على وقع عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وما تبعها من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفي ظل موقف عربي ودولي عاجز ومتواطئ إلى حد بعيد، تقف القضية الفلسطينية والمنطقة العربية أمام تحديات مفصلية كبرى تتطلب مواجهتها إعادة تحديد عناصر الدعم والقوة وعناصر التهديد والضعف التي تواجهها هذه القضية فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا. وللبحث في كل هذه العناصر عقد مركز دراسات الوحدة العربية حلقات نقاشية متتالية شارك فيها عدد من الباحثين والمفكرين والنشطاء العرب، وخصص حلقتين نقاشيتين مغلقتين حضوريًا ومن بُعد لمناقشة ودراسة تداعيات ذلك على المشهد العربي وتحدياته.

ركزت المداخلات والمناقشات في الحلقتين على محورين مركزيين: أولاً، النظام الرسمي العربي والقضية الفلسطينية، وثانيًا، الواقع الشعبي العربي والقضية الفلسطينية؟

شارك في الحلقتين كلّ من الباحثين التالية أسماؤهم ألفبائيًا: إبراهيم علوش – أحمد الدبش - أحمد الديين – أحمد يوسف أحمد –  جلة سماعين – جميل مطر – جواد الحمد – حسن نافعة – حسين أيوب – حلمي بلبيسي – خديجة الصبار – سعد محيو – صقر أبو فخر – الطيب الدجاني – عُبادة كسر- عبد الحليم فضل الله – عروس الزبير – علي فخرو – فارس أبي صعب – كابي خوري -  لورد حبش – لونا أبوسويرح – محسن صالح – محمد العجاتي- محمد بلوط – محمد حسب الرسول – معن بشور – منير شفيق- ميشيل نوفل – وليد شرارة.

قدمت المديرة العامة للمركز لونا أبو سويرح كلًا من الحلقتين بمدخل غطى المشهد العالمي والإقليمي والعربي مثيرةً أسئلة تتعلق بالمحاور الأساسية المخصصة للبحث التي تهم المركز وقطاعات واسعة من النخب والشعوب العربية، وبخاصة أن ملحمة السابع من تشرين الأول/أكتوبر تبعها مشهد مؤثر ومؤلم لحرب إبادة جماعية وتطهير عرقي ضد الفلسطينيين في قطاع غزة استخدمت إسرائيل فيها أبشع وسائل القتل التي تتجاوز كل ما يمكن تصوره للفعل البشري. تجاوز المشهد الدموي، والتدمير الهمجي كل الأعراف، وخلّف أعدادًا كبيرة من الضحايا المدنيين، الذين عرّضهم للتجويع والعطش والحصار الخانق، كأداة إبادة وتدمير منهجي لقطاع غزة بمن فيه من بشر ومؤسسات صحية وتعليمية وكوادر طبية وغيرها، في ظل حصار شمل المواد الغذائية والمياه والأدوية وموارد الطاقة والوقود وغيرها.

توقفت أبوسويرح عند المشهد السريالي الذي نعيشه اليوم، المتمثل بالمواجهة التي تشنها إسرائيل والغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد قوى المقاومة الفلسطينية وحلفائها، بفصائلها المختلفة في لبنان واليمن والعراق، مدعومة من أحرار العالم كله المناهض للاستعمار والتمييز العنصري والظلم، وصنفت بوسويرح المواقف الرسمية العربية حيال ما يجري في فلسطين إما بالخنوع والتواطؤ لدى معظم الأنظمة العربية وإما بالجبن لدى البعض الآخر، وهي مواقف لم تتجاوز حدود المواقف الخجولة، إذ لم تتخذ هذه الأنظمة أي إجراء فعلي لصد هذا العدوان الوحشي وأعمال الإبادة الجماعية في غزة. إذ ليس متوقّعًا منها حشد الجيوش، وهذا ما يكشف عجز هذه الأنظمة وتخليها عن حماية الأمن القومي العربي.

وفي المحور الثاني، أثارت حالة الشعب العربي المهموم والعاجز والمُستفَز الصامت، الذي تفاعل مع طوفان الأقصى في الأيام والأسابيع الأولى من الحرب، ثم ما لبث مع مرور الوقت أن تراجع هذا التفاعل الشعبي الميداني وانحسر مع أنه استمر في دوائر مغلقة أو في الفضاء الإلكتروني الفسيح. في حين شهدت شوارع العالم الغربي تزايدًا في موجات الغضب والتظاهرات والاعتصامات أسبوعًا تلو الآخر، فضلًا عن تشكُّل مجموعات ضغط من اتحادات عمال وطلبة ونقابات. أمام هذا الواقع الشعبي العربي يُطرح السؤال التالي: لماذا لا تتحرك الجماهير العربية يوميًا بعد هذا المشهد الدامي في غزة، هل هو خوف من القمع أو نظرًا إلى غياب أو ضعف الأحزاب والنقابات ومؤسسات العمل الأهلي؟ كيف يمكن أن نحوِّل مشاعر الشعب العربي إلى فعل ملموس يدعم المقاومة ويدعم صمود الشعب الفلسطيني في أرضه ويحارب المصالح الغربية ويمارس ضغطًا على حكوماته وبرلماناته؟ وما الأدوات والآليات الممكنة لنا فعلًا أن نحرك الطاقة الكامنة في فعل إيجابي ومؤثر؟

عمومًا، توزّعت المناقشات على مستويات التحليل الكلي للمشهد حول تداعيات طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية على المستويين المحلي والدولي، وواقع النظام الرسمي العربي والجماهير العربية، والحراك الغربي. وانتهت برؤية تصور الخلل وتنقل المحركين إلى دوائر الفعل والتأثير والتحرير.

أولًا: المشهد العام

ألقت المداخلات والمناقشات نظرةً عامة على مشهد الأحداث في غزة، واضعة الأحداث في سياقها التاريخي، مشددة على ضرورة فهم أزمتنا العربية بكل أبعادها. وللتعمق أكثر، كان لا بد من تطبيق هذه المقاربة على النظام العالمي الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي ما زال قويًا، رغم تزايد المقولات وكثرة التحليلات حول بداية تفككه وتبلور نظام متعدد القطبية؛ التي تقدم قراءة رغبوية أكثر منها واقعية حتى اللحظة. فالنظام العالمي الأحادي القطبية تأسس فعليًا عقب حرب الخليج الثانية وما أعقبها من انهيار للاتحاد السوفياتي، إذ كانت الحرب الأمريكية على العراق عام 1990 -1991 بمنزلة إعلان انتصار للمنظومة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي الذي ما لبث أن أخذ يتداعى عقب تلك الحرب، وراح النظام العربي يتلقى انتكاسة تلو الأخرى، ووصل إلى مرحلة أصبح فيها كله تقريبًا، باستثناءات محدودة، خاضعًا لهذا النظام العالمي الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة. إذًا، نحن ما زلنا نعيش تبعات هذا التحوُّل. وما حصل في كل هذه المرحلة، منذ ذروة السطوة الأمريكية في التسعينيات حتى اليوم، وقد ترافق ذلك مع تبلور مسألتين في العالم؛ على مستوى الشرق الأوسط كسرت المقاومة النظام العالمي الأحادي القطبية في أكثر من مواجهة: أخرجت أمريكا من العراق، وأفشلت مشروع الشرق الأوسط الجديد في حرب عام 2006 على لبنان، وساهمت في خلق حالة من المقاومة في المنطقة ضد المشروع الأمريكي تمتد من لبنان إلى فلسطين والعراق واليمن. هذا في الحقيقة يوازي تراكم تطورات اقتصادية وسياسية على مستوى أقطاب في العالم الثالث كالصين وروسيا وغيرهما في استراتيجيتيهما لمراكمة شروط قيام نظام متعدِّد القطبية. أما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل فلا يمكن الرهان على النظام المتعدِّد القطبية. فكل أقطاب النظام الجديد الذي يمكن أن ينشأ ليس لديهم أي مشكلة مع إسرائيل، بدءًا من البرازيل وصولاً إلى الهند والصين وروسيا، إذ إنهم لا يصنفونها كنظام استعماري وعنصري، بل أكثر من ذلك تربطهم بها علاقات سياسية واقتصادية.

ومع الحركية التاريخية الجديدة التي بدأت مع فجر «طوفان الأقصى»، ووضعتنا في حتمية الانتقال من مرحلة ما قبل 7 أكتوبر إلى ما بعدها، انتقل الوطن العربي من حالة الاستكانة والضعف عندما وجهت المقاومة الفلسطينية ضربة قوية جدًا لإسرائيل. كما تم توجيه ضربة قوية للفكر الغربي في المنطقة وطريقة تعامله معنا، وها هو يحاول أن يردها لنا ثانية على حساب دماء الشعب الفلسطيني ويحذِّر المنطقة كلها من أن تحرك ساكنًا. وتشير معلومات دقيقة ومؤكدة إلى تهديدات من جانب الإدارة الأمريكية لكل الدول العربية والإسلامية بأنه في حال تحركها سيتم التعرض لمصالحها مباشرة.

لكن «طوفان الأقصى» أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي بعدما وصلت إلى مرحلة التهميش والتجاهل. وكنا قد نسينا القضية الفلسطينية كقضية تحرُّرية. لكن حركات المقاومة الفلسطينية تمكّنت من إعادة إحياء هذه القضية وفرضها كقضية مركزية في المنطقة والعالم منذ يوم 7 أكتوبر الذي وضع الصهاينة في خطرٍ فعلي، إذ ظهر إنسان «فلسطيني جديد» تميّز بالندية للجندي الإسرائيلي والآلة العسكرية الصهيونية. وهنا لا بد من التنبيه إلى أهمية ما قامت به حركة حماس في هذه العملية، دون أن نلغي دور الفصائل الأخرى، لأنه ينزع منها الجزء الشامل والضامن لكل مكوِّنات المقاومة في فلسطين، فما حدث في طوفان الأقصى هو عملية نضالية وطنية تحررية يمكن مقارنتها بتجربة حركة التحرر الوطني في الجزائر، وقد انتقلنا معها من حالة إنهاء القضية الفلسطينية التي كانت قد تحوّلت إلى مسألة ترقية اقتصادية لمجموعة من الفلسطينيين، مثلما حدث في الجزائر مع شارل ديغول الذي وضع مشروع قسنطينة لتحسين وضع ما يسمى الأهالي. غير أن حركة المقاومة الفلسطينية تمكنت من نقل المسألة إلى منطق آخر مختلف تمامًا وأعادت القضية إلى جذورها التاريخية إلى سنة 1948، أي قضية سلب واستعمار وطن وفرض واقع وجودي على أصحاب الأرض الأصليين.

رأت المداخلات أنه يجب أن نتعامل مع الكيان الصهيوني لا بوصفه دولة موجودة في التكوين التاريخي والجغرافي للمنطقة، بل تم زرعها فيها لتأدية دور وظيفي لخدمة المصالح الإمبريالية وحمايتها وتنفيذ مخططاتها في هذه المنطقة ولضمان هيمنتها عليها ونهب ثرواتها وإحكام قبضتها على شعوبها. ومن ثم عندما نتحدث عن مواجهة الكيان الصهيوني، فنحن نتحدث عن الصراع مع ركائز الهيمنة الإمبريالية ورأسمالها الطفيلي والأنظمة التابعة لها في المنطقة؛ فهذه الحلقات مترابطة ولا يمكن الفصل بينها.

إن ما يجري في غزة اليوم على المستوى العربي يتمثل بالمطرقة والسندان؛ المطرقة هي الصهيونية والسندان هو المنظومة الرسمية العربية. بالرغم من ذلك، فإن السوداوية لا تطغى كليًا على المشهد السياسي، لقد أحيت «طوفان الأقصى» النظام الرسمي جزئيًا والشارع العربي كليًا، إذ يمكن تسجيل نقاط إيجابية داخل الدول العربية سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي. لقد شهدت المنطقة العربية حراكًا دبلوماسيًا على المستوى الأممي وعلى مستوى المنظمات الإقليمية، ويعد هذا الأمر تحوُّلًا حتى في أروقة الأمم المتحدة بالرغم من كل التقاعس والخلل الذي يكبل مجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي، إلا أن الوعي تجاه القضية الفلسطينية بدأ ينمو، وبخاصة عند الشعوب التي كانت تجهل حقائق هذه القضية. وبرز التباين في مواقف الدول، فالأغلبية الساحقة في مجلس الأمن، أي ما يقارب 153 دولة، مع قرار وقف إطلاق النار على غزة، بينما امتنعت بعض الدول عن التصويت. ينسحب الأمر على داخل الدول الأوروبية، فلم يعد الغرب متماثلاً في مواقفه؛ كإسبانيا، وبلجيكا، وإيرلندا، وبريطانيا التي امتنعت عن التصويت، وفرنسا التي صوتت مع قرار وقف إطلاق النار. إذًا، من تداعيات «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة التي شنها الكيان الصهيوني أنها ساهمت في نمو الحركية الدبلوماسية في ما يتعلق بعودة القضية الفلسطينية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مواقف سابقة، وكذلك محاولة لتجريم هذا الاستعمار، وهي فرصة للأنظمة العربية لملاحقة إسرائيل في المحاكم الجنائية الدولية. الكويت على سبيل المثال، أعلنت الحداد لمدة 3 أيام، وفي الجزائر فإن البرامج الإذاعية كلها تقريبًا متمحورة حول غزة. أما على مستوى الثقافة الشعبية، فالحرب على غزة أتت مثل اللقاح لحمّى التطبيع التي كانت سائدة، إذ استطاعت غزة أن توقفها وباتت معها فكرة من الماضي. وربما بات من الصعب الآن أن نقنع أي طرف عربي أن يدخل في مفاوضات سلام مع الجانب الإسرائيلي أو رعاية المفاوضات على الأقل أو يكون طرفًا فيها.

تعرضت المناقشات لمرحلة ما قبل «طوفان الأقصى» حين كان النظام العربي يحاول أن يوجد لنفسه إناءً منسجمًا، وكانت هناك مبادرات مهمة جدًا، ولكن مع الأسف فشلت جميع هذه المبادرات وكلنا نعرف لماذا شنت حرب السويس. فالغرب دائمًا بالمرصاد للتصدي لمحاولات العالم العربي والإسلامي، فهو يتتبع خطواتنا كلها، إذ يؤرقه جدًا أن ينهض هذا العالم وبخاصة أن لديه إمكانيات النهوض كافة.

لقد فتحت الحقبة التي تلت ذلك التفرُّد الرسمي العربي بقضايا الصراع العربي – الإسرائيلي مع اتفاقيات كامب دايفيد، فتحت الطريق أمام الحلول المنفردة لهذا الصراع. وهي الكارثة العظمى في التاريخ العربي التي مهدت سبل تفرد الأنظمة العربية بالقرارات في القضايا المصيرية. مع الإشارة إلى أن المداخلات حرصت على تميُّز تجربة عبد الناصر في التعامل مع القضايا العربية الكبرى وعلى رأسها مواجهة العدو الإسرائيلي وتهديداته في المنطقة. لكن تلك الحلول والمبادرات المنفردة كانت نتائجها الكارثية جماعية على العرب. وهذا ما يكشف أن الأنظمة الحالية مُختارة من الإمبريالية وتعمل تحت مظلتها، وهي أنظمة مسيَّرة لا تملك السيادة في قراراتها، لذا يجب ألّا ننتظر منها الكثير، غير أن «طوفان الأقصى» قد فتح المجال لها ووضع في يدها أوراقًا مهمة لو عرفت كيف تستخدمها. فقد أفزع «طوفان الأقصى» أمريكا بقدر ما أفزعتها حرب السويس، ولو أن المقاربة بعيدة وغير متماثلة، فالإمبريالية أتت بكل قواها ضد مجموعة مقاومين، وإن الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون اليوم هو ثمن نجاح العملية التي حققت الأهداف المرسومة لها وهزت الكيان الإسرائيلي.

ثانيًا: النظام العربي

حدَّدت المداخلات مواطن الخلل في النظام الرسمي العربي كمدخل لتفكيكه والنظر في آلياته الداخلية. وأشارت إلى أن «طوفان الأقصى» وضع الدول العربية أمام إشكاليات حقيقية؛ فهي لم تستطع مواكبة هذا التحوّل وأحداثه السريعة المتلاحقة، في حين أنها تواجه معضلة حقيقية وتتخبط أمام ما تلجأ إليه عادة في اعتماد ما يسمى التوازن الجماعي وتحديد مكامن الخطر داخليًا وخارجيًا، وفي ظل انشغالها الدائم كأنظمة ونخبة حاكمة للبقاء في السلطة.

كان من الممكن وقف هذه المجازر كلها لو اجتمع القادة العرب ووجهوا رسالة جادة للعدو الصهيوني تطالبه بإيقاف حرب الإبادة والتهديد بسحب السفراء وإلغاء الاعتراف بشرعيته، وإلغاء كل اتفاقيات التعاون الاقتصادية والأمنية والثقافية والفنية، والتلويح بتنشيط اتفاقية الدفاع العربي المشترك. لو أقدم العرب على ذلك لكانت انتهت هذه الحرب أو أخذت مسارًا مختلفًا.  لكنهم معنيون بإدامتها حتى لا تنتقل هذه التجربة الغزاوية إلى الدول العربية الأخرى.

لقد كشفت الأنظمة في البداية عن وجهها القبيح عندما أدانت «طوفان الأقصى» في لقاء وزراء الخارجية العرب الذي تلت تلك العملية بأيام. لكن بعدما تصاعد الحراك الشعبي العربي، حاولت أن تستعيد بعضاً من توازنها وبدأت تتحفنا ببيانات الشجب والاستنكار. وتطرح المداخلة سؤالين للإضاءة على أجوبة مباشرة عنها: ماذا قررت القمة العربية الإسلامية؟ اتخذت قراراً هزيلاً تافهاً وهو تشكيل لجنة تطوف على دول العالم وأن تعمل من خلال استصدار قرار دولي. لكن من يحكم القرار الدولي؟ يحكمه الغرب الذي يعادينا. إذًا نحن ندور في حلقة مفرغة، وإذا لم يتمكن الشارع العربي من الضغط على الأنظمة العربية كي تقوم بإجراءات لوقف هذا العدوان فنحن نضيّع الوقت.

حتى الآن، إن الإنجاز العظيم لـ«طوفان الأقصى» يمر من دون استيعاب هذا التحوُّل الاستراتيجي الذي يمكن استثماره عربياً، سواء على المستوى الرسمي أو حتى على مستوى النخبة؛ وإن الموقف مما حصل انحصر عند البعض بإدانة تفرد حركة حماس بشن الحرب، أما البعض الآخر فهو عرضة للضغط الأمريكي بصورة مباشرة، وبعضها يخشى موجات التظاهرات الشعبية في بلاده لأسباب متعددة، أبرزها أن تنقلب هذه التظاهرات ضد النظام أو أن يتم استغلالها في أمور أخرى لتعميق الأزمة الاقتصادية التي تمر بها معظم الدول العربية. ولو استمر هذا الخنوع العربي، فإن هذه العقلية الصهيونية ممكن أن تتعامل في المستقبل مع أي طرف أو أية قوة مهددة لوجودها أو أية قوة تهدد مصالحها بهذا الأسلوب.

هناك مشكلة كبيرة في النظام الرسمي العربي، ولا يمكن المراهنة على معظمه لأنه جزء أساسي من النظام الأحادي القطبية الذي تقوده الولايات المتحدة. وما يحدث على المستوى الرسمي العربي ليس نتيجة عجز هذه الأنظمة العربية بل هو نتيجة تخلّيها عن القضية الفلسطينية. وهذا التخلي ليس وليد الساعة بل تعود جذوره إلى حرب الخليج الثانية على الأقل. هذا التصالح الرسمي العربي مع إسرائيل فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا هو ما مكّن هذه الأنظمة من قيادة النظام الرسمي العربي، وبخاصة أن من كان هناك من أنظمة خارجة عن إرادة النظام العالمي تم ضربها في الربيع العربي، بغض النظر عن الأنظمة في هذه الدول. فرغم الاعتقاد السائد أن الشارع العربي يمكنه الضغط على الأنظمة فإن هذا الطرح بات غير واقعي. وتستمر المداخلات بتشخيص المشكلة، مشيرة إلى أنها كبيرة ومعقدة لكنها تتلخص في أنّ النظام العربي هو إما عاجز وإما متواطئ. هذه الثنائية عادة ما تضيع الفرص الرسمية في مواجهة الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي. وتذكرنا المناقشات بما حدث في العراق، وليبيا، وسورية، واليمن، والسودان.

إذًا، المشكلة هي مسؤولية عربية بنيوية قبل أن تكون مسؤوليه الآخر الغربي. وتستحضر المداخلات مفهوم مأزق «تأخرنا التاريخي»، وتصف الأمة بأنها جزء يطبِّع وآخر يهيئ للتطبيع وثالث تصَهْيَن ويحارب مع الكيان ضد إخوانه الفلسطينيين؛ وأن الغرب يستغل هذا الوضع لمصلحته ويُلحق بنا ما نعيشه من أضرار. يترافق ذلك مع تعميم وانتشار شعار «السلام» ومفهوم حل الدولتين في فلسطين. في المقابل كان الكيان الصهيوني واضحًا منذ تأسيسه مع بن غوريون، الذي رفض الحديث عن السلام وعن دولة فلسطينية. وهنا تستحضر المناقشات طرح الفيلسوفة حنة أرندت في مؤتمر بلتيمور حول الكونفدرالية حين تم تجاهل كلامها، فمنذ ذلك الحين وهي تقاطع فعلاً الفكر الصهيوني كونها وجدت أن الكيان الصهيوني لا يؤمن لا بسلام ولا بدولة فلسطينية.

إن أحد مظاهر الخلل في الدول العربية هو البنية الطبقية للأنظمة الحاكمة فيها، المتحالفة مع الرأسمال والمصالح الأجنبية، فضلًا عن تحالفها مع رأس المال الطفيلي التابع أو الأنظمة البرجوازية الصغيرة التي قفزت إلى السلطة وأصبحت برجوازية وبيروقراطية. فالارتباط العضوي المصلحي يفسر لنا أسباب التقاعس والتهاون، بل والتواطؤ الذي يصل إلى حد الدعم لإسرائيل وما تقوم به في غزة. أما المأزق الآخر فقد تبدّى في حقيقة علاقة التبعية للأنظمة بالمركز الإمبريالي الذي يشمل مختلف البلدان العربية خلال الأعوام الثلاثين الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فهو لا يقتصر على الأنظمة المُصدرة للنفط أو الأنظمة القائمة على الاقتصاد الريعي فقط. ويتكرس الضعف الرسمي العربي بسبب ما فعله الاستعمار والاحتلال من دمار وخراب. مثلما حصل في العراق، والأزمات العميقة الداخلية في سورية، وقيود اتفاقيات السلام في مصر. ويتمظهر الخلل أيضًا بتخلّف وعزلة المؤسسة العربية الرسمية المسماة الجامعة العربية التي أنشئت في الأربعينيات في ظروف تختلف تمامًا عما نحن فيه اليوم.  فأصبح إطارها الحالي عاجزًا عن تحقيق نظام عربي رسمي فاعل قادر على تحقيق درجة من التضامن العربي.

وما تؤكده المناقشات هو غياب الرؤية والإرادة الموحدة للقيادة الرسمية العربية، فكل التفكير الحالي منصب على المحافظة على الحكم وعلى مصالح النخبة الحاكمة سواء المالية والتجارية والاقتصادية والعلاقات مع الغرب والشرق. أما موضوع الأمة العربية ومصالحها وكرامتها ووحدتها فليس مطروحًا على طاولة هذه الإدارات. فضلًا عن أن النخب السياسية والفكرية الرئيسية في العالم العربي قد فشلت في إنشاء الكتلة التاريخية منذ عدة عقود، وأن التيارات السياسية والفكرية العربية ليس لديها رؤية موحدة إزاء التعامل مع المشروع الصهيوني، ويقتصر ذلك على بيانات وشعارات فقط، لكن على أرض الواقع لا توجد خطة لذلك.

فضلًا عن غياب الجبهة العربية الموحدة لمساندة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني. فكل طرف يفكر في مصالحه في وجود تنافسات بين القوى السياسية في البلد الواحد، ناهيك بالمنافسة والعدائية بين الدول العربية نفسها، وهذا أمر مؤسف. ولولا تطلعات المشروع الصهيوني – الأمريكي إلى تهجير أهل غزة وتداعياته على الدول العربية لما تحركت بعض الدول العربية، بل ربما ما كانت لتدين عملية طوفان الأقصى. وقد تمظهر الموقف الرسمي العربي بالهزال والركاكة في بيان وزراء الخارجية العرب منذ الأسبوع الأول للعملية.

ركزت إحدى المداخلات على الخلل الرئيس في الواقع العربي الرسمي والشعبي المتمثل بالوضع المصري. لقد كانت مصر مركز الثقل في القيادة والتأثير في الوضع العربي العام. وفي ظل قيادة جمال عبد الناصر أدَّت مصر دورًا رياديًا في تطوُّر حركة التحرر العربي، حتى في إسقاط عدد من الحكومات العربية المتواطئة مع الغرب ضد المصالح العربية، فضلًا عن دورها في دعم حركات التحرر الوطني في أفريقيا. كما أنها منحت حركة التحرُّر العربي مكانة ريادية عالمية من خلال مؤتمر باندونغ ثم حركة عدم الانحياز.  وبعد أن تعرضت مصر عام 1967 لضربة قاسية فهي أدت دورًا في استنهاض المقاومة الفلسطينية وخوض حرب الاستنزاف وتطوير فكرة التضامن العربي، كما تجلت في لاءات الخرطوم.  لذلك إن ما نشاهده اليوم من انهيار في النظام العربي والوضع العربي العام، وما سبق من دور أمريكي ضد سورية والعراق، فهو وصل إلى ما وصل إليه الآن من انهيار بسبب عدم قيام مصر بدور في إنهاض النظام العربي. وبالتالي إذا كان هناك تفكير في أن يعاد للوضع العربي دور تحت الشمس لا بد من أن يحدث التغيير في مصر أو أن تقوم مصر في هذا الدور على المستويين الرسمي والشعبي.

أما علاقة النظام العربي بالقضية الفلسطينية فتمر في أزمة قديمة وسابقة على طوفان الأقصى؛ فالنظام الرسمي العربي تداعى وانهار كثيرًا قبل طوفان الأقصى، ولم تعد القضية الفلسطينية تشكل قضية قومية بالمعنى الصحيح. تجلى هذا الضعف بعدة محطات: (1) بدءًا من خروج مصر من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي عسكريًا وسياسيًا، والرهان على سلام مع إسرائيل يمنحها الرخاء المنتظر. تبدَّد هذا الوهم بسرعة، فقد رفض الشعب المصري التطبيع الشعبي رغم أن التطبيع الرسمي استمر في أدنى مستوى له، لكن من الناحية العملية خرجت مصر من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي عسكريًا وسياسيًا وظلت مرتبطة رسميًا بمعاهدة السلام؛ (2) احتلال العراق للكويت، وهذا ما أثر سلبًا في القضية الفلسطينية؛ ففي هذه المرحلة كان النظام العربي يواجه تحديًا خارجيًا مشتركًا يهدد الأمن القومي العربي. فعندما اعتدت دولة عربية على أخرى، حاول البعض أن يروّج لفكرة أن التهديد يمكن أن يأتي من داخل النظام العربي لا من الخارج فقط؛ (3) مؤتمر مدريد الذي كان فاتحة السلسلة التي أدت إلى اتفاق أوسلو ثم وادي عربة… إلخ؛ (4) إجهاض ما سمي ثورات الربيع العربي، وبالتالي إفشال محاولة الانتقال الديمقراطي الذي كان يمكن أن يعيد إحياء ارتباط الشعب العربي كله بالقضية الفلسطينية؛ (5) مرحلة التسليم بالهيمنة الإسرائيلية في سياق ما يسمى الاتفاقيات الإبراهيمية (أبراهام)، التي كانت القضية الفلسطينية قد دخلت فيها مرحلة التصفية فعلاً؛ (6) قبيل طوفان الأقصى كانت السعودية على وشك أن تعقد صفقة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وبالتالي كان الكل يدرك أن القضية الفلسطينية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التصفية النهائية.

كان لانفجار معركة طوفان الأقصى تداعيات شديدة الأهمية على النظام العربي كله، فقد أحيته جزئيًا على الصعيد الرسمي وكليًا على الصعيد الشعبي، إذ إننا فجأة وجدنا أن فصيلاً مقاومًا واحدًا لم يكن يتصور أحد أن يقوم بما قام به، نفّذ خطة متكاملة خدع فيها كل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وقام بشن عملية عسكرية أدت إلى تحطيم فرقة كاملة من الجيش الإسرائيلي وأذلته وأسقطت معها أوهامًا كثيرة. تفاعل الشارع العربي مع ذلك الحدث بشدة في المرحلة الأولى، لكنه اصطدم بالنظام الرسمي العربي. لم تكن كل المواقف الرسمية العربية سلبية من العملية، فقد لاحظنا كيف وقفت مصر مثلاً ضد موضوع التهجير القسري. وفي النتيجة، نحن أمام انعطافة تاريخية ومرحلة جديدة تمامًا في تطور الصراع العربي – الإسرائيلي. وبالتالي ما كان يجري قبل معركة الطوفان سيكون مختلفًا تمامًا عما سيأتي بعد ذلك. من الصعب الحديث عن كل التداعيات المتعلقة بطوفان الأقصى في هذه المرحلة، فالمعركة ما زالت مستمرة وتداعياتها لم تتضح كليًا بعد، لكنّ هناك أمورًا كثيرة سقطت. وأبرز تحوُّل طفا على السطح أن الشعوب العربية بدأت تدرك جيدًا أنه لا مكان للتعايش على الإطلاق مع هذا الكيان الوحشي العنصري. وقد كشفت إسرائيل في كيفية تعاملها مع الشعب الفلسطيني في غزة عن طبيعة هذا النظام المجرم الذي أصبح مفضوحًا، ليس فقط للشعوب العربية ولكن لكل دول العالم.

يقابل كل ذلك مشهد انقسام سياسي حاد في الداخل الفلسطيني، إضافة إلى ضعف الحضور الرسمي الفلسطيني والشعور بالعجز الكامل والاستسلام أمام نفوذ الكيان، ناهيك بالانقسام الحقيقي في الرؤية السياسية الفلسطينية أيضًا وفي كيفية التعامل مع الاحتلال، وهذا ليس في الخطين الأساسين فحسب بل داخل هذين الخطين بين مؤيد لخط المقاومة ومؤيد لخط التسوية السياسية وخط الاعتماد على أمريكا وعلى الدول العربية أو غيرها من الدول.

ثالثًا: الجماهير العربية

تطرقت المداخلات والمناقشات إلى تشخيص الخلل على المستوى الشعبي العربي؛ فبالرغم مما وصفته المداخلات بالخذلان الرسمي العربي وبهمود الشارع العربي، يظل الحراك في الأردن ينمو ويستمر في حشد الفعاليات، وبخاصة أمام السفارة الإسرائيلية وفي وسط عمان. لكن ذلك يظل دون مستوى الحدث، ولم يحصن الحراك الجماهيري العربي بوجه عام من الخلل لأنه تحرك في البداية بصورة عفوية. وإن العفوية سرعان ما تستنفد طاقتها ومن ثم لا تصل إلى أهدافها. تركز جوهر المناقشات حول غياب الأطر التنظيمية التي تدير الشارع العربي، معتبرة أنه يتحرك عندما يرى إمكانية للوصول للأهداف وعندما يمتلك أدوات يستطيع أن يوظفها في العمل فقط. فالفكرة ليست تقديم تضحيات مجانية من دون طائل، وإن الحلقة المفقودة هي غياب حركة شعبية عربية منظمة تستطيع أن تحقق ضغوطًا لوقف التطبيع وإغلاق السفارات ولفتح معبر رفح وإدخال المساعدات وإيصال الدعم إلى المقاومة التي تخوض معركة بالنيابة عن الأمة العربية. توضح المناقشات أهمية الدروس السابقة التي يمكن ان تستفيد منها الجماهير العربية؛ فإن إيصال الدعم إلى المقاومة يمكن أن يحصل كما دُعمت المقاومة الجزائرية خلال حرب التحرير ضد فرنسا، حيث كانت مصر في ظل جمال عبد الناصر حاضنة لها، مثلما كانت حاضنة لتحرير جنوب اليمن.

تُشرِّح المداخلات الأزمة العميقة في حركة التحرر العربية التي لا تنحصر فعاليتها في الأنظمة العربية فقط، بل في البديل الذي قدمناه أيضًا. فانهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يعدّ بمنزلة حليف أدى دورًا في الأزمة، ولكن الأمر الآخر هو قوة الضربات التي لحقت بحركات التحرر في الوطن العربي والقوى القومية واليسار والقوى الوطنية، وهذا ما خلق واقعًا جديدًا. وإذا حسبنا أن القمع هو سبب تراجع دور الجماهير اليوم، فلماذا كانت هذه الجماهير تتحرك في الخمسينيات في ظل القمع الشديد؟ ولماذا كانت قوى التحرر العربية حينذاك منظمة ولها صلة بالجماهير؟ الجواب يكمن في طبيعة حراك الجماهير الذي لم يكن عفويًا تلك الحقبة، بل كانت تقوده أحزاب سياسية وقوى تحررية عربية. فضلًا عن أزمة حركات التحرر الوطني واليسار العربي والقوى القومية التي فقدت صلتها بالجماهير العربية. ويتمثل واقع الجماهير العربية أيضًا بالموقف الاستسلامي لشعوب المشرق العربي في مواجهة سايكس – بيكو، بوصفه أمرًا حتميًا ولا مفر منه، مقابل القبول بوهم الاستقلالات الشكلية التي تحققت في الكيانات العربية وهي استقلالات لا تحقق أي تحرر.

المشكلة أيضًا في التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية مستقلة تعني الفلسطينيين وحدهم، صحيح أن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين بالدرجة الأولى كونهم ضحايا الاحتلال والقمع، لكن محاولة المشروع الصهيوني وهيمنته على المنطقة لا ينحصر في القضية الفلسطينية بل هي موجهة نحو كل شعوب وبلدان المنطقة.

وفي غياب دور الإعلام الوطني والمثقفين الوطنيين وفي ظل واقع أحزاب عربية مأزومة فكريًا وسياسيًا وتنظيميًا وبرنامجيًا، تتعمق أزمة تعبئة الجماهير. فضلًا عن ضعف الآليات القضائية في ملاحقة العدو بارتكابه المجازر؛ وهو ما يطرح قضية غياب المحاكمة الشعبية، واتحاد المحامين العرب.

ويتوج هذا الخلل بغياب ثقافة التضحية، حيث نرى الكثيرين ممن لا يريد أن يتحمل عبء القضية الفلسطينية وأن يكون كبش الفداء لها. ولا يريد أن يتحمل ما يتحمله الشعب الفلسطيني من الشهداء والجرحى والدمار. وأغلب هؤلاء يريد أن ينأى بنفسه عن ذلك وأن يبقى سالمًا غانمًا، يذهب إلى بيته وينام في سريره هنيئًا مطمئنًا ويكتفي بمشاهدة بعض اللقطات مما يعانيه الفلسطينيون ويكتفي فقط بالدعاء لهم.

رابعًا: الحراك الغربي

شخصت المداخلات الحراك الغربي الذي تصاعد مع حرب الإبادة على غزة، واصفة إياه بموجات وعي في الشارع الغربي تجاه القضية الفلسطينية كشفت زيف الرواية الصهيونية. ظهر ذلك في المحاولات الأممية لتجريم الاستعمار. وقد خرجت الحشود في أكثر من مدينة أمريكية وأخذت حيزًا كبيرًا في الجامعات. ورأت المداخلات أن التظاهرات المليونية في لندن أجبرت الحكومة البريطانية على الامتناع عن التصويت، وتصاعدت في فرنسا رغم أن حكومتها هددت بالسجن خمس سنوات كل من يهتف بشعارات مؤيدة لفلسطين وسبع سنوات لمن يرفع أعلامًا فلسطينية. بعض هذه التظاهرات باتت تتكلم على الصراع القائم ليس منذ سنة 1967 بل وحتى عن فلسطين 1948، فالجماهير اكتشفت كذبة الرواية الصهيونية، وباتت مواقف بعض الأمريكان والغربيين متقدمة على مواقف كثير من مواقف المسؤولين العرب.

لقد ضغطت هذه التحركات المليونية على الموقف الأمريكي والدول الأوروبية. لذلك تكمن أهمية تعزيز هذه التظاهرات من خلال التواصل مع النقابات والشخصيات الفاعلة في هذه المجتمعات.

ورأت المناقشات أن نجاح الحراك الغربي ناتج من وجود أطر منظمة، مربوطة بقناعة وإمكانية لدى المواطن في الميدان في تحقيق الهدف الذي يخرج من أجله. إضافة إلى عوامل تكوين الرأي العام الغربي القائم أساسًا على الوعي والثقافة والتعليم.

خامسًا: الخروج من العجز نحو الفعل

مثّلت الجولات السالفة من المناقشات محطاتِ تَفكرٍ معمّقةً للخروج برؤية لمسارات التحوُّل نحو الفعل على كل المستويات، وجاءت كالآتي:

1 – المستوى الدولي

أهمية الوعي وفهم ما يجري للفكاك من التبعية والاستفادة من الواقع الدولي الجديد الذي يتمخض الآن مع ظهور علامات تراجع نظام القطب الواحد مقابل إمكان تشكُّل نظام متعدِّد القطبية. هذه القوة الناشئة الجديدة بحسب المناقشات، تعطينا فرصة، لكنها لا تعني تلقائيًا الانضمام إلى البريكس أو شانغهاي. إذ إن الهدف الرئيس هو في الاستفادة منها في عملية التحرر من التبعية لا التبعية لنظام بديل.

وفي إطار محاكمة إسرائيل رأت المداخلات أن محكمة العدل الدولية ليست هي وحدها الجهة التي يمكن اللجوء إليها لمعالجة قضية الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني؛ فهناك وسائل التقاضي وهي موجودة في دول أوروبا وغيرها، وهي تسمح قوانينها برفع قضايا حول انتهاكات وقعت خارج حدودها، لذلك، علينا التنبه إلى هذه القضية وإلى كيفية التعامل معها بجد.

2 – المستوى الرسمي العربي

إعادة الاعتبار لمشروع بناء الدولة العربية، المفككة والمنهارة، سواء كانت القطرية أو مشروع الدولة العربية الواحدة، كبديل من الدولة المنهوبة القائمة حاليًا التي تحولت إلى مشاريع حكم ونهب وإفقار للناس وإلى كيانات لا تكاد تكون قادرة على المحافظة على وحدتها الداخلية.

من المعلوم أن الدول العربية اليوم هي دول قطرية، هذه حقيقة لا يمكن إلغاؤها لبناء أمة جديدة على مستوى عربي قومي. السؤال المطروح هنا كيف يمكن الدولة العربية القطرية أن تكون قوية؟ يأخذنا ذلك إلى ورش تفكير كثيرة ومتعددة من الإصلاح، وبخاصة أن فكرة الوحدة العربية لن تتحقق إلا بمشروع دولة عربية قوية. وعلى الرغم من غياب ذلك ومن موقف الدول المكبِّل لاعتبارات مختلفة، إلا أنها تستطيع أن تفعل شيئًا من خلال تسهيلات من قبلها لمؤسسات المجتمع المدني في إيصال الأموال والمساعدات والتبرعات وهذه نقطة قوية تضاف لمصلحة الأنظمة.

وفي إطار الحديث عن الدولة العربية، تشير إحدى المداخلات إلى دور مصر التاريخي في قلب الجيوستراتيجية العربية. فمنذ أن غابت مصر عن هذا الدور بدأ التدهور والتراجع في الدور العربي الكلي. وتؤكد المداخلة أهمية استنهاض دور مصر التاريخي في الصراع وفي دعم المقاومة.

تستحضر المداخلات استراتيجيات الدول العربية مع الحروب لمناقشة ما يجري في غزة. فقد تمظهرت تلك الاستراتيجيات بعدم تفعيل الآليات العربية المشتركة سواء في المؤسسات الإقليمية أو مؤسسات المجتمع المدني، وتخلل عملها البيروقراطية والترهُّل والتفاوت في مقاربة الملفات العربية المهمة، فبعض الدول تمارس في استراتيجيتها الدبلوماسية ما يسمى استراتيجية التحوُّط أو ركوب الموجة، أي ما معناه عدم اتخاذ موقف صارم أو منحاز تجاه قضية ما، إلا بعد دراسة الأحداث، وهذا ما يفسر تأخر الاستجابة العربية في الأيام الأولى للعدوان على غزة ومرور شهر في انتظار تبيان الموقف الأوروبي والموقف الأمريكي. لكن هذه الاستجابة تبقى ضرورية؛ ففي موضوع الحرب على العراق، كان لزامًا استصدار قرار عربي. ومن ثم عندما نتحدث عن الأقاليم العربية، لم يعد الإقليم العربي موحَّدًا، فهناك الآن عدة أقاليم حتى داخل التحالف الإقليمي نفسه، وحتى دول الخليج لم تعد لديها المقاربات نفسها، فالكويت تتخذ موقفًا رسميًا مشرفًا جدًا ومختلفًا عن مواقف بقية دول الخليج في موضوع غزة. لذلك، توصي المداخلات بأن لا ينحصر الموقف الرسمي العربي تجاه غزة بالموقف من حماس، بل يتعداها إلى المسألة الإنسانية بالدرجة الأولى، وتسجيل موقف داعم للمقاومة ضد الاحتلال الذي يستولي على الأرض تدريجًا.

وتوقفت المناقشات عند أهمية الاستفادة من الخلاف الحاصل بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل حول ما يهدد الأمن القومي لدولتي مصر والأردن في ملف التهجير القسري للفلسطينيين وتوطينهم على سبيل المثال لا الحصر. والضغط في سبيل إلغاء اتفاقيات السلام والتطبيع في الدول الأخرى.

وفي ما يتعلق بالشأن الفلسطيني الداخلي، لا بد من العمل الرسمي في المؤسسات وحتى القيادات على توحيد الموقف الفلسطيني. مع التذكير بأنه غير قادر على النطق بفكر ورأي ودفة واحدة، حتى في الجزئيات.

3 – المستوى الشعبي العربي

لا تزال عمليات التحرر في الوطن العربي غائبة حتى اليوم بسبب تبعية الاقتصادات العربية للإمبريالية، والاستسلام لواقع سايكس – بيكو، والتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية تخص الفلسطينيين وحدهم، مع غياب الوعي لجوهر المشروع الصهيوني وهيمنته على المنطقة. لذلك، بات من الضروري استنهاض القضية الفلسطينية كقضية مركزية لتحقيق التحرر في الوطن العربي، وأن تنظر الشعوب العربية إلى هذه المسألة على أنها قضيتها، وأن يكون التضامن شعبيًا كفاحيًا لا مجرد تضامن إنساني. ومن بالغ الأهمية أن تربط الشعوب العربية التحررية بين ثلاث حلقات؛ مقاومة الصهيونية، ومقاومة الهيمنة الإمبريالية، ومقاومة الركائز المحلية للرأسمال الطفيلي والإمبريالي. يقابل ذلك عملية ربط في النضال المحلي بين ثلاث حلقات في وقت واحد؛ المعركة الوطنية في مقاومة المحتل والكيان الصهيوني والإمبريالية، ومعركة النظام الديمقراطي ضد الفساد والاستبداد، وكذلك النضال الاجتماعي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. هنا يأتي دور النخب المختلفة من الطبقة السياسية والفكرية للانتقال بالحركات الشعبية إلى درجة أعلى من الوعي والتعبئة والتنظيم لتجاوز حركة العفوية.

وتطرح المداخلات رؤية تعمل وفق مسارين على تطوير حركة تحرر عربية: مسار المقاومة المسلحة ومسار العمل السياسي. إن مسار المقاومة المسلحة اليوم يسبق مسار العمل السياسي، وهو الذي يقود حركة التحرر العربي في غياب العمل السياسي. وإن التقاء العسكري بالسياسي ضرورة مهمة يجب التفكير بأطر عملية من أجل بلورة مشروع تحرر وطني عربي بجناحيه العسكري والسياسي والثقافي.

وتدعو المداخلات في النظر إلى استمرارية الحراك الجماهيري العربي وإخراجه من العفوية وتطوير خطابه نحو التصعيد والضغط على الحكومات لقطع العلاقات مع إسرائيل لا المطالبة بسحب السفراء فقط، والانحياز إلى المقاومة وتوفير الدعم للشعب الفلسطيني وغزة بوجه خاص. وللتذكير هناك 17 حكومة عربية وإسلامية تقيم علاقات مع إسرائيل، وبالتالي فالأمر ليس مقصورًا على عملية تطبيع في عدة بلدان، بل هناك اتفاقيات سلام مع 3 دول عربية ومنها فلسطين، وهناك 5 دول عربية أقامت علاقات تطبيع و9 دول إسلامية على علاقات مع إسرائيل، مع أنها متفاوتة، فبعضها أمنية وأخرى عسكرية وغيرها اقتصادية. لا بد إذًا من الضغط لقطع هذه العلاقات، وليس القبول بسحب السفراء والتشاور وعدم قبول وقف توقيع الاتفاقيات.

ولا بد من أن تقر الجماهير بفشل مشروع حل الدولتين أو السلام مع العدو. وأن تدرك أن العدو الصهيوني لا يريد السلام ولا يؤمن بدولة فلسطينية. إن العمل على تعزيز وإدامة التحشيد في الشوارع حاجة ماسة يجب التركيز عليها، فالشوارع العربية يجب ألّا تفرغ من الجماهير المطالبة باستمرارية دعم المقاومة وحث الحكومات قدر الإمكان على أن تتحرك على نحو أفضل لنصرة فلسطين ولإدانة الكيان الصهيوني بعيدًا من البيانات والاستنكارات. تجدر الإشارة هنا إلى أن وجود الجماهير في الشارع ألغى مشاركة بايدن في المؤتمر الرباعي الذي عقد في عمّان، وقد أجبرت الجماهير الحكومة الأردنية على إلغاء توقيع اتفاقية الماء مع العدو الصهيوني. ولاستكمال التحشيد يجب تعزيز العمل مع المنظمات الشعبية الإسلامية، وعلى الأخيرة أن تأخذ دورها بخاصة خلال صلوات الجمعة. كما يوصى أصحاب المال العرب ذوو المواقف الجيدة تبني مشاريع التوأمة بين مدينة غزة وبين بعض المدن العربية، ووضع برنامج لمساعدة الغزيين الذين انقطعوا عن ذويهم وتغطية حاجاتهم المعيشية.

يجب أن تضغط الجماهير على الأنظمة لاتخاذ إجراءات لوقف إطلاق النار. أما الحديث عن التوجه إلى الأمم المتحدة التي تتمتع فيه الدول الغربية بحق الفيتو، فهذا مسار مغلق لأن معركتنا هي ضد الغرب، فقد أظهرت معركة غزة مجددًا أنها معركة الأمة مع الغرب. وهنا مثار النقاش في غياب عمل وحدوي عربي يواجه مشاريع الهيمنة الغربية. هذه هي الحلقة المفقودة، لذلك علينا أن نخلق أطرًا شعبية عربية تعتصم في الشارع وفي كل الأماكن التي يمكن أن تعمل فيها.

وهنا تتوجه الأسئلة نحو دور المجتمع المدني أيضًا في ملاحقة إسرائيل قضائيًا، ونحن نعلم القيود على الآليات القضائية الرسمية كالمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، لكن أين المحاكم الشعبية، هناك دول أوروبية تتبنى مواقف تتجاوز مواقفنا مثل إيرلندا وأخرى قريبة منها كإسبانيا وبلجيكا، أين محاولات مؤسسات المجتمع العربي كـاتحاد المحامين العرب ومنظمات حقوق الإنسان من أجل تنظيم محاكمات شعبية في دول أوروبية تفضح إسرائيل.

ويطرح دور المجتمعات العربية وغيرها من القوى المدنية السياسية والاجتماعية للنظر في تكوين كتلة تاريخية تتكون من جماعات تناسقية تضامنية متناغمة بعضها مع بعض من أجل تثبيت الفكر السياسي الجديد، ليست كتلة تاريخية بصورة حراك مجتمعات ولا بصورة تظاهرات او أصوات او بيانات بل بصورة كتلة فاعلة تراكمية تناسقية تضامنية تضع الحدود الدنيا من الأفكار والاستراتيجيات التي يمكن التوافق عليها وتعمل على تأطير المزيد من الجماعات والنقابات والجمعيات المهنية.

إن النظر في نجاعة العمل القومي والوحدوي في الساحات والميادين من أجل غزة يثير دور النخبة الذي يستحضر مفهوم البراكسيس الذي طرحه أنطونيو غرامشي. وأن القمع والاعتقالات وإطلاق النار على المتظاهرين في الخمسينيات والستينيات  في الأردن ومصر  على خلفية التظاهرات ضد  السفارة  الصهيونية لم يمنع الناس من أن يسقطوا حلف بغداد في الشارع. يعود ذلك إلى أن الأحزاب القومية واليسارية كانت قوية وكانت مندمجة في الجماهير. أما مثقف اليوم فلم يعد مثقفًا عضويًا منخرطًا في العمل السياسي والنضالي، ولم يعد مستعدًا لدفع الثمن ولتقديم نفسه كتضحية للتعامل مع عامة الناس كي تتحول النظرية إلى قوة ملموسة عندما تصل إلى الجماهير. تحوَّل المناضل السياسي إلى ناشط في مؤسسات الـ NGO ويتلقى تمويلاً أجنبيًا ويسير بإيعاز من الغرب ومن الدول المانحة. إذن نحن بحاجة إلى إعادة صياغة العمل السياسي القومي واليساري. فهل يكفي أن تكتفي النخبة بالكتابة؟ أم لا بد أن تتحول إلى قوة ضغط على السياسيين؟ وكيف تكون قوة الضغط هذه؟ طبعًا هذا يتطلب عقد لقاء لبناء مشروع. إن عدة المركز أصدر مؤلفات في هذا الشأن يمكن الاستناد إليها لبناء مشروع، ثم الضغط على السياسيين بما في ذلك الغرب. علينا أن نعاملهم معاملة الند للند على الجبهة الفكرية والثقافية أيضًا. الضحالة الفكرية والثقافية تظهر في التحركات الشعبية، في حين أن الناشطين في الحراك الغربي يعرفون تمامًا لماذا يدافعون عن فلسطين، وهنا تقع المسؤولية في المنطقة العربية على النخبة العربية. ويأتي دور النخبة أيضًا في البحث عن أساليب وآليات تضمن لنا تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، لأن القتال سينتهي بعد حين، وأخشى أن ينتهي هذا المشهد البطولي لنجد أن عوامل الانقسام لا تزال فاعلة.

وربطًا بدور النخبة أيضًا، نادت المداخلات بأهمية التأسيس لبنية فكرية سياسية جديدة قائمة على أربعة عوامل: (1) أن نقر باستحالة التعايش مع ما يسمى الكيان الصهيوني الذي يأخذ شكل الدولة في فلسطين لأن الجرائم التي ارتكبها ولا يزال تؤكد استحالة إمكان إجراء مفاوضات مع هذا الكيان وأن تكون هناك دول وسيطة معه. يمكن النظر في مسألة اليهود غير الصهاينة وغير المؤمنين بالفكر العنصري الإلغائي الذي يقوم عليه هذا الكيان ممن يريدون العيش مع إخوانهم العرب المسيحيين والمسلمين في فلسطين؛ (2) أن نقر بأهمية أن نتعامل مع الحضارة الغربية بطريقة مختلفة بعد أن تبيَّن وجهها الحقيقي الاستعماري. ما عاد ممكنًا أن نتعامل معها كما كنا سابقًا، نعتقد أنهم لديهم الحلول الحصرية لكل شيء في العالم. في هذا السياق، علينا أن نتعامل مع الحضارة الغربية بندية تامة. بات الغرب يدرك تمامًا أن ما طرحته الأنوار الغربية والأوروبية من شعارات كالمساواة والحرية والكرامة والإنسانية والعدالة، رفستها الحضارة الغربية سواء في أراضيها أو أراضي غيرها، وبالذات في المنطقة العربية؛ (3) آن الأوان للأمة العربية أن تصبح جزءًا من التيار الجديد الذي يقاوم الهيمنة والسيطرة الاستعمارية الغربية سواء من خلال العمل التام والانضمام إلى البريكس أو من خلال كتلتنا العربية التي يجب أن تتعامل مع الغرب الاستعماري بندية تامة وهذه أيضًا قضية كبيرة جدًا؛ (4) أثبتت التجارب السابقة أنه لا يمكن الرهان على معظم الأنظمة العربية، التي رغم كل هـذه الجرائم في غزة لم تقم باستدعاء السفراء كبادرة احتجاج على الأقل.

إن الرهان الأساسي اليوم على مشروع حركة تحرر عربية قد تغير الوضع العربي يقع على عاتق من يحمل البندقية، بدءًا من فلسطين ومن ثم في لبنان واليمن والعراق وغيرها. للأسف الشديد، نرى أن دور المثقف والعمل السياسي والثقافي غائب عن هذا المشهد. لذلك، يقتضي تفعيل هذا الأمر في الشارع واعتماد آليات متوسطة المدى، وليس من السهل إعادة مراكمة الشروط لإعادة خلق شارع عربي يتحرك باتجاه حركة تحرر عربية.

فليبدأ الحراك بأهداف متواضعة مثل تعزيز مقاطعة المنتوجات الغربية والإسرائيلية لما له من تأثير كبير. كما يجب إجراء تحركات واضحة لإيصال المساعدات عبر معبر رفح، والمطالبة بوقف التطبيع. ولكن ما دامت الضغوط الخارجية على معظم الدول العربية أقوى من الداخلية ومصالحها مرتبطة بالخارج، فلن تقوم بأي عمل فاعل في المدى القريب أو المدى المتوسط. لكن على المدى البعيد، فأزمة الدولة العربية بحاجة إلى نوع آخر يتطلب وسائل متفاوتة. على الأقل هناك بعض التوقعات بأن التحركات ستحقق بعض النقاط ولو جزئية، ولكن يجب عدم فقدان الأمل بإمكان حصول عملية تغيير ولو ضمن أطر ضيقة.

علينا البحث عن طرق أخرى للنضال لكسب الحق وديمومة المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني من منطلق تاريخي وليس من منطلق آني. الآنيات هي التي ستؤدي بنا إلى نسيان القضايا الأساسية. حركة حماس الآن هي ليست مجرد حركة حماس، الآن هي حركة مقاومة وحركة تحرر. الآن نحن أمام حكومة مؤقتة تتفاوض على أساس الندية مع الكيان الصهيوني، هذا ما لم يحدث في السابق، قد نختلف أيديولوجيًا وعقائديًا مع حركة حماس، لكن من ناحية الواقع الفعلي، فإن حركة حماس تتفاوض مع الكيان الصهيوني انطلاقًا من موقع الندية، وهذا لا بد أن يؤخذ في الحسبان.

أثارت المداخلات موضوع ضرورة استنهاض الكتلة التاريخية، لذلك أوصت إحداها بدراسة أسباب عدم نجاحها في السابق، وخشيت أننا نهرب إلى الأمام بأفكار لم نتمكن من تفعيلها. فهذه الأفكار مطروحة مذ حدث الانقسام المصري – العربي المروع بعد خطوات مصر للسلام مع إسرائيل. الأفكار حول الكتلة التاريخية والرؤية العربية الواحدة جيدة ولكننا مطالبون بتحرك سريع من أجل مساعدة غزة وتعزيز صمودها. هؤلاء الأبطال على وشك تكرار سيناريو 2006 عندما عجزت إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة عن أن تفرض إرادتها على المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، واضطرت إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن تقبل بوقف إطلاق النار وفشل مشروعها في شرق أوسط جديد. الآن يعيد التاريخ نفسه، نتنياهو وأمثاله وضعوا هدف اجتثاث حماس وتغيير الشرق الأوسط برمته، في حين أن القضية ليست منحصرة بحماس، فهي قضية مقاومة شعب بأكمله. ويجب الكف عن الحديث عن أن حماس تنظيم تابع للإخوان المسلمين وبالتالي ما ينطبق على العلاقة الصدامية بين الإخوان وبعض النظم العربية يجب أن ينطبق على موقفنا من حماس، وهذا قصور بالغ في النظر، إذ ثمة فرقًا بين حماس كقوة سياسية لها ما لها وعليها ما عليها، سواء نختلف أو نتفق معها، وبين حماس كقوة تحرر وطني يجب أن نقف جميعًا معها.

وانتهت المداخلات بأطروحات تفصيلية تستند فيها إلى مدى قدرة الفعل الفلسطيني على الإنجاز، وإلى الممارسة الحضارية مع الأسرى الإسرائيليين، يجب ألّا نقلل من ذلك ومن قدرته على كسب الرأي العام الشعبي والبرلماني والإعلام الدولي. استطاع هذا الفعل الحضاري أن ينقل الحلة الفلسطينية من دخول بيوت الغرب والأفارقة والآسيويين، لذلك، يجب أن نستمر في تعميم هذه المنظومة القيمية من خلال تقنيات التواصل الاجتماعي والتواصل البرلماني والوسائل الاجتماعية والشعبية وغيرها من الوسائل، والإعلام الوطني، وندعمها بتعميم الثقة بالنفس وأن غزة أعطتنا المادة الكافية لشحن أرواحنا وأنفسنا وعقولنا وقلوبنا بقدر كافٍ من الثقة ونحن قادرون على هزيمة عدونا لو توافرت لدينا النية والإعداد.