو خائن بالضرورة في نظر إنسان آخر، وأحيانًا، في نظر جميع الأطراف معًا» (ص 259). والملاحظة الأهم هي أن السكان الذين يصبحون أغلبية في بلد، فهذا من شأنه ألّا يزيد تسامحهم، بل على العكس من ذلك يتضاءل، وما يزيد الأمر سوءًا هو أن العوامل المشتتة تتزايد بخلاف العوامل اللاحمة التي تتضاءل على مستوى البشرية جمعاء في المقابل. والدين نفسه قلّما يمثل عامل تماسك حتى بين المؤمنين، ولا أفضل من المثال الباكستاني لتوضيح ذلك.

يشهد العالم اليوم عدة انحرافات: تزايد الفروق الاجتماعية، انقلاب المُثل والمعايير، إعادة النظر في دور الدولة، الاحتدام المتعاظم للمشاعر المرتبطة بالهوية، استخدام التكنولوجيا بغرض الرقابة، تطويرات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، كلها انحرافات تسهم في خلق عالم متفكك. وحتى الانحرافات الأخيرة يتوجس معلوف من كونها مرتبطة بمسائل هوياتية، فهو لا يرى في إمكانية الرقابة الشاملة «سوى حصيلة حتمية لشياطين الهوية التي تعصف بالعالم، والتي عجزنا عن ترويضها» (ص 300).

ويتأسف معلوف عن عدم وجود سلطة سياسية ومعنوية يمكنها أن تعيد البوصلة للبشرية في أظلم أيامها وتجعلها تتجاوز تلك الانحرافات. هذا الدور الأبوي الذي كان يمكن أن تضطلع به الولايات المتحدة الأمريكية لعدة اعتبارات، من بينها أنها دولة تقوم على تعايش الكثير من الإثنيات وكونها أكبر دولة اقتصاديًا وعسكريًا، كما أنها الدولة التي تعطيها انتصاراتها التاريخية الكبرى الحق في ذلك: الحربان العالميتان الأولى والثانية ثم الحرب الباردة فيما بعد. لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تستطع النجاح في ذلك، «فخلال العقود الثلاثة التي أعقبت انتصارها وتتويجها، أظهرت أنها عاجزة عن تحديد نظام عالمي جديد، وعاجزة عن إرساء مشروعيتها باعتبارها قوة أبوية» (ص 271).

في المقابل، يرى معلوف أن أوروبا أحق بهذا الدور، إذ إنها كانت مهدًا لحضارة الغرب، ثم إنها المنطقة الوحيدة تقريبًا التي «لقن التاريخ شعوبها، وسط الآلام في أغلب الأحيان، دروسًا ثمينة» (ص 300). فدول أوروبا التي أراق بعضها دماء بعض، تمكنت من تجاوز ذلك، ولم تعد اليوم توجد خطوط تفصل بين أعداء الأمس. لكن انطلاقتها غير السديدة كمنطقة تبادل لا كدولة اتحادية موحدة الاقتصاد والسياسة سيحول دون ذلك.

من جهة أخرى، إن الانحرافات التي ذُكرت أو حتى لم تذكر هي ممكنة الحدوث، وفي ظل تيه الشعوب وتفكك العالم، يخلص معلوف إلى أنه «ليس بمقدور أي بلد أو أي مؤسسة أو أي نظام قيم أو أي حضارة، اجتياز هذه الاضطرابات والبقاء بمأمن من الأذى» (ص 312).

خاتمة

يتبين مما سبق أن كتاب غرق الحضارات يمثل امتدادًا لكتابين سابقين: الهويات القاتلة واختلال العالم. وعلى الرغم من مسألة  الهوية وما يتبعها من تمزق في العلاقات الاجتماعية بين أبناء البلد الواحد، فما بالك بالبلدان المختلفة، إلا أن معلوف يبدو متحيزًا في معالجته لهذه المسألة، فهو من أقلية ضمن أقلية في بلد تغلب عليه الطائفية، لذلك يصبح شرعيًا أن نتساءل عن موضوعيته وعن مدى صلاحية حججه ونتائجه بخصوصها، حتى وإن أعلن أنه يتناولها بموضوعية.

وليس من الطبيعي ولا من العادل أن نلقي باللوم على العالم العربي والإسلامي على المآسي التي تشهدها البشرية اليوم. وهو ما عمد إليه معلوف في أكثر من مناسبة، وكأنه ينأى بنفسه عن ذكر واقع أن أغلب ما يحدث في المنطقة، من اضطرابات سياسية ونعرات طائفية ودينية، وحتى أعمال عنف، قد تم التخطيط له في مخابر أجنبية وتم تنفيذه بمعية أجهزة استخبارات أجنبية.

رغم ذلك، يعَدّ كتاب غرق الحضارات دعوة إلى الاستيقاظ على المستويين العربي والعالمي. على المستوى العربي هو دعوة إلى نبذ الانقسامات والمصالحة مع النفس والغير، ومعالجة أسباب التراجع والتخلف من جذورها، والسعي للحاق بركب الحضارة. أما بالنسبة إلى الغرب فهو دعوة إلى التمسك بالقيم الإنسانية الكونية التي طالما دعا إليها، وتحمل مسؤوليتها القيادية تجاه شعوب الأرض الأخرى خدمة للبشرية جمعاء.

وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى ضرورة التعامل بنوع من الحذر مع الترجمة العربية، فبعض الأخطاء قد تغيِّر من معنى الكلام تغييرًا تامًا، مثلًا في الصفحة 236 تظهر عبارة «العالم الغربي» لكن الأصح هي «العالم العربي»، وفي الصفحة 246 عبارة «في بلدي الأم» لكن الأصح «في بلدي بالتبني».