لاح عند منتصف القرن العشرين وميض مشروع نهضوي عربي، كان بالفيزياء شهاباً لمع لعقد ونصف العقد ثم انطفأ، وفي الميتا – فيزياء رسالة مستقبل لا تنطفئ.

الحديث عن حقبة 1955 – 1970، وعن رسالة حامل هذا المشروع: جمال عبد الناصر.. وهل هما حقاً راهنيا الدلالة؟ وكيف يكون تنزيل خضرة نهجٍ على أرض يباب، إن كانا؟

نقطة البدء هي أن مشروع عبد الناصر كان المحاولة العربية الأولى – منذ سقوط الخلافة العثمانية – والأفعل – لكون ندائه عابراً للحدود بين شعوب الأمة وفوق رؤوس حكامها – لنهضة جادّة، فخصّته الريادة والشمولية بوزن نوعي لم يُتَح لسواه ممن جايله أو لحقه… ودونما انتقاص من قدْر.

من يعُد بالنظر إلى مطلع الخمسينيات سرعان ما يدرك أن حال العرب يومها لم يكن بأفضل مما اّل إليه اليوم، هناك تجمعت: نكبة الاحتلال الإحلالي الاستيطاني الصهيوني لـ 78 بالمئة من فلسطين، الاحتلالان: الفرنسي للمغرب العربي الكبير، والبريطاني للسودان والخليج العربي وجنوب اليمن… القواعد العسكرية الناتوية في مصر والعراق والسعودية وليبيا… تبعية معظم الرسميات العربية للاستعمار أو تغلغل نفوذه في شؤون أقطارها… حزام الأطراف التبعوية: تركيا الناتوية وإيران البهلوية وإثيوبيا الهيلاسلاسية، ناهيك باستعمار أوروبي لأفريقيا القارّة… وانفراد الغرب، سواء إمبراطوريتاه التقليديتان: بريطانيا وفرنسا؛ أم الصاعدة الكاسحة: الولايات المتحدة، بمصائر المنطقة في وجه تناءٍ سوفياتي عن الاقتراب من محاذيرها… وملكية الأجانب والمتوطنين للموارد والمرافق والشركات في جلّ الأقطار، وفي الرأس بترول بعضها المنهوب.

الصورة الآن تنافس تلك بشاعةً، لكن قسماتها أشد تعقيداً وأعسر تفكيكاً: فقد عاد الاستعمار المباشر في العراق والخليج والصومال وليبيا، وجزئياً في سورية، عبر ما ينوف عن ربع القرن المنصرم… وصارت سماء العرب مستباحة لأسلحة جو الناتو وإسرائيل بالطول والعرض… وانبثت قواعد الناتو فوق أرضهم ومياههم… وتحول المكتوم من تبعية رسميات عربية للمتروبول إلى مبعث فخار لها وتباهٍ بتماهيها معه… بل ولم يعد ما لزم في سالفٍ من صلة وصل مع إسرائيل تابو يُجتنب بل طبيعياً كرشفة قهوة… واستولِدت من رحم التبعية طبقة نيو – رأسمالية أضحت وكيل الناهب الدولي وممثل مصالحه في «أقطارها».. وانحبست المنطقة في شرنقة منظومة الرأسمالية العالمية ونواميسها الهيمنية، سواء لجهة تدوير الرساميل في أوعية الغرب الدولارية، أم تسعير منتوجها بالدولار، أم خضوعها لتعليمات صندوقه وبنكه ولآلية سويفته… وأُجهض تطور مجتمعات العرب الى سوية الدولة تحت وطأة مفعولي النهب الخارجي والتجزئة القطرية.

طيّب، كيف لاستحضار رسالة المشروع الرائد أن يعين في ترشيد سبل الخروج من جبّ النكوص الراهن، مشفوعاً بالانتفاع من دروس نكسة محاولته الأولى؟

أولاً ما يجد المرء أمامه هو انحباس الكل في شرنقة المنظومة الرأسمالية الأمريكية … تعود بنا الذكرى إلى واقعتين: مؤتمر عدم الانحياز الثاني في القاهرة – 1964، ودورة الجمعية العامة للأمم المتحدة – 1977. تقدّم عبد الناصر في الأولى، ولحقه هواري بومدين في الثانية، برؤية شاملة عن انتصاف حقوق عالم الجنوب من عالم الشمال. وها نحن الآن ما زلنا أبناء السبيل ندور في ذات المجرّة، وبعزاء صحبة حتى الأقوى والصاعدين. استئناف المشروع يعني أن يشكّل رافعة لاجتماع كل ضحايا «المنظومة» على كسر هيمنتها واستفرادها بحيوات كل والقوى الأقاليمية من أبى الإذعان. يأخذنا ذلك الى ضرورة التشبيك مع القوتين تحت – الكونيتين فوق – الإقليميتين: روسيا والصين، الوازنة: تركيا وايران وباكستان وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وإثيوبيا والبرازيل، بغية تدشين، والتدثر بترسانة صدٍ فنفاذٍ الى أساكل الاستقلال الحقيقي للإرادة والاقتصاد والسياسة.

ثانياً ما يواجهه استئناف المشروع هو النكوص التنموي الفادح الذي لحق بعالم العرب عبر نصف القرن المنصرم، والذي شمل تفكيك دولة الرعاية، وسطو الكومبرادور المركنتيلي التابع لـ «المنظومة» على المقدّرات، ونهب القطاع العام لصالحه، والخضوع لوصفات صندوق النقد الدولي المدمّرة، ووصول الاستقطاب الطبقي إلى ذرى لا تدع إلا لانفجار الفوضى مطرحاً. استئناف المشروع يعني تسييد نهج «الكفاية والعدل» ووسيط التخطيط ومفهوم تكافؤ الفرص ودور دولة الرعاية.

ثالثاً ما لا تخطئه عين العازمين على استئناف المشروع هو استرداد فكرة العروبة من يد من يحاول زيفاً وبهتاناً رفع بيرقها، لا في وجه الهيمنة وفي طلب الوحدة، بل خدمةً لائتلافه الصريح مع إسرائيل ولاستماتته في نيل بركة المتروبول حتى يخوضوا معاً معركة «استرداد» إيران. والحال أن العروبة لم تكن، منذ حرب السويس وما فتئت، إلا الهدف الذي صوّب عليه هؤلاء ضرباً وإيذاءً… ثم إنها ليست وصفة احتراب مع المحيط غير العربي، بل هي على العكس تستقوي بهم على من يريد بالجميع شراً. والشاهد أن لا نظام رسمياً عربياً قائمٌ الآن؛ أمرٌ بمقدار ما يعني فراغ ناظم يفتح على فرصة تفلّت من تابع، إن أُحسن اهتبالها.

رابعاً ما ينبغي استقلابه وهضمه بجلاء هو أن القوة الكونية الأعظم – الولايات المتحدة الأمريكية – تعيش الآن مرحلة تحول مهولٍ من منفردةٍ بعرش الكون لعقود ثلاثة، ومحتكرة لثلثي حيّزه لنصف قرن قبلها، إلى مصابةٍ بانفصام شخصية شاطرٍ ما بين نسل السابقين وبين المستجدين من قابضين على ناصيتها باضطراد، والذين يرَون سيرة الأوّلين جالبةً لمضارّ للإمبراطورية بأكثر مما هي اّتية بمنافع لها. عند الأخيرين أن عولمة ربع القرن المنصرم قد استنفدت أغراضها وغدت عبئاً على مطلقها صاحب الدعوة ذاته… وأن تأبيد الواحد والعشرين أمريكياً يتطلب التملص من تبعات الانفلاش عبر – القاري، والاتكال على تعظيم تظاهرات القوة دون الخوض في استعمالها، والسعي بتذاكٍ إلى وأد تنامي منظومة صدٍ عمادها ائتلاف روسيا والصين، والتركيز على البطش بالإسلام المحارب بطبعتيه: الجهادية – ببعدها الكوني -، والمحلية/الإقليمية (السنية منها والشيعية).

خامساً ما يتوجب حسبانه واحتساب نتائجه هو تبدّل طبيعة العلاقة بين «المركز» و«الأطراف».. ولعل ماجريات الصراع بين – الأمريكي، ونمط العلاقة بين طرفيه وبين ما كان وما فتئ من حلفاء إقليميين، جدير بتبيين فاحص؛ إذ تطورت جدلية المتن والهامش إلى دخول «طرف» أو أكثر على نسيج «المركز» متبنياً أحد جناحيه المصطرعَين، في طلب أن يتبناه في المقابل… ليس حامياً فحسب؛ بل ومتبيناً لمراميه في إقليمه، بل وصار صلة وصل بين «جناحه» في المركز وبين قوة دولية أخرى، لهذا الغرض أو ذاك.

إذاً، فقد فسحت العلاقة التقليدية للمتروبول بالأطراف السبيل إلى طبعة جديدة، فيها من التأثر ما يقلّ، ليس كثيراً، عن التأثير. لكن ما ينبغي عد إغفاله أو التهوين منه هو أن الجناح الآخر من «المركز» ينظر إلى تبارز دور الأطراف، نصرةً لخصمه في الداخل، شذراً، ويتحين فرصة «تهذيبه» متى استعاد الحكم من «مستلبيه» – هذا إن استطاع.

معنى ذلك كله هو أن في التبدلات الفريدة لطبائع وهياكل وتحالفات القوة الأعظم كـلاً من خطر ومن فرصة… لجهة استئناف المشروع.

سادساً ما في البال دوماً وينبغي، هو كون أن أمة من 400 مليون ونيف لا بد تحفل بتناقضات بين – قطرية وداخل – قطرية وبين – فئوية .. هي لا تقلّ عن ثانويةٍ غالباً، ولكنها تقلّ عن تحت – رئيسة أكيداً. الحديث هو عن «المسائل» الكردية والمذهبية في المشرق، والأمازيغية في المغرب (سبق وتناولت الأولى والثالثة بإسهاب في عددين سابقين من المستقبل العربي). والحال أن تقديم إجابات شافية – تزاوج الحرص بالاستيعاب – لهذه المسائل وتهتدي بأبجديات الأمن القومي العربي، كما تحترم الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجموعات الفرعية، هو من شرائط استئناف المشروع اللازمة.

سابعاً، فمن أوجب الواجبات حسنُ تقدير موازين القوة.. والشاهد أن أفدح أثافي مشروع عبد الناصر كان اختلالها – الموازين – الجسيم لصالح المتربصين به، سواء موضوعياً – وهو الأثقل – أم بالتبديد ذاتياً. لذا فتغليب المشترك على المفرّق في قضايا الدواخل العربية، ووضع شرطي الانحطاط: الهيمنة والتجزئة بثباتٍ على مرمى هدف أصحاب المشروع، والسعي الى قواسم مع المحيط، والتشبيك قارياً مع المتأذين من الهيمنة… كلها وصفات صون وتمكين لاستئناف المشروع.

ثامناً، فبين الكوني والقومي جدلية فيها من التدافع بمثل ما لديها من التكامل، حتى ولو كان الأول مقدساً والثاني زمنياً … الحديث هنا بالتخصيص عن العلاقة بين العروبة والإسلام. تفيد هنا نظرةٌ على التجربتين الإيرانية والتركية عبر العقود الفائتة لترينا كيف أن تصالحهما مع الفكرة القومية كان، في قليل أو كثير، أمراً غير خلافي، وهو ما حمى الفضاءين من شرارات ارتطام نيازك هذا بشُهب ذاك. والشاهد أن ذلك لم يكن حال الإسلام السياسي العربي منذ عام 1955: لقد تصرّف على أساس صفري حتى عام 1990، أي لثلث قرن، ثم استأنف ذات النهج منذ 2011، بعد هدنة طالت لعقدين. والثابت أن «زمنيي» إيران وتركيا لم يكونا على سوية براغماتية إسلامييهما تجاه العلاقة. ورغم ذلك، فلم يكن الاحتراب الدموي والنفي الصفري سمة التعامل، كما هو الحال عربياً.

ما أهمية هذا السرد؟ أن التساكن ضرورة معاشٍ لمجتمعات تدين بالإسلام، عقيدةً أم ثقافة، وتنتمي للعروبة هوية انتماء وضرورة بقاء ونماء. وليس من مكان لذهنية «إما أو»، ولا لاستسهال اليد محلّ اللسان. ثم إن حيّز كل من المناطين لا يحتاج أن يفتئت على الّاخر، طالما مبدأ مدنية الحكم حاكم، وهو ما يدرأ سطو أحدهما على الآخر، بل ويكفل انتعاش قوى تجديدٍ تنبثق من داخل حياض الصرح الديني أو حتى حوافه، لا مفتعلةً من حاكم أو متماهيةً مع خارج.

وفي عموم، فإن وشيجة اللغة بذاتها صلة وصل بين العروبة والإسلام لا تتوفر أية قومية سواها، ناهيك بالفرشة التاريخية – الحضارية يبسط ملاءتها على سديم الشرق في كل حين. من ثمّ، فالحديث عن فصم عرىً، شرطاً لحداثة أم موطئاً لعصرنة، مفضٍ لا ريب إلى حروب دونكيشوتية لا طائل من تحتها إلا الخراب.

استئناف المشروع إذاً يتطلب بين ركائزه علاقةً صحيةً بين طقسَي العروبة والإسلام، لا تضعهما واحداً في وجه الآخر بل في بيت من منزلين. أما أن يُنصب كمين تاريخي للعروبة بتتفيهها عقَدياً، بالجهل كان أم بالتواطؤ، أو أن يُفتعل تهميشٌ معادٍ للإسلام ملتحف بغطاء العروبة، هو من نسل سلالة التغريبية – المركزية، فمما ليس فيه إلا ضرٌ بالعروبة وضرر للإسلام.

تاسعاً، وتِبعاً .. فلقد صار من لزوم ما يلزم أن يرعى استئناف المشروع مقاربةً شجاعةً وحاسمة للمسألة المذهبية، التي انطلقت من عقالها في إثر احتلال العراق وبلغت حداً فوق – مدمّر عبر سنوات الزلزال العربي. والثابت أن عروة العروبة داخل كل قطر، وليس بينهم فحسب، هي عاصم وحدته وملاط نسيجه الرئيس، وإلا تحلّ محلّها الروابط القرابية بحمولتها العصبية وتمايزها الملامس للتمييز. كيف إذن لهذه العروة، التي أذبلت أزاهيرها حقبة ما بعد كامب دايفيد، أن تتبرعم من جديد نافحةً طيْب التوحد في كل قطر؟ بالدعوة والقلم واللسان والتواصل والإعلام والكتاب والفنون؛ أي بصنع رأي عام حاضن ومستعيد للعروة، لا بوصفها رومانساً ماضوياً جميـلاً ولا بالمقابل عصفاً مستبداً مغامراً… بل هوية انتماء وضرورة بقاء ونماء.

عاشراً، فكما كسر الإسلام المحارب (الجهادي منه أم نظيره) حدود «سوراقيا» العربية المصطنعة فمن باب أولى أن يكون ذلك دأب أولي العزم من أصحاب المشروع، لا أن يعالجوا جائحةً عصفت بالحدود بإعادة تكريسها ومحاولة تأبيدها. الحديث هنا، في خصوص، عن سورية والعراق… إذ إن «سيامية» أحوالهما – منذ التأسيس – لا تدع بديـلاً من ضرورة توحدهما، وفق كل تجليات «الجيو – ..»، من سياسية واقتصادية وطاقية ومائية وديمغرافية وإثنية ودينية…

والحال أن «فشل» «دولة» – ما بعد الاحتلال في العراق، فضـلاً عن خروج سورية من وهدة حرب السنوات الثماني مثخنة الجراح، تجعل من المفترض منطقاً – منذ قرن – ضرورة حياة الآن.

إن استئناف المشروع يجب أن يلحظ مركزية السعي لوحدة الشطرين في عاجل وقت، ولا سيَّما أن المناخين – الإقليمي والدولي – متيحان بقدْر، ولو بالسلب عن الإيجاب.

نحن الآن عند عتبةٍ من التاريخ فيها من الوعد ما يزاحم ميراث النكوص؛ وما اجتماع صلابة الإرادة واستدامة حسن قراءة موازين القوة إلا شرطا وثبة واثقة إلى الأمام تستأنف المشروع.