لم يكن هدف الوحدة العربية ضمن الأهداف الستة لثورة يوليو التي قادها جمال عبد الناصر، لكن كتيّب فلسفة الثورة الذي أسس مبكراً للدور العربي لهذه الثورة ابتداءً من عام 1953 وضع الدائرة العربية في صدارة دوائر السياسة الخارجية المصرية، وجعل الاستقلال الوطني دعامتها الرئيسية، ودعم حركات التحرر العربية همّها الأول. وعبر معارك ظافرة كمساندة انطلاقة معركة الاستقلال الجزائرية المجيدة؛ والتصدي الناجح لمخطط ربط الوطن العربي بشبكة التحالفات الغربية؛ وكسر احتكار قوى الهيمنة الغربية تزويد الوطن العربي بالسلاح؛ وانتزاع الإرادة الوطنية المستقلة في معركة بناء السد العالي بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس، بدأت الجماهير والقوى السياسية العربية تدرك أن زعيماً واعداً للنضال من أجل تحقيق الأهداف الغالية للأمة العربية قد بزغ نجمه، وبدأت الجسور تمتد بينه وبين هذه الجماهير والقوى. من هنا دخلت الوحدة العربية جدول أعمال جمال عبد الناصر الذي قُدِّر له أن يقود أهم تجربة وحدوية عربية معاصرة.

تبحث هذه الصفحات في دروس الخبرة الوحدوية في زمن جمال عبد الناصر ودلالاتها بالنسبة إلى هدف الوحدة العربية في حاضر الأمة الذي يشهد تردّياً غير مسبوق، لا على مستوى تماسك النظام العربي فحسب وإنما مستوى عدد من وحداته المكونة كذلك، الأمر الذي جعل حديث الوحدة يُقابَل بالسخرية من البعض عندما يجرؤ المخلصون للأمة في طرحه كضمانة أكيدة لاستعادتها مكانتها المستحقة بين الأمم. تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام: يتناول أولها تجربة الوحدة المصرية – السورية؛ والثاني خبرة العمل الوحدوي العربي بعد الانفصال؛ والثالث دروس الخبرة الوحدوية لعبد الناصر بالنسبة إلى هدف الوحدة العربية في الحاضر والمستقبل.

أولاً: خبرة العمل الوحدوي العربي

في زمن عبد الناصر

نتيجة المسار التحرري والتوجه العربي لمصر في ظل قيادة جمال عبد الناصر، بدأ النموذج الذي كشفت عنه ممارساته على المستويين العربي والدولي يكتسب جاذبية لدى أوسع النخب والجماهير العربية، وبدأت صورة عبد الناصر تتحول من مجرد قائد لما ظنه الكثيرون انقلاباً تقليدياً إلى قائد واعد لحركة نضالية عربية أصيلة. وبدت الظروف أكثر ما تكون تهيؤاً في سورية ذات الحس القومي الفائق للقاء بين مصر تحت قيادة عبد الناصر وبين القوى السياسية والجماهير في سورية. تُرجم هذا في محطات بالغة الأهمية، كما في الدعم السوري الشعبي والرسمي الفعّال لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي 1956 عقب تأميم الشركة العالمية لقناة السويس وأثناء العدوان البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي 1956؛ وبصفة خاصة عملية تدمير خط التابلاين الشهيرة التي قام بها الضباط السوريون العروبيون التي مثلت إضافة حقيقية للمجهود الحربي المصري بما أحدثته من أزمة طاقة في أوروبا أثارت المزيد من المعارضة في وجه العدوان. وعندما تعرضت سورية في عام 1957 لتهديدات تركيا الأطلسية رداً على السياسة السورية التحررية رد عبد الناصر بعمل غير مسبوق في التاريخ العربي المعاصر وهو إرسال وحدات عسكرية مصرية للمشاركة في صد أي عدوان تركي محتمل. وكان لهذه الخطوة فعل السحر في الجماهير السورية، وخصوصاً وقد تلاشت التهديدات التركية بعدها، ليس بالضرورة لأن القوات المصرية الرمزية التي أُرسلت كانت كافية لمساندة القوات السورية لردع العدوان، وإنما لأن الرسالة وصلت وهي أن مفهوم الأمن القومي العربي قد وُضع موضع التطبيق لأول مرة، وهو أمر يهدد بمواجهة تركية – عربية لا تُحمد عقباها، ولا سيَّما أن المعادلة العسكرية العربية تضمنت أقوى جيشين عربيين آنذاك. وترتب على الخطوات السابقة أن طُرح لأول مرة منذ الاستقلال هدف تحقيق وحدة مصرية – سورية. وسرعان ما تُرجم هذا الطرح في قرارين بهذا المعنى لكل من مجلس النواب السوري ومجلس الأمة المصري إلى أن وقعت التطورات التي أفضت إلى تحقيق الوحدة بالفعل في أول شباط/فبراير 1958.

ففي كانون الثاني/يناير 1958 وصل فجأة وفد من ضباط المجلس العسكري السوري إلى القاهرة يطلب الوحدة الفورية مع مصر، وكانت وجهة نظر عبد الناصر أن تحقيق الوحدة يتطلب مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات يتم فيها توثيق عرى الوحدة الاقتصادية والعسكرية والثقافية بين البلدين تجنباً لأي صعوبات يمكن أن تواجهها الوحدة المنشودة، غير أن وفد المجلس العسكري أصر على أن تحقيق الوحدة فوراً هو المخرج الوحيد لسورية من الصراع الدولي الدائر حولها بين معسكر الهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي، ووضع الوفد المسألة أمام عبد الناصر على النحو التالي: إما الوحدة وإلا فعليه أن يتحمل مسؤولية سقوط سورية المحتمل في براثن أحد المعسكرين المتصارعين على قيادة النظام العالمي، وهي حالة يصبح فيها القائد أسير مشروعه كما حدث لاحقاً في مطالبة ثوار اليمن بنصرتهم بعد الإطاحة بالنظام الإمامية في عام 1962. وهكذا لم يجد عبد الناصر مفراً من القبول بوجهة النظر التي لم يحبذها بداية وهي الوحدة الفورية، غير أنه وضع شرطين للقبول: أولهما ابتعاد الجيش السوري عن السياسة وإلغاء الأحزاب السياسية في سورية أسوة بالتجربة المصرية. وبعد نقاش مستفيض داخل الوفد السوري قبل الشرطين، وطلب عبد الناصر بعد ذلك أن يتفاوض مع وفد حكومي سوري رسمي على إعلان الوحدة فكان له ما أراد وأُعلنت الوحدة في أول شباط/فبراير 1958 واستُفتى الشعب عليها وعلى قبول عبد الناصر رئيساً لجمهوريتها في الحادي والعشرين من الشهر نفسه وأصبحت الوحدة المصرية – السورية حقيقة واقعة.

ويرى البعض أن قرار الوحدة المصرية – السورية على هذا النحو كان قراراً متعجـلاً غير رشيد، والحقيقة أن هذا الرأي يجافي الواقع إلى حد كبير، فقد كانت هناك مقدمات قوية للوحدة على المستويين الشعبي والرسمي. كما أن البدائل المختلفة لتحقيق الوحدة قد طُرحت من طرفيها، فدافع عبد الناصر عن وحدة تدريجية تتحقق بعد مرحلة انتقالية، واعتبر الطرف السوري أن هذا البديل لا يحقق أمن سورية ولا يحفظ استقلالها واستقرارها واقتنع عبد الناصر بذلك ثم دار حوار آخر حول شروط عبد الناصر لإتمام الوحدة تم قبوله بعد نقاش مستفيض، ثم دخلت الحكومة السورية طرفاً في إنجاز الخطوات النهائية الرسمية للوحدة. هذا لا يعني أن القرار كان نموذجياً خالياً من العيوب أو أنه استكمل مقومات النجاح، لكنه بالتأكيد كان مدروساً غير عشوائي، وفي التطبيق واجهت الوحدة عدة مشاكل: أولها عدم الاستقرار على صيغة للحكم فتم الانتقال من صيغة الوزارة الواحدة التي تضم وزراء مركزيين وآخرين تنفيذيين إلى صيغة المجلس التنفيذي لكلٍ من إقليمَي الوحدة ثم العودة مجدداً إلى صيغة الوزارة الواحدة قبيل الانفصال، ناهيك باللجوء إلى آليات متعددة لتصحيح الأوضاع في الإقليم السوري مرة بتعيين مستشار لرئيس الجمهورية لشؤون سورية؛ وثانية بتأليف لجنة رفيعة المستوى لمتابعة الأوضاع؛ وأخيراً بتخويل المشير عبد الحكيم عامر سلطات رئيس الجمهورية هناك. وقد حدث انقلاب الانفصال أثناء تطبيق هذه الآلية الأخيرة. كذلك مثل الخلاف بين حزب البعث في سورية وعبد الناصر مشكلة ثانية، وقد أفضى هذا الخلاف إلى استقالة المسؤولين السوريين المنتمين إلى الحزب بنهاية عام 1959، وهو مثل شرخاً في قاعدة التأييد السياسي للوحدة؛ من ناحية ثالثة أدى التباين في الحجم السكاني بين إقليمَي الوحدة إلى ما أسمته الدوائر المعادية للوحدة بالطغيان المصري على التجربة، وبخاصة وقد اختلفت تقاليد الممارسة السياسية بين نخبتَي الإقليمين، وأخيراً وليس آخراً كان من الواضح أن القرارات الاشتراكية التي اتُخذت قبل انقلاب الانفصال بشهرين قد أفضت إلى تحرك خصوم الوحدة الداخليين الذين أضيروا من هذه القرارات ضد الوحدة والتآمر عليها.

وعندما وقع انقلاب الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر أدار عبد الناصر الأزمة بشفافية عالية فأدلى من الإذاعة المصرية للمرة الأولى ببيانين متتاليين يوم الانقلاب نفسه ثم ألقى خطاباً جماهيرياً في اليوم التالي للانقلاب ثم بياناً ثالثاً من الإذاعة في 5 تشرين الثاني/أكتوبر. يتبين من هذه الوثائق الأربعة أنه أدار الأزمة على النحو التالي:

1 – رفض الانقلاب وتكييفه بأنه حركة محدودة تتحرك قوات الجيش الأول (أي السوري) للقضاء عليه.

2 – رفض أي حل وسط مع الانقلابيين وذلك عقب إذاعة البيان الرقم (9) الذي ادّعوا فيه أن حركتهم تصحيحية وليست انفصالية، وأنهم قدموا مطالب للقائد العام للقوات المسلحة (أي عبد الحكيم عامر) الذي كان موجوداً في سورية وأنه وافق عليها وأن الأمور قد عادت إلى مجاريها. وكان واضحاً أن الغرض من هذا البيان هو كسب الوقت حتى يتم التغلب على أي مقاومة داخلية للانقلاب وبخاصة أنه كانت هناك بعض الوحدات العسكرية التي لم تعلن ولاءها للانقلاب بعد. كانت وجهة نظر عبد الناصر سليمة مئة بالمئة من المنظور السياسي، فقد كان معنى القبول بمطالب الانقلابيين فقدان السيطرة على الأوضاع في سورية.

3 – اتخاذ قرار بإرسال قوات من مصر لدعم الوحدات العسكرية الرافضة للانقلاب وبالذات حاميتَي حلب واللاذقية، غير أن وصول طلائع هذه القوات تزامن مع إعلان الحاميتين ولاءهما للانقلاب وبالتالي صدرت الأوامر لهذه الطلائع – وكانت قوات مظلية – بتسليم نفسها للقيادة الجديدة.

4 – قبول النتيجة المترتبة على الانقلاب وهي انفصال سورية على أساس الحفاظ على كيانها وتجنيبها ويلات حرب أهلية وإعلان أن الجمهورية العربية المتحدة لن تعترض طلب السلطات السورية العودة إلى عضوية كلٍ من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.

وقد اعترض البعض، وربما الكثيرون، من أنصار الوحدة على عدم استخدام عبد الناصر للقوة للحفاظ عليها، وذكروا بأن خبرة التجارب الوحدوية تشير إلى حتمية استخدام القوة في التوصل إليها و/أو تثبيتها. غير أننا يجب ألّا أن ننسى أن الوحدة قد قامت بأسلوب سلمي بإرادة الشعبين وأن استخدام القوة كان من الممكن أن يفضي إلى نتائج وخيمة تترتب على صدامات عسكرية واسعة محتملة، وبخاصة في ظل ما كان خصوم الوحدة يروِّجونه من أنها تحولت إلى طغيان مصري على سورية. وقد استخدم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح القوة في حرب الانفصال عام 1994 وانتصر وحافظ على الوحدة، لكن النتائج كانت وخيمة من منظور المظالم التي حلت بالشطر الجنوبي من اليمن والتي أدت إلى ظهور ما عُرف بالحراك الجنوبي الذي بدأ حركة مطلبية وانتهى حركة انفصالية ما زالت الوحدة اليمنية تعانيها حتى الآن.

ثانياً: خبرة العمل الوحدوي العربي بعد الانفصال

تُظهر خطب الرئيس جمال عبد الناصر وتصريحاته، وكذلك الوثيقة السياسية التي تُعَد برنامجاً سياسياً لما بعد الانفصال، وهي «الميثاق الوطني» الذي أعلنه في أيار/مايو 1962 أي قبل مرور سنة على الانفصال، أن الخلاصة الرئيسية التي استنتجها عبد الناصر من واقعة الانفصال تتمثل بأن سببه الرئيسي خارجي وهو تحالف الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية. ويعد «الميثاق الوطني» الذي تضمن باباً كامـلاً عن الوحدة العربية أهم وثيقة في هذا الصدد، فضـلاً عن شموله الدروس التي خرج بها عبد الناصر من تجربة الوحدة المصرية – السورية والمقومات الأساسية لما يمكن تسميته برنامج عمل لتحقيق الوحدة في ضوء دروس الانفصال. ويمكن عرض عناصر هذا البرنامج على النحو التالي:

1 – التشديد على حقيقة الوحدة بوصفها حقيقة الوجود العربي ذاته بحكم وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل، ووحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان ووحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير.

2 – تكييف الواقع العربي لكونه يشهد صراعاً بين القوى التقدمية الشعبية وتجمع العناصر الرجعية والانتهازية في الوطن العربي، من هنا فإن مفهوم الوحدة تجاوز فكرة التقاء الحكام والتضامن بين الحكومات، لأن مرحلة الثورة الاجتماعية تقدمت بهذا المفهوم إلى مرحلة وحدة الهدف التي هي حقيقة قائمة بين القواعد الشعبية، وعلى هذا فإن وحدة الهدف لا بد من أن تكون شعار الوحدة العربية في تقدمها من مرحلة الثورة السياسية إلى مرحلة الثورة الاجتماعية.

3 – في ما يتعلق بأساليب تحقيق الوحدة حسم الميثاق ضرورة الأخذ بالأسلوب السلمي، فالوحدة «لا يمكن بل لا ينبغي أن تكون فرضاً، فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافأ أساليبها شرفاً مع غاياتها، ومن ثم فإن القسر بأي وسيلة عمل مضاد للوحدة. إنه ليس عمـلاً غير أخلاقي فحسب، وإنما هو خطر على الوحدة الوطنية داخل كل شعب من الشعوب العربية»، كذلك أشار الميثاق جنباً إلى جنب مع الأسلوب السلمي إلى فكرة التدرج التي كان عبد الناصر قد طالب بها في بداية محادثات الوحدة المصرية – السورية، وقد نص الميثاق في هذا الصدد على «أن استعجال مراحل التطور نحو الوحدة يترك من خلفه كما أثبتت التجارب فجوات اقتصادية واجتماعية تستغلها العناصر المعادية للوحدة كي تطعنها من الخلف. إن تطور العمل الوحدوي نحو هدفه النهائي الشامل يجب أن تصحبه بكل وسيلة جهود عملية لملء الفجوات الاقتصادية الاجتماعية الناجمة عن اختلاف مراحل التطور بين شعوب الأمة العربية».

4 – أما صور الوحدة وأشكالها فقد رأى الميثاق أن الوحدة لا تأخذ صورة دستورية واحدة لا مناص من تطبيقها لكنها «طريق طويل قد تتعدد عليه الأشكال والمراحل وصولاً إلى الهدف الكبير»، كما أقر الميثاق بمبدأ الوحدات الجزئية فذكر «أن أي وحدة جزئية في العالم العربي تمثل إرادة شعبين أو أكثر من شعوب الأمة العربية هي خطوة وحدوية متقدمة تقترب من يوم الوحدة الشاملة وتمهد لها»، بل لقد اعتُبر الميثاق أن «أي حكومة وطنية تمثل إرادة شعبها ونضاله في إطار من الاستقلال الوطني هي خطوة نحو الوحدة من حيث إنها ترفع كل سبب للتناقض بينها وبين الآمال النهائية في الوحدة».

5 – طرح الميثاق فكرة المسؤولية الخاصة للجمهورية العربية المتحدة التي تنقل بموجبها دعوتها والمبادئ التي تتضمنها لتكون تحت تصرف كل مواطن عربي، واعتبر القول إن هذا الطرح يُعَد تدخـلاً في الشؤون الداخلية حجة بالية قديمة وإن حرص على توضيح أن هذا لا يعني أن تصبح الجمهورية العربية المتحدة طرفاً في منازعات حزبية محلية على أساس أنه إذا كانت الجمهورية العربية المتحدة تشعر أن واجبها يحتم عليها مساندة كل حركة شعبية فإن هذه المساندة يجب أن تظل في إطار المبادئ الأساسية تاركة مناورات الصراع للعناصر المحلية، غير أن الجمهورية العربية المتحدة مطالبة بأن تفتح مجال التعاون بين جميع الحركات الوطنية التقدمية على أساس أن «قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية في العالم العربي أمر سوف يفرض نفسه في المراحل القادمة من النضال».

6 – خصص الميثاق جزءاً من معالجته قضية الوحدة العربية لجامعة الدول العربية، وبخاصة أنه تحدث عن «وحدة الهدف» و«اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية في العالم العربي»، الأمر الذي كان من الممكن فهمه بوصفه إسقاطاً لفكرة جامعة «الدول» العربية وجدواها. ومن هنا حرص الميثاق على تأكيد أن هذا الموقف «لا يؤثر ولا ينبغي له أن يؤثر على قيام جامعة الدول العربية» على أساس أنه إذا كانت الجامعة غير قادرة على أن تصل بالنضال العربي إلى غايته النهائية فإنها قادرة على أن تسير به خطوات في طريق المطلوب الشامل على أساس أن تحقيق الجزء مساهمة في تقريب يوم الكل. وهكذا فإن الجامعة وفقاً للميثاق تستحق «كل التأييد على ألا يكون هناك تحت أي ظرف من الظروف وهم تحميلها أكثر من طاقتها العملية التي تحدها ظروف قيامها وطبيعته»، ولخص الميثاق رؤيته بخصوص الجامعة ودورها بأنها قادرة على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربي في المرحلة الحاضرة ولكنها في الوقت نفسه يجب ألّا تتخذ بأي حال وسيلة لتجميد الحاضر وضرب المستقبل به.

هكذا تبلورت رؤية عبد الناصر لقضايا العمل الوحدوي العربي بعد الانفصال وفقاً لمنحى يميز بين النظم العربية الثورية وتلك التي عدّها نظماً رجعية متحالفة مع الاستعمار والصهيونية على نحوٍ يجعل مفهوم «وحدة الصف» غير ملائم، لأن معناه الحرص على الإجماع الذي يعني الرضا بالأمر الواقع وقبول تحكم أضعف الأطراف في كل الأطراف وفقاً له. غير أن التطورات المتلاحقة في الوطن العربي، لم تُتِح له رفاهية التمسك بهذا المفهوم المتطور للوحدة العربية، فبعد أربعة أشهر فحسب تفجرت الثورة اليمنية ضد نظام الإمامة الذي كان يُعَد واحداً من أعتى قلاع الرجعية والتخلف في الوطن العربي وأعلن الثوار النظام الجمهوري واستنجدوا بعبد الناصر في ضوء خبرة المحاولات الثورية اليمنية منذ عام 1948، التي شهدت تدخـلاً كثيفاً من دولة الجوار العربي ودولياً فاعـلاً من دولة الاحتلال في الجنوب اليمني. وللمرة الثانية بعد قرار الوحدة المصرية – السورية يحدد المشروع العربي لعبد الناصر قراراته، فلم يكن بإمكانه مهما كانت الحسابات أن يتخلى عن الثورة اليمنية وبخاصة نظراً إلى رمزية توقيتها، فقد تمت بعد سنة إلا يومين من وقوع انقلاب الانفصال، وبالتالي كان معنى انتصارها أن المشروع العربي لعبد الناصر سائر في طريقه، وأن الانفصال وتفكك الوحدة المصرية – السورية لم يكن سوى تراجع مؤقت بعد ما انتقل حضور مشروعه العربي إلى منطقة بالغة الحساسية بالنسبة إلى خصومه من النظم العربية وقوى الهيمنة الغربية. وهكذا اتخذ القرار بالتدخل العسكري المباشر لنصرة الثورة في اليمن وهو التدخل الذي بدأ بعد وقوع الثورة بأيام قليلة بكتيبة ودام خمس سنوات وصل فيها عدد القوات المصرية في وقت من الأوقات إلى سبعين ألف جندي.

لكن الأحداث توالت بعد الثورة اليمنية، فوقع الصدام الحدودي المغربي – الجزائري في تشرين الأول/أكتوبر 1963 بعد أكثر من عام قليـلاً على استقلال الجزائر، واتخذ عبد الناصر قراراً بدعم الجزائر في هذه المواجهة، وفي الوقت نفسه كشف اجتماع رؤساء أركان الجيوش العربية عن العجز عن مواجهة المشروعات الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن، أي أن التزامات عبد الناصر قد تمددت ما بين اليمن في الجزيرة العربية والمغرب العربي في وقت أصبحت مسؤوليته القومية تحتم عليه أن يتحسب لمواجهة التحدي الإسرائيلي المتمثل بمخططات تحويل مجرى نهر الأردن. هنا تخلى عبد الناصر عن «وحدة الهدف» التي تجمع النظم التي مضت في طريق الثورة الاجتماعية والقطيعة مع الاستعمار والصهيونية وبخاصة أن مشروع الوحدة الثلاثية الاتحادية بين مصر وسورية والعراق الذي تم التوصل إليه في نيسان/أبريل 1963 لم يصمد إلا لأسبوعين، وهكذا أعلن عبد الناصر أن التطورات السابقة أظهرت «أن الحاجة باتت ماسة لصيغة عاجلة جديدة لا تعود إلى مرحلة وحدة الصف وفي الوقت نفسه لا تغفل عن الأخطار الملحة في انتظار تحقيق وحدة الهدف»، من هنا جاءت دعوته بتاريخ 23/12/1963 إلى قمة عربية عاجلة تواجه الموقف الخطير الناجم عن التحدي الإسرائيلي المتمثل بمشروع تحويل مجرى نهر الأردن. وبأحد المعايير يمكن القول بأن دعوة عبد الناصر إلى هذه القمة لم تكن تخلياً كامـلاً عن «وحدة الهدف» لسبب بسيط هو أن النضال العربي كان يواجه موقفاً يُفترض أنه يجمع العرب على هدف واحد وهو مواجهة التهديد الإسرائيلي للأمن العربي، غير أن الأمر الذي لا يمكن تجاهله أن صيغة «وحدة الهدف» قُصِد بها أن التعاون مع النظم العربية المحافظة لم يعد مجدياً، بل لقد أصبح ضاراً بالنضال العربي وهو ما تنفيه سياسات القمة العربية.

هكذا عُقِدت قمتان عربيتان في عام 1964، الأولى في كانون الثاني/يناير في القاهرة والثانية في أيلول/سبتمبر في الإسكندرية، ثم عقدت قمة ثالثة في الدار البيضاء بالمغرب في أيلول/سبتمبر 1965. أسفرت هذه القمم الثلاث عن قرارات بالغة الأهمية أتى في صدارتها تشكيل قيادة عسكرية عربية مشتركة اختير قائدها وحُددت ميزانيتها وسددت الدول أنصبتها فيها ووُضعت خططها، كما تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كي تتولى قيادة النضال الفلسطيني وتأسيس جيش التحرير الفلسطيني والوفاء بميزانيته من فائض ميزانية القيادة العربية المشتركة، وجرت محاولات جادة لإنهاء الصراع في اليمن اقتضت أن يقوم عبد الناصر بزيارة للسعودية في آب/أغسطس 1965 تم التوصل فيها إلى إبرام «اتفاقية جدة» لتسوية الصراع، كما وافقت قمة الدار البيضاء على ميثاق لعدم التدخل في الشؤون الداخلية بين الدول العربية في سياق العودة إلى صيغة «وحدة الصف». غير أن هذه الصيغة فشلت مجدداً لأسباب لعل أهمها فشل محاولة تسوية الصراع في اليمن بموجب «اتفاقية جدة» لاختلاف فهم أطراف الصراع اليمنيين للاتفاق وعدم تخلي عبد الناصر عن الطرف الجمهوري. وهذا ما أثار حفيظة الملك فيصل عاهل السعودية الذي يبدو أنه تصور وفقاً للخبرة الشائعة أن مبادرة عبد الناصر بالتهدئة العربية والسعي إلى تسوية في اليمن مؤشر على ضعفه وتزايد الضغوط عليه، ومن ثم اتخذ فيصل موقفاً متشدداً قابله عبد الناصر بمواقف أكثر تشدداً. يُضاف إلى ذلك أن مشروع القيادة العربية العسكرية المشتركة لم يؤت ثماره نتيجة اعتراض الدولتين اللتين أظهرت خطط القيادة حاجتهما إلى تموضع قوات عربية من خارجهما على أراضيهما، ومع هذه التطورات بات واضحاً أن سياسات القمة التي أخذت بصيغة «وحدة الصف» قد وصلت إلى طريق مسدود وأعلن عبد الناصر نهايتها مجدداً.

وفي آخر خطاب له في احتفال بعيد الوحدة المصرية – السورية بتاريخ 22/2/1967 شرح عبد الناصر هذا التحول بقوله إن سياسات القمة التي فرضتها التطورات العربية السابق بيانها قد أعطت القوى الرجعية فترة راحة، كما ظهر من تشدد الموقف السعودي في الصراع اليمني والمبادرة إلى الدعوة إلى قمة إسلامية اعتبرها عبد الناصر امتداداً واضحاً لمحاولات ربط الوطن العربي بالأحلاف الغربية. كذلك أشار عبد الناصر إلى دعوة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إلى التفاوض مع إسرائيل، واعتبر هذه المؤشرات كافة دليـلاً على أن القوى نفسها التي ضربت تجربة الوحدة المصرية – السورية قد ضربت أيضاً الصيغة الجديدة لوحدة العمل؛ لذلك بادر مجدداً بالعودة إلى صيغة «وحدة الهدف» لكنه سمّاها هذه المرة «وحدة القوى الثورية» واعتبرها صيغة جديدة «لا تستطيع الرجعية المتعاونة مع الاستعمار أن تضربها من الداخل وإنما يصبح عليها إذا أرادت أن تضربها أن تضربها من الخارج»، واعتبر أن هذه المرحلة «ما زالت في بدايتها وأمامها مصاعب كبيرة، ولكنها الصيغة الوحيدة السليمة التي تحتمها مقتضيات المواجهة مع الاستعمار وإسرائيل والرجعية التي تعرف أنها تخوض معركة حاسمة إذا خسرتها خسرت كل المواقع وإذا كسبتها كسبت كل المواقع»، غير أن الظروف عاندت عبد الناصر للمرة الثانية فوقعت هزيمة حزيران/يونيو 1967 أي بعد أقل من أربعة أشهر على هذه التصريحات وفرضت الهزيمة فرضاً العودة إلى صيغة «وحدة الصف» التي تجلت في الدعوة السودانية لقمة الخرطوم التي عُقدت بعد أقل من ثلاثة أشهر على وقوع الهزيمة وتردد عبد الناصر في حضورها لكنه حسم تردده في إشارة أكيدة إلى قبوله العودة إلى صيغة «وحدة الصف». وقد أثمرت قمة الخرطوم بالفعل قرارات مهمة تعلقت بتحديد المسار الدبلوماسي العربي في مواجهة إسرائيل، والأهم أنها قدمت دعماً عربياً مالياً للمجهود الحربي لدول المواجهة تطوعت الكويت والسعودية وليبيا بتقديمه، وهو دعم لا شك في أنه أدّى دوراً في إعادة بناء القوات المسلحة العربية استعداداً لإزالة آثار العدوان، وعلى الرغم من بعض الممارسات التي ضايقت عبد الناصر غير مرة في سياق تقديم هذا الدعم فإن هذه الصيغة قد استمرت حتى لقي رحاب ربه.

ثالثاً: دروس الخبرة الوحدوية لعبد الناصر

في الحاضر والمستقبل

قاد جمال عبد الناصر ثورة في مصر كانت لها إنجازات هائلة، ومن المنظور العربي وضعت هذه الثورة مصر باقتدار في موقعها الواجب من خريطة النضال العربي بعدما أكد عبد الناصر عروبتها وأسس بكتيّب فلسفة الثورة لأولوية الدائرة العربية في سياستها الخارجية، ووضع مشروعاً للتحرر العربي وتبنى دعمه وحمايته، وأدى هذا كله، إضافةً إلى ممارساته الاستقلالية في مواجهة قوى الهيمنة الغربية، إلى أن وضعته الجماهير والنخب العربية في قلب النضال من أجل الوحدة التي لم تكن أهداف ثورة تموز/يوليو الستة قد تضمنتها. هكذا قاد عبد الناصر أول تجربة وحدوية عربية منذ استقلال الدول العربية بين مصر وسورية، وعلى الرغم من أن هذه التجربة لم تُكمل السنوات الأربع عمراً بسبب ما واجهته من صعوبات داخلية وخارجية، فإنها مثلت معيناً لا ينضب لدروس ثمينة لأي عمل وحدوي عربي، ويمكن أن نركز في هذا السياق على الدروس التالية:

1 – أن الوحدة ممكنة والحماسة والدعم الشعبيين لها متوفران لكنها مع ذلك ليست سهلة بحال بسبب التنوعات القطرية التي تشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى اختلاف واضح بين الأقطار العربية، وفي الحالة المصرية – السورية كان الاختلاف واضحاً في حجم السكان ودرجة النضج المؤسسي والميراث البيروقراطي وطبيعة البنى الاجتماعية والسياسية ومراحل التطور الاقتصادي. وقد أدى هذا الاختلاف إلى مشكلات لم تتمكن الصيغة الاندماجية التي تمت بها الوحدة من حلها بصورة كافية، ناهيك بدرجة الممانعة والعداء التي قوبلت بها الوحدة من معظم النظم العربية خشية على مستقبلها من أن تكون الوحدة المصرية – السورية قطاراً يدهمها. من ناحية أخرى لم تكن القوى الإقليمية الرئيسية (إسرائيل وتركيا وإيران) وكذلك القوتان العظميان (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) مؤيدة بحال للوحدة التي أحدثت تغيراً في ميزان القوى الإقليمي يهدد مشروعات الهيمنة لتلك القوى الإقليمية ويزيد القدرة العربية على التصدي لمخططات الهيمنة الأمريكية والرغبة السوفياتية في نشر الشيوعية بالمنطقة، وهكذا عانت الوحدة المصرية – السورية مشكلات في التوازن وفق نموذج مورغانثو، بعدها الأول داخلي، يتمثل بالخلل بين مكونَي الوحدة أي مصر وسورية، وبعدها الثاني صراع بين دولة الوحدة وخصومها من النظم العربية، وبعدها الثالث خلل في التوازن بين دولة الوحدة وخصومها الإقليميين الثلاثة الكبار (إسرائيل وتركيا وإيران)، وبعدها الرابع والأخير خلل في التوازن على الصعيد العالمي بسبب أن كـلاً من معسكر الهيمنة الغربي والمعسكر الاشتراكي كان يرى أن قيام الوحدة ونجاحها ليس في مصلحته، وهكذا تآمر الجميع على الوحدة على نحو لا شك أنه أدّى دوراً مهماً في إنهائها، وبخاصةٍ أنها وقد كانت لها أعراضها المَرَضية الداخلية.

2 – يفضي تحليل خطب جمال عبد الناصر وتصريحاته عقب الانفصال إلى نتيجة واضحة مؤداها أنه ركز كثيراً على السبب الخارجي في تفكك الوحدة، وهو دور الاستعمار والصهيونية والنظم العربية المحافظة المتحالفة معهما في إسقاط الوحدة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك السبب المتعلق بالخلاف بين عبد الناصر والفصيل السياسي الرئيسي في سورية، وهو حزب البعث الذي رأى أن دوره في دولة الوحدة لا يتناسب مع وزنه السياسي وانتهى الأمر به إلى استقالة قياداته في نهاية عام 1959 من مناصبها كافة في مؤسسات دولة الوحدة، وهذا يعني تقلص قاعدة التأييد السياسي لها في سورية. ويلاحظ أن عبد الناصر لم يشر أبداً إلى مسؤولية الصيغة الاندماجية للوحدة عن فشلها ولو جزئياً وإن كان من الممكن أن نفهم على نحو غير مباشر أنه لم يعد متمسكاً بها في ضوء النص في «الميثاق الوطني» على أن الصيغ الدستورية للوحدة متعددة وفي ضوء الأخذ في الصيغة الفدرالية في اتفاق الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية في العراق في نيسان/أبريل 1963.

3 – تنقل عبد الناصر كما هو واضح بين صيغتين أساسيتين للوحدة وإن تعددت تسمياتهما، وهما «وحدة الصف» و«وحدة الهدف». ومفهوم أن وحدة الصف تعني الوحدة بين البلدان العربية كافة بغض النظر عن الاختلافات فيما بينها، بينما تعني وحدة الهدف الوحدة بين النظم التي تجمعها أهداف واحدة. وفي سياق خبرة جمال عبد الناصر الوحدة هي بين النظم «الثورية». ويلاحظ بداية أن الوحدة المصرية – السورية كانت وحدة هدف وليست وحدة صف بحكم اتفاق النظامين في مصر وسورية على أهداف محددة. ولعل ما جعل عبد الناصر ينتقل بعد الانفصال إلى الإعلان عن شعار «وحدة الهدف» والتركيز عليه هو الدور الذي نُسب إلى القرارات الاشتراكية التي اتُخذت قبل انقلاب الانفصال بنحو شهرين فقط في حدوث هذا الانقلاب، وكذلك الدور الثابت للنظم المحافظة في التآمر على الوحدة. غير أن معضلة الإجابة عن سؤال: وحدة الصف أم وحدة الهدف؟ تتمثل بأن التطورات العربية والإقليمية والعالمية لم تمكن النضال العربي من التمسك بصيغة وحدة الهدف طويـلاً مع أنها الصيغة الأكثر منطقية لتحقيق الوحدة بحكم أنها تجمع المتشابهين المتفقين في الأهداف. فقد أدى تفجُّر الصراع المصري – السعودي بعد ثورة اليمن وتفجُّر الصدام الحدودي المغربي – الجزائري عام 1963 والتهديد الذي مثلته المشروعات الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن، إلى فرض صيغة سياسة القمم العربية التي دعا إليها عبد الناصر في أواخر 1963 لمواجهة هذه التحديات. وهو ما كان يعني العودة إلى «وحدة الصف». وبعد فشل هذه السياسة لما بدا من تنمّر النظم العربية المحافظة عاد عبد الناصر إلى «وحدة الهدف» مطلقاً عليها هذه المرة تسمية «وحدة القوى الثورية» لتفرض هزيمة 1967 «وحدة الصف» من جديد وتستمر حتى يلقى عبد الناصر رحاب ربه.

والسؤال الآن: هل يمكن الاستفادة من هذه الدروس الثمينة في حاضر العمل الوحدوي العربي ومستقبله؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب؛ فما – تحديداً – الدروس الأكثر ملاءمة للواقع العربي الراهن؟ وما الخبرات التي ينبغي التمسك بها وتلك التي لم تعد ملائمة؟ وأخيراً ما المجالات التي أصبحت الخبرة الماضية غير ذات جدوى فيها، وهذا يتطلب اجتهاداً من جانب الفكر الوحدوي العربي؟ في الإجابة عن هذه الأسئلة يمكن تقديم الملاحظات التالية:

1 – يجب بادئ ذي بدء التركيز على أن الواقع العربي الراهن مختلف جذرياً عن الواقع العربي السائد إبان تجربة الوحدة المصرية – السورية وعقبها، فالنظام العربي يواجه حالياً تحديات هائلة تعصف ببقائه، يكفي للدلالة عليها أن ما لا يقل عن خمسة بلدان عربية تعيش حالة انقسام رسمي أو فعلي نتيجة الغزو الأمريكي للعراق وموجات ما عُرف بالربيع العربي في 2011 وتداعياتها حتى الآن. وفي هذه الظروف بات الحديث عن الوحدة العربية ترفاً، ومع ذلك ينبغي أن نتذكر أن «الميثاق الوطني» الذي قدمه جمال عبد الناصر بعد أقل من ثمانية شهور على انقلاب الانفصال قد تحدث – كما سبقت الإشارة – عن أن «أي حكومة وطنية في العالم العربي تمثل إرادة شعبها ونضاله في إطار من الاستقلال الوطني، هي خطوة نحو الوحدة من حيث إنها ترفع كل سبب للتناقض بينها وبين الآمال النهائية في الوحدة»، وهذا يعني أن المهمة «الوحدوية» العاجلة في الظروف العربية الراهنة هي الدفاع عن كيان الدولة القطرية العربية التي كنا نعتبرها يوماً في زمن المد القومي حجر عثرة في سبيل الوحدة فإذا بحمايتها اليوم عمل لا غنى عنه لتجنب مزيد من التفتيت الذي سيتم – لا قدّر الله – على أسس غير عربية، وبعد الحفاظ على الوحدات المكونة للنظام العربي يمكننا أن نلتفت إلى المهمات الضرورية لترسيخ الفكرة العربية وبناء الوعي بضرورة اعتبارها أساساً للحركة سعياً للتقريب بين البلدان العربية تمهيداً للتوصل إلى الصيغة المناسبة لعمل وحدوي عربي يُطلق طاقات الأمة.

2 – لا يمنع ما سبق بحال – أي التصدي لمحاولات تفتيت الدولة الوطنية العربية – من تهيئة الظروف لإقامة وحدات جزئية رأى عبد الناصر في الميثاق أنها إذا كانت مؤسسة على إرادة شعبية سوف تكون «خطوة وحدوية متقدمة تقرب من يوم الوحدة الشاملة وتمهِّد لها»، ومن الأمانة أن نشير إلى أن المحاولات الوحدوية الجزئية كافة بعد انتهاء تجربة الوحدة المصرية – السورية لم تنل حظاً من النجاح، ولعل ما يسبب الإحباط أن أهم هذه المحاولات (مشروع الوحدة الاتحادية الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، عقب سقوط نظام عبد الكريم قاسم في العراق ونظام الانفصال في سورية، التي أُنجز مشروعها في إطار «وحدة الهدف» التي نادى بها عبد الناصر بعد تفكك الجمهورية العربية المتحدة) لم تدم إلا أسبوعين بسبب ظاهرة الخلاف بين الفصائل القومية «التقدمية»، وقد آن الأوان لاهتمام العروبيين المخلصين كافة بإنهاء هذه الظاهرة التي استنزفت الكثير من الجهد والموارد على حساب الهدف الوحدوي العربي، بل إنه حتى التجمعات الفرعية التي بدأت نشأتها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية في 1981 لم تضف إلى العمل الوحدوي العربي رغم أنها امتدت لاحقاً لتشمل معظم أرجاء الوطن العربي بقيام مجلس التعاون العربي الذي ضم العراق ومصر والأردن واليمن والاتحاد المغربي الذي ضم موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا في شباط/فبراير 1989؛ إذ لم يُقدَّر لهذه التجمعات أن تحقق درجة معقولة من التنسيق فتحطم مجلس التعاون العربي بعد غزو الكويت وتجمد الاتحاد المغاربي بسبب الخلاف المزمن بين الجزائر والمغرب حول مستقبل الصحراء الغربية، وحتى مجلس التعاون الخليجي الذي كان يُعَد النموذج الوحيد الباقي للاستمرار يمر الآن بمرحلة خطيرة بسبب الأزمة التي تفجرت منذ حزيران/يونيو 2017 على خلفية سياسات النظام القطري تجاه السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ولا يعني هذا إسقاط صيغة الوحدات الجزئية ولكنه يفيد بأنه حتى هذه الصيغة باتت تواجه صعوبات لا بد من البحث في كنهها ومواجهتها على نحو سليم.

3 – رأينا تنقل عبد الناصر غير مرة بين صيغتي «وحدة الصف» و«وحدة الهدف»، فأما الأولى فلأنها الصيغة التي يمكن أن تجمع الدول العربية كلها في تطبيق حرفي للوحدة العربية الشاملة، وأما الثانية فلأنها الصيغة الآمنة التي تمنع تسلل نظم بعينها إلى محاولات وحدوية بحيث تسعى لتخريبها، وقد حدث هذا التنقل بين الصيغتين لاعتبارات عملية؛ فقد حدث الانتقال من الصيغة الأولى إلى الثانية في إطار التأكيد التام من جانب عبد الناصر لمسؤولية الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية المتحالفة معهما عن إسقاط تجربة الوحدة. ثم جاءت العودة إلى الصيغة الأولى بعد تفاقم التهديدات الإسرائيلية لمياه نهر الأردن، التي فشلت بدورها مجدداً في تصفية الخلافات العربية وعلى رأسها الصراع حول الثورة اليمنية، فتمت العودة إلى الصيغة الثانية مرة أخرى تحت اسم «وحدة القوى الثورية»، وهي عودة سرعان ما قطعها العدوان الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1967 ليعود عبد الناصر إلى الصيغة الأولى ويُبقي عليها حتى رحيله إلى رحاب ربه. ومن الممكن الافتراض بقدر كبير من اليقين بأن الانتقال مجدداً إلى صيغة «وحدة القوى الثورية» كان ليحدث لو مد الله سبحانه وتعالى في عمره حتى يكمل مهمة إزالة آثار العدوان. ويلاحظ أنه حتى «وحدة القوى الثورية» كانت تعاني إشكالية كما تبدّى في العلاقة بين دولة الوحدة والنظام الثوري في العراق، وكذلك في العلاقة بين عبد الناصر وحزب البعث.

وللأسف فإن ظاهرة الخلاف بين الفصائل القومية امتدت لاحقاً إلى الفصيل الواحد، فحدث الخلاف بين بعث سورية وبعث العراق، وكلاهما في الحكم، وتفاقم الخلاف بين البلدين أثناء تفرُّد البعث بالحكم فيهما معاً، كما تشظت التنظيمات الناصرية في البلد العربي الواحد على نحو مخجل ومحبط، كما حدث في مصر واليمن على سبيل المثال لا الحصر. قد يكون الدرس المستفاد من هذا كله هو ضرورة التركيز على تحقيق الفصائل القومية العربية وحدتها قبل الحديث عن مهمة الوحدة العربية وصعوبتها كي تتمكن هذه الفصائل من مواجهة ما يعترضها من تحديات جسيمة لا قِبل لها بمواجهتها وهي على هذه الحالة من التشظي والضعف، ومن المؤكد أن تحقيق وحدة الفصائل القومية العربية تمثل الآن المهمة الأولى أمام هذه الفصائل في ظل الأوضاع العربية المتردية الراهنة قبل رفاهية الحديث عن الخيار بين وحدة الصف ووحدة الهدف.

4 – لاحظنا أن عبد الناصر لم يتناول على الإطلاق مسؤولية الصيغة الاندماجية للوحدة المصرية – السورية عن فشلها في إطار تركيزه على مسؤولية الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية عن تفكيك الوحدة. وتحتاج هذه المسألة بالذات اجتهاداً موضوعياً صادقاً، إذ إنه مع الاتفاق على المسؤولية الجسيمة لهذه العوامل الخارجية عن الانفصال إلا أن ثمة مسؤولية أخرى لا تقل جسامة عن العوامل الخارجية ومنها – وربما في مقدمتها – عدم ملاءمة الصيغة الاندماجية لحالة التنوع بين الأقطار العربية، بما فيها مصر وسورية. والواقع أن الصيغة الفدرالية تقدم حـلاً مثالياً لإشكالية التنوع في إطار الأمة العربية الواحدة، ويجب أن يكون واضحاً أن الفدرالية في حد ذاتها وحدة اندماجية غير أنها تتميز بإعطاء مكونات الوحدة درجة من الاستقلالية في كل ما لا يتعلق بالسيادة، علماً بأن مفهوم الفدرالية قد شُوِّه في التجربة العراقية بعد الاحتلال. ولا يتعارض هذا الاجتهاد بحال مع الخبرة الوحدوية لجمال عبد الناصر؛ فقد أقر في «الميثاق الوطني» بتعدد الصيغ الدستورية للوحدة وأخذ في مشروع الوحدة الثلاثية مع سورية والعراق بالصيغة الفدرالية.

5 – لم يركز عبد الناصر كثيراً على ما يمكن تسميته «النهج الوظيفي» في تحقيق الوحدة، وإن أشار إليه في سياق اعتراضه أثناء مباحثات الوحدة في كانون الثاني/يناير 1958 على مبدأ الوحدة الفورية بحيث تكون الوحدة الوظيفية في مجالات كالاقتصاد والدفاع والثقافة تمهيداً للوحدة السياسية، ومن الحقيقي أن تجارب التكامل العالمية لا تشير إلى ضمان أن يفضي النهج الوظيفي مهما نجح إلى الوحدة السياسية كما في تجربة الاتحاد الأوروبي، غير أن النهج الوظيفي بالتأكيد يقلل مخاطر الاندماج السريع كما بدت في تجربة الوحدة المصرية – السورية. ومن الواضح أن الظروف العربية الراهنة التي تُعَقد بالتأكيد أي محاولة لتحقيق وحدة سياسية ولو بين دولتين عربيتين اثنتين فقط، تزكي الإقدام على تطبيق النهج الوظيفي ما أمكن، وبالذات في المجالات التي يمكن أن تحقق نقلة نوعية في الأوضاع العربية كالتكامل الاقتصادي الذي يُمَكن نجاحه – ولو جزئياً – من تقليل التبعية الاقتصادية العربية للخارج والتكامل الأمني الذي يمكِن حال نجاحه، ولو بين دول بعينها، أن يقلص من الأدوار الخارجية في معادلة الأمن القومي العربي والتكامل الثقافي المطلوب بشدة لترسيخ الروابط الفكرية بين أبناء الأمة الواحدة وتوظيف التنوع بين الثقافات الفرعية لصالح التماسك بين العرب ومن يعيش معهم على الأرض العربية من جماعات قومية وعرقية أخرى ومواجهة المفاهيم التي تمزق الروابط داخل الأمة العربية على أساس طائفي. غير أنه يجب أن يكون واضحاً أنه حتى التكامل الوظيفي بحاجة إلى حدٍ أدنى من التفاهم السياسي بين نظم الحكم في دولتين أو أكثر.

6 – تبقى مسألة سلمية الوحدة وديمقراطيتها مسألة أساسية في الخبرة الوحدوية لجمال عبد الناصر، وقد بدا هذا واضحاً منذ التمهيد الأول للتجربة حين اشترط بعد التوصل إلى اتفاق مع وفد المجلس العسكري السوري أن يكون الاتفاق النهائي مع الحكومة السورية المنتخبة، ثم عُرضت مسألة الوحدة على استفتاء للجماهير ولم تصبح الوحدة حقيقة واقعة إلا بعد الموافقة شبه الاجتماعية عليها في الاستفتاء، وقد يُوَجه نقد حقيقي للممارسة الديمقراطية في نظام عبد الناصر غير أن سلميتها ليست موضع نقاش في ضوء إدارته أزمة انقلاب الانفصال. فعلى الرغم من ضغوط حقيقية مارستها أساساً عناصر سورية كانت تشغل مناصب رفيعة في دولة الوحدة إلا أنه لم يطرح التدخل العسكري إلا عندما كانت هناك وحدات رئيسية في الجيش السوري لا تزال على ولائها للوحدة، ولم تكن الفكرة وراء هذا التدخل تتمثل بخوض حرب ضد الانفصاليين بقدر ما كانت إرسال رسالة لهم وللجماهير السورية بأن قوى الوحدة قادرة على التصدي للانقلاب، وبمجرد استسلام الوحدات التي بقيت على ولائها للوحدة للانفصاليين أمر عبد الناصر بسحب هذه القوات التي كانت طلائعها قد وصلت بالفعل إلى الأراضي السورية وطُلب منها تسليم نفسها للقيادة الجديدة في سورية وذلك حتى لا تتسبب عملية الحفاظ على الوحدة في حرب أهلية، وقال في هذا السياق عبارته المشهورة ومفادها أنه ليس من المهم أن تبقى سورية جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة ولكن من المهم أن تبقى سورية. وقد وُجه بعض النقد إلى عبد الناصر لهذا النهج السلمي على أساس أن القوة استُخدمت في تجارب الوحدة العالمية كافة إما في تأسيسها وإما في الحفاظ عليها، وتجدد هذا النقد بمناسبة نجاح علي عبد الله صالح في الحفاظ على الوحدة اليمنية بالقوة في حرب الانفصال 1994، غير أننا شهدنا منذ ذلك الوقت وحتى الآن التداعيات السلبية لهذا النصر العسكري على الوحدة اليمنية.

7 – أخيراً، من الواضح أن موقف عبد الناصر من الجامعة العربية يبقى صالحاً ومثالياً حتى الآن، وقد حث في «الميثاق الوطني»، كما سبقت الإشارة، على التمسك بها على أساس أنها قادرة على السير خطوات في طريق التكامل العربي من دون أن يكون هناك أدنى وهْم بخصوص قدرتها على إكمال الشوط إلى نهايته، مع الحرص على ألّا تكون آلية لتجميد الحاضر. ويمكن القول بأنه أوكل إليها جهود التكامل الوظيفي عندما تحدث عن قدرتها على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربي. ومن المؤكد أن جامعة الدول العربية اليوم مغايرة تماماً لجامعة الأمس، بعد أن أصبحت لمراكز القوى المالية الكلمة العليا فيها، وبعد أن تراجعت أدوار دول عربية رئيسية فيها بسبب الظروف الراهنة. وعليه، يبدو أن العمل على توظيف الجامعة في الإطار المحدد والسليم الذي وضعه عبد الناصر بات لا يقل مشقة عن النضال من أجل الوحدة العربية ذاتها.

* * *

تبقى الوحدة العربية قضية مصير ومستقبل بالنسبة إلى الأمة العربية، ولا حاجة بنا في هذا السياق إلى تكرار الحديث عن الأهمية الاستراتيجية للوحدة في مواجهة التحديات الراهنة التي تعصف بالنظام العربي. ولا شك في أن كل عربي مخلص لعروبته يتحمل مسؤولية جسيمة في الدفاع عن فكرة الوحدة وبيان جدواها والنضال من أجل إعادتها إلى جدول الأعمال العربي بالاستفادة من دروس النضال السابقة على طريق تحقيق الوحدة. ولا شك في أن خبرة الزعيم جمال عبد الناصر تكتسب دلالات باقية وبالغة الأهمية في هذا السياق.