تمهيد:                                                                     

تردّدت كثيرًا قبل أن أباشر المغامرة الجريئة بالكتابة عن سليم حيدر، ووصفه بالشاعر الفيلسوف، فكثير من كبار الأدباء والشعراء وأساتذة الفلسفة قد سبقني إلى ذلك وأهمّهم الشيخ عبد الله العلايلي[1].  ومن أكون أنا أمام هذه القامات، بل أمام الدكتور سليم حيدر نفسه، وهو المثقف الكبير والعالم المستنير، والحقوقي، والقاضي والسفير والنائب والوزير، سليل بيت حيدري أصيل، “باشَوي” اللقب، خَبِر العلم والأدب والقانون في فرنسا، واطّلع على الفلسفة الأوروبية العقلانية منها والمثالية، إضافة طبعًا إلى الفلسفة اليونانية والإسلامية، فجاءت كتاباته وأشعاره تضجّ بما تحويه من حكمة وفلسفة؛ فهو في كلّ ذلك محيط كبير، ومن ذا الذي يستطيع الإحاطة بالمحيط.

وقد استلزمني الأمر إعادة قراءة إنتاجه مرّات ومرّات والتوقف تحديدًا عند ملحمة ” الخليقة ” التي أزالت عندي كلّ تردّد بعد أن أصبحت لدي – أنا الطبيب الجرّاج، عاشق الشعر والفلسفة – كتابًا دائم الوجود قرب سريري، لا أنام إلا بعد أن أتمتّع ببعض أناشيده.

أولًا: في ملحمة الخليقة

تُعَرِّف الويكيبيديا الملحمة بأنها قصّة شعرية بطولية تقوم على خوارق الأمور والعادات، ودمج الحقائق بالأساطير. وتشير إلى كلّ ما هو بطولي وخارج عن قدرات البشر. وقد عرف الأدب العالمي عددًا قليلًا من الملاحم وكان أشهرها إلياذة هوميروس، والأوديسة والشاهنامه. أمّا الأدب العربي فقد خلا من الملاحم بمعناها الصرف (الخوارق والأساطير)، رغم أنّه مليءٌ بالقصائد الملحمية، حيث لا بدّ من التنويه بملحمة عبقر لشفيق معلوف، ومحمد لعلي شلق، والإلياذة الإسلامية لأحمد محرم؛ وأساسًا وقبل كلّ شيء- الغدير لبولس سلامه.

ولكن، ورغم كلّ ما تقدّم، أو بسبب كلّ ما تقدّم تبقى ملحمة سليم حيدر الخليقة فريدة من نوعها، فهي لا تروي قصص معارك أو بطولات خارقة ولا تعتمد على الأساطير. وإنّما هي – كما يدلّ اسمها – تتحدّث عن الوجود بحدّ ذاته وكيف خلق الله الكون، معتمدة أساسًا على القرآن الكريم وسفر التكوين، بأسلوب شاعري نادر الجمال وعمق فلسفي يحاول أن يجد الأجوبة عن الأسئلة الفلسفية التي لم تجد جوابًا عنها حتى الآن.  وقد جعلها مؤلفها في خمسة فصول، كلّ فصل من عشرة أناشيد، ويتألف كلّ نشيد من عدّة قصائد على قوافٍ مختلفة كلها من الوزن البسيط[2].  ومن المؤسف أنّ الويكيبيديا لا تأتي على ذكر هذه الملحمة في شيء مع أنّها من أهمّ ما في تراث الأدب العربي.

ثانيًا: في الفلسفة

الفلسفة هي مجهود فكري مبني على التساؤل والشك ومنهجه التأم ّ (Philosophie)، وهي تعريفًا “محبّة الحكمة”، وهي “فعل التفكير” بما هو ملموس و”التخيّل” لما هو غير ملموس. فالفلسفة تعالج جميع جوانب الحياة وقضاياها، وهي تبدأ بالأسئلة البديهية البسيطة (لماذا، وكيف، ومن أين، وإلى أين؟)، لتتشعّب وتناقش المواضيع الأعمق والتي تتعلق بالكون، والله، والوجود، والمصير، فتبقى حائرة بين العقل والإيمان. هذه الحيرة التي كانت وما زالت أساس النقاشات الفلسفية، وخاصةً الإسلامية منها: العقل والنقل، الأسباب والعلّية أي البرهان، القدر والمصير، والحرية. هذه التساؤلات أسماها الدكتور كمال يوسف الحاج “اللَيْشيات” في تقديمه لمسرحية “ألسنة الزمان” للدكتور سليم حيدر.

وقد أسّس ثالوث الفلاسفة المقدس – وعنيت سقراط، أفلاطون وأرسطو- المبادئ الفلسفية بمعناها الشامل: المنطق، الطبيعة، ما وراء الطبيعة، الأخلاق والحكمة. وحدّد ديكارت – الذي يُعتبر بحقّ الأب الروحي للفلسفة الأوروبية الحديثة، وصاحب القول الشهير “أنا أفكر إذن أنا موجود” وهو ما يُعرف بال “Cogito” الديكارتي “Cogito, ergo sum” – أن الفكر والموضوعية والعقلانية، أي المنطق والمعرفة، هما الأساس لفهم الكون. وهو بذلك قد تأثر بالفيلسوف الإسلامي الكبير ابن رشد، الذي يُعتبر- إلى جانب الغزالي- من أهمّ الفلاسفة المسلمين، وكانا على طرفَي نقيض.

فالغزالي يحدّد في كتابه تهافت الفلاسفة ما يلي:

1- فشل الفلسفة في إيجاد جواب لطبيعة الخالق بواسطة المنطق.

2- الخالق لا يحتويه العقل.

3- الله هو العلّية الوحيدة، والبرهان الوحيد على وجوده هو “هو”.

أمّا ابن رشد، في ردّه على الغزالي في كتابه تهافت التهافت، يؤكد أن العقل يفتّش لأيّة ظاهرة عن السبب، وأنّ من رفع الأسباب فقد رفع العقل، فالله لم يخلق لنا العقل ليخلق بعدها أمورًا لا يقبلها العقل. وغني عن القول هنا إن “Ratio” المقصود بـ “العقل” هو “المنطق”. والفلسفة التي أسّسها ديكارت، والتي كانت بداية التحوّل في الفكر الفلسفي الأوروبي إلى العلمانية مع فلاسفتها الكبار كانت (Kant) وهيغل (Hegel) وكركيغارد (Kierkegaard) وهايدغر (Heidegger) ونيتشه  (Nietzsche)، الذي كان أكثرهم تطرّفًا حتى أعلن موت الله، ولحقه ماركس الذي اعتمد المادة في تفكيره الفلسفي. هذه الفلسفة أي هذا التوجّه الفلسفي ما زال هو الطابع الأساسي للفكر الفلسفي حتى اليوم. فأين هو سليم حيدر من كلّ هذا؟

في خمسينيات القرن الماضي، خاطب وزير التربية الوطنية سليم حيدر مؤتمر “الجامعة العربية والتعاون الثقافي” بالقول: “فقد كان العلماء الأجانب يدرّسون اللغة العربية توصّلًا إلى المعرفة، بل كانوا يدرّسون ابن رشد ليفهموا أرسطو والفلسفة اليونانية، وبحسب فكرة ابن سينا (محاولة التوفيق بين العلم والدين)، بنى أحد آباء الكنيسة توما الأكويني “مجموعته” الفخمة، التي لا تزال إلى الآن ركيزة التفكير الكنَسي في تفهّم حقائق الطبيعة، وملاءمتها للناموس الرياضي”.

ثالثًا: سليم حيدر الشاعر الفيلسوف

لا بدّ ونحن نفتّش عن جواب لسؤالنا السابق من التذكير بأهمّ الأسئلة الفلسفية، التي لم تجد إجابة شافية لها حتى الآن:

السؤال الأول: هل الله موجود؟

 السؤال الثاني: لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟

السؤال الثالث: هل العالم الذي نعيش فيه حقيقي؟

السؤال الرابع: هل لدينا إرادة حرّة؟

السؤال الخامس: هل هناك حياة بعد الموت؟

السؤال السادس: هل يمكن تجربة أي شيء بموضوعية؟

فكيف حاول سليم حيدر خلال ملحمته الخليقة الإجابة عن هذه الأسئلة؟

يعترف الدكتور سليم حيدر أساسًا أن المنطق وحده لا يكفي للإجابة، فيلجأ إلى الخيال:

ملاحظة: تشير الأرقام المدوّنة بين قوسين مزهرين ({ }) إلى رقم الصفحة في ديوان الخليقة. أمّا الخطّ المتقطّع (- – -)  فيشير إلى انقطاع في تسلسل الأبيات المذكورة في الصفحة ذاتها.

مُدَّني يا خيال بالإشراقِ   إهدني في تجهُّم الآفاقِ

– – – – –

رحلتي هذه إلى البدء توقٌ   لإطِّهار وصبوةٌ لائتلاق

رحلتي هذه إلى الأزل المسحور غيبوبةٌ، مَجاز انعتاقِ!.. {9}

فلا بدّ إذن من الخيال الخلاق كي نستطيع أن نفكّ رموز هذا الوجود المليء بالمُبهمات:

مبهَماتٌ تشتقُّ من واضحاتٍ    فتعيد التـسيار في المبهَمات

كلما العلم زاح سترًا عن المجهول دبَّ الطريق في الظلمات {10}

  • السؤال الأول: هل الله موجود؟

يحسم الدكتور سليم حيدر هذا السؤال وكأنه يجيب على كلّ من خوّلته نفسه اتهامه بالكفر، فيقول:

قبل هذا الوجود كان   فراغ   أزلي في عمقـه سرمـدي…

مِلءُ هذا اللاشيء، ملءُ الفراغ المتمادي، كان القدير العلي {20}

إذن، عزة الله وحدها كانت الكون.

إن الدكتور سليم حيدر، مثله مثل الكثير من الفلاسفة، يحصر الإيمان بالقلب، ويترك للعقل عِنانه:

إلهـيَ، حلمَـكَ، أين المفـرُّ      ووجه السُّؤال استوى واستقرّ

لمـاذا؟ وكيـف؟ وأيـن؟ وممّ؟..   عدمـت صـوابي بـهذا الهـذرْ!

– – – – –

وسـرَّحت طـرفيّ بـهذا الوجودِ     فلـم أرَ للـدين إلَّا صُوَرْ

وفكَّرتُ في ما وراء الوجود     فآمـن قلـبي، وعقلـي كـفرْ… [3]

هذا القلق الدائم، والحيرة العميقة (على قلق كان الريح تحتي (المتنبي)) تصاحب الدكتور سليم حيدر في ملحمته الخليقة في كلّ جوانبها، من بداية الخلق، مرورًا بمأساة إبليس وخلق آدم وحواء، وعقابهما بإخراجهما من الجنّة وأزمة نوح، وجبروت النمرود إلى ما بعد هذا الوجود.

  • السؤال الثاني: لماذا وكيف يوجد شيءٌ بدلًا من لا شيء؟

هذا التساؤل أيضًا يعذّب الدكتور سليم حيدر، إنّه لا يجد عليه جوابًا شافيًا سوى التساؤل أيضًا. فيرى أن قبل هذا الوجود كان الفراغ. وهنا يكمن تناقض فلسفي علمي بامتياز، إذ لا شيء يولد من لا شيء            (Nihil Ex Nihilo) فإذا كان فراغ، فلا يمكن أن يوجد شيء من فراغ.

كان ما كان… كيف كان الفضاءُ   قبل أن يَدهَمَ الفراغَ امتلاءُ؟..

– – – – –

” خُلِقَ الكون “.. مِمَّ؟ كيف؟ لماذا؟..    لا جواب، لا رؤية، لا رجـاء

كل ما قيل عن حقيقة بدء الكون   فرضٌ كأنـه إعمـاء {11}

ويعبّر بجمالية قلّ نظيرها:

يا مطايا الخيال، هذا جَناني    فاحمليه على رفيف الأماني

– – – – –

وأريقيه في دجى العدم المكبوت، قبل الزمان، قبل المكـان

حيث لا نبضـة تضـجُّ بعِـرقٍ     حيث لا أوَّل على كـفّ ثـاني {14}

ويحسم موقفه من هذا السؤال بقوله:

أنا لولا البيان   يسكب فكري    كَرَهًا في   قوالب التقليد

لتخطيـتُ كـلّ حـدّ إلى مـا   خلف هذا الوجود من لا وجود {16}

يتجاوز، إذن، سليم حيدر هذا السؤال ليؤكد أنّ خلف هذا الوجود يوجد اللاوجود (لاحظ التورية، لا وجود، يعني لا حساب، لا عقاب، لا جنّة ولا نار).

  • السؤال الثالث: هل عالمنا حقيقي؟

يعترف الدكتور سليم حيدر أنّ هذا السؤال يبقى سؤالًا:

كلّ ما قيل عن حقيقة بدء الكون فرضٌ كأنه إعماء

والسؤال الرهيب يبقى سؤالًا   تتأذَّى من رجعه الأصداء! {11}

إلى أن يقول:

لم أعد أشهد الحقيقة في نفسي، فكيف الشهود في الكائنات؟ {10}

وإذا كان قبل هذا الوجود يوجد الفراغ المتمادي الذي يملؤه “الله” والله في الفلسفة فكرة مبهمة في الخيال بين الوجود واللاوجود: راجع هنا فكر أرسطو حول الجوهر والعرض وفكرة المحرّك الأول.

مِلء هذا اللاشيء، ملء الفراغ المتمادي، كان القدير العلي {20}

ولكنّ الرب يمَلّْ الوحدة ويحتار هل يبقى وحيدًا أو يخلق شيئًا ناقصًا مهما اكتمل، وتستمر الحيرة؟

قُتِلت حَيرة تكبّل رأيًا    وتصدُّ الحماس عن إصداره {21}

وبعد أن يسأم ويأخذ منه الملل مأخذًا يقرّر الله أن يكون الكون:

عزة الله… والفراغ المنيعُ     أيّ شيءٍ في اللّامدى لا يضيع؟

سئمت وحدها الحياة وجودًا   في انتفاء الوجود… موت ذريع!

– – – – –

وهَمَت دمعة الإله اشتياقًا   فاستكانت على الأصول الفروع! {23}

ولكن كيف يخلق الله الكون، وهل تكفي كلمة ” كوني ” فتكون؟ بل هي دمعة الله:

والمسافات في رضاه انتظار     أين “كوني”، في عزمه، ليكُنا {22}

– – – – –

دمعة الله أول الغيث في التكوين فاسجد، يا كون، سبّح تعالى {26}

في البدء إذن لم تكن الكلمة بل كانت الدمعة، والدمعة صورة شعرية فلسفية غير مسبوقة تعبّر عن الحيرة والوحدة والقلق والحزن وقلة الحيلة أيضًا!

ومع سيلان دمعة الله كان الزمان والمكان والمقاييس والموازين، والعناصر الأربعة للحياة: الهواء والماء والنار والتراب.

أشرقت دمعة الإله فسالت في عروق الزمان حُمَّى الدهور

والمكان

والمقاييس

والموازين رجَّحت كفة الدنيا وجودًا في المُبهَم المقدور

وانبرى العقل كادحًا في دجى المجهول، في اللانظام، في اللاشعور {27}

العقل إذن قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء وأساس كلّ شيء

بدأت   تلتقي   النتائج   بالأسباب، والخلق   يشرئبّ   عتادا {28}

وبعدها هل عالمنا حقيقي؟ هو دمعة الله!  من آمن فليؤمن {ومن كفر فله عذاب أليم}.

كيف ملأ الله الفراغ؟ لا يمكن ذلك إلا بعناصر الوجود الأربعة:

بُثَّ فيه الهواء ينسم رفقًا      كدبيب النعاس في الأجفـان

وأشعلِ النار: فوعةُ الدفء وعدٌ   وارتضاءٌ قبل افترار الأماني

والترابَ الترابَ   هَيِّلْ لِتُمْلَأْ      خلـوات   المـُحال بالإمـكان

واسفح الماء، كلُّ ذَرّة عقم       روِّها بالحيـاة والعنـفوان! {30}

يجعل سليم حيدر عالمنا أقرب إلى الحقيقي عندما يضفي على الله ملمّحًا إنسانيًّا، فهو، أي الله- كالإنسان تمامًا، يضجر، يبكي، يشعر بالوحدة، يندم، وكأنّه أيضًا يمارس نقدًا ذاتيًّا وقد تكون هذه الصفات جزءًا من أسماء الله الحسنى.

  • السؤال الرابع: هل لدينا إرادة حرّة؟

يجيب سليم حيدر عن هذا التساؤل بإعادة السؤال على نفسه:

حرَّةٌ أم أسيرةٌ تِلكم النفس؟..  سؤالٌ يضج فيه الجواب {348}

– – – – –

حرَّةٌ في الخيار نفسي؟… لعلَّ    الفكر حرٌّ، رغم القيود الوثيقه {12}

وكيف تأتي الحرية والوجود قائم على التضاد؟

كل شيءٍ   في ضدِّه   ضارب جذرًا خفيًا، ويُعجز التنقيب!

كيف   أختار   بين   خير وشرٍ وبصدري   كلاهما   مشبوب؟

ما هو الخير؟ هل على حِّده الشر مقيمٌ أم   في حشاه   ربيب؟

ما هو الشك؟ ما اليقين؟  بماذا؟    ولماذا؟..  وما هو المكتوب؟..

– – – – –

فجواب المحسوس لا يُقنع العقل، وحكم القياس خيط رهيب {13}

في هذه التساؤلات يؤكد على أمرين أساسيّين من أمور الفلسفة هما: وحدة وصراع المتناقضات من جهة، والصراع بين حرية الاختيار، وبين ما هو مكتوب من جهة ثانية، ليصل إلى الحقيقة الثابتة أنّ لا جواب يقنع العقل عن هذا السؤال: هل نحن أحرار؟

  • السؤال الخامس: هل هناك حياةٌ بعد الموت؟

هذا السؤال الذي اتفقت كلّ الأديان على إيجابية الجواب عنه، يبقى عند الفلاسفة أسير الصراع بين العقل والخيال:

لا الخيال الوثّاب يرقى إليه   لا ولا العقل ذو الطريق السديد

– – – – –

هي دنيا المجهول، سِرُّ إله الكون، غيبٌ مغيَّب المقصود

ربما تنجلي   لقلب بسيط       سالمٍ من شوائب التعقيد

– – – – –

عالَم الغيب عالَم اللاحدود   كيف يُلقى في عالَم التحديد؟ {350}

وطالما أنّه لا أحد عاد وأخبرنا بما بعد الموت، فليس من الممكن الحديث عن هذا الأمر بموضوعية سوى الإيمان المطلق. وهنا لنتذكر قوله تعالى: ﴿أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي﴾.

وكيف يطمئنّ القلب طالما أنّ الأمر قابعٌ في اللامحسوس. ربّما لذلك تأكيده تعالى المستمر في كلّ سوَر القرآن الكريم عن الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا إغراءً للمؤمنين وللناس جميعًا. وطالما أنّه لا يمكن تجربة هذا الأمر بموضوعية وطالما أنّنا في هذا السياق علينا أن نلغي السبب والمسُبِّب والنتائج والأسباب وكلّ المتناقضات، فإنّ هذا السؤال: “ماذا بعد الموت؟” ما زال لم يجد له جوابًا يشفي العقل.

وجد الله نفسه! دمعة الشوق ارتياد لرغبة تتمادى

بدأت تلتقي النتائج بالأسباب والخلق يشرئبّ عتادا {28}

ولنلاحظ بقليل من التعمق قول سليم حيدر بأنّ الله قد وجد نفسه قبل أن يجده العقل، وهذه مقولة اختصّ بها ليشدد بعدها على تضاد الأضداد:

الكمال الكمال… كيف يكون؟ مبرمًا؟.. لا يعوزه تحسين؟

كل ضدٍّ بِضدِّه… فإذا ما     فُقِد الظنّ كيف يبدو اليقين؟ {46}

ليقول إنّ الله علّة نفسه  (axiom)بالمعنى الرياضي تماشيًا بذلك مع الفكر الأرسطي، وهي مع الغزالي الذي يعتبر أنّ الله هو علّة نفسه.

ونلاحظ هنا كلامًا لم يسبق أن قاله أحد قبل سليم حيدر:

إن يكن كاملًا فينقصه النقص… قرينٌ قد غاب عنه قرين {46}

أي أنّ الكمال ناقصٌ تعريفًا، فماذا عن كمال الله؟

وفي الخلاصة، وإجابةً عن هذا السؤال، يبقى سليم حيدر حائرًا، مثله مثل معظم الذين سبقوه.

وفي عودة إلى بدء التكوين قال سليم حيدر إنّ دمعة الله هي بدء الكون، ولكن كيف خلق الله الكون؟

نعود إلى الانفجار العظيم:

سئم الله!  (عِلَّةُ السأم الكبرى عضالٌ) فقرر التجديدا

أمر الشمس: – قطعة منك يا شمس اقذفيها على المدار بعيدا {36}

في عملية الخلق والإبداع هذه كان سليم حيدر سباقًا في نظرية “الانفجار العظيم” (Big Bang)، وإن كان قد تحدّث عنها بشكل جزئي، وكان من قبل قد تحدّث عن خلق النطق والفكر والكلمة.

يتساءل الله بينه وبين ذاته:

في غياب الإدراك والنطق، ماذا   أتوخّى من الـصدى وشتاته؟

غلطتي أنّني تناسيت خـَلق الفكر    فاستعصم الـسؤال بـذاته

– – – – –

أيّ نـفع للـقصر إن لـم تكن في القصر عين تُطِلّ من شرفاته؟

لَوجودي فـي عالَم لا يـرانـي    كخيـالٍ قد سُلَّ من مرآتـه! {62}

هذا البيت يعيدنا إلى السؤال السابق: هل عالمنا حقيقي؟

. فإذا كان الله نفسه يحدّد “أنّه لا يُرى، وأنّ العالم هو خيال”.  (virtual)أم غير حقيقي أي أنّه

إن عالمنا كما يقول الله على لسان سليم حيدر هو مبهم وخيال خرج من مرآة الواقع وبقي التنافس بين الحقيقي وغير الحقيقي قائمًا إلى يوم “تُبعثون”. وهذه الـ”تُبعثون” هي بحدّ ذاتها من عالم المُبْهمات.

واستجابت الشمس لأمر الله:

رجَّتِ الشمس واعتراها الخُفوق   وتشظّى في قلبها التمزيق

– – – – –

بقيت هكذا دهورًا طِوالًا        تتلوّى حتى استقام الطريق {37}

هكذا كانت الأرض كبداية للانفجار العظيم ولكن من أين أتت الخلائق. هنا أيضًا يظهر في سليم حيدر العالِم الفيلسوف الذي تحدّث عن انطلاق الخليقة من الماء، الأمر الذي يصفه العلماء (Live Soup) بانطلاق الحياة من “الحساء الحياتي”:

واقذفي يا بحار بالطير والحوت لسُكنى السماء والماء… سُلّي

– – – – –

ولتعش تِلكم الخلائق أزواجًا وتكْثُر وتنتشِرْ في المَحَلّ {39}

كانت هذه الخلائق إذن قبل آدم، الذي خلقه الله من طين، ماء وتراب، أي أيضًا نوعٍ من الحساء.

 

  • “مأساة إبليس”

يبقى علينا في إطار الحديث عن فلسفة سليم حيدر أن نلقي الضوء ولو قليلًا على “مأساة إبليس”.  فالله قد خلق إبليس من نار بعد أن ملّ الوحدة وأراده ملكًا على الملائكة:

أمر الله عنصر النار: “هاتِ      مَلَكًا خارقًا حدود الصفاتِ

– – – – –

ماردًا… تستحم في عينه الشمس فيخزيها، ويفري صوارم الصاعقات

ولْيكُنْ رائد الملائك طُرًّا…      ها لقد جاء، بورِكت كلماتي! {52}

وحالة إبليس، الذي سيرفض – كما سنرى – السجود لآدم هي حالة التباسية شديدة التعقيد في الفكر وفي البعد الفلسفي أيضًا إذ إنّها تنطوي على تناقض فلسفي عميق. فإبليس هو سيّد الملائكة، خلقه الله كي يكون ساعده الأيمن ورفيق وحدته، وهو – أي إبليس – اعتبر نفسه إلى حدّ ما صنوًا لله أو أقل قليلًا، لذلك فهو اعتبر أنّه إذا سجد لآدم فإنّما بذلك إهانة ليس له لوحده وإنّما للذي خلقه وجعله على هذا الشكل. والمأساة تأتي من أنّ إبليس قد عوقب على أمر فعله محبّة لله وحفاظًا على صورته.

وبعد إبليس بفترة خلق الله آدم إذ:

نفخ الله روحه الطُّهر في الصلصال والنتن… فاستوت إنسانا!

– – – – –

آدم   البِكر، لعبة الأمل الكبري   جَنانًا    وفطنةً   وبيانا

صورةُ الله، صورة العقل والإدراك، مَلْءُ الفراغِ أنّى استبانا

– – – – –

واسجدي يا ملائك الخير للإنسان، للصُّنع باليدين، امتحانا {66}

سجد الجميع إلّا إبليس:

واستتبّ السجود، إلا الرئيسُ    شامخَ الأنف، شاخصًا لا يميسُ

– – – – –

” أنـا يـا ذا الجـلال نارٌ، وهذا     من حقير الصلصال طَلْعٌ خسيس

– – – – –

كيف بي والسّجود للطّين ذلٌّ   وانتقاصٌ   لعزتي   وطموس

– – – – –

اتركِ الجنّة المُعدَّة للأطهار!..  ما أنت بعد هذا جليس!” {67}

فالصراع الأول في الأزل، إذن، كان صراعًا بين “رئيس الملائكة” الذي خلقه الله من نار و”رئيس البشر” الذي خلقه الله من تراب وصلصال. وتظهر في هذا الصراع عزّة النفس الملائكية التي تأبى السجود إلّا لله وحده.

قد يكون لكل منّا رأيه في هذا الصراع ولكنّه في عمقه سؤالٌ فلسفيّ بحدّ ذاته، هل أراده الله ليبقى إبليس شيطانًا يغوي خلقه ليستنجد الخلق بالخالق، أم هو فقط عقاب لمخالفة أمر بالسجود لشيء لم يرَ إبليس سببًا مقنعًا للسجود له؟ وانتقام الله شديد وهذه الظاهرة ليست وحدها في تاريخ الأزل، فالطوفان أيضًا هو انتقامٌ لله من كلِّ البشر. وهو الانتقام الثاني للبشرية بعد الانتقام (العقاب) من آدم وحواء وإنزالهما من الجنة.

يقول سليم حيدر عن لسان الله مخاطبًا نوح:

إنني نادم على خَلقيَ الخَلق، فهذا   الإنسان   صنعٌ   قبيح

– – – – –

فاصنع الفلك واجعلَن فيه زوجين، حِفاظًا، على كل ما فيه روح

ولتَمُت بعدَك البرية غَرقَى     فلَعلِّي من شرّها أستريح!..{194}

لن أعلّق أكثر على هذا الحدث الذي يقول الكثيرون أنّه حدث فعلًا، والله يصف نفسه في أسمائه الحسنى بالمنتقم والقهّار.

ويتلاقي سليم حيدر مع (J.J.Rousseau) في قول الله عن الإنسان:

إن هذا الإنسان في المهد شرّير، ويلتفّ بالشرورِ قِماطا {276}

أي أنّ طبيعة الإنسان هي الشرّ، فهل هذا صحيح، وإن كان كذلك، فإنّ الله أراده أن يكون كذلك عندما خلقه، وفي هذا مأساة ثانية، غير مأساة إبليس، هي مأساة البشر بحدّ ذاتها، وهل يصحُّ عندها العقاب؟!

 

  • جمالية شعر سليم حيدر

ولنفتح هنا هلالين لنتحدث بشكل مختصر جدًّا عن سليم حيدر الشاعر، فنحن نجد في كلّ صفحة من صفحات دواوينه وقصائده مقاطع شعرية تطرب لها النفس (دعك من الفلسفة) وتضطرم المشاعر، فها هو على غرار امرئ القيس يقول:

الإله العظيم، في ذاته الطهرى، حصيفٌ، رحب الجلال، زميت

عاجل، آجَل، قصيٌّ، دنيٌّ       قائل، فاعل، مُجيعٌ، مُقيت {277}

ولنرى كيف وممّا صنع الله حوّاء:

ومن الخير والندى والجميل    ومن الشر والهوى والفضول

– – – – –

ومن صقيع النكران للقِيَم المُثلى، ومن دفءِ كل حبٍّ نبيل

كوَّن الله نفس حواء… تيهي يا أعاجيب واحتفي بالبتول! {88}

أمّا حواء نفسها فيصفها سليم حيدر بما تهتز له الأحاسيس والأماني:

واستوت فاستوى الجمال الأنيق     يتهادى به القَوَام الرشيق

عاريًا كالمثال…  يخطئه الوصف ويؤذيه، فالكلام صفيق

– – – – –

فغدا للوجود معنى جديد    وبدا للخلود مَغزى   حقيق…

وصحا المُنتشي بحدسٍ عجيب    هزَّهُ، وانجلى السُّبات العميق

وأتته   مشبوبةً   فالتقاها     وبعينيه   خاطِر    يستفيق

قُبلةٌ… ما الخيال يستقطر النجوى، ما الشهد، ما الشذا، ما الرحيق؟

قُبلة بِكرُ ما تشهَّت شفاهٌ    هي للحُب في الأنام طريق! {89}

 

  • “لبنانية” سليم حيدر

أمّا جنّة الله فأين تكون؟، هنا تبرز لبنانية الدكتور سليم حيدر بأجلّ صورها:

وانتقى الله فسحةً مستكنّهْ سمحةً، ثَرَّةَ العطاء، مُغِنِّه

من رواسي لبنان  تمتدُّ حتّى     حُرُماتِ الفرات، ريّا  مُرِنَّه

– – – – –

فاصطفاها وغاص في الغيب يُذكي   شعلة النور في عماء الدُجُنَّه:

– – – – –

ولتكن فرحتي ومِفرَش عرشي       وَلتكن للخلائق الجود جَنَّه! {44}

 

خاتمة

وبعد…  ماذا نقول في الخاتمة؟

قد يظنّ القارئ أنّه مع اكتمال الخليقة قد وجد سليم حيدر أجوبة منطقية على تساؤلاته أو على الأسئلة الفلسفية العميقة، ولكن العكس هو الصحيح، فكما بدأ باستدعاء الخيال كي يمدّه بالإشراق، يعود في النهاية إلى الخيال مجددًا:

رُدّني يا خيال، رُدَّ انعتاقي     واطَّرحني في الواقع الحرّاق {344}

ويختتم، ونختتم معه:

عدتُ من رحلتي كأني لم أرحل، فقلبي ما زال يهوَى خفوقه

قلقي واستكانتي واعتلائي       وامتشاقي  تساؤلاتي  العتيقه

بَيدَ أني ملأتُ كأسيَ حُلْمًا     سأظل الحياةَ أحسو رحيقه

ما ألذَّ الأحلام تلمع في النفس   خيالًا وتستقرُّ حقيقه! {351}

ومع الأحلام أترككم، علّها تستقر فعلًا حقيقة في قلوبكم فيملؤها الإيمان..  ويبقى العقل منشغلًا بالطبيعة وما ورائها وبالفلسفة وتساؤلاتها، بحثًا عن حقيقة سوف تبقى وهمًا مهما تقدّم العلم وتطورت الفلسفة.

 

اقرؤوا أيضاً  يا نافخ الثورة البيضاء للشاعر سليم حيدر

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الشعر #الشعر_العربي #ديوان #ديوان_الخليقة #سليم_حيدر #الوجود #الله #التكوين