المؤلف: برنار لايير

ترجمة: بشير السباعي

مراجعة: محمد صلاح غازي (**) 

الناشر:المركز القومي للترجمة، القاهرة

سنة النشر: 2015

 

إن تنوع طرائق بحث التاريخ أو علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، هو كاشف لتباين وجهات النظر وتباين الاهتمامات المعرفية، أي تباين الأسئلة التي يطرحها الباحثون على أنفسهم أو تباين المشكلات التي يرمون بشكل معلن إلى هذا الحد أو ذاك إلى حلها.

لكن غياب النظر في هذا التباين إنما يسهم في حجب الوحدة العميقة التي تعيد ربط البحوث المتنوعة المنتمية إلى مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد تظهر مثل هذه الوحدة الأساسية بوضوح أكثر كثيراً إن لم يسعَ العلماء إلى فرض طريقتهم في العمل بوصفها الطريقة الممكنة الوحيدة المناسبة.

والحال أن مواءمة النماذج النظرية أو مؤشرات التحليل مع مستويات الواقع الاجتماعي المستهدفة بالبحث، ومع نطاقات الملاحظة المتبناة، ومع أنماط الموضوعات موضع البحث ومع المشكلات التي نطرحها بخصوصها، إنما تعني التمتع بإمكانية رؤية أوضح للأمور في تنوعها وإعادة اجتياز مختلف الأعمال البحثية بوصفها أيضاً تحقيقات جزئية لبرنامج أعم لدراسة أشكال السلوك البشري.

بهذه المقدمة بدأ عالم الاجتماع الفرنسي برنار لايير كتاب عالم متعدد الأبعاد.. تأملات في وحدة العلوم الاجتماعية، الذي نقله من الفرنسية إلى العربية المترجم البارز بشير السباعي وصدر مؤخراً عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة.

على أن الشعور بتشتت بحوث العلوم الإنسانية والاجتماعية لا ينبع فقط من تنوع طرائق بناء موضوعات البحث. فهذا الشعور ناتج أيضاً من التقسيم الاجتماعي الكبير جداً للعمل العلمي إلى فروع منفصلة، حيث نجد علوم «النفس» وعلوم «اللغة» وعلم «المجتمع»، وإلى قطاعات متخصصة في داخل كل فرع معرفي.

ومثل هذا التخصص العلمي المفرط – الذي يدفع باحثين مختلفين (في فروع معرفية مختلفة أو في الفرع المعرفي الواحد) إلى أن يدرسوا بشكل منفصل كل مجال من مجالات الممارسات، كل قطاع من قطاعات الحياة الاجتماعية، وإلى صوغ نظريات جزئية عن الفاعل الاجتماعي – لا يفعل سوى المواظبة العمياء للسيرورة التاريخية للتمايز الاجتماعي للأنشطة.

والحال أن العلماء، وقد احتوتهم حركة التمايز هذه، التي تميز المجتمعات الحديثة، إنما تقل قدرتهم أكثر فأكثر على دراسة آثار هذه الحركة، فكيف يتسنى تكوين رؤية شاملة للعالم الاجتماعي بينما يدفع كل شيء كل فئة من الباحثين إلى الانكباب كلية على دراسة أجزاء صغيرة جداً من هذا العالم؟

وكيف يمكن الاحتفاظ بمفهوم مركب للأفراد الموجودين في مجتمع بينما انقسامات الفروع المعرفية أولاً، ثم التخصصات في داخل الفرع المعرفي الواحد ثانياً، تجبر الباحثين على العمل على أبعاد للممارسات الفردية هي في كل مرة أبعاد نوعية؟ وكيف يمكن الحفاظ على مستوى رفيع للإبداع العلمي بينما يقود مفهوم ضيق للمهنية بشكل عفوي إلى تخصص مفرط وتطبيع تدجيني للبحوث والباحثين؟

إن الرد على مجمل هذه الأسئلة إنما يعني الاستيعاب الكامل لرهانات ولتحديات العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة بالسعي إلى إعادة التواصل مع الطموحات العلمية الأصلية الكبرى – طموحات إميل دوركايم أو ماكس فيبر خاصة – مع تفادي الارتداد إلى الأشكال المتراخية إمبيريقياً والداعية نظرياً إلى فكر «الكلية» أو فكر «التركيب».

تنصبّ المسألة المحورية التي يطرحها هذا الكتاب – بوجه أخص – على جانب من هذه الصيغة العلمية، ألا وهو جانب أطر الفعل المناسبة التي يجب رصد موقع الفاعلين فيها إن كنا نريد فهم هذا السلوك أو ذاك.

هذا البعد من أبعاد ممارساتهم أو ذاك، وهذا الجانب، بهذا المعنى، ليس مستقـلاً عن المسألة السوسيولوجية المركزية المتعلقة بالتمايز الاجتماعي للوظائف ولمجالات النشاط: فالعالم الاجتماعي قد عرف سيرورة طويلة لتمايز مجالات الممارسات وهذا له آثاره – التي يجب على الباحثين أخذها في الحسبان – في صوغ بيِّنة الأفعال البشرية التي تندرج في منطق سياق نوعي دوماً.

لكن هذا التمايز الموضوعي في المجال الاجتماعي التاريخي الواقعي ليس السبب الوحيد لتنوع أطر الفعل التي يهتم بها الباحثون، وهو ليس السبب الوحيد لحجمها وطبيعتها، وبخاصة طبيعة العناصر المنظور إليها بوصفها مناسبة ضمن هذه الأطر.

أولاً: الاستبعادات

الفصل الأول بعنوان «صيغة علمية موحدة»، في الأغلبية العظمى من الحالات، يقوم الباحثون في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية بتحديد نهجهم الخاص بإجراء استبعادات: استبعادات لنتاجات تاريخ متبلور (خلافاً للفعل الآخذ في الحدوث)، وللاستعدادات (خلافاً لقيود سياق الفعل)، وللبنى الماكرو - سوسيولوجية (خلافاً للأطر المايكرو سوسيولوجية)، وللأفراد (خلافاً للجماعات).

وهم إذ يتخذون هذا الموقف إنما يفترضون أن وجهة نظرهم أفضل من وجهات النظر الأخرى، في المطلق، بصرف النظر عن نوع المشكلة التي يرمون إلى حلها. وهكذا فإن الفرد غالباً ما يكون ضحية استبعاد كهذا في العلوم الاجتماعية، إذ يحكم عليه بأنه مفرد أكثر من اللازم (عندما يتعلق الأمر بالفرد الإمبيريقي الملموس) أو بأنه نوعي أكثر من اللازم (عندما يتعلق الأمر بالفرد حين يتم تعريفه في عموميته البيولوجية) من جانب كاتب كإميل دوركايم.

على أنه يكفي التفكير في سلسلة بأكملها من الأسئلة التي يطرحها المؤرخون أو علماء الاجتماع أو علماء الأنثروبولوجيا أو علماء النفس – لماذا أبدع روائي أو موسيقار أو فيلسوف معين عمـلاً فريداً جداً كهذا؟ ما السبب في أن فرداً معيَّناً هو الوحيد بين أشقائه الخارج عن طبقته؟ لماذا ينجح هذا التلميذ مدرسياً نجاحاً رائعاً بينما يميل التلاميذ الآخرون المنتمون إلى الجماعة الاجتماعية نفسها إلى الفشل في عمومهم؟ لماذا أصيب فرد معين كهذا بمثل هذا النوع من المرض العقلي؟ حتى نستوعب ما يستشعره بعض الباحثين من ضرورة الاعتماد على نظرية عن الفاعل الفرد (وليس فقط عن الفعل أو سياقات الفعل).

الواقع أن هناك العديد من الأساليب لاختبار البرنامج المدرج في صيغة كهذه: «استعدادات + سياق = ممارسات». وهذه الصيغة يمكنها المساعدة على إنتاج بحوث مختلفة جداً بحسب نطاق الملاحظة المطبق ومستوى الواقع الاجتماعي المستهدف. كما يمكن، بحسب البحوث المحققة، التشديد بصورة أخص على هذا الجانب أو ذاك من مكونات الصيغة.

فبمناسبة كل بحث خاص، يمكن للباحث من ثم تركيز المجهود البحثي على السياقات (بناها، أنماطها الخاصة في العمل، قواعد فعلها الخاصة، رهاناتها النوعية، طبيعة ما يجرى فيها… إلخ) سواء كانت هذه السياقات عوالم أم حقولاً أم ألعاباً أم مؤسسات أم جماعات صغرى أم أطر تفاعل ضيقة؛ أو تركيز هذا المجهود البحثي بالأحرى على الفاعلين واستعداداتهم وكفاءاتهم (نتاجات تجارب الصوغ الاجتماعي المتعاقبة و/المتوازية التي مروا بها).

في الحالتين، يمكنه التشديد على سيرورة التشكيل (الاجتماعي الأصلي) للسياقات أو للفاعلين، أو أيضاً دراسة حالة، في لحظة محددة، من حالات سياق أو مخزون استعدادات وكفاءات (فرديين أو جماعيين).

وفي ما يتعلق بالسياقات، يمكن الباحث التأريخ لها، والإمساك بآليات عملها في مرحلة زمنية أو أيضاً دراستها من زاوية دورها في تحقيق الصوغ الاجتماعي برصد وتحليل الأسلوب الذي تسهم به الأسرة، الكنيسة، الحزب، جماعة الأقران، المؤسسة الرياضية، الوسط المهني، في تشكيل الأفراد الذين يتواصلون معها.

وفي ما يتعلق بالاستعدادات والكفاءات المختزنة، يمكن الباحث نفسه القيام بتحليل الأصل الاجتماعي لتشكلها لدى أفراد أو مجموعات من أفراد معينين أو أن يولي اهتماماً أكبر إلى الأسلوب الذي جرى به، ما إن تتشكل هذه الاستعدادات والكفاءات، استنفارها وإطلاقها برهافة في دينامية أفعال وتفاعلات، بحكم سياقات الممارسة، أو على مدار مسيرة حياة تتألف من «اختبارات» أو «قرارات» وأحياناً من افتراقات. ويمكن الباحث، أخيراً، أن يتساءل كيف تنتقل هذه الاستعدادات والكفاءات أو لا تنتقل من سياقات أخرى.

إن الحديث عن نظرية موضوعها الفعل أو الفاعل، وطرح الصيغة العلمية الأكمل والأكثر توازناً، التي تسمح بتفسير ممارسات الفاعلين، كل هذا يفترض أن ممارسات الفاعلين المندرجة في سياق اجتماعي – تاريخي يجب أن تكون في قلب البحوث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.

فسياقة البنية أو النسق قد وضعت بين قوسين أو اعتبرت محض ظواهر فرعية الفاعلين وأساليب العمل الفعلية للجماعات الصغيرة أو الكبيرة (ثنائي الزوجين، الأسرة، جماعة الأقران، الجماعة المهنية، الأسرية، الصدقية، العاطفية… إلخ) الفردية أو الجماعية، والعلاقات التفصيلية للسيطرة وأشكال ممارسة السلطة. ومع النظرة البنيوية للعالم، فإن كل شيء – مجمل البني الاجتماعية/الرمزية غير المتغيِّرة – قد بدا مجمداً وماثـلاً إلى أبد الآبدين في كل مجتمع. وقد ترافقت هذه الرؤية لمجتمعات بلا تاريخ وبلا حراك إنساني مع مفهوم عن خصائص عامة للروح الإنسانية يجعل من هذه الخصائص طبيعة دائمة.

ثانياً: الاستقلال الذاتي

الفصل الثاني بعنوان «النظر في التمايز الاجتماعي»؛ ويرى لايير أن مفهوم «الاستقلال الذاتي»، وبشكل أخص أيضاً مفهوم «الاستقلال النسبي»، له تاريخ هو من حيث الأصل غير قابل للفصل عن عمل ماركس والتراث الماركسي. والواقع أن الماركسية قد كشفت ميلها إلى نزعة اقتصادوية معينة تتألف من رد كل نشاط – سياسي، حقوقي، مدرسي، فني، ديني… إلخ – إلى البنية التحتية الاقتصادية.

فما يحدث في هذا النوع أو ذاك من الممارسات ليس من شأنه إلا أن يكون النتيجة المباشرة لحركات تجد موقعها في الأساس الاقتصادي. وفي رد فعل على هذه النزعة الاختزالية الاقتصادية، توصل بعض الكتاب، الذين يحتل بينهم الفيلسوفان الماركسيان إرنست بلوخ وأنطونيو غرامشي مكانة مركزية، إلى تطوير فكرة الاستقلال النسبي لمجالات النشاط ولممارساتها وللصراعات الخاصة التي تدور فيها. فبدلاً من أن تكون بصدد مجرد انعكاس للاقتصاد أو تحديد مباشر من جانب الاقتصاد يطال مجالات المجتمع الأخرى، بدأ الاعتراف، مثـلاً، بالطابع «النوعي الخاص والفعال الذي تتميز به البنى الفوقية».

على أننا نجد، لدى ماركس وأنغلز بالفعل، أن دراسة تقسيم العمل، وهو «واحد من قوى التاريخ الرئيسية»، قد سمحت بالتعرف إلى وجود «افتراقات شرائحية» وحثت على التفكير في المنطق الخاص لكل عالم أصغر ناجم عن «انقسام فرعي» أكثر تزايداً دوماً. فبحسب هذين الكاتبين، يتخذ تقسيم العمل بادئ ذي بدء شكل فصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني.

لكنه ينشأ أيضاً بين العائلات المختلفة، وبين المدن والأرياف، وبين الإنتاج الصناعي والإنتاج الزراعي والتجارة، وبين مختلف فروع العمل الصناعي أو الزراعي أو التجاري، وبين مختلف الطوائف الحرفية… إلخ. وهكذا ندرك السبب في أن مفهوم الاستقلال الذاتي قد أصبح شيئاً فشيئاً، بشكل ضمني أو معلن، مفهوماً مركزياً لدى فريق من الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ثالثاً: الفكـرة المرنة

الفصل الثالث بعنوان «حدود الحقل»: ويطرح برنار لايير سؤال، هل يجب صون الطابع التاريخي لمفهوم الحقل وعدم استخدامه إلا وفق تعريفه الأدق والأكثر صرامة؟ أم يجب بالأحرى جعله فكرة، أكثر مرونة وأقل دقة في تعريفها، يمكن تطبيقها تطبيقاً شامـلاً؟ هل يجب عندئذ أن لا يكون الباحث مراعياً أكثر من اللازم لتعريف الحقل، وأن يتخلى في تلك الأثناء عن هذه الخاصية أو تلك لكي يتمكن من مواصلة استخدامه؟ بعبارة أخرى، هل يجب قصر مصطلح «الحقل» على تسمية عوالم فرعية خاصة، تشكلت تاريخياً في مجرى سيرورة التمايز الاجتماعي للوظائف ويتصادم داخلها فاعلون متصارعون على احتياز رأس المال النوعي، أم أن في وسعنا أن نجيز لأنفسنا استخدام الفكرة من أجل التحدث عن أي نوع من الأوضاع التاريخية والاجتماعية؟

ولو كان الخيار الأول هو الخيار الصحيح، فسوف نسلِّم عندئذ بأنه كما الدولة أو الطبقات الاجتماعية أو السوق الاقتصادية لم توجد في جميع الأزمنة، فإن كل شيء ليس «حقـلاً»، فقد وجدت علاقات اجتماعية قبل الحقول، ومن الوارد أن توجد اليوم سياقات اجتماعية غير قابلة لتحقيقها بلغة الحقل. والحال أن هذا الدرب تحديداً، وهو في آن واحد درب أكثر صرامة في استخدام التعريفات وأكثر حرصاً على تأكيد الطابع التاريخي للمفاهيم، هو الدرب الذي يبدو لي أنه الدرب الأكثر إثماراً من الناحية العلمية، والدرب الذي يتفادى تجميد المفاهيم في كلمات سر شاملة.

قال ماكس فيبر: «كلما كانت صلاحية، أي اتساع، مفهوم نوعي كبيرة، زاد من إبعادنا عن ثراء الواقع، لأنه، حتى يستوعب المفهوم ما هو مشترك بين أكبر عدد ممكن من الظواهر، لا بد له من أن يكون أكثر المفاهيم الممكنة تجريداً، ومن ثم لا بد أن يكون فقيراً في المضمون». لكن هذا الدرب ليس هو الدرب الذي سلكه دوماً بيير بورديو، ما أسهم فوراً في جعل المناقشة العلمية أكثر صعوبة؛ فعالم الاجتماع (بورديو) يمكنه، أحياناً أن يجعل من مفهوم «الحقل» مرادفاً خالصاً لــ «مجال الممارسة»، وهكذا نراه يكتب عند حديثه عن الحقول المختلفة التي يجد التطبع فيها تعبيراً عنه.

لكي يتم بشكل كامل بناء فضاء أساليب الحياة التي تتحدد في داخله الاستهلاكيات الثقافية، قد يتعين أن تحدد، بالنسبة لكل طبقة وشريحة طبقية، أي بالنسبة لكل تشكيل من تشكيلات رأس المال، الصيغة المولدة للتطبع التي تعيد ترجمه الضرورات والتسهيلات المميزة لهذه الطبقة التي تتمتع بظروف وجود متجانسة (نسبياً) في أسلوب حياة خاص، ثم القيام، بعد ذلك، بتحديد الكيفية التي تحدد بها استعدادات التطبع، بالنسبة إلى كل مجال من المجالات الكبرى للممارسة، بتحقيق هذا الممكن أو ذاك من الممكنات الأسلوبية التي ينتجها كل حقل: حقل الرياضة، وحقل الموسيقى، وحقل التغذية وحقل التزيين، وحقل السياسة، وحقل اللغة.

وإذا ما تذكرنا تعريف الحقل بوصفه فضاءً فرعياً نوعياً خاصاً، منفصـلاً عن الفضاءات الفرعية الأخرى بحكم سيرورة تاريخيه لتمايز الوظائف، فمن البديهي أن الممارسات اللغوية لا تشكل بأي حال ممارسة منفصلة ولا تشكل بالأحرى «حقـلاً» يمكن دراسته كأي حقل آخر.

رابعاً: التفاعل

الفصل الرابع والأخير بعنوان «تحديد السياق: النطاق والمستوى والموضوع) يرى برنار لا يير أن التفاعلية هي «الدراسة الطبيعية للقاءات واجتماعات الكائنات البشرية، أي أشكال وظروف التفاعل المباشر وجهاً لوجه». والحال أن بعض الحقائق الواقعية غير المرئية على نطاقات ملاحظة أكثر صغراً إنما تصبح، كالميكروبات تحت الميكروسكوب، مرئية وقابلة للدراسة من جانب الباحثين: النظرات، اللافتات، الإيماءات، الإشارات.

ومع ذلك فقد لا يكون جميع الباحثين التفاعليين متفقين على التأكيد، مثـلاً، أن نطاق الملاحظة الذي يعتمدونه يتطابق مع مستوى الواقع الاجتماعي الذي يرمون إلى إيضاحه. وهكذا، فإن البحوث عن العوالم الاجتماعية من منظور هـوارد س. بيكر وأنسيلم. ل. ستروس غالباً ما تقوم على ملاحظات إثنوغرافية، وإن كانت تغذي معرفة بشأن مستوى من مستويات الواقع الاجتماعي ليس على مستوى الموقف أو التفاعل، وإنما على مستوى «العالم» وهو مستوى سوسيولوجي أكبر.

وقد يكون من الوارد الحديث تقريباً عن تفاعلية منهجية لتسمية هذا النوع من المقاربات للتفاعلات، الذي ينظر إلى هذه الأخيرة لا بوصفها موضوعاً للدراسة بشكل محدد، بل بوصفها وسيلة (يتم الإعلاء من شأنها أحياناً) للوصول إلى حقائق واقعية اجتماعية من صنف آخر.

والحال أن بعض الباحثين غير التفاعليين، وهم باحثون أكثر حرصاً على استيعاب البنى الاجتماعية مما على نسق التفاعل، وإن كانوا يدرسون بعضها عند نقطة تقاطع القيود البنيوية التي تعد تعبيراً عنها أو تحققاً لها، إنما يسلكون بهذا الشكل نفسه بالضبط. وإذا كانت مثل التباينات في معالجة التفاعل ممكنة، فإن هذا إنما يرجع إلى أن نطاق الملاحظة الضيق الذي قد يطبقه الباحث في هذه اللحظة أو تلك لا يحول دون تذكر بعض متكسبات البحوث التي أجريت على نطاقات سوسيولوجية أوسع.

ومن المؤكد أنه ليس عن طريق ملاحظة الفاعلين «على مستوى الأرض» في ظروف تفاعلاتهم، يمكننا قياس الفوارق بين الطبقات وتحديد وجودها، ولكن هل يجب أن ننسى مع ذلك وجود مثل هذه الفوارق عندما نرصد أفراداً ليسوا أقل تميزاً بانتمائهم الطبقي، إذا ما نظرنا إليهم عند اندراجهم في منطق تفاعل خاص؟

إن الباحثين الذين يتخذون من التفاعل موضوعاً لبحوثهم، وليس فقط بوصفه ساحة أو وسيلة، بينهم تعارض أيضاً في ما يتعلق بمسألة العلاقة التي يجب تحديدها بين التفاعل بوصفه مستوى من مستويات الواقع الاجتماعي ومستويات أخرى للواقع الاجتماعي (مستوى المنظمة أو المؤسسة، أو حتى مستوى البنية الاجتماعية العامة).

ومن يرون أنه يجب عدم تحديد موقع التفاعل إلا ضمن الإطار الموضعي لحدوثه إنما يتمايزون بذلك عن أولئك الذين يميلون إلى وصل التفاعل بمستويات تنظيمية أو اجتماعية كبيرة أكثر عمومية وذلك بنقدهم بتر تحديد السياق الذي يقوم به إخوتهم.

والحال أن جانباً من هذا الكتاب إنما يهدف إلى إعادة ضفر أواصر غير مرئية بين الأساليب المختلفة للبحث السوسيولوجي، وعلاوة على ذلك بعض الشيء، للبحث في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك بتوضيح أن الباحثين غالباً ما لا يشتغلون إلا على جوانب أو أجزاء من برنامج أعم يتألف من تفسير الممارسات الاجتماعية (تفسير الفعل، السلوكيات) انطلاقاً من المراعاة المزدوجة لسياقات الفعل ولماضي الفاعلين المختزن. فمن الوارد أن يشتغلوا أكثر على هيكلة السياقات؛ أو أكثر على خصائص الفاعلين المختزنة؛ أو على مستويات الواقع الاجتماعي الميكروسوسيولوجية أو الماكروسوسيولوجية، أو على سياقات من أنماط مختلفة جداً كما على جوانب مختلفة في هذه السياقات. لكن هذه المقاربات العديدة ليست سوى تحققات جزئية لبرنامج عام قد يستفيد الباحثون من عدم حرف البصر عنه.

وعندما تفكر في البحوث المختلفة بهذا الشكل، فإنها لا يعود لها البتة المعنى الواحد نفسه: فهي تتواصل وتتكامل فيما بينها، بدلاً من أن تتعارض. لكن هذا الاستيعاب للأساليب المختلفة للبحث في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية يترتب عليه أيضاً أن غالبية النظريات الاجتماعية المقدمة على أنها نظريات عامة، بل وشاملة، إنما تظهر بوصفها مجرد نظريات منطقية.

وهي إذ تعتقد أنها تتحدث عن الفعل أو سياقات الفعل بوجه عام، لا تتحدث (في الواقع) إلا عن أنماط معينة من الأفعال وأنواع معينة من السياقات، بل أحياناً عن مجرد بعض فئات الفاعلين، فالباحث «لا يغذي فكرة إلا بنوع واحد من الأمثلة» (فيتغنشتاين) وإن كان يزعم أنه يتحدث عن كل حالات الممكن.

والعلاج لمرض كهذا، وهو مرض يجب البحث عن أصوله في وجوه العمى التي يتعذر فصلها عن الصراع على احتكار النظرية المشروعة عن العالم الاجتماعي، قد يكون في الممارسة الشخصية لتنويع الحالات ونطاقات الملاحظة ومستويات الواقع الاجتماعي التي يتم بحثها وأنماط تحديد الموضوعات. كما قد يكمن العلاج في تواضع أكبر، مع تجنب ادعاء التوصل إلى توضيح ومسح كل الساحة الواقعية بينما ما تم توضيحه منها لا يعدو أن يكون سوى بضعة أجزاء أو جوانب.