سيداتي، سادتي !
تَتَرَّكنا مئات السنين، وتفرنجنا بعد ذلك عشرات السنين. وخلال تلك المئات والعشرات، بقي الفكر الإنساني متوهّجًا، يصبّ أشعّته الكشّافة على ظلام المجهول ليبعد حدوده ويوسّع نطاق المعرفة.
وطول تلك المئات والعشرات من السنين، خبا الفكر العربي فانكفأ على نفسه، يدور في لولبيات الفراغ اللفظي، ويجتر قوالب الماضي، وكأنّ الحياة جمود وتحجّر.
وفجأة إستيقظنا ونهضنا نتفهّم الحياة الجديدة ونحاول أن ندوزن خطانا على خطى العلم والتكنولوجيا.
ما كدنا نجد إسمًا للآلة الكاتبة حتى كان القوم قد إخترعوا الدماغ الإلكتروني!
أَوَغرِيبٌ بعد ذاك أن يلتقيَ العرب في مؤتمر تعريب؟..
*
أودّ قبل كلّ شيء أن أقطع الطريق على الغلاة من الطرفين:
للمغالين في قدر العربية وطاقاتها، وفي حبّ الحفاظ على نقاوة دمها، أقول أنّه ليس من لغة على وجه الأرض يمكنها أن تكتفي بذاتها. فالأخذ والعطاء ناموس الحياة. واللغة العربية أخذت كثيرًا فيما مضى، ولكنها أعطت أضعاف أضعاف ما أخذت. فإذا كانت حريصة على البقاء، حريصة على أن تستمرّ في العطاء، فيجب ألّا تتحرَّج في الأخذ حين لا مندوحة عن الأخذ.
وللمغالين في غمطها حقّ قدرها، لأعدائها أو لجاهليها، للمشكّكين بكفايتها أقول: أنّ اللغة العربية من أكمل اللغات وأكثرها إستجماعًا لأسباب البقاء، وأحسنها إستعدادًا لمواكبة التطوّر.
بل هي تمتاز عن جميع لغات العالم بعبقرية الحروف. فالحرف العربي ليس جزءًا من الكلمة وحسب، بل هو لبنة في بناء الكلمة. وكأنّي بهذه الحروف العربية قد نحتت بشكل هندسي عجيب: إينما أُلقيت على جدار الكلمة دخلت في المدماك وأعطت معنىً جديدًا.
ليس من لغةٍ على وجه الأرض يمكن أن تأخذ فيها كلمة فتبدّل في ترتيب حروفها، فإذا أنت أمام معانٍ جديدة. بينما يمكنك في العربية أن تتفنَّن في ترتيب ثلاثة حروف فتؤلّف منها عدة أفعالٍ (فضلًا عن الأسماء والمصادر) بمعانٍ شتى. مثلًا: من العين والراء والفاء، يكون لك: عرف، عفر، رفع، رعف، فرع، فعر… ستة أفعالٍ مختلفة المعاني، فضلًا عن المعاني الإضافية التي يحدثها تغيير الحركات على الحروف الثلاثة!
والعربية لغة التصريف والإشتقاق. معدنها من ذاتها، لا تحتاج إلى اللاتينية واليونانية، مثلًا، تضيف من إحداهما مقطعًا إلى لفظة عربية لتحدث معنىً جديدًا.
إنّ أحوج ما يحتاج إليه العرب، في معرض التعريب، هو أن يتعرَّبوا… أن يتقنوا لغتهم، أصولها وفروعها. جذورها الضاربة في تراب الماضي، خزّان الحياة. والجذع والأغصان الفارعة في سماء الحاضر، دعامة الحياة. وطبيعة الشجرة والمناخ الذي تعيش فيه، ضمانة الحياة… بعد ذلك تسهل معرفة طرق التطعيم للحصول على ثمرٍ جديد.
معرفة اللغة، واستكناه الإكتشافات العلمية في جميع حقولها، شرطان أساسيان لنجاح التعريب، وهما هما الشرطان الأساسيان لتحقيق ذاتنا، واللحاق بركب الفكر الإنساني.
اللغة كائن حيّ، فيجب ألّا نعزلها عن الحياة.
دعوا اللفظة التي أدّت رسالتها تموت، فاللغة التي لا تموت فيها ألفاظ لا تولد فيها ألفاظ. واللغة العربية ولّادة بالطبع. ولكن حذار أن تحاولوا توليد ألفاظ ليس من طبيعة لغتنا أن تحبل بها. إنّكم إذن لن تولدوا إلّا ألفاظًا مسِخة!
*
باسم لبنان، الذي يحافظ على اللغة العربية كما يحافظ على ديمومته، أشكر لحكومة صاحب الجلالة هذه الدعوة الكريمة، وأرجو أن يكون هذا المؤتمر فاتحة خير وحلقة في سلسلة وأن يتوفّق إلى وضع أسسٍ للتعريب كفيلة بأن تعيد إلى اللغة العربية مركزها اللائق في نفوس أبنائها، لتعود هي، بنشاطهم، فتحتلّ الصدارة التي كانت لها في الماضي، ولتصبح من جديد لغة الفكر العالمي.
سليم حيدر
1960
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التعريب #اللغة_العربية #مؤتمر_التعريب #الهوية_العربية #اللغة #تعريب_المصطلحات_الأجنبية
المصادر:
(*) ألقيت في مؤتمر التعريب، في الرباط-1960.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.