مقدمة:

بتاريخ 23 حزيران/يونيو من عام 2016 صوّتت بريطانيا من طريق الاستفتاء لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وبنسبة بلغت 52 بالمئة من الأصوات، مقابل 48 بالمئة صوّتت ضد الخروج، وهذا يعني أن أكثر من 17.4 مليون شخص في هذا الاستفتاء صوّت للخروج من الاتحاد الأوروبي، وحوالى 16.1 مليون شخص صوتوا للبقاء في الاتحاد. بالطبع إن حدثاً كهذا كانت له ردود أفعال على الساحة الدولية بصورة عامة، وعلى دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بصورة خاصة. وهذا ما ذهبنا إليه في دراستنا هذه بالبحث في أسباب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما الذي جعل مواطنيها يصوتون لمصلحة الخروج. وقد تنوعت هذه الأسباب وكان من أهمها الهجرة وتداعياتها، فضـلاً عن السيادة والأمن، والتجارة، والاقتصاد، ورسوم العضوية، والوظائف وغيرها.

وبعدها تم البحث في تداعيات هذا الخروج على بريطانيا أولاً، وشمل ذلك العديد من التداعيات أهمها: الاقتصاد، التجارة، الأمن، الوظائف، الصحة، البيئة، وغيرها من التداعيات؛ وهي التداعيات نفسها التي أصابت الاتحاد الأوروبي نتيجة هذا الخروج. ثم بعد ذلك تبحث الدراسة عن الحلول المناسبة لبريطانيا في حال الخروج، ومن ثم التوصل إلى الاستنتاجات والخاتمة.

نتائج الاستطلاع بحسب الموقع (نسبة مئوية)

 بريطانياإنكلترالندنإسكتلنداوايلزإيرلندا الجديدة
الخروج525340385344
البقاء484760624856

 

أولاً: أسباب التصويت لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

تنوعت الأسباب التي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لذلك سنتناول هذه الأسباب كـلاً على حدة للوقوف بصورة واضحة حول أسباب هذه المغادرة:

1 – الهجرة

يعد موضوع الهجرة وحرية التنقل من بين أهم الموضوعات التي تحدد العلاقة بين المملكة المتحدة وأوروبا؛ فبعد خمس سنوات من السياسات المصممة للحد من الهجرة‏[1] في بريطانيا، أظهرت الإحصاءات الفصلية التي صدرت في نهاية آب/أغسطس من عام 2015 أن صافي الهجرة وصل إلى أعلى مستوى على الإطلاق، لذلك حاولت الحكومة البريطانية أكثر من أي وقت مضى تحقيق هدفها المتمثل بخفض صافي التدفقات «من مئات الألوف إلى عشرات الألوف من المهاجرين»‏[2].

ولكن بموجب قانون الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لا يمكن منع أي شخص من دولة عضو في الاتحاد الأوروبي حقَّ المجيء والعيش والعمل. وفي الوقت نفسه بطبيعة الحال يستفيد البريطانيون من هذا الحق أيضاً. وكانت النتيجة زيادة كبيرة في معدل الهجرة إلى بريطانيا، وخصوصاً من أوروبا الشرقية والجنوبية. ووفقاً لمكتب الإحصاءات الوطنية البريطانية، هناك حوالى 942000 مهاجر من شرق أوروبا، أغلبيتهم من الرومان والبلغار يعملون في المملكة المتحدة، جنباً إلى جنب مع حوالى 791.000 ألف مهاجر من أوروبا الغربية‏[3] فقد وصل صافي الهجرة إلى بريطانيا حوالى 330.000 ألف شخص في عام 2015، أكثر من نصفهم هم من الاتحاد الأوروبي، ويشعر البريطانيون أن المهاجرين أثروا بصورة كبيرة على تكلفة الاقتصاد وعلى الإيرادات الضريبية؛ وأن هويتهم الوطنية كانت تتعرض لهجوم (فالقيم البريطانية التقليدية يجري تهميشها من خلال التركيز على تلبية حاجات الفئات الأجنبية وأديانهم ومعتقداتهم؛ وأن هذا التدفق يشكل ضغطاً كبيراً على التعليم والرعاية الصحية والإسكان‏[4]، علماً أن ما يقرب من 1/3 من هؤلاء الناس يأتون لأسباب تتعلق بالعمل. فضـلاً عن ذلك، ففي السنوات الأخيرة تم تمرير التشريعات الخاصة بنظام المستشفيات في المملكة المتحدة وهي أن تكون مفتوحة بالكامل لأعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين. هذا النظام يكلف المليارات للمملكة المتحدة سنوياً، وأدى هذا إلى زيادة تكلفة الأطباء والممرضين الإضافيين فقط، ولكنه أدى أيضاً إلى زيادة فترات الانتظار للمواطنين البريطانيين الذين دفعوا الضرائب للحفاظ على هذه الخدمة قيد التشغيل‏[5].

2 – السيادة

يرى البعض أن عضوية الاتحاد الأوروبي هي غير ديمقراطية لأن المفوضية الأوروبية، مؤسسة غير منتخبة، ولديها احتكار على كل تشريعات الاتحاد الأوروبي (هذه التشريعات لم يتم التصويت عليها في البرلمانات الوطنية‏[6]، كما أن لديها القدرة على إصدار لوائح ملزمة تلقائياً لجميع الدول الأعضاء‏[7].

إن عضوية الاتحاد الأوروبي تنطوي على التخلي عن بعض السيطرة على الشؤون الخاصة للدول، ويرى النائب العمالي كيت هوي أن الاتحاد الأوروبي هو «محاولة لتحل محل القوة الديمقراطية للشعب بإدارة دائمة لمصالح الشركات التجارية الكبرى»‏[8].

في الوقت الحاضر، بريطانيا لديها نفوذ كبير داخل الاتحاد الأوروبي. مع هذا فإن الخروج من الاتحاد يمكّن بريطانيا من بناء تعاون أقوى مع المؤسسات الدولية الأخرى، حيث ستكون بريطانيا قادرة على المطالبة بحق العودة إلى مياهها الإقليمية وبخاصة في ما يتعلق بالصيد، وتغيير ظروف العمل، وتحرير نفسها من التزامات الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة المتجددة وإنشاء سوق اقتصادية أكثر حرية‏[9]، فضـلاً عن الحرية لاستعادة العادات والتقاليد البريطانية‏[10].

وهذا يقود إلى فكرة أن البعض يرى أن المملكة المتحدة لم تكن أبداً «جزءاً من أوروبا» حيث إن الثقافة واللغة تجعلان المملكة المتحدة هي أقرب إلى الولايات المتحدة من بقية دول الاتحاد الأوروبي‏[11]. لذلك فإن حكومة المملكة المتحدة لن تخسر النفوذ في العالم من خلال الانفصال عن الاتحاد الأوروبي‏[12].

3 – التجارة

بسبب ظهور اقتصادات جديدة، ستكون بريطانيا بعد الخروج حرة في إبرام اتفاقيات التجارة مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من دون أي التزامات، بحيث يمكن تأمين صفقات تجارية مع دول مهمة أخرى مثل الهند والصين وأمريكا‏[13] وغيرها. لذلك يعتقد أن تجارة المملكة المتحدة مع بلدان الاتحاد الأوروبي لن تتأثر بالخروج، أولاً، نظراً إلى أن تجارة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي توفر القدرة على المساومة بما يكفي للسماح في التفاوض بشأن اتفاق التجارة الحرة بين الطرفين، بمثل ما تتمتع به النرويج أو سويسرا. وثانياً، ستكون بريطانيا قادرة على توسيع تجارتها مع البلدان من خارج الاتحاد الأوروبي من خلال المفاوضات المتعلقة بالاتفاقات التجارية الجديدة التي لن تتعرض للقيود التي تفرضها الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وثالثاً، ستكون المملكة المتحدة بمنأىً من الأعباء التنظيمية التكاليف المرتبطة بعضوية الاتحاد الأوروبي‏[14].

4 – الوظائف

تأثير مغادرة الاتحاد الأوروبي على الوظائف البريطانية يعتمد على تفاعل معقد من العوامل المذكورة أعلاه: التجارة والاستثمار والهجرة. ويرى المؤيدون للاتحاد الأوروبي أن ثلاثة ملايين وظيفة يمكن أن تضيع إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكن في الوقت نفسه سيتم خلق فرص عمل جديدة، حيث إن انخفاض الهجرة يعني المزيد من فرص العمل للبريطانيين‏[15]، الذين سيبدأون بعد ذلك الإنفاق في الاقتصاد البريطاني، حيث إن معظم مواطني الاتحاد الأوروبي يقومون بإرسال المال إلى ديارهم، لذلك هذا بالتأكيد ليس في مصلحة المملكة المتحدة، فضـلاً عن كون المتقاعدين الذين يعيشون في إسبانيا وغيرها سيضطرون إلى المغادرة والعودة إلى المملكة المتحدة، إذ إن المعاشات التقاعدية التي تدفع لهم (من قبل المملكة المتحدة بعد ذلك سيتم إنفاقها في المملكة المتحدة وليس في إسبانيا، وبالتالي يعد توزيعها مرة أخرى في البلاد‏[16].

5 – رسوم العضوية والضرائب

إن مغادرة الاتحاد الأوروبي تؤدي إلى توفير التكاليف على الفور، حيث إن البلاد لن تسهم في ميزانية الاتحاد الأوروبي، إذ إنه في عام 2015، دفعت بريطانيا حوالى 13 مليار جنيه استرليني كرسوم عضوية للاتحاد الأوروبي، لكنه تلقى أيضاً 4.5 مليار جنيه استرليني كقيمة للإنفاق، لذلك كانت المساهمة الصافية في المملكة المتحدة حوالى 8.5 مليارات جنيه استرليني، أي حوالى 7 بالمئة ممّا تنفقه الحكومة البريطانية على الخدمات الصحية الوطنية في كل عام‏[17]، وهذا مبلغ كبير جداً ويؤدي إلى الاستياء من قبل الكثير من الناس. وإذا حدث الخروج، فيمكن استخدام هذه الأموال بشكل فعّال في مجال البحث العلمي والصناعات الجديدة‏[18].

ويضطر دافعو الضرائب البريطانيون إلى مساعدة الدول الأوروبية الأخرى بدلاً من الحصول على السلع والخدمات من هذه الدول، حيث لا تزال الضرائب البريطانية تستخدم لإعطاء الحكومات الأوروبية الأخرى مبالغ ضخمة من المال. وهذا يحرم الشعب البريطاني العمل والمزايا التي يجب أن يكون عليها المواطن البريطاني‏[19].

6 – الاقتصاد

يمكن أن يكون الاتحاد الأوروبي عبئاً على الاقتصاد البريطاني، حيث يتم تخصيص مبلغ ضخم من المال للإنفاق في السياسات الزراعية المشتركة، مثـلاً، بسبب البيروقراطية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي‏[20]. يعتقد البعض أن البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي هو مسألة غير حيوية لاقتصاد المملكة المتحدة، فعند النظر إلى الفرص التجارية لبريطانيا نجدها أكثر شمولية مع العالم، فالخروج من الاتحاد الأوروبي سوف يسمح لها باتخاذ القرارات المستقلة اللازمة لتحسين التجارة الثنائية مع دول البريكس مثـلاً وغيرها من الدول. وهذا سيؤدي إلى تعزيز العلاقات السياسية مع هذه الدول. فضـلاً عن المذكور آنفاً يمكن القول إنه نظراً إلى قربها الجغرافي من أوروبا، فالتجارة مع الدول داخل الاتحاد الأوروبي ستظل مساهماً حيوياً وهاماً لاقتصاد المملكة المتحدة. وفي حال ترك بريطانيا الاتحاد الأوروبي، سيكون لديها المزيد من المرونة في تحديد البلدان التي ستنخرط معها سياسياً واقتصادياً. إذا روعيت هذه الفرصة والاستفادة منها بشكل مناسب من قبل الحكومة، إذ إن ترك الاتحاد الأوروبي يمثل بداية العصر الذهبي للاقتصاد البريطاني‏[21].

7 – الأمن

يقول العقيد ريتشارد كيمب، وهو رئيس سابق للفريق الدولي لمكافحة الإرهاب في مكتب رئيس الوزراء، «إن خروج بريطانيا سيكون مفيداً أمنياً حيث سنكون مرة أخرى قادرين على تحديد من يدخل ومن لا يدخل المملكة المتحدة»‏[22]، إذ إن الميزة الرئيسية ليوروبول هو أنه يتم تعقب واعتقال المجرمين الذين يعبرون الحدود من قبل القوات المتعددة الجنسيات. ومع ذلك، فبريطانيا تعد جزيرة، واحتمال عبور المجرمين لحدودها منخفض جداً، ما يجعل الميزة الرئيسية ليوروبول لا حاجة لها إلى حد ما، وإذا كانت أهداف بريطانيا هي محاربة الإرهاب العالمي فمن المؤكد أنه سيكون أكثر فائدة من خلال تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة حيث سيكون التركيز أقوى كثيراً على معالجة هذه المسألة‏[23].

يرفض البعض مقولة أن خروج بريطانيا يهدد مسائل الأمن البريطاني عن طريق الحد من تبادل البيانات والمعلومات بسبب الحقائق التالية: أولاً، في مجال السياسة الخارجية والدفاع، يصرون على أن حلف الناتو هو المهم. ثانياً، يقولون إن ما يهم الاستخبارات البريطانية، هي المجموعة الرئيسية المسماة «العيون الخمس» التي تربط بين بريطانيا وأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. وبعد الخروج سيكون من السهل تكرار التعاون مع أوروبا. ثالثاً، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يضر ليس فقط لأن بعض الأعضاء لا يعول عليهم ولكن لأن محكمة العدل الأوروبية يمكن أن تحكم في القضايا الأمنية. مما يهدد السلامة في بريطانيا‏[24].

8 – الاستثمار

في ما يتعلق بالاستثمار على المدى الطويل، هناك وجهات نظر متباينة حول هذا الموضوع: فالمؤيدون لأوروبا يعتقدون أن مكانة المملكة المتحدة سوف تتضاءل بكونها واحدة من أكبر المراكز المالية في العالم، إذ لم يعد ينظر إليها على أنها بوابة الاتحاد الأوروبي للبنوك الأمريكية، في حين أن مؤيدي الخروج يشيرون إلى أن الاتحاد الأوروبي يسيطر على اللوائح، والخروج سيساعد بريطانيا على إعادة اكتشاف نفسها كاقتصاد قوي على غرار سنغافورة‏[25].

9 – صيد السمك

تم وضع حد لسياسة الصيد البريطانية بسبب سياسة التكامل الأوروبي، التي تهدف إلى إنشاء أسطول صيد الأسماك خاص بالاتحاد الأوروبي في مياه الاتحاد في إطار تطبيق نظام تصاريح الاتحاد الأوروبي للرقابة ‏[26]. لذلك سيساعد الخروج بريطانيا على أن تكون قادرة على المطالبة بالعودة إلى مياهها الإقليمية بالصيد، وتغيير ظروف العمل، وتحرير نفسها من التزامات الاتحاد الأوروبي حول هذا الموضوع‏[27].

ثانياً: تداعيات خروج بريطانيا داخلياً

في طبيعة الحال فإن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي سيولِّد تداعيات قد تكون سلبية على الداخل البريطاني، وهي كما يلي:

1 – الأمن

في الحديث عن الأمن، نجد أن اثني عشر من كبار الشخصيات العسكرية البريطانية، بما في ذلك رؤساء سابقون لمكاتب وزراء الدفاع، ومنهم اللورد برامول وجوك ستيراب، يقولون إن الاتحاد الأوروبي هو «عمود متزايد الأهمية لأمننا»، ولا سيّما في هذا الوقت من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط . وقال وزير الدفاع مايكل فالون «إنه ومن خلال الاتحاد الأوروبي يمكننا تبادل السجلات الجنائية وسجلات المسافرين، والعمل معاً على مكافحة الإرهاب. نحن بحاجة إلى الوزن الجماعي للاتحاد الأوروبي عند التعامل مع الإرهاب»‏[28].

في العهد الجديد أي ما بعد الخروج، تريد المملكة المتحدة أن تظهر لبقية العالم أنها لا ترغب في الانعزالية، ولا تزال ملتزمة تماماً بحلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة، ونتيجة لذلك يتعين على وزارة الخارجية البريطانية العمل بجد لمنع هذا الخروج لأنه يحد من نفوذ بريطانيا على الساحة العالمية. وقد يكون من الصعب العمل مع دول الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا مثل سورية وروسيا وإيران والأزمات غير المتوقعة‏[29].

2 – التجارة

إحدى المشكلات التي ستواجه بريطانيا في حال الخروج هي أن الأغلبية العظمى من تجارة المملكة المتحدة هي مع الاتحاد الأوروبي (حوالى 50 بالمئة، وهي قد تكون معرضة للخطر، إذ إن اقامة علاقات تجارية مع بلدان خارج الاتحاد الأوروبي لن يكون فكرة جيدة، وسيجعلهم يواجهون صفقات تجارية جديدة، وقضايا التعريفات الجمركية، كما هو الحال في التعامل مع الصين وأمريكا والبرازيل مثـلاً. وهذا قد يستغرق سنوات من المفاوضات‏[30]. إن حكومة المملكة المتحدة تأمل في تأمين صفقات تجارية مع دول من خارج الاتحاد الأوروبي في غضون عامين. لكن المفاوضات قد تستمر لفترة أطول من ذلك كثيراً؛ على سبيل المثال استغرق اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وكندا حوالى سبع سنوات؛ كما أن صفقة مع الصين مثـلاً قد تكون ذا حدين، إذ في حين أن المملكة المتحدة ستبيع الكثير من البضائع إلى الصين، ولكن في الوقت نفسه قد تستورد البضائع الرخيصة التي تضر الشركات البريطانية‏[31].

ومن شأن اتفاق تجاري أكثر محدودية مع الاتحاد الأوروبي أن يعطي المملكة المتحدة قدرة أقل على الوصول إلى سوق أوروبية واحدة، بما في ذلك الخدمات، التي تشكل ما يقرب نحو 80 بالمئة من الاقتصاد البريطاني، لذلك فإذا صوّتت المملكة المتحدة لمصلحة مغادرة الاتحاد الأوروبي، فسوف تفقد الوصول إلى اتفاقيات تجارية مع أكثر من 50 دولة من خارج الاتحاد الأوروبي، إذ إن المملكة المتحدة تسعى لإعادة التفاوض على هذه الصفقات، ولكن هذا من شأنه أن يستغرق سنوات وليس هناك ما يضمن أن المملكة المتحدة ستتمكن من التفاوض على شروط جيدة مثل تلك التي تتمتع بها اليوم‏[32]. فضـلاً عن ذلك سيكون هناك ضرر أيضاً في المقام الأول من طريق الحد من التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي، حيث ستمنع مغادرة الاتحاد الأوروبي بريطانيا من الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة في المستقبل والتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، مثل التجارة عبر الأطلسي والشراكة الاستثمارية (TTIP) التي يُجرى حالياً التفاوض عليها مع الولايات المتحدة‏[33].

ستكون هناك خسائر ثابتة نتيجة انخفاض التجارة مع الاتحاد الأوروبي من شأنها خفض الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة بنسبة تتراوح بين 1.1 بالمئة في السيناريو المتفائل و3.1 بالمئة في المتشائم. وستكون هناك خسائر بسبب انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، والهجرة الأقل مهارة‏[34]. لذلك فإن ترك الاتحاد الأوروبي (Brexit) سيخفض التجارة‏[35] بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بسبب ارتفاع الحواجز غير الجمركية والرسوم الجمركية والتجارة وغيرها. فضـلاً عن ذلك، ستكون استفادة المملكة المتحدة أقل في حال الخروج‏[36].

 

3 – الاقتصاد

توقع الاقتصاديون أن التصويت لمصلحة المغادرة من شأنه أن يلحق ضرراً كبيراً للاقتصاد البريطاني، بل سعى مارك كارني، رئيس بنك إنكلترا، لمعالجة تلك المخاوف قائلاً إن البنك جعل خططاً واسعة للطوارئ واتخذت «جميع الخطوات الضرورية» للاستعداد‏[37]. وعلى المدى المتوسط، يمكن أن تفقد مدينة لندن مكانتها في الأعمال لمصلحة منافسين مثل باريس وفرانكفورت ودبلن، إذ إن بعض الشركات يمكن أن تتحرك للخروج من المملكة المتحدة بدلاً من الانتظار لمعرفة ما هي العلاقة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي‏[38].

أما تداعيات الخروج على الجنيه، فقد انخفض الجنيه الاسترليني بالفعل إلى أدنى مستوى له منذ 30 عاماً. لذلك يتساءل المستثمرون إذا كانت حكومات منطقة اليورو لديها الإرادة السياسية والدعم الشعبي لتعزيز بنية الاتحاد النقدي الأوروبي‏[39]. إن عدم اليقين حول التكاليف الاقتصادية للتصويت لمغادرة الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى التراجع الملحوظ في الجنيه، ولكن على أساس سنة كاملة تفترض التوقعات أن التصويت للخروج يعني أن متوسط قيمة الجنيه الإسترليني مقابل اليورو والدولار الأمريكي في عام 2016 سيكون أقل بنسبة 14 – 15 بالمئة مما كان عليه في عام 2015‏[40].

أما في ما يخص الاستثمار، فنجد أن هناك ثلاثة أسباب على الأقل لاحتمال تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر قد يتراجع إذا غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي‏[41]:

  • أولاً، إن المملكة المتحدة بمفردها لن تكون منصة تصدير جذابة للشركات متعددة الجنسيات لأنها لا تتحمل تكاليف كبيرة محتملة من التعريفات الجمركية وغير الجمركية عند التصدير إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي.
  • ثانياً، لدى الشركات متعددة الجنسيات إجراءات التوريد المعقدة والعديد من تكاليف التنسيق بين المقر الرئيسي والفروع المحلية. وهذا من شأنه أن يكون أكثر صعوبة إذا غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، فإن نقل الموظفين فيما بين الشركات سيكون أكثر صعوبة مع وجود ضوابط الهجرة أكثر صرامة.
  • ثالثاً، عدم اليقين بشأن شكل ترتيبات التجارة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي سيميل لكبح الاستثمار الأجنبي المباشر. وقد رأى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أن المملكة المتحدة ستكون أقل جاذبية للمستثمرين اليابانيين في المستقبل‏[42]. كل هذا قد يؤدي إلى أن يميل الاقتصاد البريطاني إلى الركود لمدة عام‏[43].

وفي ما يخص التعليم قد يضطر الطلاب إلى دفع الرسوم الدراسية البريطانية وسيدفع هؤلاء ما يصل إلى 9000 جنيه استرليني في السنة مقابل التعليم. ففي معظم دول الاتحاد الأوروبي هو إما أرخص أو مجاناً كما في حالة الدنمارك، التي تسمح فقط للبريطانيين بالدراسة هناك في الاتحاد الأوروبي‏[44].

قد يتباطأ في عام 2017 نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.5 بالمئة، أي نحو 1.2 بالمئة أقل‏[45]، ونجد أن الأسعار سوف ترتفع أكثر في مجال النقل (رفع السعر ليتراوح بين 4 بالمئة و7.5 بالمئة)، الكحول (4 بالمئة إلى 7 بالمئة) والمواد الغذائية (3 بالمئة إلى 5 بالمئة) والملابس (2 بالمئة إلى 4 بالمئة)، إذ تعتمد هذه المنتجات كثيراً على الواردات. على النقيض من ذلك، فإن أسعار الخدمات سترتفع حسب مستوى معيشة كل فئة، والدخل سيكون أقل بعد الخروج نظراً إلى هذه الأسعار المرتفعة. سيعاني أصحاب الدخول المتوسطة أكثر قليـلاً، وإذا أخذنا في الاعتبار الآثار الدينامية للمدى الطويل للخروج على الإنتاجية، فإن الأسرة المتوسطة تفقد ما بين 6.1 بالمئة و13.5 بالمئة من دخولها الحقيقية سنوياً (2519 جنيهاً استرلينياً إلى 5573 جنيهاً استرلينياً‏)[46].

ستكون الخسائر في الدخل الحقيقي للأسَر الفقيرة 1.7 بالمئة إلى 3.6 بالمئة في المدى القصير و5.7 بالمئة لتصل إلى 12.5 بالمئة في المدى الطويل. أما للأسَر الغنية، فالخسائر على المدى القصير ستكون 1.8 بالمئة إلى 3.9 بالمئة، وخسائر على المدى الطويل 6 بالمئة إلى 13.4 بالمئة، وعند النظر إلى أسَر محددة مثل المتقاعدين والأسَر التي لديها أطفال نجد أن المشكلة مشتركة على نطاق واسع. على سبيل المثال، حتى في المدى القصير، سيفقد المتقاعدون ما بين 2 بالمئة و4 بالمئة من دخلهم‏[47].

إذا كانت بريطانيا ترغب في مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإنها ستواجه معضلة صعبة: الحاجة إلى التفاوض للوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي في مقابل استمرار التمسك بنظامه، أو فقدان القدرة على الوصول مقابل السيادة التنظيمية التي من شأنها أن تكون وهمية إلى حد كبير‏[48].

4 – الصحة والبيئة

حذر وزير الصحة جيرمي هانت من أن مغادرة الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تؤدي إلى خفوض في الميزانية وهجرة الأطباء والممرضين إلى الخارج‏[49]. وعند الحديث عن البيئة، فسوف تتغير سياسات الاتحاد الأوروبي البيئية بعد خروج المملكة المتحدة المتهمة بالتقاعس في العديد من مجالات السياسة البيئية إذ بفضل ضغط الاتحاد الأوروبي اتخذت الحكومات البريطانية المتعاقبة خطوات لتنظيف الأنهار والشواطئ. وفي الوقت نفسه المملكة المتحدة لا يزال أمامها طريق طويل لتلبية معايير الاتحاد الأوروبي لتلوث الهواء مثـلاً‏[50].

5 – الهجرة

إن خفض أعداد المهاجرين سيضر الشركات البريطانية والخدمات العامة، التي تعتمد على البنوك الفرنسية وشركات البناء البلغارية والأطباء الإيطاليين‏[51]. والكثير من الواردات والصادرات تأتي من الاتحاد الأوروبي، مثـلاً البناة البولنديون يأتون من الاتحاد الأوروبي، والطهاة الفرنسيون يأتون من الاتحاد الأوروبي. لذلك فبريطانيا في حاجة إلى الاتحاد الأوروبي لملء الكثير من فرص العمل في هذا البلد من دون أن يكون بعيداً من الاتحاد الأوروبي‏[52].

6 – المكانة

في القمم الدولية، بريطانيا ممثلة مرتين، مرة بوزير الخارجية ومرة من خلال ممثلية الاتحاد الأوروبي السامية. وقد ساعد هذا على التعاون لمكافحة قضايا مثل الإيبولا والقرصنة في أفريقيا. وبخروجها من الاتحاد قد تفقد بريطانيا معقلها في الالتزامات الدولية التي تتمتع بها الآن. بريطانيا كذلك قد تفقد بعضاً من نفوذها العسكري، لذلك يعتقد الكثيرون أن أمريكا سوف تنظر إلى بريطانيا لتكون حليفاً أقل فائدة إذا تم فصلها عن أوروبا‏[53].

لن تقتصر تكاليف الخروج على المدى الطويل على الاقتصاد، فقد يكون هناك تفكك للمملكة المتحدة، وبخاصة في ما يتعلق بموقف اسكتلندا وأيرلندا الشمالية الرافض لعملية الخروج. فالحزب الوطني الإسكتلندي أصدر بياناً قال فيه إن اسكتلندا «ترى مستقبلها في أوروبا»، ما يشير إلى احتمال استفتاء آخر على مغادرة المملكة المتحدة. وبالمثل، دعا حزب الشين فين في أيرلندا الشمالية لإجراء استفتاء على لمّ الشمل الأيرلندي‏[54].

7 – الوظائف

إن عملية الخروج قد تصبح أكثر صعوبة للاحتفاظ أو نقل الموظفين من المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، والعكس صحيح، وهي عملية يمكن أن تؤدي إلى فقدان المهارات، وعدم القدرة على خدمة العملاء في الدول المعنية وفقدان المواهب‏[55]. نتيجةً لذلك، سوف تقلص هوامش الربح بما قد يؤدي إلى خفض الوظائف. ومن المتوقع أن يرتفع معدل البطالة في عام 2017، وتصل ذروتها إلى 6 بالمئة في عام 2018. وينعكس هذا على زيادة 230.000 في عدد العاطلين من العمل مقارنة مع عام 2015، وحوالى 380.000 أكثر من التوقعات الأساسية لعام 2018‏[56].

يعطي سوق العمل البريطانيين مجموعة أكبر من فرص العمل للاختيار من بينها، إذ إن مهاراتهم هي قليلة مقارنة بالمهارات الموجودة لدى الدول الأعضاء الأخرى، وقد يكون دخلهم أعلى مما هو عليه في ظل الاتحاد.

وعند الحديث عن موقف الأحزاب البريطانية حول مسألة الخروج نجد أن هناك انقساماً في الرأي، إذ ينقسم حزب المحافظين حول مسألة الخروج، فما يسمى «موديرنايزرز»، مثل ديفيد كاميرون وجورج أوزبورن حرصاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن البعض الآخر يعدون الاستفتاء فرصة للفوز بسيادة المملكة المتحدة المفقودة‏[57]. أما حزب العمال فقد شن حملة ضد الاستفتاء على الخروج، لكنه يقول الآن إنه يجب احترام النتيجة‏[58]، إذ كان الحزب مؤيداً للمشروع الأوروبي ومكانة بريطانيا داخله. حزب الخضر يريدون في الغالب البقاء في المشروع الأوروبي، ولكنهم ليسوا موحدين تماماً، إذ تدعو البارونة جونز، واحدة من أكبر الشخصيات في الحزب، إلى الخروج‏[59].

الحزب الوطني الإسكتلندي هو الآخر من مؤيدي الاتحاد الأوروبي، ولكن هناك حديث بأن بعض القوميين قد يصوتون تكتيكياً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لتسريع الطريق إلى استقلال اسكتلندا مستقبـلاً.

أما الأحزاب الأيرلندية فترى أن أيرلندا ستخسر جراء عملية الخروج أكثر من المملكة المتحدة نفسها. وبناء على ذلك، فإن معظم الأحزاب قامت بحملة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فيما الحزب الاتحادي الديمقراطي هو الوحيد الذي دعا إلى خروجها.

الحزبان الاشتراكي والديمقراطي الأيرلندي عارضا الخروج قائلَين إنه يتم «ضد إرادة الشعب في أيرلندا الشمالية»، حيث صوَّت معظم الناس على البقاء في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد اتهم حزب الشين فين الحكومة المحافظة «بالسعي لفرض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على أيرلندا». ويريد الحزب أن يكون لدى أيرلندا الشمالية «وضعاً خاصاً محدداً» داخل الاتحاد الأوروبي، أما حزب أولستر يونيونيست (Ulster Unionist) فقبِل الاستفتاء، وأعلن الحزب الاتحادي أنه من المستحسن، في المقابل، أن تبقى أيرلندا الشمالية في الاتحاد الأوروبي بالرغم من أن جميع أعضاء الحزب لم يوافقوا على ذلك ولكنه سيحترم نتيجة الاستفتاء‏[60].

هذه بالطبع ليست مواقف كل الأحزاب البريطانية، ولكن أغلب الأحزاب ذات الحضور الفاعل في بريطانيا.

ثالثاً: تداعيات خروج بريطانيا على الاتحاد الأوروبي

إن الانسحاب البريطاني يثير مجموعة كاملة من الاحتمالات حول تغييرات في توازن القوى وقيادة الاتحاد الأوروبي، فالانسحاب يمكن أن يعزز المحور الفرنسي – الألماني، الذي غالباً ما كانت لندن تحقق التوازن بين الآخرين‏[61]. لذلك من شأن الانسحاب البريطاني أن يؤدي إلى ثلاثة تحديات رئيسية ستواجه الاتحاد الأوروبي: التحدي الأول، هناك مشكلة حول كيفية إدارة عملية الانسحاب البريطاني؛ والثاني، هو كيفية تشكيل التعاون بين الاتحاد الأوروبي والدول البريطانية التي ترفض الانسحاب؛ أما التحدي الثالث والأخير فهو كيف ينبغي على الاتحاد الأوروبي إدارة العلاقات مع المملكة المتحدة بعد الانسحاب‏[62].

في الوقت نفسه يكشف الاتحاد الأوروبي، عن وجود مخاوف واسعة النطاق تتكون من أربعة عناصر هي‏[63]:

أولاً، إن الخروج يُعَد سابقة، لذلك ففي المستقبل أي بلد سيغادر الاتحاد سيوقع ضرراً فيه، وهو ما قد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي. هناك جدل حول ما إذا كان اليورو يمكن البقاء على قيد الحياة، ولكن الفوضى التي أطلقتها خروج بريطانيا سيكون على نطاق مختلف تماماً وبصرف النظر عن الوقت الذي سيحتاج إليه الاتحاد الأوروبي لمراجعة القوانين وإعادة المفاوضات وغيرها.

وفي هذا نجد أن هناك العديد من التصاريح من بعض دول الاتحاد الأوروبي المشجعة وغير المشجعة للخروج ومنها في برلين، إذ قال وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، «يبدو وكأنه يوم حزين لأوروبا وبريطانيا»‏[64].

مارين لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية المحافظ في فرنسا، صرحت بأنه «انتصار للحرية»، وأنه بات من الضروري «أن يعقد استفتاء مماثل في فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي»‏[65]. وعلى هذا النحو قال السياسي اليميني المتطرف الهولندي خيرت فيلدرز، زعيم حزب الحرية المناهض للهجرة: مرحى للبريطانيين، الآن حان دورنا. الوقت لإجراء الاستفتاء الهولندي. كذلك فقد غرّد ماتيو سالفاني، الزعيم المناهض للمهاجرين في حزب رابطة الشمال الإيطالي، فقال: مرحى لشجاعة المواطنين الأحرار شكراً للمملكة المتحدة، والآن حان دورنا‏[66].

ثانياً، إن أوروبا من دون بريطانيا ستكون أصغر حجماً، فالمملكة المتحدة تشكل ما يقرب حوالى 12.5 بالمئة من سكان الاتحاد الأوروبي، و14.8 بالمئة من اقتصاده، و19.4 بالمئة من صادراته (باستثناء التجارة البينية والاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، تدير بريطانيا عجزاً تجارياً بلغ 28 مليار جنيه استرليني، وتعد موطناً لحوالي مليونين ونصف المليون من مواطني الاتحاد الأوروبي، وواحدة من أكبر المساهمين في ميزانية الاتحاد الأوروبي (حوالى 12 بالمئة من الميزانية). وهناك مخاوف أيضاً من أن خروج البريطانيين من شأنه أن يؤدي إلى تحمل ألمانيا المزيد من العبء المالي‏[67].

ثالثاً، على مر السنين، أدى السياسيون والدبلوماسيون البريطانيون من جميع الأطراف الرئيسية دوراً مهماً في إطلاق العديد من المشاريع الأوروبية الكبرى والملهمة، مثل اليورو (روي جينكنز)، وتوسيع شبكة الدفاع الأوروبية (توني بلير في سان مالو)، والقدرة التنافسية الاقتصادية (جدول أعمال لشبونة).

رابعاً، الخطر على أوروبا هو فوري من خلال التأثير في الدول المجاورة للمملكة المتحدة. ستكون مثـلاً هناك رقابة الحدود، مع وجود تداعيات سلبية على اقتصاد هذه الدول.

إن الاتحاد الأوروبي سوف يصبح «قوة صغيرة» بعد الخروج، إذ ستصبح أوروبا أقل أهمية كثيراً وتأثيرها في السياسة الخارجية أقل، في إطار الأمم المتحدة واتخاذ القرارات على المستوى العالمي، سوف تتضاءل، ليس فقط جغرافياً، ولكن اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً‏[68].

قد يشعر الاتحاد الأوروبي بفقدان المملكة المتحدة بشكل أكثر حدة، لأنها هي واحدة من أكبر القوى العسكرية في أوروبا (ما يمثل 25 بالمئة من الإنفاق على الدفاع في الاتحاد الأوروبي و40 بالمئة من إنفاق الاتحاد الأوروبي على الأبحاث الدفاعية والتطوير)‏[69]، وهي واحدة من دول الاتحاد الأوروبي القليلة القادرة على تسلُّم القيادة، لذلك فخروج المملكة المتحدة من المحتمل أن يترك الاتحاد الأوروبي مع عدد أقل من الأصول والقدرات الموجودة تحت تصرفها، على الرغم من أن المملكة المتحدة يمكن أن تختار المساهمة في البعثات العسكرية للاتحاد الأوروبي كدولة طرف ثالث‏[70]. وفي الوقت نفسه سيكون الاتحاد الأوروبي بلا بريطانيا أكثر اعتماداً على أمريكا للمساعدة الأمنية‏[71]، وعلى غرار استراتيجية مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي عام 2005 فإن بريطانيا هي الرائدة في مجال استراتيجيات مكافحة التطرف ومجالات أخرى مثل أمن الطيران، فإذا غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد سيفقد الوصول إلى الشبكة الدولية للمملكة المتحدة من الروابط الاستخبارية والأمنية؛ وأنه قد يكون من الصعب في الوقت نفسه على دول أخرى في الاتحاد الأوروبي التي تواجه التهديدات الإرهابية من الوصول أيضاً‏[72].

سيفقد الاتحاد الأوروبي واحدة من كبرى القوى الأوروبية، فبريطانيا لديها القوة الناعمة التي تشمل الثقافة والقيم السياسية والدبلوماسية، فضـلاً عن القوة الصلبة التي تشمل العسكرية والمالية والسياسة الخارجية – وهو ما يوفر مصدراً إضافياً لنفوذ الاتحاد الأوروبي‏[73].

خاتمة

بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي ستواصل بريطانيا الالتزام معه بالمعاهدات والقوانين، ولكن لن تشارك في أي عملية صنع قرار، بينما تتفاوض على اتفاق الانسحاب وشروط العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي. قد يستغرق الخروج وقتاً أطول من عامين، وهذا يتوقف على كيفية سير المفاوضات‏[74]، على الرغم من أنه بموجب المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، سيكون لديها سنتان للتفاوض على شروط الخروج‏[75].

في الواقع إن أمام بريطانيا بعض الخيارات المطروحة لمعالجة مشاكل الخروج وهي:

أولاً، النموذج النرويجي، حيث يمكن للاتحاد الأوروبي التفاوض على علاقة مع المملكة المتحدة أقرب إلى تلك التي لديه مع النرويج. وهي علاقة سلسة نسبياً‏[76].

ثانياً، أن تحذو حذو سويسرا، وهي عضو رابطة التجارة الأوروبية الحرة، ولكن لم توقع على المنطقة الاقتصادية الأوروبية. بهذه الطريقة ليس على المملكة المتحدة أن تلتزم بقواعد الوكالة الأوروبية للبيئة. لكن المملكة المتحدة لا تزال بحاجة إلى دفع بعض المساهمات في ميزانية الاتحاد الأوروبي إذا أرادت أن تدخل في الاتفاقيات الثنائية معه على التجارة‏[77]. وهذه الاتفاقيات الثنائية تحكم الوصول إلى قطاعات محددة من سوق واحدة أو منطقة التجارة الحرة كلها‏[78].

ثالثاً، إذا كانت بريطانيا تريد تجنُّب المشاركة في الاتفاقات التجارية التي تنطوي على شبكة كبيرة من المساهمات المالية للاتحاد الأوروبي، فيمكنها أن تختار العمل في إطار قواعد منظمة التجارة العالمية (WTO). في هذا الخيار، تواجه المملكة المتحدة ما يسمى «الدولة الأَولى بالرعاية» وهي دفع الرسوم الجمركية، تماماً مثل الولايات المتحدة. وبالمثل، فإن على الاتحاد الأوروبي دفع هذه التعريفات عند التصدير إلى المملكة المتحدة‏[79].

رابعاً، إن التأثير الكلي للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة سيكون من الصعب قياسه كمياً. مع ذلك، فقد حددت الدراسات أن حالة عدم اليقين التي من شأنها أخذ المملكة المتحدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي سيكون مدمراً على كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على نطاق أوسع‏[80]. وبالرغم من كل هذا سيبقى الاتحاد الأوروبي أكبر سوق في العالم والمملكة المتحدة أكبر شريك تجاري له‏[81].

إن إبرام اتفاق الانسحاب ووضع إطار للعلاقات المستقبلية يكونان فقط نهاية البداية لعلاقة أطول من ذلك كثيراً مع بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي. هذا من شأنه في المرحلة الثانية أن يتطلب من الاتحاد الأوروبي جعل أربع مجموعات من التعديلات للتعامل مع غياب بريطانيا. 1 – القيادة والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي سوف تواجه فترة من التغيير. 2 – إن المملكة المتحدة لن تختفي تماماً من المناقشات أو الشبكات السياسية في الاتحاد الأوروبي. وسيحتاج كلا الجانبين إلى التوصل إلى اتفاق على كيفية إدارة الإطار المتفق عليه للعلاقات المستقبلية. 3 – يتعين على الاتحاد الأوروبي مواجهة التداعيات الجيوسياسية الأوسع لانسحاب المملكة المتحدة. 4 – سيتعين على الاتحاد الأوروبي التعامل مع الانسحاب البريطاني ولو بصعوبة كالتكامل معها‏[82].

إن خروج بريطانيا سوف يضر التماسك والثقة والسمعة الدولية للاتحاد الأوروبي، حيث إن هذا الخروج سيقوِّض النظام السياسي والاقتصادي الليبرالي الذي تحظى به كلٌّ من بريطانيا والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما وأصدقاؤهما في جميع أنحاء العالم‏[83].

وعند الحديث عن علاقة بريطانيا مع الولايات المتحدة مثـلاً، نرى أن خروج بريطانيا سيؤثر في أمريكا بالأمور التالية: أولاً، السفر إلى المملكة المتحدة سيكون أرخص؛ ثانياً، سيركز ترامب أكثر على الهجرة مستقبـلاً؛ ثالثاً، سيولد الخروج ضغطاً على العلاقات الخاصة بين البلدين؛ رابعاً، قد تترك أوروبا أقل استقراراً؛ خامساً، وأخيراً يمكن أن يضر الخروج الاقتصاد الأمريكي‏[84].

تتمثل المصلحة الأساسية للولايات المتحدة بخروج المملكة المتحدة بأقصى قدر ممكن من السرعة بما يأتي: ستستعيد الولايات المتحدة الحرية للتفاوض بشأن اتفاقياتها التجارية الخاصة، ومن ثم يتعين على الولايات المتحدة التحرك بسرعة لإبرام اتفاقية تجارة حرة معها رسمياً.
كما ينبغي عليها أن تدرك أن المصالح الأمريكية العديدة في أوروبا التي لا تتصل بالاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الأهم من ذلك، أي حلف شمال الأطلسي، لن تتضرر من الخروج، والواقع أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتيح فرصة للولايات المتحدة للتأكيد على القيمة التي تعلقها على علاقاتها الثنائية في جميع أنحاء أوروبا‏[85].

أما علاقة بريطانيا مع الشرق الأوسط عموماً والبلدان العربية خصوصاً، فلن تتأثر كثيراً بالخروج البريطاني لأن العلاقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية قوية بين الطرفين، وفي هذا الصدد قال بيان مشترك بين مجلس التعاون الخليجي والمملكة المتحدة: «سنعطي الأولوية، عندما تغادر المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، لبناء علاقات تجارية واقتصادية ممكنة وقوية»‏[86]، لذا بينما سعى البعض في المنطقة إلى التشديد على استمرارية علاقتهم بالمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدأ آخرون النظر في الطرائق التي يمكن أن تستفيد من الانقسام الحالي في قلب أوروبا‏[87]، إذ إن العلاقات الدفاعية والأمنية بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي مثـلاً – وكلها تقريباً ثنائية – تمتد على أسس عسكرية وعمليات مرتبطة بها، وتتمتع بريطانيا بالفعل بعلاقات في قضايا الدفاع والأمن مع الشرق الأوسط التي هي أعمق وأكثر اتساعاً منها مع أي مجموعة من الدول خارج الناتو، وأهمها مع بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة، ومع غيرها من البلدان العربية‏[88] .

وقد اقترحت بعض البدائل لعضوية الاتحاد الأوروبي وهي ما يأتي: الانضمام إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية (EEA)؛ الانضمام إلى اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا مع كندا والمكسيك والولايات المتحدة الأمريكية)؛ أو إنشاء منطقة تجارة حرة جديدة مع دول أخرى في الكومنولث، مثل أستراليا وكندا ونيوزيلندا والهند وجنوب أفريقيا. اقتراح بديل هو أن المملكة المتحدة لا ينبغي أن تشارك في أي من هذه المنظمات ولكن الاعتماد على عضوية منظمة التجارة العالمية (WTO) ومعاملة الدولة الأكثر رعاية لضمان الوصول إلى الأسواق العالمية بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. ويشير أنصار هذه الأفكار إلى توافر هذه البدائل المحتملة بسهولة وأنها سوف تحمل الفوائد الاقتصادية والسياسية الجيدة إلى المملكة المتحدة على الأقل مثل عضوية الاتحاد الأوروبي سابقاً.

 

قد يهمكم أيضاً  تركيا ما بين الاتحاد الأوروبي المتمنع ومنظمة شنغهاي المرحبة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاتحاد_الأوروبي #بريطانيا #المملكة_المتحدة #خروج_بريطانيا_من_الاتحاد_الأوروبي #انسحاب_بريطانيا_من_الاتحاد_الأوروبي #بريكست