أولًا: العلاقة السليمة مع اللغة الوطنية

 

نطرح في هذا البحث استكشافًا لمعالم نظرية جديدة حول علاقة الناس بلغاتهم. ترتكز نظريتنا على أبجدية بسيطة لإقامة الناس علاقة طبيعية أو سليمة مع لغاتهم. نعتقد أن أبجدية منهجيتنا هذه تتضمن معالم جديدة في الطرح تجعل الحكم بشفافية سهلًا على وجود أو غياب أو ضعف علاقة سليمة للناس والمجتمعات بلغاتهم (الذوادي 2018 أ: 49-73 و109-113 :2021). برؤية معرفية، تؤكد وتقول هذه الأبجدية إن العلاقة الطبيعية بين الناس ولغاتهم تتمثل بممارسة أربعة بنود لميثاق اللغات: 1- استعمالهم إياها وحدها بينهم في الحديث في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية؛ 2 – استعمالهم إياها فقط بينهم في الكتابة؛ 3 – المعرفة الوافية للغة والمتمثلة بمعرفة معاني مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها؛ 4 – تنشأ عن هذه العلاقة السليمة التفاعلية مع اللغة في البنود 1 و2 و3 ما نسميها “العلاقة الحميمة” مع تلك اللغة والتي تتجلى في المواصفات النفسية والسلوكية التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم أو خارجها. واعتمادًا على تلك البنود الأربعة يسهل التعرّف إلى نوعية العلاقة التي يمارسها الناس مع لغاتهم. فالذين يلبون بالكامل تلك البنود الأربعة مع لغاتهم هم قوم يتمتعون بعلاقة طبيعية أو سليمة معها. أما الذين لا يلبونها، فهم أصناف متنوعة حسب مدى تلبيتهم لأي عدد من البنود الأربعة في التعامل مع لغاتهم. تسمح دراسة حال اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية النقية في المجتمعات العربية ببيان درجات فقدان أو ضعف العلاقة السليمة/السيادة اللغوية في تلك المجتمعات مع اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية الصافية. يمكن صياغة مقولة طرحنا بخصوص العلاقة مع اللغة في معادلتين شبه حسابيتين:
1- الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (1+2+3+4 )= علاقة سليمة مع اللغة/ممارسة المواطنة اللغوية الكاملة؛
2- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالمعالم الأربعة (1-+2-+-3+-4) = علاقة غير سليمة كثيرًا أو قليلًا أو ما بينهما مع اللغة = فقدان أو ضعف المواطنة اللغوية. ومنه، إعاقة اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية النقية مما يرشح الهوية العربية للشعوب العربية للارتباك بسبب العلاقة الوثيقة بين اللغات وهويات الشعوب.
1- أبجدية فهم العلاقة الحميمة مع اللغة   
                         
يساعد منظور علم اجتماع المعرفة على فهم العلاقة الحميمة التي تربط الناس باللغات إن هم استعملوها هي فقط بالكامل شفويًا وكتابة (1+2) في كل شؤون حياتهم الفردية والجماعية منذ الطفولة وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية وغيرها (3). يجوز القول بكل بساطة إن تلك العلاقة الحميمة (4) مع لغات الأم أو اللغات الوطنية هي نتيجة لعملية التفاعل/الاستعمال المكثف معها ولها الذي يُنتظر أن ينشئ مثل تلك العلاقة النفسية القوية التي تخلق علاقة وثيقة ومتينة، أي حميمة مع اللغة. وبعبارة علم الاجتماع، فمثل ذلك التفاعل الشديد الكثافة والتواصل والاستعمال للغة يؤدي إلى ما يسميه هذا العلم بالعلاقة الأولية مع اللغة. وهي علاقة نَدِّية بالعواطف والشعور والتحمس لصالح اللغة. كل ذلك هو حصيلة لتنشئة لغوية اجتماعية طبيعية منذ الصغر تقتصر على استعمال اللغة الأم أو الوطنية على المستويين الشفوي والكتابي ووفقًا لمفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية الصحيحة في كل شؤون الحياة الفردية والجماعية في المجتمعات (الذوادي 2013: 53-78).
2- فكرة المواطنة اللغوية
أطرح هنا مصطلح المواطنة اللغوية كمفهوم جديد مثل مفهومَي الآخرَيْن (التخلف الآخر والازدواجية اللغوية الأمارة) في دراساتي للمسألة اللغوية بالمجتمع التونسي. ويعني هذا المفهوم عندي أن المجتمع وأفراده يتصفون بالمواطنة اللغوية الكاملة متى كانت اللغة الوطنية تحتل المكانة الأولى في قلوب المواطنين وفي المكانة الاجتماعية في مجتمعها وفي الاستعمال الشفوي والكتابي اليومي فيه لدى الأفراد وفي المؤسسات والقطاعات المجتمعية. كما رأينا، يستند هذا التعريف للمواطنة اللغوية على أن العلاقة بين اللغة الوطنية والمجتمع وأفراده يجب أن تكون علاقة طبيعية/سليمة: استعمالها وحدها شفويًا وكتابيًا من طرف المواطنين والشعور نفسيًا بالافتخار باللغة الوطنية والدفاع عنها. وهذا ما نجده، مثلًا، سائدًا اليوم في المجتمعات المتقدمة على الخصوص. وفي المقابل لا تحظى اللغة العربية كلغة وطنية في المجتمع التونسي بعلاقة سليمة بين أغلبية التونسيات والتونسيين بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال. والأمثلة لا تكاد تحصى التي تشهد على تلك العلاقة غير السليمة في القمة والقاعدة ومن بينهما للشعب التونسي. نكتفي بذكر ثلاثة منها: يكتب معظم التونسيات والتونسيين صكوكهم المصرفية/شيكاتهم بالفرنسية وتستعمل أغلبية التونسيات الفرنسية في الحديث عن ألوان الملابس ويذكر التونسيون والتونسيات كثيرًا أرقام الهواتف باللغة الفرنسية لا باللغة العربية/ الوطنية (الذوادي 2002).

ثانيًا: معايير المواطنة اللغوية في المجتمعات المتقدمة

 

وللتفصيل أكثر في معالم المواطنة اللغوية دعنا ننظر إلى ستة معالم في المجتمعات المتقدمة. تفيد الملاحظات الميدانية اليوم في تلك المجتمعات بأن لغاتها الوطنية/ الرسمية تتمتع فيها عموما بالمواصفات الرئيسية التالية:
1- الاستعمال الكامل لها على المستويين الشفوي والكتابي.
2- الاحترام لها والاعتزاز بها والغيرة عليها والتحمس للدفاع عنها. في مقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسية في كندا منعت السلطات استعمال الكلمة الانكليزية Stop ومن ثم تستعمل فقط الكلمة الفرنسية Arrêt (أرّاي.
3- معارضة استعمال لغة أجنبية بين مواطني تلك المجتمعات.
4- شعور عفوي قوي لدى المواطنين بالأولوية الكبرى التي يجب أن تنفرد بها اللغة الوطنية في الاستعمال في مجتمعاتهم.
5- إحساس قوي ومراقبة واسعة لدى المواطنين لتحاشي استعمال الكلمات الأجنبية وسياسات وطنية متواصلة من طرف أصحاب السلطة لترجمة المصطلحات والكلمات الأجنبية الجديدة إلى اللغة الوطنية.
6- تمثل اللغة الوطنية العنصر الأبرز لتحديد هويات الأفراد والجماعات في المجتمعات المختلفة،
ويتجلى ذلك أكثر في عصرنا الحديث في المجتمعات المتقدمة أو تلك التي لم تتعرض إلى الهيمنة الاستعمارية بوجهيها التقليدي المباشر أو الجديد غير المباشر.

ثالثًا: معالم ضعف المواطنة اللغوية التونسية

 

إذا تبنينا تلك المؤشرات الستة لقياس موقف التونسيين اليوم إزاء اللغة العربية (لغتهم الوطنية) وجدنا أن موقفهم العام ضعيف على كل واحد من هذه المواصفات. نكتفي هنا بالحديث عن بعضها فقط:
1- فعلى المستوى الشفوي، يمزج التونسيات والتونسيون كثيرًا حديثهم بكلمات وجمل وعبارات فرنسية حتى أنه يصح وصف اللهجة التونسية بأنها لا تكاد تكون سوى مزج للعربية بالفرنسيـة أي الفرونكــوأراب (le franco-arabe) في أغلب الأحيان. ويلاحظ في هذا الصدد أن النساء هن أكثر انجذابًا للمزج اللغوي، كما سنرى. فتأثيرهن على ضعف الوطنية اللغوية أكبر من تأثير الرجال، إذ هن أمهات الأجيال التونسية في الحاضر والمستقبل. وربما يجوز القول بأن أغلبية التونسيات والتونسيين اليوم يستعملون كلمة فرنسية في كل عشر كلمات (1/10) من حديثهم بالعامية التونسية مع المواطنين التونسيين. وبتعبير العلوم الاجتماعية، فالفرنكوأراب كسلوك لغوي شائع في المجتمع التونسي الحديث يمثـل المعيـار اللغـوي الاجتماعـي بحيث إن حديث التونسية/التونسي مع التونسيين بلهجة تونسية عربية خالية تمامًا من أي كلمة فرنسية يُنظر إليه لاشعوريًا من طرفهم على أنه ضـرب من السلوك اللغـوي المنحـرف الذي طالما يقابَل بالتعجب والحيرة وحتى التهكم والسخرية. وهو سلوك لغوي فاقد للمواطَنة اللغوية كما نحدد مواصفتها في هذه الدراسة.
أما استعمال اللغة العربية على مستوى الكتابة في المجتمع التونسي فهو لا يزال محدودًا في الأمور الكبيرة والصغيرة على حد سواء. فمعظم التونسيين والتونسيات يكتبون، مثلًا، صكوكهم المصرفية باللغة الفرنسية ويقومون أيضًا بكتابة إمضاءاتهم بلغة موليير. واللغة العربية غائبة عمومًا في العديد من المؤسسات التونسية الحديثة. فاللغة الفرنسية هي لغة العلوم في المؤسسات التعليمية التونسية ابتداءً من مرحلة التعليم الثانوي وانتهاءً بمرحلة الدراسات الجامعية العليا. كما أن اللغة الفرنسية تبقى لغة الكتابة لأنشطة جل البنوك التونسية. يشير كل ذلك إلى ضعف المواطنة اللغوية في المجتمع التونسي.
 2- تشير اليوم الاستبيانات والملاحظات الميدانية المتكررة لسلوكيات المتعلمات والمتعلمين التونسيين اللغوية بأن أغلبيتهم الساحقة لا تكاد تبدي بعفوية وارتياح حماسًا واعتزازًا باللغة العربية بوصفها لغتهم الوطنية. ويقترن ذلك عندهم بغياب الموقف القوي المدافع والغيور في السر والعلانية على اللغة العربية في المجتمع التونسي الحديث، فلا يكاد يوجد عندهم في أحسن الأحوال أكثر من شعور فاتر إزاء اللغة العربية التي تعتبر رسميا لغتهم الوطنية. وكمثال على ذلك الفتور، يلاحظ الباحث اليوم بطريقة متكررة نموذجًا لرد فعل أغلبية التونسيات والتونسيين على من يدافع منهم عن استعمال اللغة العربية في المجتمع التونسي. يتمثل رد الفعل الجماعي النموذجي لديهم في مساءلته: هل أنت أستاذ عربية أو هل أنك لا تعرف الفرنسية؟ فتأويل عالم النفس الاجتماعي لذلك الرد الجماعي النموذجي التونسي يفيد شيئين اثنين على الأقل:
أ – اعتقاد أغلبية التونسيات والتونسيين أن مدرس اللغة العربية هو وحده الذي ينتظر منه الدفاع عن اللغة العربية. وأما غيره وهم أغلبية التونسيات والتونسيين فهم غير مطالبين بالدفاع عن العربية، لغتهم الوطنية. أي كأن القيام بمثل ذلك السلوك اللغوي هو أمر غريب في رأي معظمهم.
ب – فإن ضعف تحمسهم للدفاع عن اللغة العربية تفسره ما سميناها الثنائية اللغوية الأمارة (الذوادي 2013) التي تجعلهم يميلون ويرغبون شعوريا ولاشعوريا في استعمال الفرنسية بدل العربية. والثنائيات اللغوية ليست بالضرورة أمارة بالسوء ضد اللغة الوطنية. فهذا ما نجده مثلًا في المجتمعات المتقدمة، كما ذكرنا، حيث تمثل المواطنة اللغوية أمرًا مقدسًا وخطًا أحمر؛ أي أن الثنائيات اللغوية في تلك المجتمعات هي ثنائيات لغوية لوامة. ومن ثم، فلا بد من وجود ظروف خاصة في زمن الاحتلال وفي عهد الاستقلال تضافرت على ميلاد واستمرار الثنائية اللغوية الأمارة في المجتمع التونسي المعاصر قبل الثورة وبعدها. وهو وضع ليس في صالح المواطنة اللغوية التونسية بل هو في الاتجاه المعاكس لها.
ولعل مما يقوي مصداقية هذا الوصف لموقف المتعلمين التونسيين من اللغة العربية أنني طالما طرحت هذا التشخيص لهذا الموقف من اللغة العربية على الطلبة التونسيين في قاعات التدريس الجامعية أو على الحاضرين المتعلمين والمسؤولين التونسيين في مناسبات أخرى دعيت فيها للحديث لهم. ولا أتذكر أبدًا أن أَنكر أحد أو احتج بقوة على وجود هذه العلاقة الفاترة بين المتعلمات والمتعلمين التونسيين ولغتهم العربية. فالملاحظات الميدانية تفيد أن أجيال المتعلمات والمتعلمين التونسيين الثنائي اللغة والثقافة أو الأكثر تفرنسًا لفترتي الاستعمار والاستقلال هي عمومًا أجيال فاقدة لموقف الاعتزاز والحماس والشعور بالغيرة للدفاع بعفوية وقوة عن اللغة العربية (ضعف المواطنة اللغوية). وهذا ما نطلق عليه أيضًا مفهوم ضعف التعريب النفسي لدى معظم التونسيات والتونسيين المتعلمين والمثقفين على الخصوص. ومن ثم، تغلب على موقفهم العام من لغتهم الوطنية حالة من اللامبالاة (ضعف/فقدان المواطنة اللغوية) أو حتى العداوة السافرة عند البعض من ذوي التكوين التعليمي الأكثر تفرنسًا على الخصوص.
 وأختم هذا الجزء بمثال ميداني يبرز ضعف المواطنة اللغوية لدى بعض الجامعيين والمثقفين التونسيين. عقدت في تونس في شهر أيار/مايو 2010 ندوة موضوعها الحوار بين الأديان. كانت الندوة مشتركة مع اليونسكو. ألقى الأستاذ التونسي المشرف على تنظيم الندوة كلمة الافتتاح باللغة العربية وأوضح أن هناك ترجمة لمداخلات المتحدثين وأسئلة الحاضرين والردود عليها. أشرف هذا الأستاذ على الجلسة الأولى للندوة، فأدارها باللغة الفرنسية فقط. أي أنه لم يحترم لا اللغة العربية/ الوطنية لتونس التي يمثلها ولا وجود الترجمة التي أعلن عنها للأجانب الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. ومن جهة أخرى، تحدث في هذه الجلسة ثلاثة تونسيين. فأحدهم أستاذ متخصص في معجمية اللغة العربية والمتحدث الثاني يعمل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/الألكسو. أما المتحدث التونسي الثالث فهو رئيس كرسي بن علي لحوار الحضارات. ألقى جميعهم محاضراتهم باللغة الفرنسية. بعد ذلك، طرح الحاضرون التونسيون والتونسيات أسئلتهم بالفرنسية فقط حتى إن أحد السائلين توجه إلى المحاضرين التونسيين فقدم نفسه بنطق فرنسي لاسمه العربي محمد.
3- لا يعارض، ومن ثم لا يحظر المتعلمون التونسيون والتونسيات اليوم على أنفسهم استعمال اللغة الفرنسية بينهم في الشؤون الصغيرة والكبيرة التي يقومون بها في مجتمعهم، بل نجد الكثير منهم يرغبون ويفتخرون بذلك.
4- أما هاجـس مراقبـة النفس لتجنب استعمال الكلمات الأجنبية فهو أمر مفقود عمومًا عند المتعلمات والمتعلمين التونسيين. ولعل ازدياد انتشار ظاهرة الفرونكوأراب بين الشباب ولدى الكهول اليوم هو دليل على ضعف وعيهم بأهمية مفهوم المواطنة اللغوية.

رابعًا: الازدواجية اللغوية = ضعف المواطنة اللغوية

 

يسهل تفسيرُ ضعف المواطنة اللغوية التونسية بأنظمة التعليم المزدوجة اللغة والثقافة أو المفرنسة التي عرفها/يعرفها عهدا الاحتلال والاستقلال كما يتجلى ذلك في نظامَي التعليم الصادقي والتعليم التونسي ما بعد الاستقلال وفي نظام التعليم المفرنس الذي يطغى فيه استعمال اللغة الفرنسية قبل الاستقلال وبعده. وفي المقابل، يجد المرء مواطنة لغوية قوية لصالح اللغة العربية عند خريجي ما سُمي نظام تعليم شعبة (أ) المعربة في مطلع الاستقلال وكذلك لدى خريجي نظام التعليم الزيتوني القديم. فالعامل الحاسم في هذا الفرق هو نوعية الازدواجية اللغوية (الأمارة أو اللوامة). فالأمارة تمثل استمرار الاستعمار اللغوي الثقافي الاستيطاني في نفوس وعقول التونسيات والتونسيين. أما اللوامة فهي ازدواجية لغوية تمنح صاحبتها/ صاحبها المناعة اللغوية الوطنية – المواطنة اللغوية – (الذوادي 2018 أ) مع التفتح على لغات وثقافات الآخرين كما تفعل المجتمعات المتقدمة ذات السيادة اللغوية والثقافية. إذًا، فلا بد من الثورة على النظام التربوي الحاضر لصالح نظام تعليمي يجعل الأجيال التونسية اليوم وغدًا صاحبة علاقة طبيعية كاملة مع اللغة العربية: أي لها المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات تلك الأجيال، أي الفوز في كسب رهان المواطنة اللغوية الكاملة. والتجربة التونسية في التعليم المزدوج اللغة والثقافة في عهدَي الاحتلال والاستقلال أثبتت فشلها في إخراج أجيال تونسية ذات ازدواجية لغوية لوّامة لأن أصحاب القرار هم أصحاب الازدواجية اللغوية الأمارة في تكوينهم اللغوي والثقافي ومنه في ممارسة السياسات اللغوية في المجتمع. وقد جرى التخطيط قبل الثورة في 2011 لنظام تعليم تونسي ثلاثي اللغات منذ المرحلة الابتدائية. ولا يبشر هذا المسار بالتطبيع الكامل والسوي مع اللغة العربية (كسب رهان المواطنة اللغوية) في المجتمع التونسي بعد الثورة. ومع الأسف، فالتحليل النفسي والاجتماعي والثقافي لقضية المواطنة اللغوية في المجتمع التونسي لا يبشر باحتمال نهضة المواطنة اللغوية في عهد نظام حكم ذي وجه لغوي ثقافي يتبنى بحماس الازدواجية اللغوية الأمارة. وهو بالتالي نظام حكم غير قادر على دفع المجتمع التونسي إلى القيام بمصالحة كاملة مع اللغة العربية/ لغته الوطنية، أي إرساء مواطنة لغوية كاملة تحدث قطيعة تامة مع عهدَي حكم نظامَيْ بورقيبة وبن علي. ومما لاشك فيه أن كسب رهان المواطنة اللغوية يمثل تحديًا ضخمًا للقيادات التونسية لما بعد الثورة ولمعنى الثورة نفسها.

خامسًا: إعاقات المواطنة اللغوية في المجتمعات المغاربية

 

تشير معطيات ضعف المواطنة السابقة إلى ظهور إعاقات نفسية واجتماعية وسلوكية لدى المغاربيين في علاقتهم باللغة العربية، لغتهم الوطنية الكبرى. نكتفي بذكر ثلاثة أمثلة فقط:
1- التصدّع اللغوي تونسيّا ومغاربيّا
إنّ ظاهرة التصدّع اللغوي في المجتمع التونسي جزء من وضع اللغة العربية في مجتمعات المغرب العربي. ولوصف الأمر بمؤشرات ميدانيّة نقتصر على ذكر المثال التّالي: لقد حضرنا ندوة حول نمو المدن المغاربية عبر العصور في 26ـ 27/ 05/ 2005. أُقيمت هذه النّدوة من طرف المركز الأمريكي بتونس للدراسات المغاربية . CEMAT كانت أغلبية المشاركين من التونسيين والجزائريين والمغاربة. اختار هؤلاء اللغة الفرنسيّة للقيام بمداخلاتهم ماعدا مشاركة مغربية واحدة اختارت اللغة العربيّة لإلقاء ورقة بحثها. فأثار ذلك حيرة وصدمة واستهزاءً بين زملائها وزميلاتها توحي بعدم استحسان الأمر بين معظم هؤلاء وربما اللوم على تجاسر المشاركة المغربية على استعمال اللغة العربية في هذه النّدوة (Kivisto 2002: 14). يشير ذلك إلى مدى استمرار رواسب الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي (ضعف المواطنة اللغوية) بين النخب الثقافية في هذه المجتمعات وذلك بعد عقود من الاستقلال. وهو تصدع لغوي بيّن المعالم لدى تلك النخب المثقفة (الذوادي 2002).
2- ظاهرة إعاقة اللغات
نظرًا لأن اللغات البشرية هي كائنات حيّة، فإنها تتعرض للإصابة بالإعاقات إن هي لم تُستعمل بالكامل شفويًا وكتابةً في مجتمعاتها ولا يعرف مستعملوها الكثير من مفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية والإملائية كما تشير كثير من الأمثلة في العربية الفصحى والعاميات العربية في المجتمعات المغاربية. تبيّن عديد السلوكيات اللغوية أن كثيرًا من المواطنات والمواطنين في مجتمعات المغرب العربي فاقدون اليوم لما سميناه بالعلاقة السليمة مع لغتهم العربية على المستويين الشفوي والكتابي. ويعود ذلك إلى مجيء لغة أجنية هي الفرنسية إلى تلك المجتمعات ومنافستها للغة الأم/الوطنية العربية في عقر دارها، وهو ما أدى إلى إصابة اللغة الوطنية بالإعاقة، أي أنهم أصبحوا غير قادرين شفويًا وكتابة على استعمال لغتهم الوطنية/العربية بسهولة طبيعية للتواصل بالكامل بينهم في مجتمعاتهم. إذ اللغة، أي لغة، تتعرض للإعاقة إن هي أُقصيت من الاستعمال الشفوي والكتابي بدرجة قليلة أو متوسطة أو كبيرة. فانتشار مثل تلك الإعاقة بدرجاتها المختلفة في مجتمع ما تشير وتؤكد أن علاقة الناس مع لغتهم أصبحت غير سليمة شفويًا وكتابيًا، أي أنهم خسروا المواطنة اللغوية (الذوادي 2018 ب).
3- الإعاقة اللغوية النفسية  
لا تقتصر إعاقة اللغة على الجانبين الشفوي والكتابي فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم بحيث تصبح مكانة هذه الأخيرة عندهم ليست هي المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم، فتراهم في كثير من الحالات غير مرتاحين نفسيًا في استعمالها على المستويين الشفوي والكتابي. ومن ثم، طالما يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال اللغات الوطنية مما يؤدي إلى ضعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. فجميع تلك المعالم السلوكية إزاء اللغات الوطنية تشير إلى وجود أعراض إعاقة نفسية عند أهلها الناطقين بها، وهو ما نسميه إعاقة التعريب النفسي بالنسبة لمن يعتبرون اللغة العربية لغة وطنية أو لغة الأم. فخبراء اللغة العربية المكلفون بإرساء خطة لتحسين وضع اللغة العربية في المجتمعات العربية في المغرب والمشرق مطالبون بتجاوز المنظور التقليدي التربوي لتعلّم اللغة العربية وتبني بدل ذلك سياسة لغوية كاملة تشمل الجوانب النفسية والاجتماعية التي تعمل لصالح تعلم ومعرفة اللغة العربية واستعمالها لا إلى إعاقة تعلّمها ومعرفتها واستعمالها. وخلاصة القول، إن تلك الإعاقة اللغوية النفسية هي سلوك ناتج ومُفصح عن ضعف أو فقدان العلاقة السليمة مع اللغة العربية، أي خسران المواطنة اللغوية في الأوطان العربية.

سادسًا: الثنائية اللغوية الأمارة بالمجتمعات المغاربية

 

 مما لاشك فيه أن الثنائية اللغوية الأمارة هي مفهوم جديد مثله مثل مفاهيمنا السابقة ذات العلاقة القوية بالواقع اللغوي المغاربي: التخلف الآخر، التعريب النفسي، الفرونكوأراب الأنثوية المغاربية. وفي رأينا، فالعلوم الاجتماعية في المجتمعات المغاربية والعربية لا يمكن لها أن تتقدم حقًا من دون الظفر بكسب رهان ابتكار مفاهيم وأطروحات ونظريات جديدة لفهم وتفسير ما يوجد فيها من ظواهر وما يجري فيها من أحداث، بحيث يمكن أن تكون أكثر مصداقية في الفهم والتفسير في تلك المجتمعات من العديد من المفاهيم والأطروحات والنظريات المستوردة.
نستعمل في هذه الدراسة كلمة الأمارة بالمعنى الذي ورد في وصف القرآن الكريم للنفس البشرية. فيفيد المصطلح القرآني للنفس الأمّارة أنها تلك النفس التي تجنح إلى فعل السوء. ومن المؤكد أن الأغلبية الساحقة من المغاربيات والمغاربيين خاصة المثقفين والمتعلمين منهم سوف يتعجبون من وصف الثنائية اللغوية بأنها أمارة بالسوء. والأكثر من ذلك سوف يغضب الكثيرون من هؤلاء على إطلاقنا مثل تلك الصفة على الثنائية اللغوية. وليس بالصعب على عالم الاجتماع النفسي تفسير مثل رد الفعل ذلك من طرف هؤلاء. إذ هو يرى أن الناس يتعلمون معظم الأشياء بعد ولاداتهم في محيطهم الاجتماعي الصغير والكبير. ومن الواضح أن اللغة هي من أولى الأشياء التي يتعلمها الأفراد في الأسرة والمجتمع. فهم تعلموا في عهدي الاستعمار والاستقلال في أسرهم ومدارسهم وجامعاتهم ومجتمعهم بأن تعلم اللغة الفرنسية/ الأجنبية مكسب كله خير (الذوادي 2013). فهذا المكسب الخير عندهم هو مسلّمة من المسلمات غير قابلة للتساؤل والتشكيك. وبعبارة أخرى، فهم لا يكادون يتصورون أي إساءة يمكن أن تأتي من الثنائية اللغوية. لكن ينبهنا علما النفس والاجتماع بأن البشر ومجتمعاتهم ليسوا قادرين فقط على تبني الأشياء الخاطئة والعيش عليها لعقود وحتى لقرون وإنما الأسوأ من ذلك أنهم مستعدون أيضًا للدفاع عنها والمقاومة من أجلها بكل حماس على مدى تلك الحقب الطويلة.

سابعًا: تطبيق المفهوم على دراسة المجتمع التونسي

 

يجوز بدرجات مختلفة في المجتمع التونسي المعاصر تطبيق رؤية هذا المفهوم على خريجي مدارس البعثات الفرنسية في عهدَي الاحتلال والاستقلال والمدرسة الصادقية والمدارس والجامعات التونسية لفترة ما بعد الاستقلال. فالملاحظات الميدانية المتكررة وفي ظروف متنوعة للسلوكيات اللغوية لمعظم هؤلاء الخريجات التونسيات والخريجين التونسيين، تفيد منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا أن اللغة العربية/الوطنية لا تكاد تتمتع بعفوية وحماس طبيعيين لديهن ولديهم بالمكانة الأولى على المستويات الثلاثة المشار إليها سابقا. فمثل هذا الواقع اللغوي الوطني المنكوب الذي يتقمصه التونسيات والتونسيون إزاء اللغة العربية/ الوطنية يؤكد أن ظاهرة الثنائية اللغوية ليست أبدًا كلها خيرًا (الذوادي 2013 و2018 ب) كما تعتقد خطأ أغلبيتهم، كما أسلفنا. إن تصنيفنا هنا للثنائية اللغوية إلى صنفين يمثل تكذيبًا دامغًا للقول والاعتقاد بأن ليس في الثنائية اللغوية إلا الخير الكبير. هل الثنائية اللغوية الأمارة كما وصفنا بعض معالمها كلها خير للغة العربية/الوطنية؟ إن الحقائق العلمية الحديثة من علوم الإنسان والمجتمع تفند أسس هذا القول وذلك الاعتقاد. فعلى سبيل المثال، يشير عنوان الكتاب الفرنسي [تحدي الأطفال الثنائي اللغة 2008) (Abdelileh- Bauer إلى وجود مشاكل وتحديات تواجه الأطفال الثنائي اللغة في ما يتعلق مثلًا بمكانة اللغة الأم/الوطنية عندهم وانتسابهم الهوياتي.
يمثل المجتمع التونسي المعاصر مخبرًا ثريًا للباحث الاجتماعي النفسي في المسألة اللغوية ليس على مستوى دراسة الآثار الأمارة/السيئة للثنائية اللغوية على الأطفال التونسيين فقط وإنما أيضا على عالم الكهول من التونسيات والتونسيين وفي طليعتهم النخب السياسية والفكرية والمثقفين والمتعلمين الثنائي اللغة في فترتي الاستعمار والاستقلال. ومن اللافت للنظر بهذا الصدد أن أدبيات الدراسات الغربية في اللسانيات وعلمي الاجتماع والنفس للسلوكيات اللغوية في مجتمعات العالم الثالث لا تكاد تعطي أي أهمية تذكر لعامل الاستعمار كمؤثر حاسم على السلوكيات اللغوية لمواطني تلك المجتمعات (Dhaouadi 2002). ونظرًا إلى التبعية الأكاديمية/الفكرية الغربية المهيمنة على العاملين في العلوم الاجتماعية التونسية بعد الاستقلال (الثنائية الفكرية الأمارة) فإن هؤلاء لا يكادون بدورهم يدرسون الجوانب الاستعمارية في السلوكيات اللغوية التونسية مثل تفوق المرأة التونسية المتعلمة والثنائية اللغة على نظيرها الرجل في استعمال أكثر للكلمات والجمل الفرنسية في عاميتها التونسية )الفرونكوأراب( ونطقها للفرنسية بما يسمى النبرة الباريسية كما سنرى لاحقًا. وكعامة الناس، ينظر معظم الباحثين التونسيين في العلوم الاجتماعية إلى أن ذلك السلوك اللغوي النسائي هو علامة على الحداثة والتقدم والتمدن. بينما ليس هناك علاقة حقيقية بين استعمال اللغة الأجنبية وكسب رهان معالم التقدم. فالمجتمعان الياباني والكوري نجحا في مسيرة التحديث الحقيقي بدون الوقوع في صنارة الثنائية اللغوية الأمارة. إن البحث اللساني الاجتماعي النفسي المتعمق في ظاهرة السلوك اللغوي النسائي المفرنس يشير إلى عكس ذلك. أي إنه تعبير عن مشاكل نفسية واجتماعية وثقافية تشكو منها النساء أكثر من الرجال في ثقافة وبنية المجتمع التونسي.

ثامنًا: ضعف المواطنة اللغوية لدى التونسيات

 

 إن ما يلفت نظر عالم الاجتماع في السلوك اللغوي للمرأة التونسية هو مبالغتها في استعمال اللغة الفرنسية بدل العامية العربية التونسية النقية خاصة في حديثها عن الألوان والمقاييس والأيام والأرقام. فنحن، مثلا، لا نكاد نسمع أي تسمية للألوان باللغة العربية عندما نصاحب زوجاتنا أثناء شرائهن بعض الملابس. فالحديث عنها لا يتم في العادة إلا باللغة الفرنسية. فيندر استعمال الكلمات العربية للون الأزرق والأسود والأبيض والوردي والرمادي في حديث النساء المشتريات والبائعات. وتستولي اللغة الفرنسية أيضًا بطريقة شبه كاملة في الحديث على مقاييس طول وعرض الملابس. فهذا الاستعمال المتكرر باللغة الفرنسية في هذه المناسبات في دنيا عالم النساء/الجندر الأنثوي يؤدي إلى نشأة عرف لغوي عام بين التونسيات يعطي الأولوية للفرنسية بحيث يجعلهن يخجلن من استعمال اللغة العربية في الحديث عن الألوان والمقاييس والأرقام. ويشبه هذا الوضع ما نجده في خجل التونسيين والتونسيات في كتابة صكوكهم المصرفية باللغة العربية. هناك أيضًا ميل كبير عندهن إلى استعمال لغة موليير بدل لغة المتنبي في ذكر أسماء أيام الأسبوع (الذوادي 2018 ب: 93 -110). ألا يشير هذا الوضع إلى حضور غير شعوري لرواسب الاستعمار اللغوي الفرنسي (ضعف المواطنة اللغوية العربية) بين أغلبية التونسيات والمغاربيات بصفة عامة؟
1- ما وراء ميل النساء أكثر نحو الفرنسية
يرجع هذا الميل النسائي الأكبر للغة الفرنسية إلى ما نريد أن نطلق عليه قانون الحتمية الاجتماعية النفسية والثقافية. فعلى المستوى الاجتماعي تشكو المرأة المغاربية الحديثة من دونية مزدوجة: (أ) فهي مثل نظيرها الرجل في وضع المغلوب بالنسبة إلى المستعمر الفرنسي القديم الغالب والغرب بصفة عامة.
(ب) فهي تشكو من دونية ثانية مقارنة بزميلها الرجل من حيث مكانتها الاجتماعية عمومًا وتمتعها بما نسميه مكاسب الحداثة خصوصًا. وبعبارة أخرى، فالبنى الاجتماعية وقيم وأعراف وتقاليد مجتمعها العربي المسلم تضع أمامها عراقيل أكثر بالنسبة إلى محاولتها التقدم اجتماعيًا وكسب رهان الحداثة. في هذه الظروف تجد نفسها معرّضة أكثر من الرجل المغاربي لضغوط وإحباطات نفسية واجتماعية وثقافية. وسعيًا منها لتجاوز وضعها الاجتماعي والنفسي والثقافي المتدني تلوذ إلى ما يمكن أن نسميّه بالحل الرمزي التعويضي، أي أن حالة عجزها عن تغيير وضعها الاجتماعي مباشرة جعلها تلجأ إلى أحضان اللغة الفرنسية كعالم رموز لغوي تقدّمي وتحديثي. فاستعمالها المكثف للفرنسية وبالنبرة الباريسية في نطق حرف الـ (r) هو عبارة عن احتجاج سلمي ضد مجتمع ذكوري، من جهة، وتقليد بالكامل للآخر الفرنسي في لغته، من جهة ثانية (الذوادي 2021 :235-250). أما محافظة الرجل المغاربي على نطقه حرف الـ (r) بنبرة الراء (ر) العربية ففيها أكثر من إشارة ورمز على وضعه الاجتماعي والنفسي والثقافي في هذا الصدد. نعم هو منجذب إلى استعمال الفرنسية بسبب انجذابه للحداثة وبسبب وضعه المغلوب أمام الفرنسي والغربي بصفة عامة. ومع ذلك يبقى وضعه الاجتماعي والنفسي أحسن من وضع زميلته المرأة. وهذا ما يسمح له بالتميّز شيئًا ما عن الفرنسي الباريسي وهو يستعمل لغته. فهو ينطق عمومًا حرف الـ (r) بنبرة عربية لا بنبرة باريسية. فكأنه بسلوكه اللغوي هذا يؤكد بإصرار على تعنته في التمسك بشيء من ذاتيته/هويته حتى وهو يقلّد الآخر في استعمال لغته، أي أنه غير مستعد اجتماعيًا ونفسيًا وثقافيًا – مثل نظيرته المرأة – على تقليد الآخر بالكامل. فنحن، إذن، أمام صنفين من التقليد: (1) تقليد بالكامل و(2) تقليد منقوص. وكل منهما حصيلة لنوع خاص من الحتمية الاجتماعية والنفسية والثقافية. ويفصح كل من هذين التقليدين عمّا تتعرض له هوية كل من الجنسين من درجة انصهار في الآخر. ومن المفارقات هنا أن يستمر المغاربيون والمغاربيات في الاعتقاد بأن ميلهم إلى استعمال اللغة الفرنسية بدل العربية يعدّ سلوكًا تقدّميًا وعصريًا والحال أن العكس هو الصحيح كما أبرزت ذلك في دراساتي وكتبي. فأطلقت على مثل ذلك الاعتقاد والسلوك اللغوي مفهوم التخلف الآخر الذي هو عنوان لكتابين كاملين أصدرتهما في عام 2002 حول هذا الموضوع، أحدهما بالعربية والآخر بالإنكليزية، كما تشير عناوين الكتب في قسم المراجع في آخر هذه الدراسة.
2- الحداثة مصدر مشاكل لدى التونسيات
من المؤكد أن موقف التونسيات لصالح استعمال اللغة الفرنسية بدل اللغة العربية كما وصفنا البعض من معالمه هنا يرجع إلى أسباب عديدة ذات صلة وطيدة بعلاقة المغلوب بالغالب كما جاء في مقدمة ابن خلدون. فالمرأة التونسية مثلها مثل الرجل التونسي هي في حالة المغلوب بالنسبة إلى الفرنسي المستعمر القديم. وبالتالي، فهي مرشحة لتقليد الفرنسيات والفرنسييين في لغتهم وفي نبرتها الباريسية وفي أشياء أخرى. وإضافة إلى ما ورد ذكره من أسباب لذلك، فإن إحدى الباحثات الأمريكيات ترى أن الركض وراء الحداثة يؤدي إلى أمراض نفسية لدى المرأة التونسية (Hays 1987). وكما رأينا، تجد المرأة التونسية المتعلمة على الخصوص نفسها مجذوبة إلى الحداثة الغربية بسبب اتصاف الطرف الغالب/الفرنسي ذكر وأنثى بها، وبسبب مناداة مجتمعها بقوة بكسب رهان تلك الحداثة منذ الاستقلال في 1956. وفي المقابل، فبعض تقاليد وقيم المجتمع التونسي لا تسمح للمرأة التونسية، كما تسمح للرجل، بقطف بعض ثمار الحداثة بمعالمها الغربية. يمثل هذا الوضع في نظر الباحثة الأمريكية عامل ضغط على المرأة المشدودة بقوة إلى قطب الحداثة الغربية. في هذا المأزق يبدو أن النساء التونسيات يجنحن إلى حل سهل لأعراض المرض النفسي. ويتمثل ذلك باستعمال اللغة الفرنسية )كرمز لحداثة الطرف الغالب خاصة الفرنسيات( أكثر من الرجال لتعويض فقدان بعض مكاسب الحداثة التي لا ترحب بها الثقافة التقليدية للمجتمع التونسي. وهكذا يجوز تأويل الرغبة الكبيرة لدى التونسيات في استعمال رصيد ضخم من الكلمات والجمل الفرنسية كأعراض مرضية نفسية حسب رؤية بحث هذه الجامعية الأمريكية. وبناء على هذا المنظور النفسي، فإنه يصبح مفهومًا ومشروعًا طرح التفسير النفسي لوجود صنفين من لغة الأم لدى التونسيات المشار إليهما سابقًا:
1- الفرنكوأراب المشحونة بمفردات اللغة الفرنسية وجملها عند الأغلبية الساحقة من التونسيات المتعلمات كأمهات أو كعازبات.
2- الفرنسية كلغة الأم عند الكثير من التونسيات. ونتيجة لهذا الوضع اللغوي المأزوم ذي الجذور والأبعاد النفسية بين معظم التونسيات حسب الباحثة الأمريكية، فإن ضعف تعاطفهن المتحمس لاستعمال اللغة العربية/ الوطنية أو العامية التونسية العربية النقية يصبح ظاهرة اجتماعية واضحة الأسباب والمعالم.
 وبغياب مثل ذلك التعاطف مع اللغة الأم (اللغة العربية أو العامية النقية) عند أغلبية الأمهات التونسيات تتضرر بالتأكيد علاقة أطفالهن باللغة العربية في شكليها الفصيح والعامي. ومن ثم، تتأثر سلبًا علاقة الأجيال الصاعدة باللغة العربية، لغتهم الوطنية. أيجوز القول بناء على رؤية الباحثة الأمريكية بأن الركض وراء استعمال اللغة الفرنسية يشير إلى أعراض مرضية نفسية. ومن ثم، لا ينبغي التباهي والافتخار به كما تفعل الكثير من التونسيات؛ إذ هو في نهاية المطاف سوى مؤشر على مخزون مشاكل ثقافية ونفسية واجتماعية أدى ويؤدي فيها تسلط الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي (ضعف المواطنة اللغوية) دورًا أكبر وأبرز على النوع/ الجندر الأنثوي.
تؤكد المؤشرات السابقة علاقة التونسيات باللغة العربية والعامية التونسية العربية النقية أن هناك موقفًا جماعيًا غير سوي لديهن إزاء لغتهم الوطنية. يعتبر علم النفس الاجتماعي أن مثل ذلك الموقف هو بوابة واسعة لبث وغرس جذور ومعالم أمراض مركبات النقص عندهن. إن دراسات العلوم الاجتماعية تجمع أن هناك علاقة وثيقة بين اللغات وهويات الأفراد ذكور وإناث والهويات الجماعية للشعوب ومن ثم، فالاختلال في هذه العلاقة بين التونسيات والجزائريات والمغربيات واللغة العربية هو مصدر أساسي لخلق شخصية أو هوية نسائية مغاربية مضطربة ومرتبكة. إذ تشير بحوث هذه العلوم أن العلاقة بين اللغات والهويات علاقة وثيقة جدًا. ويجوز، على هذا الأساس، توقع تأثر الهوية العربية للمرأة المغاربية سلبًا بسبب ضعف علاقة هذه الأخيرة باللغة العربية/الوطنية، كما رأينا. أي أن ضعف هذه العلاقة مرشح بقوة لكي يُنقص من تماسك وصلابة معالم الهوية العربية لأغلبية النساء المغاربيات المتعلمات على الخصوص.

تاسعًا: التعريب في المغرب العربي

 

لفهم وتفسير ظاهرة حيثيات ضعف المواطنة اللغوية في المجتمعات المغاربية، ينبغي معرفة معالم سياسات التعريب فيها بعد الاستقلال. تمثل قضية التعريب في مجتمعات المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب) إحدى القضايا الهامة المطروحة على ساحات هذه المجتمعات الثلاثة. فهي أحد العناصر البارزة التي تساهم في تشكيل جزء من الخريطة الاجتماعية للوطن العربي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. ونظرًا إلى اشتمال قضية التعريب في هذه المجتمعات على عدة قطاعات، فإننا سوف نقتصر على تحليل قطاع واحد يتمثل في تعريب قطاع التعليم.
إطار فكري للتحليل
يرى إطارانا الفكري أن الاستعمار ظاهرة شاملة، أي أنه يمس عدة مستويات للمجتمع المستعمر. فظاهرة الاستعمار تشمل الجانب السياسي والعسكري والزراعي واللغوي الثقافي للبلد المحتل، أي أن الاستعمار ظاهرة ذات رؤوس متعدّدة. ومن ثم، فإن التحرّر/الاستقلال الحقيقي والكامل من الاستعمار ينبغي أن يقع تحليله وفقًا لهذا المنظور الرباعي الجوانب. وبتطبيق هذا الإطار الفكري على رؤى القيادات السياسية في الجزائر والمغرب وتونس لمعنى الاستقلال/التحرّر من الاستعمار الفرنسي نجد اختلافات واضحة بينها (الذوادي 2002: 113-153). فمن جهة أولى، تبنت وبقوة القيادة السياسية الجزائرية، خاصة في عهد الرئيس هواري بومدين، مقولة أن التحرّر/الاستقلال من الاستعمار الفرنسي يجب أن يكون شاملًا لكل جوانب الاستعمار وفي طليعتها التحرّر اللغوي الثقافي من الإرث الاستعماري الفرنسي (الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية 2005 :7). ومن جهة ثانية، فقد ركزت القيادة السياسية التونسية بزعامة الرئيس الحبيب بورقيبة على مجالات ثلاثة في عملية التحرّر من الاستعمار الفرنسي وهي الجانب السياسي والعسكري والفلاحي. لكن هذه القيادة همشت المطالبة بالجلاء اللغوي الثقافية، بل يجوز القول بأنها تعتبر الجانب اللغوي الثقافي للاستعمار الفرنسي جانبًا إيجابيًا ينبغي المحافظة عليه، وهذا ما سوف نراه في تصريحات بعض وزراء حكومات بورقيبة لصالح بقاء اللغة الفرنسية بالمجتمع التونسي بعد الاستقلال. وربما تتفق هذه الرؤية مع القانون الفرنسي لـ 23 شباط/فبراير 2005 الذي يعتقد في الدور الإيجابي للاستعمار.
ومن جهة ثالثة، فالقيادة السياسية المغربية اتخذت موقفًا وسطًا (بين الجزائر وتونس) بالنسبة إلى الحرص والتحمس لمسألة التحررّ/الاستقلال اللغوي الثقافي من المستعمر الفرنسي. ستتجلى انعكاسات هذه الرؤى الثلاثة لمعنى التحرّر/الاستقلال عند القيادات السياسية المغاربية الثلاث في تعاملها مع قضية تعريب التعليم في مجتمعاتها.
إن مسألة التعريب في الجزائر وتونس والمغرب هي في المقام الأول “مسألة لغوية سياسية اجتماعية ثقافية”. ومن ثم، اقترنت /وتقترن مسيرة التعريب في هذه المجتمعات المغاربية الثلاثة بالإشكاليات والاختلافات والتردّدات والصراعات السياسية والثقافية والاجتماعية. وهذا ما يعبّر عنه الكاتب التونسي محمد هشام بوقمرة في وصفه الواقع الاجتماعي للمجتمع التونسي إزاء اللغة العربية وقضية التعريب بعد الاستقلال “… ولذلك كان في الحسبان أن الاستقلال سوف ينهي الجدل بإرساء عروبة المجتمع التونسي الكاملة من خلال تعريب شامل للتعليم والمجتمع والمحيط. غير أن الجدل، عاد من جديد، في نفس المستويات وبنفس البراهين، حتى إن وزيرًا للتربية القومية (الوطنية) في أوائل السبعينات لخص “فلسفته” التربوية لمجلة ديالوغ (Dialogue) الحزبية بقوله: Il faut instruire en français et enseigner l’arabe، أي يجب تدريس التونسيين بالفرنسية وتعليمهم فقط اللغة العربية (بوقمرة 1985: 5). ونظرًا لحضور معارضة عند عديد الخلفيات السياسية والثقافية لمشروع التعريب بالمجتمع التونسي المستقل بسبب تصورها لمعنى التحرّر من الاستعمار المشار إليه، فإن صاحب الكتاب لا يفاجأ من موقف الوزير من اللغة العربية التي يعلن دستور تونس المستقلة (1956) في أول بنوده أن “تونس دولة مستقلة لغتها العربية ودينها الإسلام”. فيفسر موقف الوزير بجملة من العوامل المتشابكة “وليس هذا الأمر غريبًا، فالنسب المعرفي بين الطبقة الحاكمة منذ الاستقلال “وجماعة الشباب التونسي” مسترسل ووطيد، من خلال المدرسة الصادقية ومن خلال استمرارية المواقف “المتوارثة” من فرنسا والحضارة الغربية بشكل عام” (المصدر السابق).
أما بالنسبة إلى وضع اللغة العربية في الجزائر في منتصف السبعينات فإن الميثاق الوطني الجزائري يعبّر عن الموقف السائد بالمجتمع الجزائري عند السلطة السياسية وأغلبية فئات الشعب الجزائري. تعلن إحدى فقرات هذا الميثاق في سنة 1976 في عهد الرئيس هواري بومدين “إن الخيار بين اللغة الوطنية ولغة أجنبية أمر غير وارد البتة، ولا رجعة في ذلك، ولا يمكن أن يجري النقاش حول التعريب بعد الآن، إلا في ما يتعلق بالمحتوى والوسائل والمناهج والمراحل”. تعبّر هذه الفقرة بوضوح كامل أن قضية التعريب قد وقع الحسم فيها بالمجتمع الجزائري لصالح تعميم الاستعمال الواسع للغة العربية. وليس بالمفاجئ أن يكون الأمر بتلك الشفافية عند القيادة السياسية الجزائرية برئاسة الرئيس هواري بومدين ذي التكوين اللغوي الثقافي العربي الإسلامي الراسخ، من جهة، وحامل لشعار التحرّر الثوري الكامل الذي مثلته، من جهة أخرى، الثورة الجزائرية يومئذ في مجتمعات العالم الثالث. ولا يخفى على دارس ملف التعريب أن مسالة التعريب في مرحلة ما بعد استقلال مجتمعات المغرب العربي تأثرت وتتأثر في المقام الأول برؤية القيادة السياسية في الجزائر وتونس والمغرب لمعنى التحرّر/الاستقلال من الاستعمار. يتضح من مسيرة تعريب التعليم في المجتمع الجزائري في مختلف المراحل قد حققت خطوات عملاقة ابتداءً من منتصف السبعينيات من القرن الماضي. أي أن اللغة العربية أصبحت لغة التدريس لمعظم المواد الدراسية سواء كان الأمر في المواد الأدبية أو في العلوم الاجتماعية والإنسانية أو في المواد العلمية والرياضيات. أما مسيرة تعريب التعليم بالمغرب فقد مرت هي الأخرى بعدة مراحل. يتجلى من هذه الملامح المحدودة لمسار تعريب التعليم بالمغرب أنه مسار يتصف بالتطور المتواصل والتصاعدي في مختلف مستويات النظام التعليمي بالبلاد.

خاتمة

 

يتضح من قراءة خريطة تعريب التعليم بالجزائر والمغرب وتونس في منتصف السبعينيات من القرن العشرين بأن تحمس القيادة السياسية الجزائرية لقضية التعريب في عهد بومدين يفوز بالرتبة الأولى بينما يأتي تحمس القيادة السياسية التونسية في عهد بورقيبة لمسألة التعريب في الرتبة الثالثة. وهو أمر مفهوم في ضوء إطارنا الفكري التحليلي المطروح في الصفحات السابقة. ويبدو أن لموقف القيادات السياسية المغاربية ولسياساتها على الأرض في مسيرة التعريب تأثيرًا على الموقف النفسي الجماعي للأفراد والجماعات والطبقات الاجتماعية من اللغة العربية. إن علم النفس الاجتماعي يؤكد وجود مثل تلك العلاقة. وربما تصلح الحالة التونسية مثالًا على ذلك. فمن جهة، إن القيادة السياسية التونسية في العهد البورقيبي هي أقل القيادات السياسية المغاربية تحمّسًا لمشروع التعريب، كما رأينا. ومن جهة ثانية، فتحمّس/تعاطف أغلبية المواطنين التونسيين المتعلمين اليوم مع اللغة العربية (اللغة الوطنية) يبقى ذا مستوى دون المتوسط. وبعبارة أخرى، فاللغة العربية اليوم لا تتمتع بالمكانة الأولى في استعمالات الأغلبية الساحقة من التونسيين، أي مواطنتهم اللغوية ضعيفة.
المواطنة اللغوية لدى المفكرين  
حاولنا في هذه الدراسة ابتكار مفهوم جديد لبحث المسألة اللغوية في المجتمعات المغاربية، وهو مفهوم المواطنة اللغوية. مع الأسف، فالباحثون العرب في العلوم الاجتماعية لا يكادون يبتكرون مفاهيم مستلة من التربة الاجتماعية العربية ويحتاج هذا الواقع الفكري الراكد إلى فهم وتفسير حتى يمكن معرفة كيف يقدر هؤلاء الباحثون على تغيير الوضع. ومهما كانت الأسباب، فقد ساهمنا بمفاهيم عديدة في موضوع اللغة في مجتمعات المغرب العربي كما تشهد على ذلك أقسامُ هذه الدراسة التي تبرز القيمة المركزية للغة الوطنية في حياة الشعوب وفي مواطنة أفرادها لغويا، فإن المفكرين في العالم قد ركزوا وشددوا على ذلك في مقولات متعددة مثل “فمن خسر لغته وثقافته يكتب غيرُه معالمَ ومسيرة مستقبله” أو ما عبر عنه الكاتب دايفس في قوله: “فشعب بدون لغته الأصلية ما هو إلا نصف أمة. فينبغي على الأمة حماية لغتها أكثر من حمايتها لأراضيها. يمثل ذلك أمتن وأهم من الغابة أو النهر كحاجز حام لحدودها”.
كتب ذات صلة: