مقدمة:

الهجرة القسرية هي إحدى أهم المشكلات الاجتماعية الملازمة للمجتمعات التي تتعرض لحروب خارجية أو داخلية. وتعاني ليبيا منذ عام 2011 هذه المشكلة، التي تعد من بين نتائج انضمام ليبيا إلى بلدان الربيع العربي. منذ انطلاقها، تميزت ثورة 17 شباط/فبراير 2011 بالعنف وبالتدخل الأجنبي. ومع أنها ثورة بادر بها الشباب المحلي، إلا أنها استقطبت وبسرعة فئات مختلفة من كبار السن من المنتسبين لجهازَي الجيش والشرطة، وآخرين قدموا من الخارج وخصوصاً العناصر الليبية التي انضمت إلى الجماعات الجهادية في أفغانستان والعراق. لم يقبل القذافي بما بدا واضحاً أن المنطقة تمر بمرحلة حراك اجتماعي من نوع جديد. انتقد حراك تونس، ولما وصلت ثورة الشباب إلى مصر انتقدها هي الأخرى، وكان طبيعياً أن يستنكر بشدة خروج الشباب الليبي في تظاهرات، لذلك وصف المتظاهرين بأقذع الصفات، وأطلق العنان لكتائبه الأمنية باستخدام العنف. لم يستسلم الشباب ومن انضم إليهم، وقرروا السير قدماً، لتحقيق الشعار الذي سُمع في المنطقة العربية لأول مرة «الشعب يريد إسقاط النظام». انتظموا في فرق (ميليشيات) مسلحة، وردوا على إطلاق النار بالنار، وتطور الصدام إلى حرب أهلية بدعم دولي، بعد صدور قرار مجلس الأمن الرقم (1973)، الذي تضمن فقرة اعتبرتها الدول المؤيدة للتدخل في الثورة الليبية، غطاءً شرعياً لتدخل عسكري لحماية المدنيين‏[1].

وتحول المشهد إلى حرب أهلية استمرت زهاء 246 يوماً. انقسم الليبيون إلى قسمين متخاصمَين، وعمل كل قسم على تحشيد أكبر عدد ممكن من المؤيدين، يسيرون في مسيرات كبيرة، ناعتين الطرف الآخر بأقذع الصفات.

يفترض أن الصدامات المسلحة ستتوقف عند انتصار الثورة وانتهاء عهد القذافي. لم يتحقق هذا الفرض، وبدلاً من ذلك، عمت البلاد حالة من حالات الفوضى العارمة، بسبب الانتشار الواسع للسلاح في أيدي أعضاء الفرق المسلحة (الميليشيات)، الذين رفضوا تسليم أسلحتهم، وإتاحة الفرصة للحكومة الجديدة لكي تنظم جهازَي الجيش والشرطة، ودخلت هذه في حروب بعضها ضد بعض بهدف الاستحواذ على المناصب الحكومية المهمة، وتوجيه قرارات الدولة نحو خدمة مصالحهم الخاصة، والتحكم في المال العام. وكذلك انطلقت بعض حروب الميليشيات نتيجة مشادات بسيطة بين عنصرين ينتميان لميليشيتين مختلفتين، ونتج من كل حرب من تلك الحروب تدمير أصول اقتصادية، وتهجير سكان، وارتفاع أعداد المهجرين قسرياً.

بدأت ظاهرة هروب السكان العزّل من ساحات القتال منذ الأسابيع الأولى لانطلاق الثورة، وتمثلت ببعض قيادات اللجان الثورية في المنطقة الشرقية الذين كانوا ضمن الدوائر القريبة من مراكز صنع القرار، وتورطوا في عمليات تسببت في أضرار مادية أو بشرية ضد بعض الأسر، واتجه معظمهم نحو مصر. كانت أعداد الذين أُجبروا على ترك مساكنهم بسيطة، ولكنها أخذت في الارتفاع كلما اتسعت رقعة المناطق التي أصبحت ساحات اقتتال. البعض خرج من البلاد، بينما فضل البعض الآخر البقاء في الداخل، وذهب إلى مدن ليبية عُدّت آمنة. كما يلاحظ أنه صاحب عمليات تهجير السكان بالقوة خطاب عدواني مثير للنعرات وشديد الكراهية، استخدمته الجماعة المعتدية لتبرير ما تقوم به من فعل لا تقره الثقافة السائدة. ما تأثير هذه الظاهرة في ظروف العيش المشترك بين الليبيين؟ وهل العداوات التي نتجت بين الجيران تُعَد خلافات من نوع تلك التي كانت تحدث بين القبائل في السابق، وتُحَل عن طريق لجان المصالحة التي يتولاها زعماء تقليديون، وبعبارة أخرى تُحل على مستوى المجتمع الأهلي؟ أم أنها عداوات من نوع جديد، وستستمر زمناً طويـلاً، وتقود إلى حالة من حالات تشظي النسيج الاجتماعي، بل وحتى إلى تمزق وحدة المجتمع؟

ستبذل محاولة لتقديم ولو إجابة محدودة لهذه الأسئلة، من طريق استعراض عدد من حالات تهجير السكان بالقوة وبعض تداعياتها. وقبل أن نقوم بهذا سنحدد في عبارات مختصرة معاني عدد من المفاهيم الرئيسة التي سنوظفها، ومنها: (1) الهجرة القسرية: ونقصد بها عملية إرغام عدد من الأفراد المستقرين في مكان جغرافي معين على المغادرة والاستقرار لفترة زمنية في مكان آخر، وبالنسبة إلى ما حدث في ليبيا فإن هذا النوع من الهجرة، حدث بسبب الصراعات المسلحة، التي عرفتها البلاد منذ اندلاع ثورة 17 شباط/فبراير 2011 ولا تزال مستمرة، وشملت مئات الألوف من السكان. (2) خطاب الكراهية: وهو عبارة عن كلمات وجمل تحمل معاني التحقير والإهانة، والاستهزاء والتهديد باستخدام العنف بمختلف أشكاله، بما في ذلك الطرد والاعتداء بالضرب أو القتل (3) النسيج الاجتماعي: الذي يشير إلى الحالة التي عليها شكل العلاقات الاجتماعية لجماعة بشرية، تزاول أنشطتها اليومية في فضاء ديمغرافي يجمعها، لتحقيق أهداف عامة مشتركة في مختلف مجالات الحياة. وللمحافظة على حالة صحية للنسيج، يتعاون أعضاء الجماعة على تفعيل الممارسات والوسائل التي من أجلها العمل على تقوية الروابط الاجتماعية بين أعضاء الجماعة وتقويتها. (4) بينما يعني التشظي وجود معوقات تتسبب في عرقلة عملية التفاعل الاجتماعي بين أعضاء الجماعة، وتحد من عمليات التعاون لتحقيق الأهداف المجتمعية، وقد ينتج من هذه الحالة صراعات وصدامات وتباعد أعضاء الجماعة عن بعضهم، بل والمشاركة في أنشطة من شأنها هدم أي صورة من صور العيش المشترك.

لن تتعرض الدراسة لأعداد المهجرين، ولا للأماكن التي التجأوا إليها، أو وصف ظروف أوضاعهم المعيشية المزرية، إلا بالقدر الذي يساهم في توضيح مشكلة البحث المتمحورة حول: وصف الآثار السلبية لهذه الظاهرة على النسيج الاجتماعي الليبي.

أولاً: التهجير القسري: عرض حالات

ذكرنا في مكان سابق أن ظاهرة هروب السكان من منازلهم بدأت خلال الأسابيع الأولى من اندلاع الثورة. كانت الأعداد الأولى صغيرة واقتصرت على أعضاء أسر القيادات المتصلة مباشرة بالنظام، هروباً من انتقام الثوار، ثم أصبحت حالات النزوح تأخذ صورة تحرك جماعات كبيرة، وتمثلت هذه في البداية بموجتين: شملت الموجة الأولى سكان المدن والقرى التي انضمت إلى الثورة، ووصلت قوات القذافي إلى مشارف تلك المدن والقرى، بينما جاءت الموجة الثانية فور انتصار الثورة، وكان أعضاؤها سكان المدن والبلدات والقرى، التي صنفها الثوار مساندة للقذافي وقواته العسكرية. عاد أغلب المهجرين الذين كانوا ضمن الدفعة الأولى للمهجرين قسرياً إلى مناطقهم، بعد انتهاء الحرب، وحل محلهم أعضاء الدفعة الثانية للمهجرين قسرياً من مؤيدي النظام السابق عسكريين ومدنيين، خوفاً من عمليات الانتقام. بالطبع لم يهاجر جميع مؤيدي النظام السابق، وقد تعرض بعضهم للانتقام بطرائق مختلفة شملت: القتل، والإيداع في السجون التابعة للميليشيات، والتهجير القسري لجميع سكان المدينة، بحيث عرفت البلاد ظاهرة مدن الأشباح.

لم تقتصر الهجرة القسرية على الجماعات التي ذكرناها آنفاً، وإنما استمرت أعداد المهجرين قسرياً في الارتفاع بسبب الحروب التي اندلعت فيما بعد بين الميليشيات المصنفة كثوار. لم يقتصر وجود هذه الميليشيات على المدن الرئيسية، بل وُجدت في كل قرية وفي كل واحة. تمثل الهدف الأهم لكل واحدة منها في الاستحواذ على أكبر كمية من السلاح، لتتمكن من الدفاع عن نفسها إذا هوجمت، أو تهاجم مناطق أخرى إذا توافرت لقادتها أسباب لذلك، ومن بعد الدخول في سباق من أجل النفوذ والمال. يرسم أعضاء كل جماعة لأنفسهم صوراً موجبة؛ فهم الثوار الحقيقيون المستقيمون والعاملون لمصلحة المجتمع، وللطرف الآخر صورة سلبية حادة تتضمن السرقة والكذب والحرابة، وتصل إلى درجة الخيانة، والتعاون مع الأجنبي ضد مصلحة الوطن، وبذلك يصنف الآخر الذي كان شريكاً في الثورة عدواً، ويلحق بالقائمة التي وضع فيها رجال نظام القذافي، لذلك يجب هو الآخر إقصاؤه بالكامل بالتهجير القسري أو حتى القتل. ونعرض فيما يلي وباختصار أمثلة لحالات الهجرة القسرية، وفضلنا – بدلاً من تسليط الضوء على حالات أفراد أو أسر أو جماعة بحكم انتمائها الإثني أو الأيديولوجي – حصرها في الحالات التي هُجر فيها السكان جميعهم سواء أكانوا سكان مدينة أو بلدة أو قرية.

1 – مدينة تاورغاء

مدينة تاورغاء واحدة من المدن الليبية القديمة، تقع إلى الشرق من مدينة طرابلس، وتبعد منها نحو 250 كم، ومن مدينة مصراته نحو 38 كم. ونظراً إلى أن بعض من استقر بها في أواخر القرن التاسع عشر من بين الرقيق الذي تم تحريره، فتاورغاء المدينة الوحيدة على شاطئ البحر، حيث أغلبية السكان من ذوي البشرة السمراء. المدينة عبارة عن واحة من النخيل لوجود بحيرة كبيرة تتغذى من عيون أرضية. تنقسم إلى قسمين: المدينة القديمة؛ وكبقية مدن الواحات بيوت بسيطة مبنية من الطين وطرق ترابية ضيقة، ثم المدينة الجديدة وهي عبارة عن مباني سكنية حديثة ومجمعات إدارية ومدارس ومصحات وطرق معبدة.

بلغ عدد السكان حسب آخر إحصاء رسمي عام 2006 نحو 24000 نسمة، ولكن تقديرات عام 2011 تشير إلى أن حجم السكان قد بلغ 40000 نسمة، ينتمون إلى عدد من القبائل أصولها عربية وأمازيغية وأفريقية. وكما يتوزع سكان كل مدينة في ليبيا بين بقية المراكز الحضرية، تعيش أسر تاورغية في مدن وقرى وواحات ليبية كثيرة، منها: طرابلس ومصراته وترهونة وسبها وبراك ومرزق وسوكنة وودان وهون وسرت وبنغازي.

دخلت كتائب القذافي مدينة تاورغاء أثناء ثورة 17 شباط/فبراير 2011 بهدف الهجوم على مدينة مصراته، فأصبحت لذلك منطقة عسكرية، لا يستطيع سكانها التحرك في داخلها أو الخروج منها أو الدخول إليها بحرية، وكأنها مدينة محتلة. انخرط عدد من الشباب في كتائب عسكرية، عملت كقوات إسناد لكتائب القذافي الأمنية، وكذلك اختيرت فرقة من نساء المدينة للقيام بإعداد الوجبات اليومية للقوات العسكرية المتمركزة في المدينة. ودرجت برامج التلفزيون على بث مشاهد تبين مجموعة هذه النسوة أثناء القيام بعملها وهي تغني وتهتف مؤيدة لثورة الفاتح، تمجد العقيد وتعدد منجزاته، وتتوعد الثوار، ومرددة للصفات السلبية التي أطلقها القذافي على الثوار.

تمكنت كتائب القذافي الأمنية والقوات المساندة لها من مدينة تاورغاء من دخول بعض أحياء مدينة مصراته، وتورط بعض شباب تاورغاء في أفعال مشينة شملت الاغتصاب (حالات إناث وذكور)، والاعتداء بالضرب على المدنيين وسلب أموالهم. فرحين بالانتصار الذي اعتقدوا أنه سيكون نهائياً، سجل بعضهم بهواتفهم النقالة تلك الأفعال. وجدت بعض تلك التسجيلات طريقها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، واكتشف بعضها في هواتف أصحابها بعدما قتلوا أو وقعوا في الأسر.

وعندما مالت الكفة إلى جانب الثوار، انسحبت قوات النظام من مصراته ومن تاورغاء. وفي يوم 11/8/2011 انطلقت ميليشيات مسلحة من مدينة مصراته، وشنت هجوماً كاسحاً على سكان المدينة. سقط قتلى وجرحى، واختطف عدد من الشباب؛ غيِّب البعض وانتهى البعض الآخر في سجون مدينة مصراته، وهرب الجميع في اتجاهات متفرقة، لتبدأ فيما بعد عملية تحطيم أبواب المتاجر والوحدات السكنية والمباني العامة وإخلائها من مقتنياتها، وتخريب مكونات البنية التحتية، وخصوصاً معدات الكهرباء وخطوط الهاتف ومواسير المياه، وإضرام النار في بعض المباني، وتحولت المدينة إلى مدينة أشباح‏[2].

تفرق سكان تاورغاء بين عدد من المدن الليبية، شمل المدينتين الرئيسيتين طرابلس وبنغازي، ومدن وقرى أخرى استقرت بها – منذ زمن بعيد – أسر تاورغية. حاول المسؤولون في المدن التي التجأ إليها الهاربون تدبير إقامات للأسَر الهاربة. المخيمات التي أقاموا فيها عبارة عن مباني مهجورة أو لم تستكمل بعد، أو المعسكرات التي بنتها الشركات التي تنفذ مشاريع بناء، وأصبحت خالية بسبب مغادرة الشركات لمواقع العمل.

وعلى الرغم من الظروف المزرية التي يعيش فيها المهجَّرون، تتعرض مخيماتهم من حين إلى آخر لهجمات من طرف الميليشيات المسلحة، فيسقط قتلى وجرحى، ويُختطف من كان موجوداً من الشباب‏[3]. واللافت للانتباه، أن الهجوم المسلح ضد مدنيين عزَّل لا حول لهم ولا قوة يحدث لأتفه الأسباب، ويأخذ منحى عقاب جماعي يشمل الأطفال والنساء والشيوخ، وتتفنن الميليشيات في التنكيل بسكان المخيم، ولعل ما جرى بتاريخ 10/8/2018 مثالاً لدرجة الظلم التي يتعرض لها المهجرون، إذ قررت الميليشيا المهاجِمة هدم المخيم الذي كان مأوى لزهاء 500 أسرة، ولم يكن أمامها إلا النزوح ثانية، والبحث عن مكان إقامة جديد‏[4].

جرت محاولات كثيرة بهدف إجراء مصالحة بين سكان مدينتي مصراته وتاورغاء، ومن بين المبادرات الأولى تلك التي قام بها رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وفوجئ بالرد الصادم لأهالي مصراته، فوصف تلك التجربة: «.. وفي آخر المطاف، جاء الرد على بعض ملاحظاتي قاطعاً: لا مصالحة في المدى المنظور.. لم أُفلح في إقناعهم بالتمييز بين أزلام القذافي الذين أجرموا وعموم الناس في تاورغاء. مالوا إلى تسويغ العقاب الجماعي بتأثيمهم كلهم أو سوادهم الأعظم»‏[5]. كما نظمت قيادات تقليدية من المدن المجاورة مفاوضات بهدف إبرام اتفاقيات صلح بين سكان المدينتين. وتُوِّجت تلك المفاوضات في أكثر من مرة بتوقيع الطرفين وثيقة صلح يعود أهالي تاورغاء بموجبها إلى مدينتهم. وفي أكثر من مناسبة، تدخلت جماعات مسلحة غير موافقة على تلك الاتفاقات، ومنعت عودة السكان بالقوة. إن العودة تتطلب جهوداً حكومية مركزية، تقوم بالترميمات اللازمة لمكونات البنية التحية والمباني العامة، إلى جانب الوحدات السكنية التي لا يستطيع مالكوها بإمكانياتهم الخاصة ترميمها. ومع ذلك أبدت بعض الأسَر استعدادها للعودة إلى مدينتهم حتى في الحالة التي عليها وبالفعل عادت بعض الأسر، ولكن النسبة الأكبر لا تزال بعيدة من اتخاذ قرار كهذا ذاكرين أسباباً متنوعة أهمها سيادة الأمن‏[6].

2 – بلدة ككله

بلدة ككله عبارة عن مدينة صغيرة في الجبل الغربي، وتقع في الجنوب الغربي لمدينة طرابلس التي تبعد منها نحو 130 كم. انضم سكانها إلى ثورة 17شباط/فبراير 2011 خلال الأسابيع الأولى للثورة، كما كانت الحال بالنسبة إلى معظم مدن وبلدات الجبل الغربي، لذلك تعرضت لهجمات كتائب القذافي الأمنية، واضطر معظم سكانها إلى الهروب باتجاه تونس. عدد سكان البلدة في حدود 10 آلاف نسمة، ينتمون إلى عدد من القبائل التي ترتبط مع بعضها بعلاقات قديمة.

بعد انتصار ثورة 17 شباط/فبراير2011، دخلت العاصمة طرابلس ميليشيات من جميع المدن الليبية، واستولى كل منها على ممتلكات خاصة غاب عنها أصحابها، وأراضي فضاء، ومقارّ حكومية، وفرضت سيطرتها على مؤسسات وإدارات حكومية وغير حكومية. وقد فرض أحد أبناء هذه المنطقة سلطته على واحد من أكبر أحياء مدينة طرابلس، وأصبحت تحت إمرته واحدة من بين أقوى الميليشيات التي تسيطر على العاصمة. وكذلك فرضت الميليشيات القادمة من الزنتان في الجبل الغربي سيطرتها على أحياء ومنشآت في العاصمة، وكان أهمها مطار طرابلس الدولي. وكما ذكرنا في مكان سابق، الميليشيات التي توحدت أثناء محاربتها للقذافي اختلفت فور غيابه. دخلت الميليشيات التي توزعت بين مكونات مدينة طرابلس في خلافات فيما بينها حول تقاسم مواقع السيطرة في المدينة. لم تحسم الخلافات بالحوار، فقرر فريق بقيادة ميليشيات من مدينة مصراته تكوين تحالف عرف باسم «فجر ليبيا»، وفي يوم 13/7/2014، شن التحالف هجوماً على مطار طرابلس الدولي لافتكاكه من سيطرة ميليشيات الزنتان. لم ينتهِ الهجوم بسهولة، بل اشتعلت حرب شعواء نتج منها تدمير المطار وحرق 21 طائرة، واشتعلت النيران في خزانات النفط الضخمة التي كانت في المنطقة، وفي 23/8/2014 انسحبت كتائب مدينة الزنتان من مدينة طرابلس بعد أن خسرت جميع مواقعها في المدينة. لم تتوحد أغلبية مدن وبلدات الجبل الغربي مع مدينة الزنتان في هذه الحرب كما فعلت أثناء ثورة 17 شباط/فبراير 2011، وإنما انضمت إلى تحالف فجر ليبيا، وكان من بينها الميليشيات التابعة لبلدة ككله. ومع أنها لم تكن البلدة أو المدينة الوحيدة من الجبل الغربي التي كانت ضمن قوات فجر ليبيا، إلا أن ميليشيات الزنتان قررت الانتقام من بعض الجيران، الذين يملكون قوة قد تزاحم قوة الزنتان في منطقة الجبل الغربي، فاتجهت نحو بلدة ككله، وشنت يوم 10/11/2014 هجوماً مباغتاً أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى‏[7]. وفي النهاية تمكنت ميليشيات الزنتان والميليشيات المتحالفة معها من دخول المركز الحضري للبلدة، وهرب جميع السكان باتجاه مدينة طرابلس وضواحيها. وهذا يعني أن سكان هذه البلدة تعرضوا – خلال أربع سنوات – للتهجير القسري مرتين.

لم يستقر هؤلاء في مخيمات متهالكة كما كانت الحال مع المهجرين من مدينة تاورغاء، وإنما بفضل نفوذ أحد أبناء البلدة الذي يقود ميليشيا تسيطر على أحد أهم أحياء طرابلس، ولضعف الحكومة التي كانت في العاصمة، مُكّنوا من الاستقرار في وحدات سكنية بعضها حكومي وبعضها خاص. وبالتعاون مع ميليشيات مصراته التي أخذت المواقع التي كانت تحت سيطرة ميليشيات مدينة الزنتان، تمتع المهجرون من مدينة ككله بالإقامة في وحدات سكنية حديثة، وبالحصول على الحماية بحيث لم تستطع الميليشيات التي تسببت في طردهم من بلدتهم ملاحقتهم.

3 – منطقة الرياينة الغربية

هذه عبارة عن منطقة واحدة ضمن خمس مناطق تضمها مدينة الرياينة الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة طرابلس، وتبعد منها نحو 140 كيلومتراً. وفي المنطقة مركز خدمات يضم المتاجر ومدرسة ومستوصفاً ومكاتب إدارية متنوعة، ويقدر حجم سكان الرياينة الغربية بنحو 4000 نسمة.

عندما التحقت أغلب مدن وبلدات الجبل الغربي بثورة 17 شباط/فبراير، أمر القذافي عدداً من قيادات اللجان الثورية المقربين منه بأن يغادروا طرابلس، ويتوجهوا إلى مناطقهم بهدف تهيئتها لمساندة القوة التي ستتجه نحو الجبل الغربي بهدف القضاء على الثورة هناك. وكان من ضمن برنامج التهيئة تجنيد الشباب في فرق عسكرية، لتتولى مساندة القوة الرسمية في مهمتها. أحد هؤلاء من أبناء هذا الجزء من مدينة الرياينة، وبالفعل نفذ أمر القذافي. تمركزت فرق من القوات التي بعث بها القذافي إلى الجبل الغربي في هذه المنطقة، ومنها انطلقت لتتعقب ميليشيات الثوار، لذلك صنف الثوار سكان منطقة الرياينة الغربية قوة معادية.

بتاريخ 13/5/2011، وبعد نجاح الثوار في فك الحصار الذي فرضته كتائب القذافي الأمنية حول مدينة الزنتان، وبداية انسحاب قوات القذافي، هاجمت ميليشيات مسلحة تابعة لمدينة الزنتان المنطقة متهمة السكان بأنهم ما زالوا يأوون عناصر من كتائب القذافي الأمنية. ومع أن أشخاصاً معنيين هم الذين انضموا إلى الفرقة المسلحة التي ساندت قوات القذافي، اعتبرت الميليشيات التي دخلت إلى المنطقة أن جميع السكان مذنبون ومتواطئون مع ابنهم القادم إليهم من طرابلس. وبنفس الأسلوب الذي اتبعته جميع الميليشيات، اقتحم المهاجمون المنازل والمتاجر، واستولوا على الممتلكات الخاصة، وخربوا المنشآت العامة مثل شبكات المياه والكهرباء واستولوا على الأسلاك الكهربائية، وخطفوا عدداً من الشباب. وفي اليوم التالي هرب السكان خوفاً من رجوع تلك الميليشيات ثانية، وأصبحت المنطقة ضمن مدن الأشباح.

4 – بلدة العوينية

العوينية بلدة من بلدات الجبل الغربي تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة طرابلس، وتبعد منها نحو 160 كم، ونحو 70 كم عن مدينة غريان، وقريبة من مدينة الزنتان. تقطن قبيلة المشاشية هذه البلدة ومجموعة القرى والمدن القريبة، مثل عومر وزاوية الباقول وظاهر الجبل ثم مدينتي مزده والشقيقة. سكان بلدة العوينية قرابة 12 ألف نسمة، وتوجد في البلدة والقرى الملاصقة لها 11 مدرسة، وثلاثة مستوصفات ومستشفى قروي، وخمسة مساجد، وعدد من المباني الادارية ووحدات سكنية حديثة. ولقربها من مدينة الزنتان تمركزت فيها كتائب القذافي الأمنية عند حصارها لمدينة الزنتان. لذلك استهدفتها الميليشيات التابعة للزنتان فور تقهقر قوات القذافي من المنطقة، فاضطر سكان العوينية وعومر وزاوية الباقول إلى الهروب. بدأ الهجوم المسلح على المنطقة يوم 15/6/2011، وبأسلوب الميليشيات نفسه، حطمت أبواب جميع الوحدات السكنية والمباني العامة، وتم الاستيلاء على كل ما فيها وتحطيم المقتنيات التي لم يجدها أعضاء الميليشيات مفيدة‏[8] كما حطمت جميع المنشآت العامة، وهدمت مكونات البنية التحتية، وأضرمت النار في الكثير من المباني لكي يصبح المكان غير ملائم للإقامة. تفرق السكان بين الكثير من المدن أغلبها في المنطقة نفسها، وخصوصاً في تلك التي جميع سكانها من قبيلة المشاشية، أو بها نسبة كبيرة من القبيلة نفسها، وأصبحت العوينية وعومر وزاوية الباقول ضمن مدن الأشباح.

وفي تاريخ لاحق، ادّعى المهجَّرون أن الميليشيات التي تسببت في طردهم وتخريب بلدتهم، تقوم بزرع ألغام أرضية مضادة للأفراد في المنطقة، وهذا الإجراء لم يُذكر في بقية الحالات التي تحولت إلى مدن أشباح. ويبدو أن المسؤولين عن تحويل المنطقة إلى مدينة أشباح مصممون على جعل عودة السكان حتى بعد زمن، أمراً باهظ التكاليف‏[9].

قبيلة المشاشية من القبائل الكبيرة، ويوجد أسر من هذه القبيلة في مدن وقرى ليبية كثيرة، وهي دخلت عبر التاريخ في صراعات مع قبائل أخرى ومن بينها قبيلة الزنتان. وقد استغل القذافي أحداثاً تاريخية بعينها للتذكير بعداوات قديمة بين بعض الجيران، وهكذا استفاد خلال الحرب الأهلية من أبناء هذه القبيلة. لذلك كان رد فعل ميليشيات الزنتان ضد سكان بلدة العوينية وانتقامها من السكان أمراً متوقعاً، ومعركة خسرتها قبيلة المشاشية. ولكن عندما حاولت ميليشيات الزنتان تعقُّب الفارين من العوينية وبقية المناطق المجاورة لها، وخصوصاً الذين التجأوا إلى مدينة الشقيقة، تكاتفت جميع ميليشيات المدينة للدفاع عن الذين التجؤوا إليهم. وخلال أحد التجمعات التي انتظمت بهدف التصدي للميليشيات المهاجمة، بدت مظاهر العداوة الشديدة واضحة بين جيران الأمس‏[10].

5 – قرية بئر عجاج

تقع هذه القرية في المنطقة التي تعرف بباطن الجبل، وتبعد من مدينة طرابلس نحو 70 كم، ومن مدينة غريان نحو 40 كم. يقيم في القرية قرابة 250 أسرة في مبانٍ حديثة، وينتمون إلى قبيلة واحدة تعرف باسم «الجعافرة». لم يتعرض السكان للتهجير أثناء ثورة 17 شباط/فبراير 2011، ولكن بعد انتصار الثورة ادعت إحدى قبائل غريان ملكية الأرض المقامة عليها القرية، وأن القذافي خصصها لسكان القرية دون وجه حق. جرت مفاوضات كثيرة بين رجال القبيلتين، ويبدو أن قبيلة الجعافرة استطاعت التقدم بوثيقة ترجع إلى أيام حكم العثمانيين، تفيد أن قبيلة الجعافرة هي التي تملك هذه الأرض. وقد حاول عدد من شيوخ القبائل من المناطق المجاورة التوسط في النزاع، إلا أن ميليشيات تابعة لمدينة غريان شنت سلسلة من الهجمات على القرية، وفي يوم 13/1/2013 دخلت هذه الميليشيات القرية وعاثت فيها فساداً. نهبت محتويات البيوت، وأحرقت ودمرت معظمها. هرب السكان، وتفرقوا بين المدن والبلدات المجاورة بما فيها مدينة غريان نفسها، وانضمت القرية إلى قائمة مدن الأشباح‏[11].

 

ثانياً: التهجير القسري وتنامي خطاب الكراهية وانعكاساته الاجتماعية

يمكن تصنيف المجتمع الليبي ضمن فئة المجتمعات التي تنخفض فيها عناصر الاختلاف بين مكوناته الاجتماعية. الأغلبية العظمى عرب ومسلمون على مذهب الإمام مالك. الجماعات التي تحمل بعض الصفات الخاصة محدودة (الأمازيغ والطوارق والتبو)، ونسبتها بين السكان صغيرة. لا تزال القبيلة حاضرة كمكوِّن اجتماعي رئيسي في المجتمع الليبي، وما يعرف بالعصبية القبلية موجودة هي الأخرى، ولكن كعامل تضامن داخلي أكثر منها تعصباً ضد الآخر. بل إن المتتبع لعلاقات المصاهرة يجد أن قبائل كل منطقة يرتبط بعضها مع بعض، ولا تُستثنى من هذه القاعدة إلا الجماعات الإثنية صغيرة الحجم، التي لا تدخل في علاقات مصاهرة مع الجيران المختلفين معها إثنياً إلا في ما ندر. لذلك نرى أن خطاب الكراهية الذي انتشر انتشاراً واسعاً منذ اندلاع ثورة 17 شباط/فبراير 2011 من بين الظواهر الحديثة في هذا المجتمع، وإن وجدت له جذور محدودة خلال فترة حكم القذافي.

يجد المتصفح للتاريخ الليبي الحديث بيانات حول خلافات بين الليبيين أدت إلى صدامات مسلحة؛ نقصد بها تلك الحروب التي نشبت بين بعض القبائل، بسبب تنافس شيوخها على توسيع مجالات نفوذهم على الأرض وعلى المقيمين عليها‏[12]. إلا أنه يمكن القول إن أغلبية القبائل الليبية التي حدثت بينها حروب، ولم تضطر إلى الهجرة والاستقرار في بلدان الجوار، تصالحت مع بعضها، وقد بدا هذا واضحاً في الحرب ضد الإيطاليين في مطلع القرن العشرين. ومع ذلك نجح المستعمر في توظيف بعض العداوات القبلية القديمة لمصلحته، بحيث ساندت بعض القبائل الايطاليين في احتلال أجزاء من ليبيا نكاية في قبائل يناصبونها العداء‏[13]. لكن تمكنت القيادات الاجتماعية التي عاصرت الحرب العالمية الثانية من معالجة تلك الخلافات، ونجحت في بناء كيان دولة مدنية، تحت قيادة ملك كان في الوقت نفسه زعيم طائفة دينية سنية. وحّدت الدولة صفوف الليبيين، مع التشديد على العناية بإبراز تلك القيم المستمدة من الدين الاسلامي، وتعمل على تقوية اللحمة الوطنية وتقوية العوامل التي من شأنها تمتين النسيج. كان العيب خلال تلك الحقبة من الزمن، أحد أهم مكونات وسائل الضبط الاجتماعي غير الرسمية.

كانت كلمة «عيب» تُسمع كثيراً داخل الأسرة وفي الشارع وفي المدرسة أيضاً بعد أن بدأ التعليم في الانتشار. وكانت الاستجابة السائدة عندما يسمع الشخص الذي يبدأ بالقيام بفعل: «عيب لا تفعل هكذا»، التوقف فوراً. وكان العار مقروناً بالعيب، فالقيام بفعل لا يجيزه العيب يجلب العار للشخص الذي قام بالفعل ولأسرته وللجماعة الأكبر التي ينتمي إليها، مثل القبيلة أو حتى القرية. وكما ذكرنا في مكان سابق لم يكن التنابز بالألقاب القبيحة ضمن الثقافة الليبية، وكانت عبارات السخرية من الآخر والتنابز بالألقاب ضمن الأفعال التي تدخل تحت عباءة العيب. لكن سادت بين الليبيين عادة التفاخر، كأن يتباهى أعضاء القبيلة بأنهم أهل شجاعة وكرم وإعانة الضعيف، وغيرها من الصفات المرتبطة بالقيم الحميدة في الثقافة العربية. وقد يتباهى سكان المدينة بأنهم حضر وبذلك هم أفضل من غيرهم البدو، أو يتباهون بالانتماء إلى الإقليم فهذا فزاني والآخر برقاوي والثالث طرابلسي. تحمل هذه العبارات في بعض الأحيان إيحاءات سلبية ضد الآخر. ويمكن القول إن درجة سلبيتها ليست قوية، بل هي من النوع المتداول بين أجزاء البلد الواحد مثل: إطلاق النكت على سكان الصعيد في مصر مثـلاً كونهم أقل تعليماً وأقل فهما لخصائص الحياة الحديثة، فتسهل عملية استغلالهم. أو تلك الصفات التي يطلقها سكان الشمال على سكان الجنوب كما هي الحال في إيطاليا وبعض البلدان الغربية. لكن، ومع عدم وجود مظاهر التمييز العنصري – في الأماكن العامة – ضد أصحاب البشرة السوداء، إلا أن سكان بعض مدن الشمال قد يستخدمون كلمة «عبد» عند الحديث عن صاحب البشرة السوداء، وتستخدم الكلمة عادة في غياب المنعوت وليس في حضوره. والملاحظ أن أغلبية سكان إقليم فزان من ذوي البشرة السمراء أو السوداء، ومع ذلك قد يستخدم بعضهم الكلمة عند الحديث عن آخر يحمل لون البشرة نفسه لتأكيد أن جذوره من الرقيق. ونظراً إلى موقع ليبيا الجغرافي، كان لهذه البلاد دور مهم في التجارة بين بلدان جنوب أوروبا ووسط أفريقيا، ووجدت فيها منذ القدم بعض أهم طرق القوافل. وحتى مطلع القرن العشرين كان الرقيق أحد أهم ما تضمنته قوافل التجار. لذلك عرفت أكثر من مدينة ليبية سوقاً لبيع وشراء الرقيق إما بالنقود وإما بالمقايضة. وعليه كان وجود أشخاص من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء في المدن والقرى الليبية، أمراً عادياً خلال معظم عصور التاريخ‏[14].

كل حالة من حالات التهجير القسري عُرضت في ما سبق، كانت بسبب صدام مسلح انهزمت فيه ميليشيات الطرف الذي هُجر. وفي كل حالة قام الفريق الذي بدأ بالهجوم برسم صورة سلبية لأعضاء الفريق الآخر، وشملت جميع سكان المدينة أو البلدة الأخرى أو القبيلة الأخرى. وهي صورة الهدف منها تقوية درجة الشعور بالكراهية ضد الجماعة التي ستتم مهاجمتها. لم يقتصر ربط الصورة السلبية بعدد معيَّن من الأفراد لارتكابهم أفعالاً مشينة، وإنما أُلصقت الصورة بجميع أفراد المجتمع؛ مجتمع المدينة أو البلدة أو القرية بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ. عدد الرجال من مدينة تاورغاء الذين قاموا بأعمال مشينة في مدينة مصراته صغير، ولكن الأفعال الشنيعة التي قاموا بها، من بين أسوأ ما يمكن أن يحدث للفرد في هذا المجتمع. لا بد من أن البعض كان سيفضل الموت لو خُيّر أيّهما يختار، لأنه فعلٌ يرتبط بجلب العار للضحية، ولجميع أفراد الأسرة بل والمجتمع؛ والمعني هنا سكان المدينة أو القرية، بل يشمل حتى أولئك الذين ينتسبون للمدينة ولكنهم يعيشون في مدن أخرى. وتعقدت هذه المشكلة بصورة أقوى بسبب الانتشار الواسع للهواتف الذكية، والربط بين ما تصوره ووسائط التواصل الاجتماعي.

حصلت تلك الأحداث أثناء تمكن كتائب القذافي الأمنية من الدخول إلى جزء من مدينة مصراته خلال شهر آذار/مارس 2011‏[15]. شعر سكان مصراته بالغيظ، لكنهم لم يستطيعوا فعل الكثير سوى الوقوف وراء ثوارهم المسلحين لتحاصر القوات الغازية، وتجبرها على البقاء في أقل مساحة ممكنة في المنطقة أو الحي الذي دخلته. واستمر ذلك الوضع إلى أن نجح الثوار بمساعدة طيران حلف الناتو على إرغام قوات القذافي على فك الحصار عن مدينة مصراته، والتقهقر في اتجاه الغرب، وبعدئذ هاجمت فرق مسلحة من مدينة مصراته مدينة تاورغاء، وقررت طرد جميع السكان، وخلال ساعات تحولت من مدينة كانت تعج بالحياة إلى مدينة أشباح.

الذين قاموا بالأفعال المشينة جماعة صغيرة، ولا تمثل سكان المدينة، لكن النقمة على تلك الأفعال شملت جميع سكان مدينة تاورغاء، وكأن الجميع كان مشاركاً أو موافقاً أو مؤيداً. وعلى الجانب الآخر الفرق المسلحة من مدينة مصراته التي هاجمت مدينة تاورغاء كانت جماعة محدودة، إلا أن فعلهم هذا مثل رد الفعل التي وكأن جميع سكان مصراته اتفقوا عليها. وهكذا أصبحت العداوة قاسماً مشتركاً بين جميع السكان في المدينتين الجارتين.

تقع مدن أشباح الجبل الغربي التي شملتها الحالات التي استعرضت آنفاً، باستثناء قرية بئر عجاج، في الجزء الجنوبي الشرقي من الجبل بين مدينتي غريان والزنتان، وهي عبارة عن مجموعة من البلدات المتجاورة. وفي جميع الحالات كانت ميليشيات الزنتان هي المتسببة في تدمير البلدات، وإرغام السكان على ترك مساكنهم. وهذا يعطي انطباعاً عاماً وكأن الزنتان قوة ضاربة ومتغوّلة. المتتبع ليوميات ثورة 17 شباط/فبراير يلاحظ أن شباب الزنتان انتفضوا في يوم 16/2/2011 كأول مدينة تقوم فيها تظاهرات في الشق الغربي من البلاد. ويلاحظ أيضاً أن كبار السن لم يتأخروا عن تأييد الشباب منذ الساعات الأولى، وكذلك وقف جهاز الأمن في المدينة على الحياد، ولم يتدخل عندما أطاح الشباب جميع رموز ثورة الفاتح البادية للعيان. وقد سارعت المدينة إلى تكوين ميليشيات مسلحة، وحصلت على دعم خارجي مهمّ. وبعد أن انتفضت مدينة مصراته، أصبحت خطابات القذافي المهاجمة للثورة تتضمن فقرة خاصة بهاتين المدينتين. كما دعا – في مناسبات كثيرة – القبائل القريبة من كلا المدينتين للزحف عليهما وتجريد المنتفضين من أسلحتهم‏[16]. ومن عجائب المصادفات أن المدينتان كان لهما دور مهم في إنجاح ثورة 17 شباط/فبراير، ثم كانتا تساهمان بنسبة كبيرة فيما بعد في نشر خطاب جديد لم يألفه المجتمع الليبي من قبل، ونعني به خطاب الكراهية، الذي قاد إلى تشظي النسيج الاجتماعي في محيطهما.

مناقشة ختامية

انضمت ليبيا إلى بلدان الربيع العربي، وأصبحت ثورتها تعرف بثورة 17 شباط/فبراير 2011. ومع أنها تقع جغرافياً بين تونس ومصر، إلا أن أسلوب انضمامها اختلف عما حدث في جارتيها بحيث تحولت الثورة وبسرعة إلى حرب أهلية، واتخذت مسار ثورتي سورية واليمن. أحدثت الثورة تداعيات اجتماعية كثيرة كانت الهجرة القسرية من بين أهمها. آلاف الأسر اضطرت إلى ترك منازلها والتحقت بأعداد المهجّرين قسرياً خلال فترة الحرب، التي اشتعلت منذ الأسبوع الأول لانطلاق الثورة. بعضهم غادر الأراضي الليبية إلى تونس أو مصر، والأغلبية انتقلت إلى مدن ينتمون إليها أصـلاً، ويملكون فيها منزلاً أو أرضاً زراعية وبها بعض أقاربهم، أو بها أسر يرتبطون معها بعلاقات مصاهرة، ومع ذلك اضطرت أسَر كثيرة إلى الإقامة في مخيّمات أُعدت على عجل. نسبة كبيرة من الذين غادروا خلال هذه الفترة عادت إلى البلاد قبل الإعلان عن يوم انتصار الثورة أو بعده مباشرة. وفي المقابل، بدأت أسَرٌ أخرى رحلة الهروب من مساكنها أثناء الأسابيع القليلة التي سبقت ذلك اليوم. جميع أعضاء هذه المجموعة تركت ليبيا إلى دول الجوار، أو بلدان الخليج، وكذلك تركيا، ونسبة صغيرة فضلت أوروبا وأمريكا؛ وهي النسبة التي لها جنسيات مزدوجة.

يوم الإعلان عن انتصار الثورة كانت ليبيا عبارة عن ركام؛ بنية تحتية متهالكة، نسبة كبيرة من المباني العامة دُمرت، والتي لم تدمَّر دخلتها الميليشيات واستقرت فيها. بلد بلا جيش نظامي أو شرطة أو جهاز إداري يزاول مهماته. بلد غارق في فوضى عارمة، ظهرت بوضوح في الاحتفال الذي أطلق عليه الثوار يوم التحرير. لعل الوصف الذي كتبه عبد الرحمن شلقم، من بين أدق الأوصاف التي كُتبت، عما كان يخطط له أن يكون بداية نظام سياسي جديد، يخلف نظاماً فوضوياً دام أربعة عقود، عندما وصفه: «لقد كان ذك اليوم الأحد 23/10/2011، يوم إعلان التحرير، نعيقاً فوق مئذنة»‏[17]. ومع ذلك استطاع المجلس الوطني الانتقالي المؤقت – يوم 22/11/2011 – اعتماد أول حكومة مدنية بعد الثورة، أطلق عليها الحكومة الانتقالية. أعطيت لها فترة زمنية لا تتعدى سنة واحدة، لتنفذ مهمات بعينها أهمها: إجراء انتخابات لاختيار أول لجنة تشريعية، تقوم مقام مجلس البرلمان، إلا أنها وجدت نفسها غارقة في التعاطي مع عدد من الملفات الشائكة، التي تتطلب حلولاً سريعة، وكان من بينها ملف النازحين والمهجَّرين.

المقيمون في الخارج، من مؤيدي النظام السابق، لن يفكروا في العودة – خوفاً من الانتقام – قبل استقرار الظروف السياسية في البلاد، وتنفيذ برنامج لمصالحة مجتمعية. لكن المقيمين في الداخل، يرغبون في العودة إلى منازلهم في أسرع وقت ممكن، إلا أن تلك الرغبة، تصطدم بواقع على الأرض، يتطلب تجاوزه جهداً يتجاوز إمكانيات الأسرة. وتصبح الحكومة مسؤولة عن اتخاذ الكثير من الترتيبات، لتكون عودة المهجرين ممكنة وآمنة. الكثير من المنازل إما تهدمت بالكامل، وإما تصدعت بنسبة كبيرة، كما أن البنية التحتية من شوارع وصرف صحي ومياه تعرّضت هي الأخرى في الكثير من المناطق للتدمير. وكان من بين أول قرارات الحكومة الجديدة إنشاء جهاز إداري جديد، لم تعرفه ليبيا من قبل، أطلق عليه: جهاز شؤون النازحين والمهجرين، تولى رئاسته وزير دولة، وأوكلت إلى هذا الجهاز مسؤولية حل مشكلات الذين اضطروا إلى ترك منازلهم، بسبب الحرب الأهلية التي انزلقت إليها الثورة الليبية. وقد اعتمدنا في هذه الدراسة التصنيف الذي أقرّته الحكومة، الذي لا يفرق بين المفهومين (النازحين والمهجَّرين). وفي هذا الشأن نتفق مع الذين يوسعون مجال المفهوم بحيث يشمل أنواعاً من الهجرة، بدلاً من جعل صفة القسرية محصورة بفئة معينة تتوافر لها ظروف بعينها، ومع الاعتراف بأن للهجرة التي تصنف قسرياً أكثر من سبب، المهم أن المعني هنا هو ذلك الشخص الذي ضاقت دائرة خياراته، ولم تعد تتوافر له بدائل أخرى مقبولة غير مغادرة مسكنه‏[18]. لذلك عند استعراض الأرقام لا نفرق بين النازحين والمهجرين ولا بين ما بين تلك التي قد تبدو أنها اختيارية ولو خلال فترة معينة من الزمن، وتلك التي يضطر فيها الشخص إلى الإسراع في مغادرة المكان خوفاً على حياته، أو تعرُّضه لظروف مقلقة مثل الإهانة أو الضرب أو التعذيب أو الاحتجاز. كما لا نفرِّق بين من غادر مسكنه لأن ساحة الحرب اقتربت من مقر سكناه وقد لا تصل في النهاية إلى مقره، وبين الذي غادر تحت تهديد السلاح. ومع أنه كان من الصعب عند تسلُّم الحكومة الجديدة مهمات عملها معرفة العدد الدقيق للنازحين والمهجرين، إلا أن الجهاز المكلف بهم اعتمد عندئذ الرقم الذي قدره المركز الدولي لمراقبة النازحين، وكان ما بين 100,000 إلى 150,000‏[19].

عدد المهجَّرين قسرياً المشار إليه آنفاً ليس كبيراً، وكان بالإمكان – نظرياً – تسوية أوضاعهم خلال فترة الحكومة الانتقالية، لولا وجود مشكلتين رئيسيتين: أولاً، أن النسبة الكبرى من ذلك الرقم تخص سكان المدن والبلدات التي أصبحت مدن أشباح، وتتطلب إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية موافقة سكان المدن التي تسببت في طردهم. وثانياً، لم تتخلص البلاد من السبب الرئيس وراء هروب السكان من مناطقهم المتمثل بالصدامات المسلحة. لقد رفع الثوار، وخصوصاً الشباب الذي أطلق الثورة، أثناء تظاهراتهم، شعاراً سُمع في جميع أركان البلاد «الليبيون قبيلة واحدة». ينتمي الليبيون إلى قبائل متعددة، وكان الهدف من رفع الشعار: الدعوة إلى الوحدة في التصدي لكتائب القذافي الأمنية. لكن الذي حدث: اتحدت الميليشيات المسلحة أثناء الحرب، واختلفت وتفرقت فور غياب القذافي. هل كان العدو المشترك السبب الوحيد لوحدتهم إذاً؟ وأن بعض الميليشيات لم يعنيها الشعار في شيء؟ وكان همها الوحيد هو: القضاء على القذافي، لوقوفه حجر عثرة في سبيل الوصول إلى أهدافها الخاصة؟ بعبارة أخرى، لم تحارب من أجل رفعة وطن، ولتخليصه من حكم دكتاتوري أساء إلى الشعب، وأدى إلى نشر التخلف.

نجح المجلس الوطني الانتقالي المؤقت في الحصول على اعتراف حكومات البلدان المؤثرة في السياسة الدولية، وأن يصل بالثورة بمساعدة الأجنبي إلى تحقيق هدفها الرقم واحد وهو تغيير النظام، ولكنه فشل في التعامل بمهنية مع الميليشيات المسلحة. لم يتنبه للخطر الذي قد تتسبب فيه الميليشيات المؤدلجة فيما بعد، علماً بأن أهدافها كانت واضحة منذ البداية، وانعكست في تصرفات لا تخطئها العين‏[20]. لم يعتمد المجلس إجراءات لتنظيم وتقنين عمل الميليشيات المسلحة، ولم يستطع تصور الكوارث التي يمكن أن تحدث عندما ينتشر السلاح خارج سلطة الدولة.

كانت الميليشيات المسلحة التي انتشرت في ليبيا عبارة عن تجمع لعدد كبير من المتناقضات، بسبب ارتباط بعضها بتيارات فكرية وأيديولوجية متناقضة، وتجاذبات قبلية ومناطقية، وبغض النظر عن تلك التناقضات، توجهت بعد انتصار الثورة نحو الهدف نفسه، ألا وهو الحصول على أكبر حصة ممكنة من دخل النفط. لذلك تسابقت للسيطرة على الوظائف المؤثرة في القرارات المهمة، وخصوصاً المتصلة بالمال. وبمرور الزمن تغولت بعض الميليشيات في هذا الشأن، وأصبح الذين يتصدرون المشهد من كبار الموظفين ومديري بنوك ووزراء ورؤساء وزراء، عبارة عن واجهات لزعماء الميليشيات القوية. ومع أن البعض يحاول تمثيل الدور وكأنه هو الذي يدير المركب، يعترف البعض الآخر بهذه الحقيقة، وإن جاء ذلك بعد الخروج من المنصب‏[21].

وقد أدى تكالب الميليشيات على السلطة والمال العام، إلى تكاثر عدد الصدامات المسلحة بينها، وبدلاً من تمكن الليبيين من بناء دولة ما بعد الصراع، استمر الصراع وتعاظم، وتنوعت نتائجه السلبية. توضح البيانات الواردة في الجدول الرقم (1) عدد الصدامات المسلحة في كل سنة من السنوات الأولى من تاريخ الثورة، وعدد القتلى الذين تم إحصاؤهم بطريقة رسمية، وأعداد المهجَّرين قسرياً، وبالطبع كان التهجير القصري للسكان أحد الظواهر التي صاحبت كل صدام مسلح.

الجدول الرقم (1)

بيانات حول الصدامات المسلحة وبعض نتائجها للسنوات 2011 – 2015

20112012201320142015
صدامات7152925941367968
قتلى(*)614255744328052220
مهجرون قسرياً935655942553779363067435000

(*) لا تشمل هذه الأعداد جميع القتلى فهناك جماعات لا تصرح بعدد قتلاها.

المصدر: موقع ضحايا الحرب في ليبيا، وتقارير متعددة للجنة الوطنية لحقوق الانسان، والتقارير الدورية لمنظمات الأمم المتحدة المختصة بالشؤون الإنسانية التابعة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

كان عدد الصدامات خلال سنة 2012 أقل من نصف الصدامات التي حدثت في السنة التي سبقتها، لكن العدد تضاعف في السنة التالية عام 2013، وتضاعف ثانية في السنة التي تلتها. وبالطبع ارتفع الرقم الدال على عدد الهجرين، وبدلاً من أن تتخلص البلاد من هذه المشكلة تحولت إلى مشكلة مزمنة تتعقد بمرور الزمن.

الذين تعرضوا للتهجير القسري نجوا من القتل، ولكنهم تعرضوا لمشكلات كثيرة ارتبطت بعمليات التهجير. وصفوا من قبل من تسبب في تهجيرهم بأبشع الأوصاف، لذلك نقلوا من خانة الجار وما يتعلق بهذا الموقع الاجتماعي في الثقافة العربية الإسلامية من علاقات حميمية، إلى خانة العدو، وعليه استبيحت منازلهم، ونهبت جميع ممتلكاتهم، وفي كثير من الأحيان لم يبقَ شيء من المنزل سوى الجدران التي هي الأخرى لم تسلم – في بعض الحالات – من التدمير.

قامت الميليشيات التي دخلت إلى المدن والبلدات – في كل مرة – بالأفعال نفسها المتمثلة بالاستيلاء على المال الخاص والعام، وتدمير المباني والبنية التحتية والقتل والخطف، وجميعها أنماط سلوكية تعكس درجة عالية من العداوة والكراهية. المباني القائمة في كل بلدة أو قرية أو مدينة إضافة إلى أنها وحدات تخص سكان المنطقة إلا أنها في الوقت نفسه عبارة عن جزء من رأس المال الاقتصادي للمجتمع وأغلبها عبارة عن مشاريع نفذتها الدولة. أما كان بالإمكان الاستفادة من المباني من قبل آخرين كإقامة مهجرين مثـلاً، أو توظيفات مؤقتة أو حتى لعمليات تخزين مواد أو إقامة حيوانات. يعبر حرق وهدم الوحدات السكنية وبقية المنشآت، عن رغبة لدى الجماعة المعتدية في إقصاء الآخر إقصاءً تاماً، مع أن المعتدى والضحية في جميع الحالات التي استعرضناها، باستثناء حالة قرية بئر عجاج، كانوا جيراناً. لقد عادت نسبة كبيرة من الذين هجروا قسرياً إلى قراهم ومدنهم، ولكن عودتهم ليست كعودة من ارتحل بعيداً من مقر سكناه ثم عاد بعد فترة من الزمن، ليجد جيرانه فرحين ومرحِّبين بعودته بعد أن اهتموا بالمحافظة على منزله وبقية ممتلكاته. هي عودة غير طبيعية؛ فلم يعد المكان هو نفسه، ولا الجيران الجيران أنفسهم، وهو ما سيفاقم من درجة غضب ونقمة المتضررين على الذين كانوا السبب، ويضاعف من حالة تفكك العلاقات الاجتماعية، أو حالة تشظي النسيج الاجتماعي.

في الختام حالة الانقسام أو التشتت والتشرذم التي أصبحت عليها العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع، لا تساعد الباحث على رسم مشهد يعود فيه المجتمع الليبي في القريب المنظور إلى سابق عهده. وفي ضوء المتغيرات التي على الأرض، فإن الوضع الحالي يميل بدرجة كبيرة، إلى المزيد من التشرذم، وإلى انقسام ما كان يعرف بالدولة الليبية على اختلاف مسمياتها‏[22]، وتحولها إلى دويلات قزمية، إلا إذا كان للدول المؤثرة في السياسة الدولية رأي آخر، وخصوصاً أن ارتباط مستقبل ليبيا السياسي بالدول العظمى له تاريخ طويل، يرجع إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة‏[23].

 

قد يهمكم أيضاً  الثقافة السياسية الحضرية في الوطن العربي: العلاقة بين الاتجاه نحو الديمقراطية والاحتجاج السياسي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ليبيا #التهجير_القسري_في_ليبيا #العنف_في_ليبيا #الهجرة_القسرية #الحرب_الأهلية_في_ليبيا #دراسات_إجتماعية