يعتمد هذا الكتاب-كما يأتي في خلاصته- الاطلالات الكلية على التاريخ عبر منظور الأمد البعيد التي ترى في الحروب والأوبئة “مجرد فقاعات في مسيرة التاريخ، وأن الأهم هو التبدلات العميقة-المنعطفات- التي تتم على” المدى الطويل”، بحيث إنها تستغرق أجيالاً كاملة”.
هكذا تحدث فرناند بردويل الذي يتقاطع مع الفلسفات الأسيوية الشرقية، التي أطلت هي الأخرى على التاريخ عبر منظور الأمد الطويل، مثل علم الكونيات الهندي الذي يرى أن النظام العالمي يتكون من دورات زمنية ضخمة، تسقط فيها الممالك ويدمر خلالها الكون، لكن يُعاد خلقه من جديد وتنشأ ممالك جديدة، وكذلك الفلسفة الصينية التي تعتبر أن التاريخ دورات طويلة لا نهائية تتطور من اللاتوازن إلى التوازن، ثم إلى اللاتوازن مجدداً. وفي كل دورة ثمة مستوى أعلى من التطور؛ اللاتوازن هو القاعدة المطلقة، فيما التوازن مؤقت ونسبي.
وتسمح هذه الاطلالات الكلية-كما يفيد المؤلف- بالقفز فوق شجرة الفوضى والانهيارات والحروب الراهنة التي تعصف بعنف بالمشرق المتوسطي لرؤية الغابة الكاملة التي تختفي وراءها: غابة المدى الأبعد التي تكشف عن أن ثمة نظاماً ما وراء هذه الفوضى، وأن الظروف الموضوعية تبدو مؤاتية لولادة جديدة للحضارة المشرقية –الإسلامية من رحم الآلام والكوارث والمآسي الراهنة في إقليم المشرق المتوسطي؛ الكيان الوسطي بين حضارات العالم، بأممه الأربعة : الإيرانية والتركية والعربية والكردية.
وقد تبدو هذه الفرضية مجرد تفكير رغبائي . لكن الصورة كما تبدو للمؤلف لن تكون كذلك، حين نأخذ بالاعتبار التطورات الهائلة التي يمر بها النظام الدولي، وأبرزها بدء الانحسار النسبي لهيمنة الغرب المطلقةعليه منذ معاهدة وستفاليا(1648) ؛وعودة الحضارات الآسيوية الشرقية إلى ساحة الفعل التاريخي، والتحولات الجارفة في المشرق المتوسطي بعد عودة تركيا وإيران إلى كنف الحضارة الإسلامية، كل على طريقتها بعد محاولات دامت نيفاً وقرن لتنضم إلى زميلاتها الآسيويات في بناء النظام العالمي الجديد متعدد الحضارات.
وتوفر هذه التطورات-المنعطفات، فرصة ثمينة لنهوض إقليم المشرق المتوسطي . لكن ذلك يتطلب بروز من يمسك بتلك الفرصة. ومن دون بروز نخب تركية وإيرانية وكردية وعربية تنشط بشكل مشترك، ستتبدد هذه الفرصة التاريخية التي ستسمح بنهوض الإقليم على كل المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، وحينها ستتحول” حروب الثلاثين عاماً” الطائفية-الجيو-سياسية التي نشبت في المنطقة في مطالع القرن الحادي والعشرين إلى حرب المئة عام.

يبدي المؤلف في كل الأحوال ثقة بوجود فرصة تاريخية لنهوض المنطقة للمرة الأولى منذ قرنين. وإذا ما أقدمت نخب الأمم الإيرانية والتركية والكردية والعربية على “تغيير ما في نفسها” وتحريرها من الصناديق الصدئة التي تعبق منذ قرن ونيف بأوهام المصالح القومية أو المذهبية الضيقة والمشاريع الامبراطورية الفردية المستحيلة، سيكون في وسعنا ترقب ولادة قريبة لـ “مانيفستو” مشترك بين هذه النخب يمهد لقيامة “فيفيق” المشرق والحضارة المشرقية الإسلامية من بين رماد الحروب الأهلية العبثية. والخيار هنا ليس فقط بين الحكمة والجنون ، بل أيضاً بين الحياة والموت؛ بين الحوار (والوفاق) الجماعي وبين الانتحار (والانقراض) الجماعي .