مقدمة:

تهدف هذه الدراسة لتسليط الضوء على مسيرة وتاريخ القائد الشيخ الفلسطيني جمال أبو الهيجا الذي رفع راية المقاومة وأمضى حياته إما معتقلًا في السجون الإسرائيلية، أو مطارَدًا من الاحتلال، وهو عضو المكتب السياسي لحركة حماس الذي اعتُقل عند السلطة الفلسطينية وما زال معتقلًا في السجون الإسرائيلية ومحكوم عليه برقم فلكي (تسع مؤبدات و20 سنة)، وتحمَّل معاناة الإصابة برصاصة الاحتلال مما أدى إلى بتر ذراعه وهو مطارَد، وعلى الرغم من كبر سنه لم يتوانَ في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ففكره وشخصيته الجذابة ساعدته في قيادة المقاومة في الانتفاضة الثانية عام 2000.

أولًا: حياته الشخصية والتنظيمية

أن تجد في كل أمة من يغذوها بزيت التوهج، ويؤجج اشتعالها كلما شارفت على الانطفاء، والذين يقومون بهذه الخدمة الجليلة، فهؤلاء هم رجال القلب، المنتشرون بمدارسهم في بقاع كثيرة من العالم، من أجل هذا العمل البطولي الذي لا يقوى عليه إلا رجال من ذوي العزم والإرادة. والشيخ جمال كان من هؤلاء الرجال الذين رسموا معالم الطريق لقضيتهم[1].

1- نبذة مختصرة عن حياته الشخصية

جمال عبد السلام أبو الهيجا، ينحدر من عائلة مجاهدة من قرية عين حوض في قضاء حيفا، حيث لجأت العائلة عقب النكبة 1948 إلى مخيم جنين فكان الميلاد في 25 تشرين الثاني/نوفمبر1959، وله أربعة من الأبناء وابنتان. درس أبو الهيجا في مدارس وكالة الغوث الدولية في المخيم حتى أنهى المرحلة الابتدائية والإعدادية، ودرس المرحلة الثانوية في جنين ليلتحق بالكلية العربية لإعداد المعلمين في عمان عام 1980 فحصل على دبلوم تربية إسلامية. عمل أحد عشر عامًا في التدريس في اليمن والسعودية[2]، وتتلمذ في الأردن على يد الشيخ الدكتور عبد الله عزام، وفي عام 1990عاد إلى مسقط رأسه[3].

كان الشيخ جمال مدرسة في الدعوة والقدوة والالتزام، تأثر بها ثلة كبيرة من الشباب الذين أصبحوا فيما بعد قادة وشهداء وأصحاب تأثير في المجتمع[4]. بعد عودته إلى أرض الوطن في خضم الانتفاضة الأولى ساهم مساهمةً كبيرة في رفد الحركة الإسلامية بخبرته المتراكمة حيث شكل حضنًا دافئًا لمعظم الشباب الملتزم، فوجوده في المخيم والمنطقة كان له أثر كبير في دعم الدعوة الإسلامية والمقاومة[5].

توفي والد الشيخ جمال وهو في التحقيق سنة 2003، قُصف منزله بصاروخين (وعائلته داخل المنزل) في أيار/مايو 2002، وبعد شهر تقريبًا اقتحم الاحتلال المنزل وحقّق مع كل أفراد الأسرة بحثًا عن مـكانه وبعد أن فشلوا في الحصول على أي معلومة أحرقوا المنزل بالكامل في حزيران/يونيو 2002، واستُشهد ابنه حمزة وهو في السجن في 22 آذار/مارس 2014 [6].

2- حياته التنظيمية

لقد كان الراحل عبد الله عزام يدعو مع انطلاق حركة حماس الشباب الفلسطينيين الذين يستطيعون العودة إلى فلسطين للعودة من أجل الذود عن أرض وطنهم، وترافق نداؤه العزام هذا مع إعلان الشيخ أحمد ياسين انطلاق حماس عام 1987، ودعوة المجاهدين للحاق بالركب، فكان الشيخ جمال من أوائل المستجيبين للعودة إلى فلسطين؛ فعاد بأهل بيته إلى جنين لينغمس مباشرة في ميدان العطاء والمقاومة[7].

وكان للشيخ جمال دور مباشر في التواصل مع حركة الإخوان، وذلك أثناء مروره في رحلته بعدة محطات من الأردن إلى اليمن فالسعودية ومن ثم عودته إلى فلسطين ليكمل مشواره في الدعوة والمقاومة. وعندما تأسست حركة حماس في بداية الانتفاضة الأولى عام 1987، كان من أكبر المتفاعلين معها حيث أصبح مرجعية للشباب[8]. وكان المبادر لاحتضان كل مطارَد من الاحتلال إذا ضاقت به السبل، منهم عادل عوض الله ومحي الدين الشريف ومحمود أبو الهنود ونصر جرار وقيس عدوان ونزيه أبو السباع ومحمود أبو حلوي وغيرهم الكثير[9].

كما عمل ناطقًا باسم حماس ومنسقًا لها في لجنة القوى الوطنية والإسلامية في سنوات الانتفاضة الأولى، وبقي الشيخ يقوم بذلك حتى انخراطه في العمل الجهادي، ومطاردته واعتقاله. وقد تمنى الجميع لو أن الشيخ بقي في عمله السياسي ولم ينخرط في المقاومة نظرًا إلى الفراغ الكبير الذي تركه[10]. لقد كان لصدقه ونقاء خلقه ومواقفه التي يعرفها الجميع أثر في قلوب كل الوطنيين[11].

3- دوره الاجتماعي والخدماتي في المخيم وجنين

الشيخ جمال كقائد في حماس كان له دور مكمل ومهم لدور سائر القادة في الفصائل فكان يتميز بهمته العالية ونفَسه الطويل، وكان يسعى لتقديم كل ما أمكن من أجل التخفيف عن أهلنا ومساعدتهم في مواجهة مشقات الحياة اليومية. فكان له دور اجتماعي وخدماتي مؤثر وبخاصة أنه عمل في لجان الزكاة التي كانت تعمل على تبنّي الأيتام وتقديم المساعدات الدراسية والتموين وترميم بعض البيوت، وحتى شراء الأدوية والعلاج[12]. وفي عام 1996 تألفت لجنة مؤازرة في مخيم جنين، للمطالبة بحقوق أهالي المخيم، وتحسين خدماتهم، فكان للشيخ دور بارز ومؤثر فيها[13].

الشيخ جمال شخصية كاريزمية ذات جاذبية خاصة، وقد كان لوالده الأثر الكبير في تربيته ونشأته، فالوالد الشيخ عبد السلام أبو الهيجا كان مؤذنًا ويؤمّ في الناس في مسجد المخيم، وما كان الشيخ إلا أحد الأبناء النجباء الذين تشربوا حب الوطن وحب الدفاع عنه، وقد أثبتت السنون أن الشيخ جمال قد أبدع في خدمة الفكرة التي يحملها. يروي إسلام جرار أنه حين أصيب الشيخ في الاجتياح الأول للمخيم في آذار/مارس 2002، أجريت له عملية جراحية وخرج من المستشفى، ذهبت إليه وطلبت منه النزول إلى المخيم حتى يطمئن الناس عليه، وبالفعل استجاب لي وما إن وصل المخيم حتى تجمهر حوله الرجال والنساء والشباب والأطفال والصحافة، فالكل يريد أن يحظى برؤيته أو الحديث معه، ولأن عملية البتر لم يمض عليها إلا ساعات، فجأة بدأ يشعر بالدوران وأصابته دوخة شديدة فأمسكنا به وبصعوبة بالغة أخرجته بالسيارة من بين الجموع وذهبنا به إلى أحد بيوت المخيم[14].

وعلى الصعيد الاجتماعي والشعبي، كان حاضرًا في ذهن الشيخ أن المخيم أمام معركة مصيرية وحصار قد يطول، فتراه يشرف بنفسه ويوجه من ينشط في شأن توزيع المستلزمات الغذائية الضرورية على أزقة المخيم حتى لا يجوع الناس إذا ما العدو تجاوز كل الخطوط وحارب الناس في لقمة عيشهم، فقد كانت تجربة حصار المخيمات الفلسطينية في لبنان حاضرة في ذهن الشيخ، وبالفعل بعد أقل من ثلاثة أسابيع من عملية الاجتياح الأول، بدأت عملية حربية كبيرة لجيش الاحتلال هدفها اجتياح المخيم، في الأول من نيسان/أبريل 2002، ومنذ اللحظة الأولى لانسحاب العدو بدأ الشيخ جمال يسعى بكل جهد لتوفير كل ما يمكن من مقومات الحياة لأهل المخيم الذين دمرت منازلهم[15].

4- دوره في المقاومة ومعركة مخيم جنين

لقد كان للشيخ دور كبير في إدارة المقاومة والإشراف عليها قبل انتفاضة الأقصى، وكان لوجوده في المخيم أثر كبير في صعود مقاومة حماس، بل والمقاومة بوجه عام. فقد ساهم مساهمة كبيرة في دعم المقاومة وتطويرها في المنطقة[16]. وبرز دوره في قيادة حماس مع اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى، وقد طاردته سلطات الاحتلال على مدار ثلاث سنوات[17] .

لقد أتقن الشيخ الدور المقاوم كما الدور الدعوي، فهناك الكثير من الدعاة، ولكنهم لا يملكون جرأة الشيخ ولا استعداده للتضحية. فكان الشخصية الأكثر تأهيلًا لممارسة الدورين معًا، وكان بيته قبلةً لكل المقاومين من كل الفصائل، كما ساهم مساهمة كبيرة في الإعداد لمعارك المخيم[18]. وعندما سئل الشيخ عن تحوله من الدور الدعوي إلى الدور المقاوم، أجاب بأنه لم يكن تحولًا بمعنى التحول إنما المطلوب من المسلم أن يكون في الموقع المطلوب في الوقت المناسب وهذه هي روح الدعوة، عندما يكون المطلوب منا أن نكون في التربية أو العمل السياسي أو الجماهيري، نكون فيه، وفي الوقت الذي يجب أن نكون في المقاومة نكون في المقاومة[19].

ولم يكن كلام الشيخ ذلك مجرد شعارات، بل كان فعلًا عمليًا ملحوظًا في الميدان. فمع بداية الانتفاضة كان من المتصدّرين للمسيرات، ويتقدم إلى الصف الأول بالمواجهة حاملًا المقلاع بيده على بعد أمتار من حواجز الجيش جنبًا إلى جنب مع الشباب والأشبال، وكان الشيخ يقول “إن حياتي ليست أغلى من حياة أي شاب، وفي الوقت الذي يتوافر فيه البديل عن المواجهة بالحجر فستكون الدعوة لكل الشباب أن يحفظوا جهودهم إلى ما يؤلم العدو أكثر وأكبر”، وما ميز الدور الذي أجمع عليه كل من عايش الشيخ جمال هو احتضانه ودعمه لكل المقاومين، فهو لا يتوانى عن توفير الدعم لأي مقاوم، حتى أن منزله كان المأوى الذي يجمع كل المقاومين، ففيه يلتقي المجاهدون وينسقون خطواتهم وخططهم، ما هي إلا أسابيع وإذا بعمليات المقاومة تضرب في شتى المدن الصهيونية وعلى طرق المستوطنات[20].

لم يتوقف احتضان الشيخ جمال المقاومين من جنين ومخيمها فحسب، بل بات الملاذ الآمن لكبار القادة من أنحاء الضفة، حتى في انتفاضة الأقصى، حين وصل إليه محمود أبو الهنود ونسيم أبو الروس وجاسر سمارو ومجدي بلاسمة من نابلس وسائد عواد من طولكرم وجميل جاد الله من الخليل ليوفر الملجأ لهم وكلهم بقي عنده لأسابيع وأشهر وأعدوا عدتهم انطلاقًا من منزله الذي غدا حصنًا منيعًا لكل مقاوم[21].

وفي أيار/مايو 2001 كانت مجموعة من المقاومين بقيادة القائد القسامي نصر جرار تكمن على الطريق الالتفافي قرب بلدة قباطية وتزرع عبوة ناسفة وتنتظر دورية احتلالية لتفجر العبوة ثم تطلق النار عليهم، إلا أن العبوة تعطلت مما اضطر جرار أن يعاود اختبار العبوة، لكن إرادة الله قضت أن تنفجر وهو قريب منها لتبتر ساقاه ويده اليمنى ويصاب بجروح بالغة، وظن إخوانه الذين كانوا معه في المجموعة أنه استشهد فغادروا المكان، وبعد ذلك انطلق المئات من أهالي المنطقة ليبحثوا عن جرار لكن قوات الجيش الصهيوني كانت قد وصلت إلى الشارع الالتفافي ولم تعلم أنه على بعد أمتار منهم، ورغم خطورة الموقف ما كان من الشيخ جمال ومعه أخ آخر إلا أن تقدموا الصفوف وقوات الاحتلال تنظر نحوهم حتى وصل الشيخ إلى جرار ليحمله باستعانة صديقه لينقذ حياته وليظل مطاردًا يصارع الاحتلال أشهرًا بعد ذلك[22].

يذكر أن الشيخ جمال كان له دور مهم بالتعاون الكامل مع الشيخ نصر جرار قائد كتائب القسام في جنين في التحفيز والتسريع من مشاركة حماس في الانتفاضة، وكانوا من أوائل قادة حماس الذين سارعوا وانخرطوا في الانتفاضة من خلال تشكيل الخلايا وتقديم الدعم، وبخاصة أن حركة حماس تأخرت ستة أشهر تقريبًا حتى انخرطت بشكل كلي في الانتفاضة[23]. تولى الشيخ جمال قيادة الجناح العسكري لحركة حماس في شمال الضفة وأشرف على تنفيذ الكثير من العمليات الفدائية الجريئة، وهو ما جعل الاحتلال يجتهد في محاولة قتله أو أسره حتى تم له ذلك[24].

وفي شهر آب/أغسطس 2001، أبلغت أجهزة أمن السلطة في جنين الشيخ جمال أنها تلقت من الاستخبارات الصهيونية معلومات تفيد أن مقاومًا فدائيًا من الداخل المحتل، موجود في جنين ومطلوب من أجهزة أمن السلطة أن تعتقله، والمعلومات تفيد بأنه لجأ إلى كتائب القسام في جنين، وحاولت السلطة إيصال التهديدات للشيخ بأنه سيتم اغتياله إذا نفذ هذا المطارد أي عملية فدائية، لكن جهود السلطة وتهديدات الاحتلال لم تفلح حيث نفذ الشهيد محمد شاكر حبيشة عمليته بعد أيام رغم كل احتياطات الاحتلال في مدينة نهاريا المحتلة وأوقع العديد من القتلى والجرحى في صفوف الاحتلال. وقد وجهت الاستخبارات الصهيونية تهمة الإعداد لهذه العملية والعديد من العمليات البطولية إلى الشيخ جمال. ومن أبرز تلك العمليات التي اتهم بالمشاركة والإشراف عليها عملية حيفا في 31 آذار/مارس 2002، التي نفذها الاستشهادي شادي الطوباسي وأسفرت عن مقتل خمسة عشر صهيونيًا، وعملية الشهيد عز الدين المصري في مطعم سبارو في القدس وأسفرت عن سقوط عدد مشابه من القتلى ردًا على اغتيال القياديَّين جمال منصور وجمال سليم، إضافة إلى عملية صفد التي نفذت ثأرًا لمجزرة حي الدرج التي استهدفت اغتيال القائد الأول لكتائب القسام الشيخ صلاح شحادة وأسفرت عن مقتل تسعة صهاينة[25].

مثلت معركة مخيم جنين محاور مهمة لا يستطيع أن يغفل ذكرها أي مؤرخ أو باحث أو قائد سياسي أو عسكري وهو يسعى لصوغ سياسات استراتيجية في مشروع المقاومة، فبدون تلك القواعد يصعب أن يكون هناك إنجاز، فهناك ثلاثة قوانين نوعية أبدع ذلك المخيم الصامد في رسمها بدماء أبنائه، أولها الروح الفدائية والجرأة الباسلة، ثانيها الوحدة الميدانية، وثالثها الشخصية القيادية صاحبة الإرادة والعزيمة، تلك النقاط الثلاث تجسدت في المكان والزمان والإنسان، أما المكان فهو مخيم جنين والزمان كان في نيسان/أبريل 2002 في ذروة الانتفاضة، أما العامل الثالث فقد تجسد بقادةٍ عظام كان أبرزهم الشيخ جمال. فكانت المعركة البطولية التي صمد فيها المقاومون واستشهد أكثر من ستين مجاهدًا نصفهم من المقاومين مقابل ثلاثة وعشرين جنديًا صهيونيًا، ولما احتدمت المعركة ووقع عدد من الجنود الصهاينة تحت نيران المجاهدين تدخل الصليب الأحمر وجهات دولية لوقف المعركة وكان شرط جيش الاحتلال أن يسلم المطاردين أنفسهم وأبرز من تم المطالبة بهم الشيخ جمال[26].

يذكر أن الشيخ ظل يراقب رغم عمق جراحه أحداث المعركة ويتواصل ويتابع مع المجاهدين في الميدان، وفي ذلك الوقت كانت قد وضعت خطة للقاء الشيخ جمال بالقائد القسامي قيس عدوان؛ ليتم تنفيذ عمليات مباغتة للعدو من خلال استشهاديين أثناء فترة الاجتياح يخرجون ويتسللون إلى قلب الكيان، لكن خللًا في الخطة قد وقع مع عدوان أدى إلى توجهه إلى طوباس حيث كان غدر الاحتلال وعملائه بانتظاره حين تمت محاصرته مع خمسة من مجاهدي القسام استشهدوا جميعًا على أرض طوباس، ولما سمع الشيخ جمال بهذا الخبر أصر على الثأر لدماء الشهداء، وانتهت المعركة ولم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه رغم حجم الدمار وانتشار الموت في كل أزقة المخيم[27]، ومن عرف الدور البطولي الذي قام به هذا المناضل الشجاع لم يخفَ عليه سر قسوة الحكم العجيب الغريب إذ كان الشيخ جمال أحد أبرز رموز المقاومة[28].

يقول القائد الأسير القسامي سليم حجة يعد الشيخ جمال من الشخصيات القيادية المهمة التي وفرت للمقاومة غطاءً سياسيًا، ولم يؤثر تسلمه للقيادة في نفسيته، فهو متواضع جدًا، بشوش، حازم في استرداد الحقوق لأصحابها، ويتابع أحوال العامة، وخصوصًا أهالي الأسرى والشهداء[29]. وقد تبين فيما بعد أن القائد الشهيد عادل عوض الله الذي كانت تبحث عنه أجهزة السلطة والاحتلال كان في ذلك الحين تحت رعاية الشيخ جمال، وقد كشفت الأيام لاحقًا أن المهندس القسامي الثاني الشهيد محيي الدين الشريف كان أيضًا في رعاية الشيخ جمال[30].

5- الإصابة وبتر ذراعه

يتحدث الشيخ عن إصابته في معركة مخيم جنين في شهر آذار/مارس 2002، بعد صلاة العشاء تقريبًا وفي حارة مسجد اﻷنصار “وقعت في كمين، وكان معي ثلاثة من الشباب، منهم المهندس القسامي أبو رغد، تعرضنا لإطلاق نار عن قرب أصبت أنا وأحد الشبان، وبعد ذلك وصلنا بصعوبة بالغة، ببسالة رجال الإسعاف إلى المستشفى، وكانت الإمكانات الصحية في جنين لا تستطيع إلا القيام ببتر الذراع لصعوبة الإصابة، وكان الوضع الأمني لا يسمح لي بالخروج من جنين”[31]. ويبين إسلام جرار بهذا الخصوص أن رصاصة متفجرة أصابت يد الشيخ اليسرى وتوزعت الشظايا على جسده، فنجى الشيخ بعد أن كانت تفصله عن الشهادة لحظات، وقرر الأطباء بتر يده اليسرى وما هي إلا ساعات حتى خرج مبتسمًا معزيًا نفسه بكل سرور قائلًا إن يده الآن سبقته لتشهد له بإذن الله في جنات النعيم[32].

ثانيًا: المطاردة والاعتقال والعزل

لقد أمضى الشيخ أكثر من عقدين من حياته أسيرًا متنقلًا بين سجون الاحتلال، وما زالت هذه الصفحة الدامية مفتوحة تسيل منها الآلام. لقد تحدثنا سابقًا عن حياة الشيخ مناضلًا ومقاومًا مطاردًا وجريحًا، فمن البديهي أن تكون محطته التالية أسيرًا ومعذبًا ومعزولًا ومستهدفًا.

1- من جانب الاحتلال الإسرائيلي

اعتقل لأول مرة في 11 تشرين الأول/أكتوبر 1992، وأُفرج عنه في العام نفسه، ثم اعتقل مرة أخرى في 29 كانون الثاني/يناير 1993 وأفرج عنه في 17 أيار/مايو 1993، واعتقل في أيلول/سبتمبر 1995، وأفرج عنه في كانون الأول/ديسمبر 1995 [33]. كما اعتقل في نيسان/أبريل 1998، عقب استشهاد المهندس محيي الدين الشريف بأشهر، ليقاد إلى التحقيق المشدد لمعرفة معلومات عن مكان الشهيد عادل عوض الله لكن الشيخ جمال أبى أن يتحدث بكلمة واحدة [34]، وأفرج عنه في تموز/يوليو 1999، واعتقل في 26 آب/أغسطس 2002، حيث صدر الحكم بحقه في 11 نيسان/أبريل 2005، من جانب المحكمة العسكرية الصهيونية بالسجن تسع مؤبدات، وطاردت سلطات الاحتلال الشيخ لأكثر من ثلاثة أعوام قبل أن يعتقل، كما أنه كان على لائحة المطلوبين للاغتيال والتصفية[35].

وخلال عملية اعتقاله الأخيرة كان معه إسلام جرار وكان يردد “حسبنا الله ونعم والوكيل” تحت أصوات الانفجارات والرصاص والقنابل والعدو ينادي أنه سيهدم المنزل وما كان منه إلا أن قال لجرار “إنني اخترت الشهادة” وخيَّره أن يستسلم أو أن يكون على ذات خياره ففضّل الشهادة إلى جانبه لكن إرادة الله ثم حرص العدو على أن يخرجهما أحياء حتى يحاول النيل منهما، وبأسر الشيخ جمال انتقل الشيخ من الميدان حيث المقاومة بالرصاص والتفجير وإرهاب العدو والثأر منه ليبدأ مرحلة نضال من نوع جديد داخل قلاع الأسر[36]. وقد صنفه الاحتلال بالأسير الخطير، واستخدم معه كل أشكال التعذيب على مدار شهرين كاملين[37]. ويبين إسلام جرار أنه في الأسابيع الأولى من التحقيق حاول أن يجمعني الشاباك بالشيخ للضغط عليه من أجل الإدلاء بأي معلومة لكن الشيخ رفض أن يدلي بأي كلمة للاحتلال، وهو ما رفع معنوياتي[38].

واعتُقل قبله بعدة أيام ابنه البكر عبد السلام الذي يبلغ من العمر 16 ربيعًا[39]، وأعقبته اعتقالات لجميع أفراد العائلة ذكورًا وإناثًا مرات عديدة، وتعرضت زوجته أسماء بعد أسر زوجها للاعتقال تسعة أشهر، سامت خلالها صنوف العذاب. وتم قصف وحرق المنزل بالكامل لكي يحرق الاحتلال قلب أسماء وأطفالها الصغار، ولكنها لم تستسلم لظلم الاحتلال وبطشه، فثابرت على بث الحياة في نفوس أفراد الأسرة رغم الجراح، ولا يستغرق جواب أحد داخل المخيم عندما يُسأل عن عائلة الشيخ لحظات قبل أن يجيب إنها عائلة مجاهدة[40].

 

2- العزل الانفرادي والإضراب عن الطعام

حذرت دراسة حقوقية أعدتها مؤسسة الضمير لرعاية السجين وحقوق الإنسان الفلسطينية، ومنظمة أطباء لحقوق الإنسان الإسرائيلية من أن امتهان إنسانية الأسرى تعَدّ دليلًا قاطعًا على النوايا الرسمية لسياسة مصلحة السجون الإسرائيلية، ورأت أن الهدف من هذه الممارسات ليس فقط للتنكيل بالأسرى بل للتدمير المنهجي لشخوصهم وترك أكبر قدر ممكن من الآثار السلبية في نفوسهم. وأن العزل الفردي يعني انقطاع المعتقل 23 ساعة في اليوم عن العالم الخارجي. وأن المعتقل المعزول يحرم من زيارة الأهل ومن إكمال التعليم، ويعاقب في نوعية وكمية الطعام المقدم له.، إن أبرز ذرائع العزل هي الحجة الأمنية على اعتبار أن المعتقل يشكل خطرا على أمن دولة إسرائيل وأكثر من ثلاثين حالة لمعتقلين فلسطينيين مكثوا لسنوات طويلة في العزل ويعانون أعراضه المزمنة نفسيًا وجسديًا، وأن بعض الأسرى مكثوا أكثر من عشر سنوات في عزل متواصل[41].

فالشيخ جمال نقل إلى العزل الانفرادي بعد اعتقاله مباشرة[42]، وتُبين بنان ابنة الشيخ أن والدها مكث منذ اعتقاله لمدة سبع سنوات في العزل الانفرادي، وأن إدارات السجون تمنع عائلته من زيارته وتبادل الرسائل معه وإدخال الأغراض الشخصية له، وأن بعض الأمراض الجلدية ظهرت على جسده، كما أصبح يعاني ضعف النظر نتيجة طول فترة العزل، والروماتيزم نتيجة ارتفاع الرطوبة في زنزانته[43].

وبعد إضراب الكرامة في نيسان/أبريل 2017، الذي خاضه المئات من الأسرى استطاعوا إلزام السجان إثره إخراج المعزولين من عزلهم إلى أقسام السجن، ومنهم الشيخ جمال الذي لم تفتّ سنوات العزل من عضده رغم قساوتها، لكن ما زاده مرارة هو عدم شموله بصفقة وفاء الأحرار عام 2011. ويروي جرار موقفًا سطره الشيخ بعد أقل من سنة على خروجه من العزل، ففي بداية سنة 2013 تبين أن الأسير مسيرة أبو حمدية قد اكتُشفت إصابته بالسرطان بعد إهمال من السجان وتأخر في تشخيص حالته، فلما رأى الشيخ المماطلة في علاجه، أعلن أنه مضرب عن الطعام مع إخوانه وأنهم ماضون في إضراب مفتوح حتى يذعن السجان لعلاج الأخ ميسرة، لكنه استشهد قبل أن يستجيب السجان[44].

كانت وصية الشيخ لأهله أن لا يخشوا في الله لومة لائم، فقد اعتُقلت زوجته وأبنائه من أجل الضغط عليه. واعتقل ابنه عبد السلام في معركة المخيم ثم اعتقل إبناه عاصم وعماد، واعتقلت ابنته الكبرى بنان وأخيرًا ابنه الأصغر الشهيد حمزة الذي أفرج عنه سنة 2012 وهو مضرب عن الطعام نصرة لوالده وغيره من المعزولين، ليبدأ حمزة بعد ذلك رحلة من المطاردة والمقاومة حتى غدا شهيدًا[45].

كان يوم الإضراب عن الطعام الذي أعلنه الشيخ جمال، بداية رحلة المطاردة لنجله الشهيد حمزة فقد هب حمزة مع مجموعة من شبان مخيم جنين لينظموا مسيرة في وسط جنين نصرة للأسير ميسرة ومن أعلنوا الإضراب عن الطعام بقيادة والده في محاولة للضغط على السجان وقيادة الاحتلال من خلفه للإفراج عن الأسير المريض ميسرة أبو حمدية عله يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أهله خارج السجن[46].

لم يتوقف الشيخ عن المقاومة حتى وهو داخل أسوار السجن، فقد كان يخطط لخطف الجنود، وذلك لتحرير إخوانه الأسرى، الذين سبقوه في الاعتقال، فقد تأثر كثيرًا بأوضاع إخوانه الذين سبقوه في الأسر وكان يسعى لتحريرهم، وكان يعتبره الشاباك أخطر الأسرى وقد تحمل العزل بما فيه من معاناة كبيرة وبخاصة أنه بحاجة إلى من يساعده لأن ذراعه مبتورة[47]. أدركت مصلحة السجون الصهيوينة دور الشيخ وتأثيره في محيطه، وأرادت لهذه المقاومة أن لا تبقى على احتكاك دائم مع باقي الأسرى، فالشيخ لا يكف عن التحريض وبث الروح المقاومة في نفوس محيطه فأخذت قرارًا بعزله لأمد طويل[48].

يقول إسلام جرار أتذكر أن أحد المحققين في سجن الجلمة قال لي أثناء التحقيق العسكري معي عندما رفضت الإدلاء بأي اعتراف “نحن أخطأنا عندما اعتقلناك أنت والشيخ جمال أحياء، كان من المفروض بنا أن نقتلكم في أزقة المخيم”[49].

تقول زوجته كنا نعيش يوميًا واقع معاناة زوجي الذي يعاني أساسًا عدة أمراض خطيرة أغلبيتها نجمت عن ظروف اعتقاله وعزله، لكن إدارة السجون تمارس بحقه منذ اعتقاله كل صنوف القهر.[50]

2- استشهاد نجله حمزة

نشأ حمزة جمال أبو الهيجا بين أحضان عائلة مجاهدةٍ، ربت أولادها على مقارعة الاحتلال. كان حمزة هادئًا، فكسب قلوب جميع من حوله من الأهل والأحباب والأصدقاء، وكان يساعد الفقراء بما استطاع. تلقى حمزة تعليمه في مدارس وكالة الغوث في جنين.[51] وفي 18 كانون الأول/ديسمبر 2013، اقتحمت قوة مستعربة منزل الشيخ جمال، وكان في المنزل حمزة ونافع السعدي وابن عمه علي، فأطلقت القوة المستعربة النار عليهم، فاستشهاد نافع ووأُصيب علي بينما لم يعرف مصير حمزة. وقضى حمزة خمسين ليلة متواصلة في زنازين الجلمة ولم يعترف؛ فتم الإفراج عنه[52].

وكان قيام حمزة بعمل جماهيري لمساندة أسرى الإضراب سببًا في بداية مطاردة السلطة له، وعندما شعر حمزة بأنه مستهدف من جانب إسرائيل والسلطة حمل سلاحه، وبدأ يسابق الزمن في إعداد خلايا القسام في جنين ليعيد مجدًا تربى عليه على خطى والده القائد جمال. استدعى ضباط الشاباك الشيخ وطلبوا منه أن يتواصل مع ابنه حمزة ليطلب منه الاستسلام أو أن يسلم نفسه للسلطة، فأبى الشيخ ذلك وأوصى ابنه بأن لا يسلم نفسه للسلطة أو الاحتلال ولو كلف ذلك أن يدفع أنفاسه الأخيرة شهيدًا[53]. وعندما سمع الشيخ باستشهاد ابنه في آذار/مارس 2014 وكان عمره 22 عامًا خرّ ساجدًا وشكر الله على هذا الاختيار، إكراما له ولابنه[54]. في يوم اغتياله، كان يحمل حقيبة على ظهره فيها ثلاثمئة رصاصة ومخزنين وبضعة أكواع ناسفة، أفرغ المخزن الأول في لحظة الاشتباك الأولى وواصل اشتباكه بالجنود، قذفوه بصواريخ لاو حطّمت الجدار الداخلي، ثم صعد إلى الأعلى ليواصل اشتباكه، وظل هناك يقاومهم حتى استشهاده[55].

تفطّر قلب الأم أسماء بعد تلقيها خبر استشهاد ولدها حمزة، فقد بذل قصارى جهده لزيارتها بينما كانت ترقد على سرير الشفاء في مستشفى جنين، ولكنه لم يفلح في ذلك لأنه كان مطلوبًا لسلطات الاحتلال، وكانت آخر كلمات سمعتها من ولدها الشهيد عبر الهاتف، “أمي سامحيني، لم أستطع إحضار هدية عيد الأم لك”، لتتلقى في اليوم التالي نبأ استشهاده[56]. وفي هذا الصدد عندما سئل الشيخ جمال حول كيفية تلقيه لنبأ استشهاد نجله قال بأنه: لا خيار لنا إلا الصبر فهو عنوان المسلم في الدنيا، وهو طريق المسلم إلى الفردوس الأعلى، ونحن جزء من هذا الشعب الذي قدم الكثير من الشهداء[57].

4- اعتقاله مع أبنائه من جانب السلطة

ولم يسلم الشيخ من الاعتقال أيضًا في سجون السلطة الفلسطينية فاعتُقل مرة واحدة لستة أشهر في سجن جنين سنة 1996[58]، وفي سنة 1997 طاردته السلطة لمدة عشرة أشهر بحجة إيوائه للمطارد عادل عوض الله، ولم يسلم جميع أبنائه من الاعتقال عند السلطة حيث تم اعتقالهم ومطاردتهم والاعتداء عليهم عدة مرات. فمنذ سنة 2006 وحتى 2013 وبشكل متقطع تم مطاردة عاصم من جانب السلطة عدة أشهر واعتُقل ثلاثة أشهر، وعبد السلام اعتقل عند السلطة سنة كاملة بشكل متقطع منذ سنة 2010 حتى سنة 2018، وعماد طورد ق5بل اعتقاله من سنة 2006 وحتى سنة 2013 عدة أشهر[59].

أما حمزة، فقد لاحقته أجهزة أمن السلطة في نيسان/أبريل2013، حيث اقتحمت منزل والده عدة مرات، وقد جاء الاقتحام الأخير لمنزل الشيخ عشية تحويله مع نجله عبد السلام للتحقيق مجددًا في سجن الجلمة، وتحول حمزة إلى مطاردٍ ومطلوب لجيش الاحتلال وأجهزة أمن السلطة على حدٍ سواء.[60] وفي آذار/مارس 2013، قامت قوة من جهاز الاستخبارات العامة متخفية بسيارة مدنية، بالاعتداء على كل من عاصم وحمزة وعماد أثناء محاولة اعتقال حمزة، فأُصيب عاصم بجروح في عينه ورضوض بجسده وتم اعتقال عاصم، إلى أن أُفرج عنه بعد تدخل وسطاء[61].

لم يعتبر الشيخ السلطة في يوم من الأيام عدوًا، فهو حريص على أبناء شعبه، سواء كانوا سلطة أو معارضة، كان يتضايق عندما يعتقل أحد أبنائه أو أحد أبناء هذا الشعب من جانب السلطة، ولكن غضبه لم يُنسِه أبدًا أننا أبناء شعب واحد مهما كانت وجهات النظر والاجتهادات[62].

5- اعتقال زوجته وأبنائه من جانب إسرائيل

ذاقت عائلة أبو الهيجا جميعها طعم الأسر، فزوجة الشيخ جمال تعرضت للاعتقال من قبل الاحتلال سنة 2003، ليلة وقفة العيد، ومكثت في الاعتقال الإداري 9 أشهر[63]، تقول زوجته “عندما دهمت قوات الاحتلال المنزل ظننت أنهم قدموا لاعتقال ابني الثاني فتفاجأت أنهم قدموا لاعتقالي أنا”.[64]

كما اعتُقل النجل الأكبر للشيخ وهو عبد السلام قبل والده بفترة وجيزة، وقد كان عمره حينذاك 17 سنة، وقد حُكم عليه بالسجن سبع سنوات ونصف السنة ومن ثم اعتقل بشكل متقطع ثلاث سنوات ونصف، ويذكر أنه أصيب في معركة المخيم. وعاصم طارده الاحتلال سنة 2006 لمدة 4 أشهر واعتُقل ما يقارب 3 سنوات، وعماد الدين اعتُقل عدة مرات وكذلك ابنته المحامية بنان بإضافة إلى اعتقال ابنه الأصغر حمزة سنة 2011 وإعادة اعتقال عبد السلام ووضعه في الاعتقال الإداري[65].

رفضت المحكمة الإسرائيلية سنة 2008 طلبًا تقدم به الشيخ للالتقاء بولديه عبد السلام والمحكوم سبع أعوام ونصف السنة، إضافة إلى ولده عاصم المعتقل إداريًا منذ 3 سنوات وقالت المحكمة على جمال أن لا يلتقي بأحد من العالم[66]. وفي سنة 2015، قبع الشيخ جمال في سجن بئر السبع مع اثنين من أبنائه هما عماد وكان يقضي حكمًا بالسجن مدته سنتين، وعاصم ويقضي حكمًا بالسجن مدته سنة ونصف السنة[67]. يمنع الاحتلال زوجة أبو الهيجاء وأبناءه من زيارته منذ اعتقاله، ولم تسمح لها بالزيارة إلا مرة واحدة، بعد استشهاد نجلها حمزة[68]. لقد كلف انتهاج الخط الجهادي الشيخ جمال الكثير الكثير مما تحمله بصبر وجلَد يعز مثله هذه الأيام.[69] وتم اعتقال بنان ابنة الشيخ 23 يومًا عقب اعتقال والدها، وكان هدف الاحتلال الضغط عليه وابتزازه في السجن[70].

ثالثًا: دوره النضالي في السجون الإسرائيلية

1- على المستوى الاعتقالي العام

كان يتمتع بعلاقات اجتماعيه واسعة، دائم المزايرة لغرف إخوانه ويتفقدهم، ويبث فيهم الصبر على بلاء السجن، ولم تثنه سنوات الأسر، ولم تضعفه قسوة الغياب[71]. يقول القيادي الفتحاوي جمال حويل “إن الشيخ جمال كان أحد رموز الوحدة الوطنية داخل المخيم وفي السجون، فقد عشت معه في زنزانة واحدة في سجن هدريم وكنت أقوم بغسل ملابسه لأننا أخوة ومقاتلين واجهنا الموت معًا[72].

وكان في كل سجن حل به عنوانًا للتجميع، ومثالًا في التقريب ووجهًا حاضرًا في جميع المناسبات الخاصة والعامة، والأحداث والخلافات، يستعين به الجميع ليقوم بدور نزع فتيل الخلاف، وتقريب وجهات النظر، والإصلاح بين الأطراف المتخاصمة[73].

2- على المستوى الحركي الخاص

كان في الصفوف المتقدمة في قيادة الحركة الأسيرة فعندما بدأ أسرى حماس بتشكيل هيئة قيادية عليا تقود أسرى الحركة في السجون، كان الشيخ حاضرًا بل جزءًا من هذه المباحثات التي أفضت إلى تشكيل الهيئة ثم كان عضوًا في تشكيل الهيئة التأسيسية، ثم عضوًا في الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس في السجون لعدة سنوات، إلى أن قرر الشيخ أن يترك هذا المكان لمن أصغر منه سنًا[74]. ويعَدّ الشيخ الآن مرجعية من قبل إخوانه يستفاد من تجربته الغنية ويستأنس في رأيه، الذي يرفد الحركة الأسيرة بالتوجيه والإرشاد التي هي بحاجة ماسة إليه[75].

كان للشيخ جمال في سجنه اهتمامات عديدة، فهو إضافة إلى اهتماماته الدينية والشرعية، وسعة اطلاعه في هذا الباب، وقدرته على التأثير في محيطه من خلال الخطابة والدرس والوعظ، لكن دوره الأبرز وميدانه الأهم هو العمل الاجتماعي. فالسجن مجتمع متكامل، فيه تنوع الأطياف التي يتسم بها شعبنا الفلسطيني عمومًا، ففيه الفلاح والمدني وابن المخيم، وفيه الشبل والشاب والشيخ الكبير، وفيه المثقف والأمي. هذا التنوع والاختلاف يحمل في طياته معاني إيجابية كثيرة، إلا أنه لا يخلو من بعض السلبيات وعلى رأسها أن هذا الاختلاف قد يؤدي أحيانًا إلى تصادم، وهي طبيعة بشرية لا يمكن إنكارها أو الهروب منها وبالتالي يأتي دور شخصيات ووجوه ورجال إصلاح، يتمتعون بسمعة طيبة، وقبول لدى الجميع، وقدرة على الحسم والتوفيق وتقريب وجهات النظر والشيخ جمال أحد هذه الوجوه[76].

3- رفض إطلاق سراحه في صفقة وفاء الأحرار”شاليط”

وفي هذا السياق بينت زوجة الشيخ جمال في ما يخص صفقة وفاء الأحرار “حقًا كنا ننتظر عودة الشيخ جمال ولكن الصفقة مشرِّفة حتى لو لم تشمل زوجي”، مضيفة “إنه عند الإعلان الأولي عن إتمام الصفقة، بدأت تنهال علينا الاتصالات من كل جهة، تُبارك لنا بالصفقة، وقام أولادي بتوزيع الكنافة على الناس، وتحول بيتنا في لحظات إلى مزار لتقديم التهاني بانتصار المقاومة”[77]، وعندما تبين عدم شمول زوجها في الصفقة علقت زوجة الشيخ “في البداية تضايقت، ولكن أعرف أنه لم يكن الموضوع بيد المقاومة، فلقد قاتلوا حتى النفَس الأخير في الصفقة لإخراج زوجي وإخوانه القادة، وقد أجرينا اتصالًا مع القيادي الشيخ صالح العاروري، أحد المشرفين على الصفقة، وأكد لنا أنهم حاولوا وعلى مدار الخمسة أيام الأخيرة، الإصرار على إدراج اسم زوجي في الصفقة، إلا أن الوفد الإسرائيلي، طلب طائرته للعودة، وإغلاق ملف الصفقة نهائيًّا”[78]. ومن الأحداث التي تظهر رباطة جأش الشيخ وصبره عند تلقي الخبر السيئ ما يرويه الشيخ وليد خالد، الذي رافق الشيخ جمال في رحلة عزله فترة من الزمن. يقول[79]:

كنا في العزل، أنا في زنزانة والشيخ في الزنزانة المقابلة لها، كنا نستطيع أن نتحدث مع بعضنا، وبدأنا بمتابعة الأخبار علّنا نعرف ما إذا كنا مشمولين في الصفقة أم لا علمًا أن أهل الشيخ جمال كانوا قد أخبروه بأن قيادة حماس اتصلت بهم وأخبرتهم بأن اسم الشيخ مدرج في قوائم المفرج عنهم. في ذلك اليوم كان موعد برنامج رسائل أهالي الأسرى الذي يبث على الإذاعات المحلية، فبدأنا ننتظره عله يحمل الخبر اليقين، وفعلًا بدأ الاهالي بالاتصال حتى تحدث أهل الشيخ جمال، وبلغوا أن الصفقة لن تشمل الشيخ، أصابني الذهول، ولم أتمالك نفسي، وأجهشت بالبكاء، ولم أجرؤ على إخبار الشيخ، ولم أنادِ عليه، وعندما سألني عن البرنامج قلت له لا لم أسمعه، فقد كنت نائمًا قال الشيخ أنا سمعت البرنامج، ثم تحدث بثقة وصبر، وكيف أنه استقبل نبأ عدم الإفراج عنه بشكل طبيعي، فقلت له  لقد استمعت إلى البرنامج، ولم أشأ أن أخبرك لظني أنك لم تسمعه، فقال الشيخ أعلم أنه قدر الله، وأن فيه الخير، فكان صبره ورباطة جأشه غاية في العجب.

ودعت زوجة الشيخ جمال حركة حماس أن لا تنسى قضية الأسرى، وخصوصًا أولئك الذين يمضمون أحكامًا عالية فلا يجب نسيانهم، فهم الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الوطن وحرقوا أنفسهم ليضيئوا على الآخرين[80]. ويبين القيادي السعدي السبب وراء عدم إطلاق سراح الشيخ في صفقة وفاء الأحرار، وهو دوره المؤثر في الشعب، وخاصة فئة الشباب، ووجوده بين أبناء شعبه يشجع على المقاومة ورفض الاحتلال، وهذا الدور لا يستطيع القيام به إلا الشيخ وقلة من أمثاله[81].

رابعًا: موقفه من القضايا السياسية العامة على الساحة الفلسطينية

يرفض الشيخ أي تنازل عن أي ثابت من ثوابت القضية الفلسطينية، ويؤمن بفلسطين من النهر إلى البحر، وأن قضية فلسطين مقدسة، ورغم ذلك يبقى باب الحوار والانفتاح على كل الفصائل مفتوحًا[82].

1- التنسيق الأمني والاعتقال السياسي

كان يقود حملة وتجمعات تمارس الضغوط على أجهزة السلطة للإفراج عن أسرى المقاومة لديها، وكان عنوان حديثه في انتفاضة الأقصى “أننا أمام فصل جديد من المقاومة التي طالما نادت بها فصائل المقاومة كخيار وأسلوب وحيد في التعامل مع المحتل الغاصب”[83].

يعد التنسيق الأمني والاعتقال السياسي جريمة وطنية بحق الشعب والقضية الفلسطينية، حيث إنه بدّدَ وأضاع الكثير من طاقات الشباب الفلسطيني، وبدلًا من أن تُجمع هذه الطاقات ضدّ العدو فقد زرعت البغضاء والضغينة بين أبناء الشعب الواحد، وأفرزت جزءًا لا يستهان به يقوم بمهمة الاحتلال تحت ذرائع مختلفة بعد أن كانوا مناضلين وقدموا من أجل الوطن ومُسِحوا فكريًا ونضاليًا، وفي ذلك يقول الشيخ جمال “فشعوري الشخصي لا شكَّ أنه مؤلم جدًا، حيث كنت في فترة طويلة في سجون الاحتلال وكان لا يمر علي أسبوع حتى أسمع في المحطات المحلية عن اعتداءات على البيت أو اعتقال لأحد الأبناء، ويصل بهم الأمر إلى التعذيب الذي أضرّ بصحة ولدي عماد، والذي سبب له آلامًا مزمنة ولا زال يعاني منها حتى الآن، ولم يعطه مجالًا للعلاج، واستمر الأمر بملاحقة ابني الشهيد حمزة”[84].

2- المصالحة الفلسطينية الفلسطينية

يرى الشيخ في ما يخص المصالحة أن العمل السياسي لا يوجد فيه مصطلحات مصالحة ولا غيرها، ولا خلاف بين أبناء الشعب الفلسطيني حينما يكون مع الاحتلال، فنجد أن كل أبناء الشعب الفلسطيني في خندق واحد في مواجهة المحتل، لكننا بحاجة إلى أن يصحو فريق أوسلو من سباته وأن يترك مسلسل المفاوضات العبثية، ويتخلى عن هيمنته على القرار الفلسطيني ويعود لشعبه، ويأخذ العبرة من ربع قرن من العبثية في المفاوضات وينفذ الاتفاقات الوطنية الفلسطينية التي وقع عليها الكل الفلسطيني، عندها سنكون قادرين على الرد على كل إعتداءات الاحتلال[85].

3- المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية

لم يؤمن الشيخ يومًا بهذه المفاوضات والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وهو بحاجة إلى تجميع نقاط القوة بالتراكم من أجل فرض شروطه على المحتل. هذه المفاوضات لن تنتج إلا الخيبة والسراب، وإن تحرير فلسطين يمر عبر المقاومة، وتعاون المخلصين من كل أبناء شعبنا وأمتنا، وراية المقاومة تسلم من جيل إلى جيل، ويجب أن تبقى هذه الراية مرفوعة مهما طال الزمن حتى تحقيق النصر والتحرير[86].

ويبين الشيخ في هذا الصدد، “أن جميع المشاريع التي طرحت لم يكن أي منها في صالح شعبنا وقضيته، حتى دخلنا في نفق أوسلو واستمرت التنازلات، وهذا أغرى الاحتلال والولايات المتحدة الداعمة له في المزيد من الإجراءات التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وهذا يستدعي ردًا استراتيجيًا يعيد القضية إلى الأصل، فنحن شعب اغتُصبت أرضه ومن حقه المقاومة لطرد الاحتلال، فغزة وضعت معادلة رعب مع الاحتلال، وأشبال الضفة وأسودها المنفردة أذاقوا العدو الويلات، ونرى نماذج من الشباب المقاوم بطريقته الخاصة قد قلبت خشبات العدو، منهم نشأت ملحم الذي منع التجول في تل أبيب أسبوعًا كاملًا، وأشرف نعالوة، وعمر أبو ليلى وأحمد جرار[87].

خاتمة

حمل الشيخ بندقية وقنابل ليقاتل من يحتل أرضه، فالشيخ جمال من المقاتلين العقائديين الذين يؤمنون بأن فلسطين يجب تحريرها من الاحتلال الصهيوني بالمقاومة؛ فكان الشيخ من أوائل الذين تخلوا عن رغد الحياة وعاد إلى فلسطين ليؤلف المجموعات الفدائية وينطلق في تحفيز حركة حماس للانضمام إلى الانتفاضة الثانية والمقاومة المسلحة، ويتحول من الدعوة والعمل الاجتماعي إلى المقاومة المسلحة التي كلفته الكثير ومن أهمها بتر يده واستشهاد نجله واعتقاله المستمر منذ عقدين واعتقال جميع أفراد أسرته، ورفض إطلاق سراحه في صفقة وفاء الأحرار والزج به لسنوات في العزل الانفرادي، ومنعه من الزيارات منذ اعتقاله. وبالرغم من ذلك ما زال يحلم بالحرية وتحرير فلسطين وإقامة الدولة وأن ينعم الشعب الفلسطيني في العيش الكريم بلا احتلال كباقي الشعوب.

 

قد يهمكم أيضاً  الأسرى المرضى في السجون الإسرائيلية… إلى أين؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأسرى_في_السجون_الإسرائيلية #الأسير_جمال_أبو_الهيجا #الشيخ_جمال_أبو_الهيجا #سيرة_جمال_أبو_الهيجا #النضال_الفلسطيني #حماس #مقاومة_الإحتلال_الإسرائيلي #الأسرى_الفلسطينيون #الاحتلال_الاسرائيلي