مبتدأ

إلى أي مدى توجد طبقة وسطى في عُمان؟ وجوداً تنطبق عليه معايير البناء الطبقي والتكوين الاجتماعي وفق الأطر النظرية والتجارب التاريخية، سواء ضمن النظريات الماركسية والاشتراكية أو التراكمات المعرفية للرأسمالية الحديثة؟ إلى أي حد هي طبقة؟ وإلى أي مدى هي وسطى؟ وهل من الموضوعية أن نصنف مجتمعاً لم يحلل كما ينبغي علاقاته بوسائل إنتاجه؟؛ لم يناقش أسباب عدم ولوجه للطور الصناعي بعد؟ ولم يوثق ريادته التجارية التي أملاها عليه الموقع الجغرافي؟ لا من ناحية الحجم ولا من جهة الأثر – أكثر من تمثلات عن مجد غابر وماضٍ تليد تصنعه خطابات إعلامية وتضخّه كلما احتاجت لذلك، لا تذهب أبعد من دغدغة المشاعر ومزاهقة الخيال؟ حتى المرحلة الزراعية الموسوم بها هذا المجتمع منذ القدم – لم تفكك تناقضاتها كما تستحق؟ ولم تدرس كما يليق بالجهد الكبير الذي بذله الإنسان في عُمان من تطويع للطبيعة وفهم لصعوباتها والتصالح مع شحها وسخائها؟ لا خيرات الأرض ولا خيرات البحر التي عاشت عليها البلاد مدة طويلة من فترات تاريخها – نالت ما يكفي من دراسة وتحليل وفهم لمصلحة الأجيال القادمة، لا في أطوار الوفرة ولا في مراحل الندرة؟ ولم يأخذ المجتمع وقته ولا حريته في بسط عواقب نموذج الدولة الريعية المرتكزة على مصدر وحيد، والتمتع بنعمة النفط؟ ويضرب صفحاً عن نقمته؟ دون الانتباه، أو حتى الاكتراث، للمزالق الوخيمة والمآلات الكارثية التي تفتتحها الدولة الريعية بوعود السعادة والرفاهة وتختمها الدولة الرعوية، بعد حين قصير جداً بفعلها للسيطرة والتحكم؟

أليس من الأجدى التمييز بين مفاهيم مثل: متوسطو الدخل، والطبقة الوسطى، والفئة الميسورة، ليتسنى لنا الاقتراب من مفهوم أكثر ملامسة لواقع الحال، بدلاً من الوقوع في تعميمات فرضتها المناهج الغربية وأملتها سلطة تفوُّقها المعرفي؟ هل يكفي أن نقيس تأثير هذه الطبقة أو الفئة أو الجماعة أو الشريحة بالعدد المعلن من المتعلمين وأصحاب الشهادات الرسمية؟ هل حصص الفرد من الدخل القومي كافية للتعرف إلى حقيقة دور هذه الفئة في المجتمع؟ هل نوع المهن والوظائف وأعداد المنتسبين إليها قادر على تأطير هذه الفئة والتنبؤ بدورها داخل الشكل الحالي للدولة، ومع واقع المجتمع بتناقضاته الواضحة والمستترة والعلاقة المعقدة بينهما – المجتمع والدولة – في ظل سؤال أيهما أوجد الآخر؟ وأيهما التابع وأيهما المتبوع؟ ما قيمة كل هذه الأرقام والإحصاءات إذا ما علمنا أنها تصدر من أجهزة مركزية لديها السلطة والكفاءة في حجب الأرقام الحقيقية وإطلاق تقديرات موجّهة لكي لا يطالبها الإنسان – مواطناً كان أم مقيماً – بأي واجبات أو التزامات تفرضها سلطة قول الحقيقة والعمل لأجلها؟ ثم ماذا عن شُح الأدبيات والمراجع المعتبرة والمتخصصة في سبر وتحليل ودراسة المجتمع العُماني وطبائعه الاقتصادية والاجتماعية عبر التاريخ، المنشور منها على وجه التخصيص، ألا يعتبر هذا العامل مدعاة لإعادة النظر في ارتياد مقاربات جديدة، واقعية، بلا مبالغات، ومن دون إسقاطات نظرية جامدة، لفهم فاعلية هذا المجتمع وطبيعة حراك أفراده ومكوناته؟

ستحاول هذه الدراسة مقاربة واقع الفئة المتوسطة في عُمان، من خلال أهم ما تتميز به من ملامح من حيث القياس والنشأة والدور. ثم ستعرّج على التحديات الظاهرة، وعلى المآلات الناجمة من إهمال هذه التحديات، وبخاصة مع تراجع النفط على مستوى القيمة والمكانة. ستنطلق هذه الورقة في قراءتها من الأرقام الرسمية المعلنة للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات، إضافة إلى تقارير التنمية البشرية في عُمان، وتقارير الأمم المتحدة. ورغم التحفظ على الأرقام الرسمية، التي لا تعبر عن حقيقة الواقع المعاش ولا تعكس تحوّلاته العميقة، إلا أنها تبقى الحد الأدنى المتاح أمامنا، ظاهرياً على الأقل، لكي لا نُفرط في الأحكام المسبقة، ولا ننساق لفخاخ التخمينات غير المرتكزة على مؤشرات تحترم لغة العلم وتقدّر منهجه في التحليل.

أولاً: في مفاهيم الطبقة والتوسط

لا يزال مصطلح «الطبقة» عصياً على التعريف الجامع، المانع، النهائي؛ حيث سؤال الطبقة جدلي، متجدد، مشحون بتجارب الإنسان في تدبير شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذا، ليس بالمستغرب انشغال علماء الاجتماع زمناً طويـلاً في البحث عن تعريف شامل ودالّ للطبقة. وليس من العجب في شيء الانتباه الذي أولاه الكثير من الفلاسفة ومؤرخي التطور الحضاري للبشرية بالجماعات التي تتوسط معمار المجتمع والدولة. هذا الانتباه الباكر يُدلّل على محورية هذه الفئة ودورها الجوهري في حفظ التوازن واستدامة الخير العام، في رعاية العدالة وتذليل الفوارق بين البشر. كما يعكس الخطورة المتحصلة من إهمال وتهميش هذه الفئة وتعريضها للتآكل والانكماش، بقطع النظر عن تعريفنا وتحديدنا ونظريات قياسنا لها، سواء على مستوى الكمّ أو على مستوى الكيف، على مستوى الأثر أو مستوى التأثر. إن الجدل الحاصل في هذا المقام إنما هو في: الحدود لا في الوجود، حيث لا خلاف في الثانية بقدر ما هو اختلاف لفهم الأولى.

مثالاً لا حصراً؛ يناقش أرسطو في مرحلة مبكرة، في أبواب الرزق، الفوارق بين «فن الاقتناء» وفن «الكسب»، أيهما طبيعي وأيهما «مغاير للطبيعة» وفق ظنه. ثم يُفصّل الاختلافات النابعة من التفضيلات التي توّلدها الثروة، وكيف تتسبب هذه التفضيلات في الصراع، الذي هو في الأساس ليس أكثر من تضارب في المصالح بين المجموعات الأغنى والأفقر. يشير أرسطو هنا إلى دور الفئة الأوسع التي تتوسط «أهل الاقتناء» و«أهل الكسب»، الأغنياء والفقراء، وكيف باستطاعتها أن تُخفف من غلواء «حشد المال» وتُبقي الدولة مستقرة أطول فترة ممكنة‏[1].

أما آدم سميث صاحب ثروة الأمم فتحدث بإسهاب عن الطبقات المختلفة التي تولّد الثروة في كل بلد، محدداً «أوسط سلم الثروات» الذي يتكون من: أصحاب الأراضي والمزارعين والعمال والمصنعين والحرفيين والتجار.

في هذا المقام لا يمكن تجاوز إسهام كارل ماركس في دراسة وتحليل التاريخ الإنساني، الذي هو «تاريخ الصراع الطبقي» في أساسه، بحسب نظريته، موضحاً التناقضات الداخلية والخارجية للنظام الرأسمالي، تناقض المصالح بين أقلية تملك وتحتكر الثروة والمال وفئات عاملة تُحرم فوائض القيمة المتأتية من عرقها ومجهودها البدني والذهني. الأمر الذي يقود إلى اشتعال الثورات داخل البلد الواحد ونشوب الحروب بين الأمم المتنافسة للاستحواذ على الخيرات والموارد. يرى ماركس أن الطبقة عبارة عن جماعة تنجز ذات العمل، في سياق عملية الإنتاج، تتمايز هذه الجماعة وفق موقعها في هذه العملية، كما يعدّ الملكِية محدداً رئيساً لنشأة الطبقة، ومن ثم نوع العمل وتقسيمه كمحدد وسيط تتحدد معه الأفكار والمعتقدات وبالتالي السلوكيات والخيارات في الحياة. إلا أن ماركس نفسه يشترط في مسألة الطبقة ما أسماه »الوعي الذاتي» لتكون قادرة على إدراك وجودها، في الأساس، ومن ثم نجاحها في إحداث نضال سياسي واقتصادي واجتماعي ينشد تغييراً جذرياً لواقعها. وهنا تتضح محورية الفهم المشترك الذي تصله الجماعة/الطبقة لذاتها، وقيمتها الموضوعية التي تتحصل عليها سواء من طريق تلك الأحاسيس المشتركة التي تكوّن موقفها تجاه أوضاعها الاجتماعية والسياسية، أو من خلال التفاعل مع الظروف المحيطة واستيعاب تناقضاتها الناتجة من عملية الإنتاج‏[2]. ثم جاء ماكس فيبر بتعريف أكثر اتساعاً لفهم الطبقة، حيث عرّفها بـ «جماعة من الناس لديها فرص الحياة نفسها (الدخل والملكية والتعليم… إلخ) كما تتحدد من خلالها قدرة الأفراد على اقتناء السلع والحصول على مختلف الخدمات. وتعد الملكية في هذا التصور رصيداً طبقياً، وإن لم تكن المعيار الوحيد المحدد للطبقة الاجتماعية. ويعتقد فيبر أن العلاقات الاجتماعية بين الطبقات تتحدد من خلال التفاعل بين الأفراد المتباينين اقتصادياً في إطار السوق، بينما تتحدد المكانة من خلال التفاعل بين الأفراد المتماثلين في المستوى الاقتصادي. وعلى الرغم من وجود صلات عديدة بين الأفراد المتباينين في مكانتهم، إلا أن ذلك لا يجعلهم في مكانة واحدة. وبذلك يميز فيبر بين الطبقة والمكانة على الرغم من الصلة الوثيقة بينهما؛ فالأفراد «قد يحتلون مكانة اجتماعية عالية في المجتمع، إلا أنهم يحتلون أوضاعاً طبقية دنيا»‏[3]. أما داهرندورف فذهب إلى التمايز بين الطبقة والشريحة‏[4]. فالطبقة وفق تحليله هي «فئة تحليلية» تعبر عن تجمعات بشرية تظهر بفعل ظروف بنائية خاصة، تتكون على أساس المصلحة المشتركة. أما الشريحة فهي فئة وصفية من الناس لها أوضاع متشابهة بالإمكان تمييزها من خلال مؤشرات ظاهرة كالدخل والمنزلة وأسلوب الحياة.

عربياً؛ اشتغل العديد من المفكرين العرب على مقاربة مفاهيمية للطبقة، حيث يربط خلدون النقيب تركيب الشرائح الطبقية الاجتماعية بعوامل محددة، من أهمها: «أنماط الطلب على المهارات المهنية، وهي أنماط تقررها القطاعات المسيطرة على الاقتصاد. إن إعادة تنظيم الاقتصاد، وفق تحليله، ينتج منه تحولات في تركيب الشرائح الطبقية»‏[5]. لذا، نجد تأثر مفهوم الطبقة بالوجه الذي تبنته، أو فرضته، الأنظمة الحاكمة على المجتمعات العربية، الأمر الذي أدخل طيفاً متنوعاً في ارتباطاته الاقتصادية وانتماءاتها الاجتماعية وأصوله التاريخية عند مقاربة مفهوم الطبقة الوسطى العربية. حنّا بطاطو‏[6] مثـلاً مدّ في تعريفه للطبقة الوسطى إلى حدود بعيدة، حيث رأى أنها «تلك الفئات ذات الطبيعة المركبة (أو المزدوجة) التي تتعدد وظائفها، ولكن يجمع بينها احتلالها موقع أو مكاناً وسطاً بين هؤلاء الذين لا يملكون وكبار الملّاك، وهذه الفئات تضم ضمن ما تضم من عناصر وفئات: «ضباط الجيش وموظفي جهاز الدولة وأرباب المهن الحرة، والتجار وملاك الأراضي المتوسطين». أما البعض فقد حرص على استبعاد «الصفوة البيروقراطية والسياسية والعسكرية صاحبة النفوذ الأعظم»‏[7] من هذا التعريف الرحب.

خليجياً: يرى حسن مدن أن لهذه الشريحة دوراً مؤثراً في حراك المجتمع وبناء الدولة كونها «شكلت رافعة لقيم وسلوكيات الحداثة وحامـلاً للإبداع الثقافي والفني، فضـلاً عن دورها في جهاز الدولة والبنى الإدارية عامة»‏[8]. في المقابل، فرّق فيه توفيق السيف بين تعريف ذوي الدخل المتوسط وتعريف الطبقة الوسطى؛ فتعريف ذوي الدخل المتوسط «مضمونه اقتصادي بحت، يتعلق بمستوى المعيشة. أما «الطبقة الوسطى» فهو وصف سوسيولوجي لتلك الشريحة التي تجاوزت حد الكفاف، وأصبح بوسع المنتمي إليها تخصيص بعض وقته لنشاطات لا تتعلق مباشرة بتدبير المعيشة، مثل النشاطات الثقافية والترفيهية والمشاركات الاجتماعية..»‏[9]. بيد أن باقر النجار قاربها بصورة أكثر اتساعاً ومرونة عندما وصفها بأنها «فُسيفساء اجتماعية مشتتة الأدوار» من حيث إنها «جماعة كثيرة العدد، متنوعة الأهداف والنوازع والمسالك والقيم. وهي الفئة/الجماعة الأكثر حضوراً من حيث الكم والكيف في أوساط السكان المحليين في مجتمعات الخليج العربي»‏[10].

إذاً؛ يتضح لنا جلياً التباين في تعريفات الطبقة الوسطى بين: مؤشرات كمية، ذات أثر سريع وواضح، في مدد زمنية قصيرة: كحجم الاستهلاك ومستويات الدخول، فدخل الفرد يعطي مدخـلاً عاماً يدلل على تصنيف هذا الفرد، ولأي طبقة اجتماعية ينتمي، ومن دخل الفرد بمقدورنا ربط متوسط دخول الأسر ومستويات استهلاكها للأساسيات من غذاء وسكن وكساء، وما يفيض عن ذلك للصرف على الترفيه والسفر. وبين مؤشرات نوعية، عميقة الأثر، لا تظهر إلا بعد مراحل زمنية أطول، لكنها تقارب مفهوم الطبقة الوسطى بصورة أكثر فاعلية، تُلمس من طريق مؤشرات مثل التعليم، ونوعية العمل، وحجم الأسرة، ونوعية السكن، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية، ومستوى الانخراط بفاعلية في مؤسسات المجتمع المدني.

ثانياً: عُمان: مسألة الطبقة ومُساءلة الإنتاج

1 – في التجربة

ماضياً: عُرفت عُمان منذ القدم بأنها بلد تجارة لتوسط موقعها على المحيط النشط، ذي الحراك الحضاري القديم؛ المحيط الهندي. مرّ عليها طريق الحرير الشهير، صدّرت موانئها معدن النحاس الفاخر الذي كان مصدره جبالها الغنية، ووصل خام اللبان العطري الذي كان يستخرج من أشجار نجود وسيوح ظفار إلى معابد وقصور حضارات سومر وآكاد في بلاد ما بين النهرين والحضارة الفرعونية في وادي النيل. كما مارس الإنسان في عُمان مهنة الزراعة وصيد الأسماك منذ أن استوطن الأرض، وأبدع لأجلهما تقاليد ظلّت راسخة ومتوارثة ومحفوظة حتى وقتنا الحاضر: نظام ريّ نادر عُرف بـ «الأفلاج»؛ اجترحه من ينابيع الماء العذبة من بطون الجبال، وقواعد للصيد وتوزيع الحصص أسماه «سنن البحر»، ضَمن كلاهما الاكتفاء والدقة لكل من يمارس هذه المهن ويعيش عليها طوال حقب مديدة. إذاً، يمكننا القول بأن مهن الزراعة والصيد والتجارة مثّلت الإطار الاجتماعي والاقتصادي لسكان البلاد مع فترات انتعشت فيها صناعات وحرف، بحسب أوقات الرخاء والاستقرار أو الحروب والصراعات، كالنسيج وصهر المعادن وصناعة السيوف والخناجر والدروع. وهناك العديد من الأدبيات التاريخية الوصفية التي تتحدث عن أشكال الأنشطة الاقتصادية للسكان إلا أن عمان «مشهود لها بعدم وجود تقسيم طبقي مُعلن». هنالك الغني والفقير‏[11]، وهناك تصنيفات اجتماعية تتكئ على تمييزات وفق أسس في مجملها ليست بحسب النشاط الاقتصادي أو المهني أكثر منها تراكمات اجتماعية‏[12]، سياسية، تاريخية، وفق جدليات الصراع والغلبة من قبيل: الأصل/العرق/القبيلة (عربي [قحطاني، عدناني]، غير عربي [أفريقي، فارسي، هندي)، اللون [أبيض، أسود، آخر]، الدين/المذهب [مسلم (سني، شيعي، أباضي)، هندوسي، يهودي، مسيحي). وغني عن القول في هذا المقام حاجة هذا الحقل إلى مزيد من البحث والدراسة وتتبع تاريخانية المهن والوظائف والأدوار التي أدّتها في تصنيف المجتمع العُماني وتشريح طبقاته.

حاضراً: أحرزت عُمان على مستوى دليل التنمية البشرية‏[13]، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقدماً لافتاً. كما ظل اقتصادها يحقق معدلات نمو مضطرد، وصل في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى ما نسبته 6.5 بالمئة، كما أن سجلها في أغلب التقارير الدولية يشير إلى نموها الظاهر، حيث كانت الدولة العربية الوحيدة من 12 دولة حول العالم التي حققت معدل نمو اقتصادي أعلى من 7 بالمئة لمدة 25 سنة أو أكثر‏[14].

بيد أن هذا «النمو الاقتصادي» لم يكن أسطورة عصية على الفهم، بل يعود في مجمله لسبب بارز ومعروف، تشترك فيه جميع بلدان منطقة الخليج العربية ألا وهو النفط. إن المبالغ الكبيرة التي تأتت من بيع هذه السلعة الناضبة وتدويرها في الاقتصاد الوطني أعطى انطباعاً مضلـلاً بالرفاه وبالازدهار الاقتصادي، لأنها في حقيقة البناء الاقتصادي لم تخلق أي قاعدة إنتاجية صلبة، يعوّل عليها، لا من طريق التصنيع، ولا من خلال تطوير الزراعة، ولا ارتكازاً على توسيع التجارة، ولا بفضل تبني خيار نقل المعرفة وتوطينها. النقيض هو الذي حدث؛ ظهرت بصورة واضحة «رأسمالية الدولة»، حيث سيطرت على جميع عناصر الإنتاج من خلال: احتكار الانتفاع بكامل ثروات الأرض عن طريق إنشاء وإدارة أغلب المشروعات الصناعية والتجارية، سيطرت على قوة العمل فغدت هي المُشغِّل الأكبر، واهبةً الوظائف ووعود الرخاء والاستقرار لمن تشاء، واستفردت بمركزية توزيع وإنفاق رأس المال، حيث ضاعفت الإنفاق العام فتضاعفت معه أجور السوق التي لا تعكس الكلفة الاجتماعية الحقيقية للإنتاج.

2 – في الملامح: فئة أكثر من وسطى وأقل من مؤثرة

أوضح إشكال يتسبب به نموذج الدولة الرعوية على النسيج الاجتماعي هو أنماط توزيع الثروة المتأتية من عوائد مصدر وحيد، في الحالة محل الدرس هنا، هو النفط. فهو يربط آليات هذا التوزيع وفق درجات الولاء والاقتراب من رعاة الدولة. في مقابل الامتيازات التي يحصل عليها الرعايا؛ يحتكر الرعاة القرار والثروة، وبدلاً من أن يأتي الدخل من العمل أو الإنتاج أو الابتكار أو المخاطرة، تستفرد الإدارة العامة/الحكومة/السلطة المركزية، التي تمثل الرعاة أو الراعي الفرد، بعملية استخراج الموارد وتوزيع العوائد وتأطير الفوائد.

ونتيجةً لذلك يتوسع القطاع الحكومي على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى. في حالة عُمان مهَّد هذا التوسع لظهور فئتين بارزتين ذات علاقة وطيدة ببعضهما هُما: الموظفون الحكوميون والطبقة الرأسمالية من التجار. من رحم هاتين الفئتين تمثلت بصورة متراكمة مع مرور الزمن ما يمكننا أن نطلق عليها «الفئة المتوسطة» التي هي مزيج سائل يتمدد وينكمش، حجماً ووجوداً، في حدود المنطقة التي تتوسط صورة الواقع المعيشي للمجتمع العُماني. تألفت هذه الفئة من بعض أفراد الأسر الفقيرة في مرحلة ما قبل النفط، أبناء المزارعين والصيادين والحرفيين، ومن صغار التجار وموظفي القطاع الحكومي والعسكري والقطاع الخاص. كما تشمل أبناء الجيل الثاني من سكان الريف والبوادي والجبال، أفراد قبائل استقرت في حواضر المدن العمانية بعدما تبنت الدولة العمانية المعاصرة خيارات التحديث والتنمية منذ عام 1970. كما تشمل هذه الفئة جُلّ من ساهم التعليم في تحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي من المعلمين والأطباء والمحامين والمهندسين والممرضين والصيادلة والمحاسبين.. وغيرهم.

بيد أن الفئة المتوسطة هذه لا يمكن أن نطلق عليها تساهـلاً مصطلح «طبقة» لأنها تتألف من مزيج متنوع من المفاهيم الاجتماعية والقيمية والخبرات، تصل في مجملها إلى عدم الانسجام أو التناسق. ومن باب أولى فإن «الوعي الذاتي» الذي يمهد لأي طبقة صهر أحاسيس مشتركة لصوغ مواقف معلنة ومنظمة تناضل من أجلها لتحسين مكانتها وبسط شروطها، في الحالة العُمانية، على الأقل، إن لم تكن موجودة في الأساس، فإن ظروفاً موضوعية تحول دون تحققها على أرض الواقع.

مركزية السلطة وتمحورها حول نظام الحكم الفردي، القيم الثقافية التقليدية المستمدة من الإرث القبلي، الممارسات الدينية الموصولة بالمذهبية، شكلانية الحداثة السائدة، غياب أو تغييب الثقافة النقدية الداعية لإعادة فهم خصائص الجماعة البشرية التي تعيش في عُمان بظروفها المعاصرة؛ كلها عوامل أوجدت في مجملها قاعدة متينة من اللاتجانس أطّرت سلوكيات وأفكار أغلب من ينتمي إلى هذه الفئة. وهي وإن بدت حداثوية المظهر إلا أنها مقاوِمة لجوهر التغيير والتقدم. بل، ليس باستطاعتها حتى مزاحمة الهويات البدئية، والانتماءات الأساسية، التي يلوذ بها الأفراد والجماعات كالقبلية والمذهبية والطائفية والمناطقية.

غير أننا بالإمكان قراءة سمات وملامح نستقرئها من الأرقام الرسمية المعلنة من قبيل:

أ – اعتماد على السلطة، هدر للمجهود

يتجلى هذا الاعتماد في الأرقام الرسمية للقوى العاملة لعام 2015. فمن إجمالي القوى العاملة في القطاع الخاص هناك فقط 210 آلاف عامل وعاملة من العمانيين من قُرابة مليوني عامل وعاملة يمثلون 13 بالمئة من القطاع الخاص‏[15]. بينما يعمل في القطاع الحكومي 229 ألفاً بلغت نسبة العمانيين منهم 85 بالمئة. انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لكل شخص عامل من 3 بالمئة في عام 2000 إلى 1.8 بالمئة في عام 2014 بسبب التذبذبات الحادة التي أحدثتها مسألة تغيير أسعار النفط المُعتمد عليها الاقتصاد العماني أكثر فأكثر.

تتضاءل الفئة المتوسطة في القطاع الخاص لتبعية هذا القطاع للحكومة في نشاطه وحركته. ولا يقف الأمر عند مستوى الأجور المتدني نسبياً بل يتجاوزه إلى تقلص فرص التطوير والاستثمار في تأهيل العاملين فيه من المواطنين. وهو بذلك يعزز درجات اللايَقين في نفوس منتسبيه، وهو ما يشجعهم على مغادرته سريعاً والبحث عن أي وظيفة في القطاع العام مهما كان راتبها متواضعاً.

كما أثبتت تظاهرات 2011، وما تلاها من فتح الحكومة أبواب التوظيف، أن القطاع الخاص غير قادر على استيعاب المواطنين في وظائف تكفل لهم الاستقرار وتستفيد من قدراتهم لتطوير اقتصاد منتج قائم على أساس الكفاءة والفاعلية. وبدلاً من العمل على تحقيق هدف كهذا اتجه أصحاب رؤوس الأموال وبمساعدة الحكومة إلى مضاعفة أعداد العمالة الأجنبية حتى وصلت إلى أرقام غير مسبوقة. فبعدما فتحت الحكومة مجال التوظيف، تشير التقديرات إلى أن نحو 80 ألفاً من المواطنين استقالوا من القطاع الخاص للعمل في القطاع العام عامي 2011 و2012. إن القرارات اللحظية باستيعاب القوى العاملة الوطنية التي استخدمتها السلطة لامتصاص تمدد الاحتجاجات الغاضبة في مطلع عام 2011؛ عمّقت تأزم سوق العمل على المستوى الجذري؛ فقد انسحبت أعداد كبيرة من المواطنين من القطاع الخاص (الصناعي والحِرَفي على وجه الخصوص)، بل ومن مقاعد التعليم النظامي (المتوسط والثانوي والعالي) للظفر بالفرص المعروضة وبالرواتب الآمنة. غير أن جُل فرص التوظيف، التي عُرضت، وما زالت، كانت في القطاع العسكري والشُرَطي، وهو ما يعني حـلاً سياسياً مؤقتاً وعبئاً مُعقداً على الموازنة العامة أكثر مما هو حل اقتصادي يسهم في إضافة حقيقية في اقتصاد وطني مُنتج. إضافة إلى الكُلفة الباهظة لعسكرة المجتمع وتجميده في الثكنات، بدلاً من تعليمه وتشجيعه على الحياة المدنية بفضاءاتها الحُرة والمفتوحة على الوعي والثقافة.

من الأدلة البارزة على أزمة «الإعالة» هذه: أن عدد العمانيين في الوظائف التي يصل راتبها إلى أكثر من 2000 ريال لا يتجاوز 2000 مواطن عماني، من بين 40000 وظيفة قيادية برواتب عالية، أي أن نسبة العمانيين في هذا النوع من الوظائف هو 5 بالمئة فقط. الإشكال الأبرز في هذا المقام هو أن 92 بالمئة من العمانيين في القطاع الخاص يتقاضون رواتب أقل من 500 ريال، و80 بالمئة منهم يتقاضون رواتب أقل من 400 ريال، أي أن نسبة العمانيين في القطاع الخاص الذين يتقاضون رواتب أكثر من 600 ريال هم 10 بالمئة فقط. وهذا يعني أن إشكالية العمالة الوطنية في القطاع الخاص، ليست قلة عددها مقارنة بالعمالة الوافدة وحسب؛ ولكن إشكاليتها تكمن أيضاً في نوعية الوظائف وضعف الرواتب‏[16].

ب – رخاوة في الكتلة، تسارع إلى المجهول

تشير نتائج المسوحات الوطنية لنفقات الأسرة وأرقام الإسكوا إلى أن حجم الفئة المتوسطة في عُمان يتراوح بين 20 و30 بالمئة من سكان البلاد‏[17]. كما شهدت البلاد في الفترة التي أعقبت عام 2011 زيادة واضحة في الفئة المتوسطة، فمن 18.2 بالمئة – 20 بالمئة صعدت إلى 29.8 بالمئة حيث يسببها البعض بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة لاحتواء الاحتجاجات التي تفجرت في ذلك العام من توفير أكثر من 50 ألف فرصة عمل، وحصول أكثر من 150 ألف باحث عن عمل على علاوة بطالة تصل إلى 150 ريالاً عُمانياً إلى حين حصوله على وظيفة تناسبه ويقبل بها. كما تتميز هذه الفئة بمستوى متنامٍ من التعليم، إذ إن ثلث راشدي هذه الفئة متحصلون على مؤهلات التعليم الثانوي أو العالي. ولا غرابة في ذلك، لأن عُمان قد حققت تقريباً، ومنذ فترة مبكرة، الهدف الإنمائي للألفية المتعلق بتعميم التعليم الابتدائي، ويتجسد ذلك ببلوغ صافي نسبة القيد في الصفوف (1 – 6) إلى 99.4 بالمئة في العام 2016‏[18]. بيد أن هذا الإنجاز يستوجب الانتباه للانسداد الذي ستعانيه الأجيال القادمة، المتعلمة، المتطلبة لفرص تشغيل منتجة، آمنة، مستدامة، وإلّا ستراكم أرقاماً مهولة من المعطلين من العمل. في سياق متصل، تتصدر عُمان قائمة البلدان العربية من حيث حجم النفقات العسكرية من حيث نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط سنوي هائل قدره 10.84 بالمئة وهي بذلك تنفق على الأغراض العسكرية أكثر مما تنفقه على الصحة والتعليم والخدمة العامة وشبكات الأمان الاجتماعي مجتمعة، إذ لا يتجاوز الإنفاق على التعليم أكثر من 4.2 بالمئة، وعلى الصحة 2.2 بالمئة.

ومن نافلة القول هنا ذكر أهمية أن من شأن إعادة النظر في هذا النوع من الإنفاق أن يعالج الكثير من التفاوت وتناقص العدالة الاجتماعية، ويتيح الفرص لفئات المجتمع المختلفة لتطور قدراتها من خلال استثمار القيمة المضافة المتأتية من تزويدها بفرص تعليم ذات جودة عالية، وخلق فرص عمل حقيقية في قطاعات إنتاجية مستدامة، الأمر الذي يوسع تدابير الحد من الفقر ويمنح الفئة المتوسطة سعة في النمو والتأثير، كما يعزز من ممارسات الحماية والأمان الإنساني ويردم فجوات التفاوت الاجتماعي.

ج – إغراق في الاستهلاك، تجاهل للإنتاج

شهدت عُمان في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين زيادة مضطردة في حجم الفئة المتوسطة، بفضل الارتفاع الحاد في الإنفاق الحقيقي للفرد؛ حيث سُجّلت مستويات مرتفعة من التباين بين بيانات الحسابات القومية حول الإنفاق الأسري النهائي للفرد، وبين بيانات المسوح بشأن الإنفاق الاستهلاكي الأسري للفرد. وقد وصل هذا التباين إلى 2.22 في عام 2010 الأمر الذي ينبئ بتفاقم الهوة بين الأغنياء والفئة المتوسطة، ويكرس عدم المساواة مع مرور الزمن، إذ تخطى إنفاق الفرد من الأغنياء في عُمان إنفاق الفقراء 11 مرة، وإنفاق المعرضين للفقر 7.3 مرة، وإنفاق الفئة المتوسطة 4.7 مرة‏[19].

وكنتيجة للطفرات النفطية المتعاقبة والمفاجئة سلكت الفئة المتوسطة خياراً أشبه بالمقامرة لتعظيم أموالها المتحصلة من هذه الطفرات، التي حصلت عليها إما من طريق المنح من السلطة المركزية أو من خلال الرواتب التي تصرفها الحكومة. يتضح ذلك من خلال ضخ الناس مدخراتهم في أسواق الأسهم والعقارات، ورهن ممتلكاتهم والاقتراض المفرط لتمويل السلوك المضاربي (يصل حجم القروض الشخصية في البنوك العُمانية إلى7 مليارات ريال عماني في عام 2016). لذلك أصبح من الشائع تفشي ظواهر الاستهلاك التفاخري من قبيل: شراء «الأرقام المميزة» للهواتف، وللسيارات، وقطع الأراضي، وشراء «أوقات تشاركية» في منتجعات سياحية لقضاء إجازات باذخة، وتأسيس «محافظ مالية» بوعود عوائد مجزية. كلها أمثلة تدلل على سلوك المضاربة والمقامرة لتحقيق أرباح سريعة بلا جهد يذكر في عملية الإنتاج الحقيقي. حتى الفئات التي تنتمي إلى ذوي الدخل المحدود انجرفت في هذه الممارسات لتسبب في اتساع دائرة «التأزم» المالي ووضع عدد كبير من المواطنين تحت تهديد الرهون العقارية، والكثير من الشركات تحت طائل الإفلاس وتسريح العمال والموظفين.

د – خمول عن الاجتماع، خوف من السياسة

يؤكد العديد من دراسات علم الاجتماع السياسي أن «قوة الدولة ما بعد التقليدية يعود إلى النخب الجديدة والتقليدية التي تستفيد من الوضع الحكومي الحالي، وعلى العكس فهم أكثر من يخافون من الحداثة خشيةً على مكانتهم ومصالحهم. ونتيجة لذاك، تُعادي تلك النُخب أي تغيير حيوي في طبيعة الدولة والمجتمع»‏[20]. كما تجادل بعض الأدبيات الرسمية في عُمان بأن أسباب تأخر ظهور مجتمع مدني بصورته الحديثة والفاعلة تعود إلى عاملين رئيسيين: الأول، اضطلاع الدولة بالدور الرئيسي في رعاية المواطنين والقيام بالأدوار كافة (دولة الرفاه)؛ والثاني، هيمنة التنظيمات التقليدية المتحكمة بطبيعة العلاقات بين الناس، وهي تحددها بشكل صريح في القبيلة». إذ إن القبيلة، حسب الرواية الرسمية السائدة، وبفضل دورها المحوري في البنية الاجتماعية، وتنظيماتها المحكمة القريبة من التأثير في الفرد، هي من أخّرت لجوء المواطنين للانتظام على صورة صيغ ونماذج أخرى‏[21]. على الرغم من التراجع الواضح في دور القبائل في مقابل التحول السياسي والاقتصادي الذي شهدته البلاد خلال العقود الخمسة الأخيرة فإن هذه العبارة «نحن مجتمع قبلي/قبيلي» ما تلبث أن تظهر لمواجهة بعض الجهود المدنية المتواضعة لإجراء حوار اجتماعي يناقش مبادئ حقوق الإنسان أو أفكار المواطنة والمجتمع المدني وغيرها من الأطروحات التي تصنفها السلطة على أنها أفكار وافدة على المجتمع من الخارج، ومدعومة بشكل مشبوه لزعزعة الأمن الداخلي للبلاد، وليست نابعة من حاجة إنسانية أمْلتها ظروف التطور والنمو وشجعتها ضرورات التواصل المعرفي مع العالم. بيد أن للصورة وجهاً آخر، غير «رواية» ضمور روح المبادرة الاجتماعية عند الفئة المتوسطة، حيث لا يخفى على دارس المجتمع العُماني العائق «القانوني» أمام ممارسة السياسة، إذ يُجرم قانون الجزاء العماني العمل السياسي العلني، كما يحظر تكوين الأحزاب، حيث تنص المادة 134 منه على أنه: «يحظر تأليف الأحزاب والمنظمات ذات الأهداف المناهضة للنظم الأساسية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في السلطنة». كما تنص المادة 5 من قانون الجمعيات الأهلية الصادر عام 2000 على أنه «يحظر على الجمعية الاشتغال بالسياسة أو تكوين الأحزاب…». ناهيك بأن الوسائل المسموح بها للاحتجاجات بين المواطنين كالتجمع السلمي والإضراب والوقفات والمسيرات والتظاهرات والاعتصامات ترى فيها السلطة وسائل استفزاز مباشر لها، وبخاصة بعد مرحلة 2011. وتحرص هذه السلطة بكل ما أوتيت من إمكانات على تحاشي ممارسة المواطنين لحقوقهم في الاحتجاج، وإن فعلوا فالقوة حاضرة، حيث شهدت السنوات الخمس التي أعقبت «الربيع العُماني» الكثير من الحوادث التي تدلل على مواجهة السلطة لفكرة الاحتجاج بالسحق وبالسجن. من أمثلة ذلك: إضراب المعلمين، إضرابات عمال حقول النفط، الوقفات السلمية للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي (2012)، احتجاجات أهالي ولاية لوى بسبب التلوث الذي أصاب حياتهم من المدينة الصناعية في ولاية صحار (2013، 2014). أما الفئة المتوسطة الناشئة، فإنها إزاء ذلك كله قد «تُمثل قوة ضغط بالمفاهيم الاقتصادية لكنها لا تُمارس أي تأثير سياسي. وفي الواقع، إذا ما استثنينا بعض العناصر المُتعلمة، فإن التحريض لُممارسة نشاط سياسي أكبر يُعدُ محدوداً لأن أغلب أبناء [هذه الفئة]، كما هو الحال في دول الخليج الأخرى، غارقون في الماديات»‏[22].

هـ – في التحديات: إذا سَلِمتْ ناقتي…

يعترض واقع الفئة المتوسطة في عُمان جملة تحديات ليست بالمفاجئة إذا ما وضعنا في الاعتبار ظروف تعايشها مع صورة الدولة العُمانية المعاصرة، وحدود الدور الذي ارتضت ممارسته في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد. وفي ظل الضبابية التي تكتنف الرابطة القائمة على قيم المواطنة والوفاء بالتزاماتها تجاه الفرد وتجاه الجماعة الوطنية؛ تستعيض الفئة المتوسطة عن كل ذلك بسلوكيات الولاء للسلطة المركزية ولمؤسساتها التنفيذية والأمنية، لظنها أن «الطرف الماسك بالدولة أو الموظف لها يرى أنها وسيلة نحو احتكار المزايا والمنافع في خاصته أو جماعته أو طائفته أو قبيلته أو قوميته، أو هكذا ترى فيها الأطراف الأخرى المتصارعة معها أو المتضررة منها»‏[23]. كما ارتبط في المخيال العام، وبعد تجارب تقارب العقود الخمسة الآن – بأن هذا النوع من الولاء ضامن موضوعي للرفاه والأمان النفسي والاجتماعي. بيد أن ظناً كهذا لا يصمد طويـلاً أمام الكثير من التحديات التي تجابه هذه الكتلة البشرية، والتي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر التالي:

(1) التآكل: تواجه الفئة المتوسطة في عُمان تحدي التآكل والانكماش. على الرغم من النسبة المتنامية التي تمثلها من معمار المجتمع العماني المعاصر، إلا أن هذه النسبة لا تعتمد على منابع راسخة لعملية إنتاج كفؤة، بقدر اعتمادها على صورة الدولة المعاصرة التي تُنفق على متوالية أزمات سببتها سياساتها الاقتصادية السابقة من دون الاكتراث لاستحقاقات المستقبل وأجياله. من ظاهريات هذا التآكل هو مسار مستوى الأجور الحقيقية في البلاد الذي ينمو بنسبة أقل من 1 بالمئة، في مقابل أن الناتج المحلي الإجمالي ينمو قرابة 5 بالمئة، كما أن حصة الأجور نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قد انخفضت إلى 28 بالمئة في السنوات العشر الأخيرة.

لقد تم تبديد عوائد النفط لتحقيق نمو اقتصادي سريع، مشغول بشراء ولاءات لحظية لا ترى في المستقبل أكثر من وسائل تنعّم سطحية. وأغفل الاستثمار في قطاعات إنتاجية تحقق قيمة مضافة عالية ومستدامة كقطاعات التصنيع واقتصادات المعرفة.

إن استمرار الاقتصاد العماني على الواردات والخدمات ذات القيمة المضافة المنخفضة لن يسهم جذرياً في استيعاب الأجيال القادمة عموماً والفئة المتوسطة بالأخص، ولا في استثمار طاقاتها كما يجب، على النقيض تماماً؛ اقتصاد بهذا المسار، وخيارات بهذا الضيق، لن يسهما في تنمية المعارف المحلية. لقد تم تفويت مراحل الوفرة، ولم يُستفد من دينامية عائدات الحجم والتغير التكنولوجي، والأخطر من ذلك أن شكل الاقتصاد الحالي أعاق تنمية قوى عاملة ماهرة وجاهزة للتشكل، ولذلك لا غرابة من انخفاض معدلات الأجور الحقيقية لأنها ببساطة تعكس انخفاض مستويات الإنتاجية. نتيجة لذلك ستتسع معدلات الفقر وستقترب من الفئة المتوسطة مما قد يصيبها بالتآكل.

(2) التواكل: تعاني الفئة المتوسطة في عُمان اليوم متلازمة «الانتظار والتواكل»، والحرص على رفاه اليوم من دون الاهتمام بحقوق وواجبات الغد، حيث يلخصها المثل الشعبي الدارج «إذ سلمت ناقتي لا عليّ من رفاقتي»، وهي متلازمة أوجدها النمط السياسي والاقتصادي الذي أدارت به السلطة البلاد طوال الفترة الماضية. هذا النمط الذي في شقه الاقتصادي اتكأ على ريع عوائد النفط، وفي شقه السياسي انشغل برضا وخضوع الفئة الكبرى من الشعب. يقف الجهاز التنفيذي العُماني اليوم في حيرة عن استحداث الكم والنوع الكافيين من فرص العمل اللائقة للقادمين الجدد لسوق العمل من المواطنين. وقد تزداد الأمور تعقيداً وبخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن 42 بالمئة من إجمالي العمانيين اليوم هم من الأطفال في الفئة العمرية (0 – 17)، حيث يبلغ عددهم أكثر من مليون نفس. وأن أكثر من 31.4 بالمئة من إجمالي العاملين في القطاعين الحكومي والخاص هم من فئة الشباب (15 – 29) سنة. إن كل هذه المؤشرات تستحث الجميع، سواء الدولة أو الناس، على تغيير النمط الذي يدير البلاد ويتحكم بمستقبلها القريب. وليس من مصلحة حتى السلطة السياسية الاستمرار في ذات السياسات التي تضعف القاعدة الإنتاجية في مقابل خضوع الجماهير تجنباً لمطالباتها بالمشاركة السياسية. بل إن الفئة المتوسطة الحالية لن تنفعها المكافآت السخية التي أغدقتها السلطة عليها في مقابل دعمها غير المشروط. إن هذا الدعم المتمثل بوظائف تدر أجوراً مرتفعة نسبياً، وإعانات سخية لن تعالج التشوهات الهيكلية في بنيان الاقتصاد الحالي، وستزيد الأمور سوءاً، لأنها تسحب من احتياطيات الأجيال القادمة وتهدر ثرواتها بلا عوائد مضمونة تكفل استدامة مطمئنة.

(3) التفاوت: تواجه الفئة المتوسطة في عُمان تحدي التفاوت متعدد الأبعاد؛ تفاوت نوع العمل؛ تفاوت حسب النوع الاجتماعي؛ وتفاوت الحضر والريف.

(أ) على مستوى التفاوت بحسب نوع العمل؛ لا تتجاوز نسبة المهنيين العُمانيين من الفئة المتوسطة 15 بالمئة بينما تنخرط النسب الأكبر في العمل في القطاع العام والقطاع العسكري والأمني. تكمن خطورة هذا التفاوت في أن استدامة وتوسع الفئة المتوسطة مرتهن لقاعدة إنتاجية تحقق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني وللدخل الشخصي على حد سواء. أما التعويل على رواتب ومعاشات تدفعها الدولة المعتمدة على تصدير سلعة واحدة مهددة بالنضوب أو البوار كالنفط فإن ذلك يكرس مأساة الفئة المتوسطة ولا يتحرك بصورة عاجلة للتخفيف من عواقبها.

(ب) على مستوى التفاوت حسب النوع الاجتماعي؛ الذي يقرأ مساهمة المرأة العمانية في الفاعلية الاجتماعية والاقتصادية للفئة المتوسطة، فقد اتسمت هذه المساهمة بذات السمات السائدة لعموم المجتمع؛ تكدس في القطاع العام، وانتظار التوظيف المركزي، مع مشاركة متواضعة في القطاع الخاص وانحسار مخيف في قطاع المبادرات والحرف والصناعات اليدوية. هذا إذا ما علمنا أن المرأة كانت أبرز مثال في المجتمع العُماني على تكريس مُثل الاستقلال المالي والإعالة الأسرية عن طريق الحرف والمهن ذات القيمة المضافة في الاقتصاد المنزلي، كالخياطة والدباغة والرعي والزراعة وصناعة العطور والخزفيات والنسيج. أما حاضر نساء الفئة المتوسطة فيشير إلى التالي: 41 بالمئة من التوظيف في القطاع العام من النساء، بينما لا تتجاوز نسبتهن في العمل في القطاع الخاص الـ 23 بالمئة.

(ج) على مستوى التفاوت المناطقي: فتتوزع الفئة المتوسطة في عُمان على نحوٍ يُنذر بتكريس لامساواة خطيرة في شأن توزيع التنمية على مناطق البلاد، إذ إنها تتوزع على الشكل التالي؛ 62.3 بالمئة في المناطق الحضرية، 37.7 بالمئة في المناطق الريفية، ويؤكد هذا التفاوت عدم الانتباه المبكر لظاهرة هجرة أهل الريف إلى الحواضر، رغم وضوح عواقب هذه الظاهرة والمآلات الخطيرة التي أحدثتها في كثير من البلدان العربية على مستويات اجتماعية وسياسية وأمنية؛ فقد أوجد هذا التفاوت اختلالاً ملموساً على مستوى الخدمات، ظهر في ازدياد النزوح السكاني إلى مسقط، والضغط على الخدمات المتوفرة فيها وكفاءة تشغيلها وصيانتها. وأظهرت نتائج دراسات رسمية «أن سكان القرى أقل قدرة بصورة واضحة من سكان الحضر في الوصول إلى الخدمات العامة. كما أن متوسط استهلاك الأسرة أعلى في الحضر عن نظيره في القُرى العُمانية»‏[24]. زاد على ذلك مركزية صنع القرار الذي تتحكم به الوزارات والأجهزة الرئيسية، والتي تتخذ من العاصمة مقراً لها، ومحدودية التفويض الممنوح للمكاتب والمديريات المتوزعة في كل محافظة ومنطقة، على مستوى المباني. إضافة إلى صُوَرية المجالس البلدية وعدم قدرتها، بفعل نصوص تشكيلها وتكوينها، على اتخاذ أي قرار وتطبيقه وتوفير المخصصات المالية اللازمة لتنفيذه إلا بعد الرجوع والاعتماد من الأجهزة المركزية في العاصمة. هذا الواقع أثّر جذرياً في انحسار الصناعات التقليدية، ومصادر الرزق الأولية، التي كانت القرى والأرياف حواضنها الآمنة ومنابعها المستقرة منذ القدم كالزراعة وصيد الأسماك وحرف الدباغة والنسيج والفخاريات وصوغ مختلف المعادن وغيرها. على سبيل المثال لا الحصر: تراجعت معدلات نمو أنشطة الزراعة والأسماك في الناتج المحلي الإجمالي إلى 9.7 بالمئة في عام 2015 مقارنة بما كانت عليه 15.7 بالمئة في عام 2013، وكذا الحال في شأن الصناعات التحويلية التي تراجعت إلى 13.4− بالمئة بعدما كانت معدلات نموها 4.3 بالمئة‏[25]. في نفس الفترة، إذ إن أغلبية السكان هجروا هذه الصناعات الأساسية في اقتصادهم لصالح الوظائف الحكومية التي عطّلت القدرات الإنتاجية والمهارات الأساسية، ليس بين أوساط الجيل الشاب فحسب، بل بين أهل المهن والحرف المَهَرة أنفسهم. لأن هذه القطاعات ليس باستطاعتها مجاراة قطاعات النفط والمقاولات والمضاربات المالية. هذا الأمر شجع نشوء أزمات اقتصادية متواصلة، وحفّز نمو وتوسع نشاطات طفيلية: كالبطالة المقنعة في المؤسسات الحكومية، والاتجار بتأشيرات القوى العاملة الأجنبية، وشيوع المحسوبيات، والإثراء من الأراضي والعقارات التي تقوم السلطة بتمليكها لخاصتّها والمقربين منها، وقبل ذلك؛ ربط حياة الناس وأرزاقهم بمركزية السلطة.

(4) التقايض: يرى تيري لين كارل أن «الأموال التي تتدفق على خزائن سلطة شديدة المركزية لا تقود إلا إلى المزيد من تمركز هذه السلطة، مشجعة نسيج العلائق الريعية بين السياسيين والرأسماليين. وهكذا تتولد حلقة مفرغة من نتائج التنمية السلبية والتي ترسخ التبعية الأحادية.. وتفسر لنا أحجية «مفارقة الوفرة»»‏[26]. من هذه النقطة بالتحديد، ومن بوابة «سخاء السلطة» على القطاعات المعيشية المباشرة، كقطاعات التعليم والتشغيل والصحة، ومن خلال «الأعطيات» والمنح والهبات التي تستهدف بعض المكونات الاجتماعية ذات الصوت المسموع كشيوخ القبائل ومشايخ المذاهب الدينية وبعض القيادات الأمنية والعسكرية، إضافة إلى بعض المثقفين والكتاب والأكاديميين، مع الرهان على العائلات التجارية المضمونة الولاء؛ بمعية هذه المكونات المختلفة، استطاعت السلطة المركزية في عُمان أن تكون في مأمن عن أي ضغط حقيقي وجاد وواضح البرامج، من قبل الفئة المتوسطة، وباتجاه الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي.

بفعل هذه الطريقة ظلت هذه الفئة حذرة من ممارسة نقد منظّم للنظام الحاكم ولسلطته المركزية. «لقد اعتمد النظام على الفئة المتوسطة بقدر ما اعتمدت هي عليه»‏[27]؛ بل إن هذه الفئة، على امتداد العقود الخمسة الماضية، رأت في المساعدات الاجتماعية والمنافع الاقتصادية وشكلانية المؤسسات السياسية المقدمة من السلطة والمتحكمة بتفاصيلها، رأت فيها ثمناً ضامناً للصمت عن تجاوزات هذه السلطة، حرصاً على «السلم الاجتماعي» ودرءاً للفتن المستهدفة «للوئام الوطني». بل ظنت هذه الفئة أن تحكم الدولة في الاقتصاد، ومركزيتها في الإدارة، واختراقها للفضاء العام، وسيطرتها على النشاط المدني، كلها ضمانات لحماية مصالحها الفئوية، من دون النظر إلى عواقب هذه المقايضة على الاقتصاد الكلي ولا على التكوين الاجتماعي برمّته. ولأن السلطة صاحبة الكلمة الفصل في تحديد واقع قرارات مصيرية في نوع التعليم وكم التشغيل وتفاصيل نظام الحماية الاجتماعية، يبدو أن الفئة المتوسطة في عُمان ارتضت بمقايضة سلطوية مفادها:

بدلاً من المطالبة بعقد اجتماعي قائم على المساءلة المتبادلة بين النظام الحاكم والشعب من خلال الحوار الاجتماعي والمشاركة السياسية الفاعلة المرتكزة على رقابة المال العام ومحاسبة التنفيذيين ومكافحة الفساد – بدلاً من كل تلك المنظومة من حقوق الموطنين وحرياتهم – الاكتفاء والرضى بوعود الأمن والرفاه الاجتماعي.

مختتم

يبدو أن الفئة المتوسطة في عُمان لا تقف على أرضية صلبة، حيث أغلب الأفراد المنضوين إليها لا يزالون يتكئون على وشائج النسب أكثر من رهانهم على عروة الانتساب. نسب الهويات البدئية كالقبيلة والأسرة والمذهب، أكثر من الانتساب إلى قيم المواطنة وطرائق إنتاج رأس المال البشري والمادي. كما أن طبيعة نشأة هذه الفئة، وحدود دورها الراهن مع السلطة المركزية قد أصابها بشلل تكويني عطّلها عن القيام بدورها الكافل للتوازن الاجتماعي، والاستدامة الاقتصادية، والتطوير السياسي، والمبادأة الثقافية. إن ما يجري من تحولات متسارعة في النسيج الاجتماعي العُماني المعاصر ينبئ بإشكالات خطيرة، إذا لم يتم الانتباه لها سريعاً ومعالجتها بصورة جذرية تُراعي الأعراض الجانبية المصاحبة فإن مفهوم «دولة الأمن والرفاه» سيكون على المحك.

الجرأة التي اكتسبتها الأجيال الناشئة من أجواء انتفاضات الربيع العربي، مع ترنحات أسعار النفط المستمرة، في مقابل التكبيل السياسي والاقتصادي للمواطنين في إدارة وتسيير القطاع العام وعزلهم عن المشاركة الفاعلة سينجم عن كل ذلك تنمية مشلولة.

لم يعد كافياً، ولا مقنعاً، رهان السلطة على صناعة حالة من الفخر الوطني والاعتداد بالإنجازات السابقة، في الوقت الذي يكابد فيه المواطن نتائج سياسات اقتصادية وسياسية واجتماعية قصيرة الفائدة وباهظة التكاليف. والأنكى أن هذه السياسات غير قابلة للنقد ولا النقض ولا التقويم. ومع انتقال الاقتصاد من سعة الوفرة إلى ضيق الندرة لن يكفي أي سلطة تشبثها بالمفهوم الضيق والتقليدي للأمن، ولا كرمها في توزيع حصص الامتيازات بحسب الولاءات، ولن تسعفها مخازن الأسلحة المكدسة ولا الجيوش والعساكر المُدربة، العكس هو ما يتوقع حدوثه؛ المزيد والعميق من الانفجارات، لأن الموارد استُنزفت، والثقة في الإدارة العامة فُقدت، والأفواه زادت.

الرهان على مفهوم أمن إنساني واسع ومنصف، يضع نصب عينيه الإنسان كقيمة عليا في ذاته، مستحق لعدالة اجتماعية ناجزة ومستدامة؛ قد يكون أحد المخارج الأكثر موثوقية للخروج من انسداد كهذا.