تمهيد

توفي عَالم الاجتماع التونسي عبد القادر الجليدي سنة 2007، بداية اكتمال نضجه العلمي. وقد ركّز في حياته العلمية على قطاعين سوسيولوجيين رئيسيين، هما: علم اجتماع الدين وعلم اجتماع التنمية.

وقد كانت بدايات مراكماته العلمية بقطاع علم اجتماع الدين. فكانت مذكّرتاه العلميتان الأوليان في ظاهرة الإحياء الديني في الملاسين وفي الظاهرة الدينية في التجمعات القروية بجزيرة جرْبة.

أولاً: ظاهرة الإحياء الديني في الملاسين(**)

اكتفى عبد القادر الجليدي في هذا المبحث «بالتقريب والتوفيق بين أهم النقاط النظرية والمبادئ الأساسية لعلم العمران». فهو سيحاول بناء نسيج نظري خاص بفتح آفاق نظرية واسعة ومستقبلية. ولهذا فهو سيحاول الابتعاد «عن التحجّر النظري وعن الدغمائية في التحليل» و«القبليات في النتائج» (ص 8).

في نموذج التحليل، توخّى الباحث اعتماد البعد الهيكلي «في الكشف عن أهم السمات والعلامات العمرانية داخل حي الملاسين. ومن هنا يمكن أن تؤدي هذه الطريقة إلى نوع من الدراسة القطبية للحي، وهي الدراسة التي اعتمدها الأنتروبولوجيون في دراستهم للمجتمعات التقليدية ومن بينهم كلود ليفي ستروس وموس، كما أنها تعتمد التفسير الهيكلي الذي لا يضع المستويات الاقتصادي منطلقا في التفسير، إنما هو عامل من بين العوامل الأخرى، خاصة الأسرة والدين» (ص 9).

وقد اعتمد مفهوم «المؤسسة» مستعاراً من الأنثروبولوجيا الثقافية. أما النموذج النظري المعتمد فهو تاريخي يتأسس على وصف كل المؤسسات عبر التاريخ، مبيّناً كيفية انتشارها وتوزّعها داخل الفضاء المدروس، وعلاقة المؤسسات ببعضها والتوزع الهيكلي للوظائف المؤسسية من أجل الاندماج الاجتماعي داخل الحي، وعلاقة السكان بهذه المؤسسات، مبرزاً الانتماء الطبقي للفاعلين داخلها. وقد نظر الباحث إلى الحي باعتباره «النظام الاجتماعي الذي يحاول توفير الظروف الملائمة للقيام بدوره بصفته مؤسسة اجتماعية داخل الحركة الانتفاضية للعاصمة، المدينة ـ المركز» (ص 10). من أجل حماية «النسق العمراني العام» (ص 10).

1 ـ الفئات الاجتماعية بالحي

من أهمها في نظره «الفئة الفلاحية الريفية النازحة» (ص 11) التي تعتبر «عنصراً مضاداً للتغيير» (ص 11)، فهي صعبة الاندماج والتطوّر، ولا تقبل الانصهار بسرعة وسهولة داخل المؤسسات الاجتماعية، إلّا أنّه لا يمكن أن ننفي إمكانات التمرد وربما [الصُّدوف][1]. فهي «تملك الوعي بذاتها باعتبارها طبقة بل تعتبر نفسها خارج المجتمع المدني نتيجة المعايير والقيم التي اكتسبتها في الريف وحملتها معها للمدينة» (ص 11). «فالهياكل المؤسسية تخلق نماذج من الأجوبة التي عادة ما تكون وليدة تهيئة وتكوين ثقافي مسبق» (ص 11). ولكن إذا كانت هذه المؤسسات «عاجزة عن القيام بوظيفتها (غير الوظيفية) فذلك يعني أنها أصبحت غير قادرة على الإدماج والاندماج الاجتماعيين، وتكون بهذا قد أفسدت وأضاعت أهم الميكانزمات التي من أجلها أُقيمت، ألا وهي الحد من حالة التوتر مع الحفاظ على النظام وسلامة النسق الاجتماعي والعمران» (ص 12). وعدم تفاعل هؤلاء السكان مع هذه المؤسسات «يمكن كشفه وفهمه من خلال درجة الانتماء والولاء العضوي لتلك المؤسسات الدينية وتلك التطورات العقائدية والفكرية التي يحملها هؤلاء عن هذه المؤسسات، إذ يمكن فهمه، كما يقول فَبْلن (Vablen)، من خلال كشف نسبة التباعد بين الانتماء الاجتماعي لهؤلاء المتساكنين والرمز المرجعي الذي يعتنقونه. ومن خلال هذه الثنائية يمكن دراسة الحركة الاجتماعية العمرانية داخل حي الملاسين، ومن هنا يمكن الوقوف على مساهمة المواطن ودوره في بناء الثقافة الحضرية التي تتحكم في الحي» (ص 13).

فكلما أصبحت المؤسسة الدينية والأسرة غير قادرتين على القيام بوظيفة الإدماج الداخلي للحي أو الاندماج داخل النسق العمراني العام للمدينة، يتركان مكانهما لمراكز استقطاب جديدة ومؤسسات قادرة على التوجيه والتأطير العمراني، رغم المشروعية التاريخية التي تتمتع بها هاتان المؤسستان، فقد أصبحتا مزاحمتين من مؤسسات أخرى حديثة مثل مجالس البلدية ومراكز التهيئة العمرانية والإرشاد الاجتماعي والإصلاحيات وغيرها من المؤسسات الثقافية والإدارية السياسية. وهنا كانت إشكالية الباحث: «هل إن المؤسسات الدينية قادرة على المحافظة على وزنها ودورها رغم هذه المحاصرة الشديدة والجديدة. ومن هنالك: هل هي قادرة على إعادة إنتاج الهياكل الفكرية العمرانية القوية والفاعلة في تأطير القضاء الاجتماعي والعمراني للحي المدروس؟» (ص 13).

2 ـ الملاسين بوصفها مؤشراً نظرياً
وميداناً عملياً لعلم العمران الحديث

لاحظ الباحث أن مدينة تونس تمرّ «بمرحلة تغير سريعة تزداد اتساعاً وعمقاً بانتشار الأحياء العفوية حولها، ويؤدي هذا التغيير السريع بطبيعته إلى ظهور مشكلات اجتماعية وعمرانية. وتؤدي هذه المشكلات بدورها إلى قلق الإنسان القاطن داخل هذه الأحياء من ناحية، وإلى انخفاض مقدرته المعيشية والإنتاجية من ناحية أخرى» (ص 15). وذلك يقتضي معرفة المستوى التحضري الذي بلغته المدينة، فتتمتع مصير المدينة ذاتها. وهنا «لا بدّ من التعرض لابن خلدون من خلال تحليله للعمران البشري في المدن الإسلامية إذ إنه استطاع أن يَقف على مثل هذه الظواهر التي أراد أن يكشف عنها علم الاجتماع العمراني الحديث إذ استطاع إبراز أهمية التجمعات الدينية باعتبارها ثقافة سائدة داخل المجتمع (…) فعالج ولأوّل مرّة الأسس الاجتماعية التي يجب الاعتماد عليها لبناء علم اجتماع عمراني حديث» (ص 17).

يستشهد الباحث بابن خلدون: «إن الحضارة هي غاية العمران»، ويعود إلى تصنيفه المدن حسب مستويات تطورها: «فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في الترف أبلغ حال المصر الذي دوَّنه على وتيرة واحدة في الأصناف: القاضي مع القاضي، والتاجر مع التاجر، والصانع مع الصانع، والسوقي مع السوقي، والأمير مع الأمير، والشرطي مع الشرطي» (ص 17).

ويرى عبد القادر الجليدي أن علماء الاجتماع المعاصرين قد «توصلوا إلى نفس الاستنتاجات بأسلوب حديث، إذ يرون أنه رغم انخفاض نسبة سكان المدن في البلاد العربية فإن المدينة تمتاز بتفوّق النفوذ، فهي بقدر ما تمارس نفوذ أقوياء فإنها تحدد نسبة التطور الحضاري لسائر فئات الشعب وتحدد سياسة الحكومة» (ص 17). «فهي مراكز تتجمع فيها عوامل القلق في البلدان المتخلفة، وهي أيضاً مراكز تخريج أهم القيادات المستقبلية بين الشباب الجامعي الذي يتأثر مباشرة بحياة المدن. وهي مراكز اتّصال بالعالم الخارجي» (ص 18).

ويلاحظ الباحث أن السياسة العمرانية في القطر التونسي تمتاز «بالتفكك وعدم الاندماج الاجتماعي للمواطن داخل المؤسسات العمرانية المكوّنة للحي والمدينة، فالمواطن ما زال يعيش الهامشية نتيجة غياب الوعي الثقافي العمراني لديه» (ص 20).

3 ـ نظرة مرفولوجية وتاريخية لحي الملاسين

في تقديم عبد القادر الجليدي الحيَّ يعتمد المخطوطات والنقائش المعثور عليها عام 1978 ويعود إلى كتب الرحلات ليكشف الحي «مركزاً عقائديّاً روحيّاً من العهد الوسيط إلى اليوم، إذ يشتمل على كل أركان الحياة العقائدية من زوايا ومساجد وتربة ومقابر مقامة فوق الضرائح. وقد استطاعت هذه المؤسسات أن تتغلغل في أدق تفاصيل حياة المتساكن ونشاطاته الاقتصادية والاجتماعية إلى حدّ أواخر فترة الاستعمار. ولكن المتساكن حافظ على بقايا الطابع الديني والعقائدي في احترامه للأولياء المحيطين بالحي مع المحافظة على علاقته بالمسجد المحوري للحي (أحمد المراكشي). فقد أصبح هذا المسجد اليوم نقطة للإنتاج الثقافي والديني ونقطة اجتماع سكان الحي، ومكاناً للقيام ببعض الممارسات الاجتماعية (طُهُورْ[2]، قران، وغيرهما)، فهو نبراس الاستقامة الاجتماعيةِ الدينيةِ الأخلاقية إذ السكان لا يُقْسمون إلّا باسمه مثلاً» (ص 27).

ويرى عبد القادر الجليدي أن الحي «ما زال يمارس نفوذاً قوياً يفوق بكثير نفوذ الريف في حياة القاطنين في هذا الحي، ويفوق نسبياً نفوذ سياسة الحكومة والسلطات الإدارية والقانونية أعني الإيديولوجية للنظام الاجتماعي الجديد والحالي (…) فهو قادر على أن يتحول إلى مركز حضري هام فضلاً عن كونه مركزاً يحتاجه السكان الريفيون النازحون الذين لم يستطيعوا الاندماج في النسق المديني العام (…) فهو أعظم من قرية وأصغر من مدينة» (ص 32).

ويؤكّد الباحث أن «المسجد نقطة الاستقطاب الأولى في هذا الحي بجانب الخلوات وزوايا الفقهاء والعلماء الصوفيين، فبتأسيس مسجد التوفيق في العهد الحفصي، تجمع السكان على هضبة 9 أفريل [نيسان/أبريل] غربيّ القصبة، ثم بنى بتأسيس مسجد عبد الله المراكشي فيما بعد، تحول السفح المنبسط إلى تجمع عمراني هام» (ص 45). «وهكذا لا يمكن أن يخرج حي الملاسين من الهامشية إلّا الأصالة والتحذر. أما التهميش الذي يعيشه فهو ليس لغياب هذه المؤسسات المدينية [المسجد….] وغيرها، بل هو وليد إدارة وقرار سياسي للسلطة» (ص 47).

إن هذا الحي «يملك نمطاً تفكيرياً خاصاً به ويمثل مرجعاً سلوكياً للأجيال التي تقطنه. ولعل للمؤسسات الدينية دوراً فعالاً وإيجابياً في تحديد هوية الحي» (ص 48). ولذلك من العسير الحديث عن الملاسين باعتباره «حياً قصديرياً هامشياً، بل يصبح صعباً الانطلاق من التحديد الاقتصادوي ولا أقول الاقتصادي، صعباً» (ص 50)، إذ هو تحديد مفرط في الاقتصادية. فحي الملاسين يعيش فعلاً «مظهراً من مظاهر المجتمع المفكك والمشوَّه في علاقات الاجتماعية» (ص 51)، ولكنه مرتبط «بقيام الحركات الدينية وأمر من السلطة المركزية في تلك الحقبات، من بناء المؤسسات الدينية والزوايا الصوفية منذ بني خراسان إلى فترة حمودة باشا» (ص 52) وهذا التجذر يمنع «تحويل مركز شعبة علي البلهوان في الحي إلى مصلى ثم إلى مسجد» (ص 51). ويستشهد بنيويورك وبوسطن اللتين كانتا منعزلتين ثم استطاعتا الاندماج مع بقية مكونات المجتمع الأمريكي، ويتساءل: «فلماذا لا يمر حي الملاسين بمثل هذه المراحل ويخرُج من عزلته وتهميشه؟» (ص 53). ويؤكد أن «مساكن الطوب والأكواخ لم تبرز في حي الملاسين إلا مع فترة الاستعمار» (ص 54).

ويرى الباحث أن الحي «عنصر أساسي في هيكلة المدينة» (ص 56)، وتنعكس عليه تأثيرات كل «الصراعات المذهبية قديماً وآثار الحركات الاجتماعية والانتكاسات الاقتصادية عموماً» (ص 57)، وما زالت المنطقة «تعيش على مبيعات القوت اليومي ولو وجبة واحدة في اليوم. فالكثير يبيعون بعض بقايا الخضر التي لا تساوي جملياً وزنة ثلاثة كيلوغرامات بالضبط، وهناك من يجلس وأمامه مجموعة من الحلوى ودَوَّار الشمس. أما الدكاكين فكثيراً ما تبيع مشتقات حليب البقر. فهو ما زال يستمد من طبيعته الفلاحية التي ازدهرت في العهد الحفصي وانهارت مع بداية تسلل الإيطاليين في فترة الاستعمار المباشر». وما زالت المنطقة تمثل المنطقة الاستراتيجية عسكرياً منذ العهد الاستعماري إلى اليوم. فهي المنطقة التي تضم تمركز دائرة الأمن لمدينة تونس ومنطقة السيجومي خاصةً (ص 84).

4 ـ المؤسسات الدينية وتأثيرها في تحديد
هيكلة الحي الاجتماعية والفكرية

يرى الباحث أن مصير الحي منذ القديم «تتحكم فيه ظروف يلعب فيها العنصر الديني دوراً هاماً في توجيه الأحداث اليومية البسيطة في حياة الأهالي» (ص 136)، «والأحداث التي تبدو عرضيّة (الانحرافات والمناوشات بين أهالي الحي والصلاة وتنافر الجيران وغيرها) يمكن أن تكون بدورها تحت تأثير الوازع الديني العقائدي المذهبي (…) فمن كان من وافدي المراكشي فهو مالكي ومن كان من وافدي التوفيق فهو حنفي» (ص 136). وهذه الممارسات اليومية تحدد الأحداث الهيكلية وتوجهها، وهي «التي لها انعكاسات مباشرة على الحراك الاجتماعي العام لهذا العمران البشري (أمثال أحداث 1938 و1978 و1980 و1984)» (ص 136).

يمثل الحي نقطة التقاء بين الشمال الغربي (جندوبة، عين دراهم، الكاف) والجنوب الغربي (الحامّة، مطماطة)، وبين شمال مدينة تونس وغربها وجنوبها ومركزها (ص 135). و25 بالمئة من السكان أصلهم من العاصمة، وأكبر من ذلك من جهة الكاف.

ويلاحظ الباحث أن علاقة الملاسين بالمدينة والأرباض الأخرى «امتازت بالطابع العدائي منذ القديم إلى اليوم، وذلك مردّه إلى عدم التوازن بين الطرفين ولغياب التفاعل المنظم والسليم» (ص 184). ففي الماضي، كان السكان يصطادون بالجبل الأحمر الأرانب وغيرها، ويدخلون المدينة ليلاً من باب غَدَّارْ للبحث عن فواضل السوق أو السطو والسرقة (ص 183).

وقد اكتشف أن النسق العمراني بحي الملاسين «يمتاز بأحادية الجانب فإنه يعمل في اتجاه واحد ألا وهي الاستقطاب وليس الإشعاع والتأثير في الأنساق المجاورة، وهذه سمة من سمات المؤسسة الدينية (الزاوية) (…) فهي تؤثر في القادمين إليها دون أن تبني تفاعلاً دائماً بينها وبين هؤلاء القادمين» (ص 184). فهي على عكس المسجد، باعتباره مؤسسة عمرانية، ذات دور فعّال في نشأة المدن، كمسجد التوفيق ومسجد المراكشي (ص 165).

وقد رفض إمام مسجد التوفيق محاورة الباحث متعللاً بضرورة استظهاره برخصة من إدارة الشعائر الدينية أو الاتصال قبلاً بإمام الجمعة، فالمسجد عكس الزاوية، خاضع للسلطة السياسية وممثل لها (ص 119).

ويلاحظ الباحث تحول التوجه الصوفي[3] «إلى وعي اجتماعي منظم لليوميّ» (ص 123) فتُقام في الزاوية الأفراح والسهرات الدينية والصوفية «وتوزع فيه المأكولات بين الجياع، وفيها تقام طُهورات أطفال الحي» وتُنَظَّم «الزِرْد» وتوزع فيها الصدقات (ص 123). ويعتقد المنخرطون في التوجه الصوفي أنّ «العبادة وملازمة المسجد تنجيانهم من العقوبة الإلهية، وتوفران لهم السعادة والراحة الدنيوية، وربما تنجيانهم من فقر الدنيا يوماً ما» (ص 184).

وقد اكتشف تعديلات في الخطاب المسجدي حسب التحولات والصراعات السياسية بالبلاد، فالإسلام السياسي كان يستخدم زاوية المراكشي في التعبئة الجماهيرية (تحريض على الصلاة والعبادة وغيرها) منذ سنة 1972 خاصة مع تراجع «شعبية» فرع شعبة علي البلهوان (ص 210).

ولكن لم يستطع الإسلام السياسي «تأطير الأحداث في الحي، عكس ما فعله في حي الخضراء، إذ تمكنت من محاصرة التحركات الجماهيرية ولم تشارك فيها» في الثالث من كانون الثاني/يناير عام 1984 (ص 215). فلم يستطع «احتواء الصراعات والتناقضات الاجتماعية» (ص 216)، «ولم يتخلص من بُعده الصوفي الخرافي» أي لم يعمل على تغيير الواقع بل اكتفى بوصفه وتفسيره (ص 217).

وقد عاين الباحث «الانفصال بين المحتوى الإيديولوجي والتكيف الوظيفي للمؤسسات الدينية في الفترة الحالية داخل الملاسين، عكس الفترات الأخرى التي امتازت بالتكامل بين الخطاب والممارسة (…) فالحركة العمرانية في الملاسين في الفترة الحالية تجاوزت الخطاب الدّيني فلم تعد صورة له أو نتيجة له (…) فأساس الحركة العمرانية [أصبح] يولد الوضع الاقتصادي الاجتماعي من تناقضات وإفرازات ثقافية بمعزل عن المؤسسة الدينية» (ص 218).

ثانياً: الظاهرة الدّينية في التجمعات القروية بجزيرة جربة(*)

1 ـ المسألة الدينية والقرية

ينطلق الباحث من أن «المسألة الدينية لم تعد مجرد ممارسة الطقوس أو التخلي عنها، بل أصبحت تمثل ظاهرة سياسية اجتماعية تتمحور حولها طبيعة السلطة ونوعية الدولة، ولهذا كانت تفعل في الأحداث وتوجهها» (ص 1). ويختصر أهداف بحثه في «تَقصِّي دور الدين في تحديد الحراك الاجتماعي وتوجيهه، فهل يمكن أن يصبح «الدين» بهذا مقولة نظرية اجتماعية لفهم العلاقات الاجتماعية؟ وما هي الأشكال والتشكلات التي يمكن أن يأخذها التغيير الديني في التجمعات القروية الفلاحية الحضرية التي يعتبر الدين فيها الخبرة من الركائز الاجتماعية؟» (ص 5).

يعرِّف الباحث القرية بأنها «مستقرّ سكاني بملك من القيم الحضرية التي تمكنه من ممارسة حياته الاجتماعية، وذلك بارتباطه بنظام الملكية والنظام العقائدي الذي ينتمي إليه سكانه» (ص 6).

وهو يرى أن عزلة قرى جربة جعلها مصدراً لخصوبة حركتها الدينية (الإباضية) وانفراديتها السياسية في (مقاومة الاستعمار الفرنسي، وفي الحركة اليوسفية…) (ص 7).

لقد كانت النقود والشراء والبيع ظواهر قديمة بجربة طوّرت الهجرة التجارية (ص 72)، وكرّست «الملكية الخاصة والتمايز الطبقي»، مع وجود أراضي الأحباس التي انتزعتها الدولة الوطنية (ص 73). ولكن النشاط الفلاحي اليوم لم يعد نشاطاً رئيسياً (ص 74) رغم محافظته على كونه عملاً من أعمال الاكتفاء الذاتي. وقد حافظ العمل الفلاحي على طابعه الأسري المنزلي مع سمات «العلاقات الإقطاعية»، بالحصّة وبالخماسة، إلى جانب وجود العمال الفلاحين (ص 75). وقد ظهرت التجارة السياحية والحرف الصناعية والمشاريع التجارية المربحة كالمقاولة في البناء ومشاريع التوريد والتصدير إلى جانب الخدمات الإدارية والسياحية. أمّا التجارة داخل الجزيرة وخارجها «فتحتل موقعاً اجتماعياً خاصّاً» (ص 76).

ويؤكد الباحث أن «القرى في جربة لم تتحول إلى مدن ولا يمكنها هذا التحول» (ص 77)، لأن القرية تقوم في وجهها الداخلي (على مساواة متشددة تقيم التمايز بين السكان الأصليين فيما بينهم، وبين الأصليين مجمعين وبين الوافدين الجدد فتتعلق هذه المساواة المتشددة بتراتبية واضحة بين أفراد الأسرة الممتدة، وبين الأسر عموماً. وقد كانت هذه التراتبية تحدث بين القبائل المكونة للجزيرة قديماً تمايزاً على المستوى العقائدي إذ نجد أن الأسرة المالكة للأرض والتجارة ذات المذهب الإباضي هي التي تتربع في أعلى الهرم الاجتماعي (ص 77)، وهي تمتلك أراضيَ حتى خارج جربة (بن قردان، جرجيس…) مكلفين حراساً وأمناء وأُسراً فقيرة (عرب) بحرث «الغابات» (أي الأملاك العائلية) التي تضمّ (العنب والتين والحطب والمراعي والمحاصيل…) (ص 79).

2 ـ جربة بوصفها تجمعاً قروياً دينياً مذهبياً

يرتبط التفكير الديني بهذه التجمعات بين الممارسة الدينية والحياة الاقتصادية الاجتماعية، «فالانتماء المذهبي والعقائدي هو بالأساس يمثل تعبيرة فكرية وإيديولوجية للأسر والطبقات الاجتماعية المسيطرة والمهيمنة في جربة» (ص 81).

يشتغل العرب المالكية في متاجر الإباضية بأثمان زهيدة أو بضمان القوت اليومي، وفي البناء وكل الأعمال المنزلية، «وفي بعض الأحيان يشتغل كل أفراد الأسرة (…) لصالح الأسرة الإقطاعية، ولا حقّ لهذه الأسرة في أن تعقد أفرادها أو أتراحها إلّا بعد استشارة الإقطاعي، وهي معرضة للطرد إذا لم تَقم بالأعمال المطلوبة» (ص 87). وإلى جانبهم نجد الرقيق لدى العائلات التي تحمل ألقاب الحاج قاسم وحاج علي وهنشيري وغيرها. ونجد تجمعاً قروياً يقطنه الزنوج (ميدون الجنوبية) (ص 88). و«لا يمكن تعيين شيخ أو عمدة أو رئيس شعبة إلّا من صلب هذه الأسر [الإقطاعية]» (ص 88). «ولعل الصراعات الحادّة والدموية التي وقعت عند تنصيب عمدة سَدْوِيكش في شهر جويلية 1988 دليل على ذلك، والصراع الاجتماعي الحاد الذي خيض من أجل تصعيد عمادة ميدون، ثم التنصيب الذي وقع في المحبوبين وتوزيع ممثلي الدوائر الحزبية بميدون في مؤتمر الإنقاذ سنة 1988 (26 ـ 27 تموز/يوليو). فقد اعْتُمِدَ على الموقع الاجتماعي والاقتصادي السياسي للممثلين، وخاصة الأصل والموقع الأسريين» (ص 88). فلم يكن هناك أي «عَرْبي» (ص 88). ولا يمكن للعرب المشاركة في أفراح الأقرباء ومآتمهم (ص 89). وقد وجدت حركة الاتجاه الإسلامي «سندها في هذه الطبقة الإقطاعية وأساساً في مثقفي وبعض الفئات الفقيرة الطامحة إلى التملك الإقطاعي أو البرجوازي التجاري» (ص 90)، ولكن الباحث لم يقدم هنا إحصاءات.

في الجهة الشمالية الشرقية «جماعة الخُمْس التي تفرع إلى خمس مجموعات، وكل خُمس ينتمي إلى أصل أسري عقائدي معيَّن». وفي الجنوب الغربي نرى الجماعة الإباضية الوَهْبِيَّة التي تعرضت إلى تغيير ديمغرافي نسبي لحركة الوافدين (وادي الزبيب، وادي مغار وفي أجيم…) (ص 90).

وقد ضبطت الأسواق الأسبوعية مواعيدها حسب التوجه العقائدي. فالأسواق التي تقصدها الأكثرية الإباضية تكون دائماً خارج يوم الجمعة، وأما الأسواق التي تقصدها الأكثرية المالكية بميدون فيوم الجمعة، فالتعامل التجاري لدى أكثرية الإباضية محرَّم يوم الجمعة قبل موعد صلاة الجمعة وبعده (ص 92). كما أن الإباضية لا يتاجرون في كل شيء عكس الجماعة المالكية (ص 93).

وهذا التقسيم التجزيئي ذو الطابع المذهبي يضمن نوعاً من الاستقلالية النسبية عن السلطة المركزية، ويخرج الجرابة من كل الأزمات الاقتصادية العامة في كل المراحل التاريخية وخاصة في فترة الهيمنة الاستعمارية المباشرة (ص 93).

وقد اعتمدت الحركة الدينية الحديثة بجربة في تنظيمها الإباضي مبدأ التراتب التسلسلي، وكانت المراقبة فيه حكراً على مجموعة صغيرة من الشيوخ لا يتجاوزون 13. أما في المجموعات الأخرى فالمراقبة الاجتماعية والاقتصادية لمجلس الأسرة الذي يتكون من كبار الرجال يرأسهم كبيرهم. «ويستند سلطان هذه المؤسسات التقليدية المتجددة بالتوارث على عناصر متوسطة العمر وشابة تمتاز بالحركة والتنقل التجاري»، ومراقبتهم ذات أخلاقية اقتصادية (ص 197). وهذا ما سيحافظ على تواصل سيطرة الأسرة وممتلكاتها، «إلّا أن مبدأ الانتداب سيتقلص تدريجياً، فهذه المجموعات ستعتمد على التنشئة الداخلية وستمارس الأسرة الدور الرئيس في نقل القيم والمعايير الأخلاقية عوضاً عن المؤسسات الدينية الأخرى، وهذا مما يؤكّد أن الانتداب المهني لا يستند إلى الدعاية والتعبئة الجماهيرية الحرة، بل إلى الانتماء الاجتماعي والموقع الاقتصادي للأسرة» (ص 197 ـ 198). ومن الأدلة على ذلك أن اللغة الأمازيغية لا تلقن للطفل بالمدرسة بل داخل الأسرة وبين الأسر (ص 198).

ويرى الباحث أن الحركة الدينية بتأديتها هذه الوظيفة استطاعت إيجاد «التوافق الإيديولوجي بين الاستلاب الاقتصادي للفرد الذي رأيناه في اختياره العمل الشاق والاستلاب الفكري الديني، عبر عدم القدرة على الاختيار الحر للقيم الاجتماعية المناسبة بشخصيته وذاته. وبهذا، فوظيفة الحركة الدينية من خلال هذا التوافق الإيديولوجي، تتمثل في تغييب المواجهة الاجتماعية المحتملة بين الفئات الاجتماعية الثلاث وبين الفئات الاجتماعية الوافدة، هذه المواجهة التي يحكمها قانون الصراع الدامي» (ص 201).

وهو يرى أن الحركة الدينية في جربة تشتمل على وجهين (الشكل الرسمي للجماعة الفقهية) و(الشكل الشعْبي لأوسع الناس). أما الديانة الشعبية فهي التي تمارسها الجماهير، «فالمعتقدات والممارسات التعبدية تدرج في تقليد الجماعة المشرفة على تلك المؤسسات (نظام العزّابة، ديوان الشيوخ، المساجد، الزوايا)» (ص 212).

ويؤكد الباحث أن «المؤسسات الدينية التقليدية في الجهات القروية بجربة من ديوان العزابة وصولاً إلى زوايا الطرق الصوفية وزوايا العشائر[4] (عبد العلا، سيدي خليفة، الساطوري، وغيرها) تنكر بحدة مبدأ التحول وتحاول أن تقف أمام كل اختراق تحويلي لهذه القيم والمعايير» (ص 217). ولكنّ الحركة الدينية لم تعد ذات سيطرة كلية واستقلالية قوية كالماضي، فقد أصبحت «مجرد تعبير عن شعور بالتبعية للقوّة الاجتماعية المسيطرة» (ص 220).

3 ـ الحركة الدينية المعاصرة

لم يسجل الباحث في الفترة الحديثة إلى أوائل القرن العشرين «حركات ذات طابع ديني ناهضت السلطة وقاومت الاضطهاد الإقطاعي والتغلغل الاستعماري، وخاصة في أعماق الأرياف ذات الانتماء الإباضي» (ص 356).

وهو يؤكد أنّ الحركة الدينية المعاصرة لن تخرج «عن الإطار التنظيمي للحركة الاجتماعية والاقتصادية، وستحاول أن تضع نفسها أداة من الأدوات الإيديولوجية لهذه الممارسة الاجتماعية والاقتصادية» (ص 373). وقد عاقت «تشكل حركة علمانية معاصرة، فالتشكل الاجتماعي العمودي يستند إلى قانون الصراع الاجتماعي من أجل التغيير والتطور (…) وهي تراوح بين أن تكون حركة احتجاجية مناهضة للسلطة والنظام الاجتماعي وبين أن تكون حركة اتباعية مساندة لعلاقات الإنتاج السائدة. ولكن حتى إن كان التغيب بالمستوى السياسي، فإننا نلاحظ الاندفاع القوي على المستوى الإيديولوجي والاقتصادي» (ص 374).

ويلاحظ الباحث أن حركة الدعوة والتبليغ تكتفي بالدعاية والتأطير الديني والتحريض التعبدي في المؤسسة الدينية (الجامع والمسجد)، «إلى جانب تلك الفرق المتجولة على المستوى العالمي ـ السعودي» (ص 382). أمّا الإسلام السياسي فقد انتظر سنوات (1976 ـ 1978) عندما بدأت السياحة والتصنيع المحدث في إطار قانون نيسان/أبريل 1972 إعطاء نتائجهما، وحركته «لا تعبّر عن الوعي الشعبي والفهم العامي للدين» بتلك التجمعات القروية، ولكنها في مواجهة الخطاب الديني السلطوي (ص 386)، مستفيدةً من الإرث الفقهي القديم (ص 388)، ومعيدةً تنشيط «أسس الانتماء المذهبي التقليدي وتحويله إلى انتماء للحركة الدينية عموماً» (ص 394).

خاتمة

قدّم عبد القادر الجليدي عملين ممتازين في علم اجتماع الدين، في بداية تكوّنه السوسيولوجي، بإشراف أ. فرج الإسطمبولي. وقد تميّزا بالاعتماد المَفاهيمي المتقن على «علم العمران» الخلدوني (خاصة في العمل الأوّل) وعلم الاجتماع الماركسي (مقولة الطبقة ومقولة الإقطاع). فهما يستحقان النشر تكريماً لصاحبهما، ولكن هذا الإتقان قد يعني بعض التعسف أحيانا، فليس هناك «فِيُودَالية» فعلاً، ولا يمكن وجود ملكيات ذراعية شاسعة في جزيرة صغيرة، ذات تربة صعبة، كما أنّ العمَّال هناك إمّا «أحرار» أو «عبيد» يعملون بالحصَّة (خُمس أو سُدس أو غير ذلك) وليسوا أقناناً كما في ذلك النمط الإنتاجي الأوروبي.

ورغم ذلك فقد كانا عملين في صُلب المعايير السوسيولوجية والمنهجية، مرتبطين بالميدان (الملّاسين وجربة)، في وقت ارتبطت فيه الكثير من الأعمال السوسيولوجية بالكبروي والعمومي والقطري، مما جعل مطبّاتها الإيبيستمولوجية والمنهجية عديدة. ولكن من سوء الحظ أن عبد القادر الجليدي لم يُراكم في علم اجتماع الدّين لينضّج التجربة، إذ سرعان ما صَدَفَ نحو علم اجتماع التّنمية.

كتب ذات صلة:

تونس فرادة عربية

ابن خلدون : سيرة فكرية

فكر ابن خلدون، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي