يعَدّ مصطفى محسن أحد أهم علماء الاجتماع والتربية في المغرب، أولئك الذين كرّسوا جهودهم العلمية للتصدي لأهم إشكالات وقضايا التربية والتكوين والثقافة والتنمية، وذلك في علاقتها بالبناء الاجتماعي العام الذي تندرج في إطاره.

وهكذا، فإن محاولته استجلاء طبيعة التمفصلات القائمة بين المؤسسة التربوية ومحيطها السوسيوثقافي والحضاري الشمولي قد قاده إلى تأكيد واقعة كون غياب «المشروع المجتمعي التوافقي، الواضح والمتناغم المرجعيات والمكونات والمعالم والأهداف» هو أحد أهم العوامل المنتجة والمغذية للكثير من الأعطاب والاختلالات البنيوية المركبة التي يعرفها النظام التربوي – التكويني مغربيًا وعربيًا. بلغة أخرى، فإن غياب هذا «المشروع» المعني هنا ينعكس بصورة سلبية، على كل مكونات المنظومة التربوية والثقافية والقيمية والاجتماعية السائدة، ويخلق نوعًا من التفكك والاضطراب، ومن هشاشة التكامل والانسجام، وأحيانًا من التناقض، على مستوى أهداف وغايات ومضامين وآليات اشتغال مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية في سياق مجتمعي ما. فغياب حد أدنى من الانسجام والتكامل بين توجهات وأغراض وقيم وممارسات النظام التربوي – التكويني من جهة، وبين قيم ومقومات النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه، من جهة ثانية، يعد في منظور – مصطفى محسن – عربون إفلاس وتهافت هذا النظام التربوي والاجتماعي المذكور. ولعل من أهم آثار ومفاعيل ذلك هو تعثره أو حتى عجزه عن أن ينجح، بشكل ملحوظ، في أن تكون له مساهمة هادفة فعّالة في سيرورة تكوين وبناء «شخصية مواطنيّة فعّالة منتجة، ومنسجمة في نمط وعيها وتطورها ومستويات تفاعلاتها وعلاقاتها وممارساتها الاجتماعية». وذلك بدل أن تؤدي اختلالات ومآزم هذا النظام – ضدًا على المنشود والمنتظر – إلى إفراز «مخرجات بشرية» مضطربة الشخصية، مبعثرة الوعي والسلوك، مما قد ينتج منه ما هو أخطر من ذلك، مثل بعض ظواهر ومظاهر التطرف والانحراف المتعددة الجذور والامتدادات والتأثير.

في هذا الحوار الفكري المفتوح مع عالم الاجتماع مصطفى محسن، لن نقتصر على الاهتمام بإسهاماته السوسيولوجية والتربوية فحسب، وإنما سنحاول المساءلة التحليلية لمعالم البناء المعماري لـ «مشروعه الفكري العام». وذلك في مجمل علاقته بمقومات وشروط سياقه السياسي والثقافي والاجتماعي الوطني والقومي والكوني، الذي يؤطره. وذلك في محاولة منا لاكتشاف خلفياته الفكرية والأيديولوجية، وأطره النظرية والمنهجية المرجعية الموجهة لهمومه واهتماماته المعرفية، ولهواجسه النقدية، ولجهوده الفكرية والعملية في بعض مجالات وممارسات الإصلاح والتجديد والتنمية والتحديث والتنوير. وهذا هو ما سنسُوق بعضه بشكل مركز، في الأسئلة الآتية:

  • يلاحظ المتتبع لإسهاماتكم الفكرية، أن السمة الأساسية المميزة له هي الترحال الموضوعاتي بدل الاستقرار، ألا يؤثر هذا الترحال في تعميق بعض طروحاتكم؟ وما الهواجس المتحكمة فيه؟

– بدايةً، أود أن أستسمحك أخي الكريم (محمد الدحاني) في أن أتقدم إليك – أنت بالخصوص – بجزيل الشكر وعميق الامتنان على اهتمامك المتواصل بجل أعمالي السوسيولوجية والفكرية والأدبية وغيرها، ومواكبتك لها، قراءة وتحليلًا وتفكيكًا وإعادة بناء، ثم استخلاص ما تراه مناسبًا من خلاصات لهذه القراءة، ومن استنتاجات دالة مفيدة، عبرتْ عنها أعمالك المنشورة حول الموضوع بالذات.

وأستهل الفرصة هنا للتذكير – في هذا الاستهلال – بملاحظتين توضيحيتين أساسيتين:

أولًا: إن أهمية وراهنية وعمق الأسئلة التي يقترحها الحوار تدفعني إلى الإقرار – احترامًا لأعراف وأخلاقيات الأمانة العلمية – بأن الإجابة الوافية والكافية عليها قد تتجاوز محدودية هذا الحوار، المشروطة ببعض مواضعات الزمن والمكان، وبإكراهات وعوائق معرفية واجتماعية، بل وحتى بظروف إنسانية موضوعية وذاتية متعددة.

ثانيًا: إن أغلب مضامين الإجابات المنتظرة على هذه الأسئلة المذكورة قد سبق أن تضمنتها – بصيغة ما، وبقدر أو بآخر – مجموعة من أعمالي وحواراتي ومداخلاتي المختلفة المقاصِد والسياقات ومحاور الاهتمام.

ونظرًا إلى هذه الحيثيات كلها، فإن ما سأقترحه من أجوبة عن أسئلة وتساؤلات هذا الحوار لن يكون سوى مداخل أولية لإجابات أرحب وأوسع، أي مجرد «فواتح» بجدل سوسيولوجي وإيبيستيمولوجي وفلسفي أعمق وأكثر شمولية في المضامين والأبعاد.

لنعد الآن إلى سؤالك الآنف، ولنحاول الجواب أو التفاعل مع بعض مطالبه ومقتضياته. تعد «الظواهر الاجتماعية»، في مدلولها العام، هي «موضوع» اشتغال علم الاجتماع، وبما أن هذه الظواهر هي «التكثيف المركب» لعدة جوانب وأبعاد اجتماعية متداخلة، فهي أيضًا «موضوع» تناول العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، مثل التاريخ والاقتصاد والسياسة والقانون والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها. كل منها يقاربها من زاويته الخاصة: ميدانًا تخصيصًا وجوانب نظر ومنهج تحليل. إلا أن ما يهم عالم الاجتماع – انطلاقًا من رؤيته لهذه الظاهرة المعنية هنا، وبما هي «نقطة تقاطع» أو التقاء هذه العلوم كلها، وانطلاقًا أيضًا من موجّهات وقواعد «حرفة أو مهنة عالم الاجتماع» – هو «نقطة التقاطع» هذه، والمتمثلة بـ»البعد الاجتماعي» (Social) للظاهرة موضوع عمله. ومن هنا جاءت صعوبات وتعقيدات هذه المِهْنة والتخصص معًا، ذلك أنه في الوقت الذي على السوسيولوجي أن يستوعب فيه بوعي نظري ومنهجي عميق طبيعة مقاربات مجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية، عليه أن يدرك أيضًا، وربما بوعي أعمق، حدود تخصصه ونمط مقاربته. وهذا، بالذات هو ما انشغل بتحليله ونقده بيير بورديو (P. Bourdieu) في العديد من كتاباته النقدية، وهو نفسه ما أكده ألان تورين (A. Touraine) في حديثه عن «الباحث حينما يكون عالم اجتماع» بما مفاده: «أن السوسيولوجي- نظرًا إلى الطبيعة المعقدة لموضوع عمله- يصبح أكثر إحساسًا بالحرج عندما يطلب منه تحديدًا دقيقًا لمجال اشتغاله، وذلك بالمقارنة مع غيره من الباحثين المختصّين في مختلف ميادين العلوم الاجتماعية الأخرى». ذلك أن طبيعة عمل عالم الاجتماع مسألة لا يتم تحديدها بمجرد موضوع أو مجال، وإنما بما هو متضمن لذلك وأعمق منه، وهو ما يمكن نعته بـ»خصوصية العمل النقدي»، الذي يتخذ منه أداة/ أدوات لتحليل وتفكيك ونقد آليات اشتغال وتحول مختلف البنى والهياكل والمؤسسات والمجالات والقوى، ومنظومات القيم والسلط والأفعال والتفاعلات والعلاقات والجوانب المادية والرمزية، ومجمل الديناميات الاجتماعية، وفهم واستيعاب منطق حركيتها في سياق سوسيوتاريخي متعيّن في الزمان والمكان. إلخ.

وهذا هو ما أكد على أهميته «علماء اجتماع نقديون» كثر، من بينهم، على سبيل المثال: ماكس فيبر، وألان تورين، وبيير بورديو، وريمون أرون، وريمون بودون، وجان بودريار وغيرهم.

وتأسيسًا على ما سبق، فإن ما وسمته في سؤالك بـ«الترحال الموضوعاتي»، الذي ترى أنه سمة مميزة لأعمالي الفكرية والبحثية، يعد، في إطار هذا الفهم الدينامي «المتعدد الأبعاد» بما يدعى بـ «الظواهر الاجتماعية»، أمرًا طبيعيًا ووضْعًا «محايثًا» لحرفة عالم الاجتماع وحقول عمله. فظواهر وقضايا اجتماعية مثل: الأسرة والمدرسة والدولة، والطفولة والشباب والمرأة، والتنمية والتحديث والديمقراطية، والتفاوت أو التراتب الاجتماعي الطبقي والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص… إلخ، ليست قصرًا على اهتمام أو شغل السوسيولوجي وحده، وإنما هي موضوعات بحث مشتركة بينه وبين مقاربات مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية كما أسلفنا، مثل: الاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي، والأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم السياسة وغيرها. إلا أن ما يمنح المقاربة السوسيولوجية خصوصيتها المميزة يتمثل بمنظومة متكاملة من القواعد والشروط، لعل من أبرزها ما يلي:

ضرورة تموقع هذه المقاربة في «نقطة تقاطع» منظورات وزوايا المقاربات الاجتماعية المتعددة الأخرى. وهكذا، فإذا كان الاقتصادي يهتم في دراسته للظاهرة المبحوثة ببعدها الاقتصادي بالذات، والمؤرخ بالبعد التاريخي(الزّمني ومتغيراته المتطورة)، وعالم النفس بالبعد السيكوسوسيولوجي… إلخ، فإن عالم الاجتماع ينبغي أن يركز على ما يمكن توصيفه بـ «البعد المشترك» بين مختلف مقاربات التخصصات الاجتماعية المعنية هنا، أي على الدلالة أو المضمون الاجتماعي العام في تفاعله الجدلي مع ما تعني بسيره وفهم مدلولات هذه التخصصات المتنوعة، كل من جانب اهتمامه، وزاوية منظوره الخاص.

لذا، فإن على عالم الاجتماع أن يبذل، أكثر من غيره، جهدًا مضاعفًا ليعطي لهذا التموقع الرّؤيوي دلالته ومعناه، أو كما يرى ألان تورين مرة أخرى، على «أن ينتزع الوقائع السوسيولوجية من الظواهر أو الوقائع أو الأفعال الاجتماعية» موضوع البحث، أي استخلاص ما هو مطلوب من دراستها من محددات «معرفة علمية» مبنية على فهم سوسيولوجي دقيق لموضوعها الاجتماعي. وذلك في إطار تميُّز هذه المعرفة، وكذلك تمايزها وتواشجها في الآن ذاته مع المعارف المستنتجة من بحوث (العلوم الاجتماعية والإنسانية المتنوعة).

لعل من أهم المقومات والشروط، التي يمكن أن تشكل «تمحيصًا» نظريًا وعمليًا لـ «الترحال الموضوعاتي» السابق الذكر، ما يفترض أن يمتلكه الباحث من «رؤية أو منظور أو بوصلة» مرشدة هادية لمجمل آنات ومسارات بحثه واشتغاله. والمقصود بذلك هو ما يطلب منه اعتماده من «منظومة» متكاملة من «البراديغمات الإرشادية والأطر النظرية والمنهجية الموجهة» مما ينتظر منه أن يجنبه مغبات السقوط في منزلقات أو التشتت أو التعثر أو الضياع، وهو يترحل أو ينتقل من موضوع بحث إلى آخر، وبلا مقصدية هادفة أو «وحدة منظورية» واضحة المعالم والتوجهات والأهداف، الأمر الذي يمكن أن يجعل من هذا الترحال مصدر إثراء للجهود العلمية للباحث. إنها، في تقديري، نقطة مفصلية شارطة في تشكيل رؤية نقدية تقييمية أو تقويمية لهذا الترحال في تجارب بحثية وفكرية معينة، وتمييز وفرز الإيجابي المنتج منها عن المتهافت الذي لا ينتج منه سوى ما سلف ذكره من تشتت في الجهد والفكر، ومن ضحالة في قيمة ومستوى المنتوج، ومن ضعف في «صدقية نجاعته المعرفية والاجتماعية والتاريخية» المطلوبة والمنتظرة.

وهكذا، فلا أخالني مجانبًا للصّواب إذا زعمت أنني، في مجمل أشكال «الترحال الموضوعاتي» المميز لبعض جهودي الفكرية المتواضعة، قد حاولت جاهدًا وعلى قدر ما أستطيع، أن أعتمد على هذه التحوطات الإيبيستيمولوجية والسوسيولوجية المشار إليها، وأن أهتدي بها نظريًا وعمليًا، وفي مختلف آنات وآليات التفكير والبحث والتحليل والفهم والتفسير والتأويل ومقاصد إنتاج الدلالة والمعنى. وذلك بمحاولة الالتزام بالتموضع في زاوية ومنظور عالم الاجتماع، عادًّا ما اشتغلت عليه من موضوعات متنوعة بمنزلة «نوافذ» أسعى إلى الإطلال منها على الواقع الاجتماعي المتعدد الأبعاد. مع ضرورة الوعي بأهمية ودلالة هذا التعدد، وبما له من تأثيرات في سيرورات ومخرجات المعرفة في ميادين العلوم الاجتماعية المختلفة.

غير أني لا أستحسن هنا أن أنصب نفسي خصمًا وحكمًا في ذات الآن، بل أفضل أن أترك الحكم على أعمالي المتنوعة، رؤى وترحالات ونتائج وخلاصات، لقرائها المحتملين، متخصصين كانوا أو باحثين أو من عموم المهتمين، هذا مع التذكير بأن كل قراءة لأي منتوج فكري أو إبداعي تظل دومًا مشروطة بتموضعاتها وأهدافها ومرجعياتها القارئة المتنوعة والمتباينة. فتبقى، بحكم ذلك، «نسبية» مشروطة بمحدداتها المعرفية والاجتماعية. وذلك شأن كل معرفة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي تظل ذاتها، مهما حاولت الالتزام بقواعد وشروط التجرد والموضوعية والحذر النظري والمنهجي.، موسومة بطابع وحدود هذه «النسبية»، بل وحتى بالقصور و«القابلية للتفنيد»، حسب تعبير غاستون باشلار، وبالتالي لإمكانات النقد والنقض والدحض، بل وحتى للتخطي والتجاوز والاستبدال.

  • هل يمكن اعتبار هذا الترحال الموضوعاتي محاولة لموضعة ذات الباحث بين المسألة الاجتماعية والمسألة السوسيولوجية؟ كما قد يبدو من خلال مضامين أعمالك؟

– أود أن أذكّر بدايةً، بأن جدلية المسألتين الآنفتي الذكر تمثل معطى معرفيًا وتاريخيًا مهمًا ملازمًا للفكر السوسيولوجي منذ البدايات الأولى لتشكله كمجال معرفة علمية «مستقلة بذاتها» عن الفلسفة، بوصفها وقتذاك أمًّا للعلوم، أي منذ النشأة والتطور والامتداد.

فلقد عرفت المجتمعات الأوروبية، خلال القرن التاسع عشر بوجه خاص، تفاقم الكثير من المشكلات الاجتماعية، مثل تزايد الفقر والهشاشة والهامشية وتوسع الكثير من دوائر ومظاهر عدم تكافؤ الفرص والحظوظ ومواقع الاستفادة والقوة والسلطة والنفوذ، فضلًا عن تنامي ظواهر وأساليب القهر والقمع وتدهور أوضاع الحريات والحقوق الفردية والفئوية والاجتماعية المتباينة. وهي كلها مشكلات وأعطاب ترتبط، بأشكال وصيغ متعددة، بما يعرف عادة بـ «المسألة الاجتماعية» (La Question sociale) في مفهومها الموسَّع العام. فلقد حاول هؤلاء مثل سان سيمون، وأوغست كونت، وإيميل دوركايم وغيرهم.. توجيه جهودهم نحو الاشتغال على مسارين:

أولًا، مسار المساهمة في سيرورات تأسيس وتطوير وإنماء المعرفة العلمية، ولا سيما في مجال «علم الاجتماع»، أي ما يعرف اصطلاحًا بـ«المسألة السوسيولوجية»، بوصفها منظومة مركّبة متداخلة من الجوانب والأبعاد الإيبيستيمولوجية العلمية للسيرورات المعرفية الآنفة.

أما المسار الثاني، فيتعلق بنظرة هؤلاء الرواد إلى ما يُنتظر أن تقدمه هذه المعرفة العلمية – السوسيولوجية مثلًا – من فهم عميق لمختلف المشكلات والأعطاب والقضايا والتحولات البنيوية المتواتِرة الناظمة لمختلف مجالات المجتمع الغربي الحديث، أي بمكونات «المسألة الاجتماعية» في مدلولها الشامل. وذلك استهدافًا لمجابهتها والتعاطي معها بما يلزم من الرؤى والتصورات والأفكار ومبادرات التجديد والإنماء والتصحيح والدعم والإصلاح. وذلك إلى الحد الذي تحولت فيه هذه النظرة المذكورة إلى ما يمكن توصيفه بـ«عقيدة إصلاحية» تتغيّى، على المستوى الميداني، القيام بما تستوجبه من برامج وخطط وتدخلات المساعدة الإنسانية المادية والمعنوية، ومن دعوات التنوير والترشيد، ومن جهود الإنماء والتغيير. ولعل مما هو جدير بالتنويه به هنا هو أن هذه «العقيدة/الموجة» قد تحولت إلى استنهاض سوسيوحضاري إنسانوي عام، تجاوز – وبخاصة في مستهل القرن العشرين الفائت – حدود السياق الغربي إلى مجتمعات المغرب العربي ومصر وبعض مجتمعات المشرق وأفريقيا، وتبلورت على مستويات النظر والوعي والتطبيق العلمي. كما تبناها مسؤولون كولونياليون وباحثون ومستشرقون ومثقفون وساسة، ونخب محلية، ومنظمات أهلية متباينة في هذه المساقات الجديدة التي نُقلت إليها. وكانت وراء ذلك عدة عوامل ودوافع ذاتية وموضوعية، سياسية وعقائدية وأيديولوجية ودينية وقيمية وسوسيوحضارية ظاهرة ومضمرة متباينة.

ليس ما قدمناه سابقًا مجرد ترف خطابي استطرادي خالٍ من أي فائدة، وإنما هو جزء أصيل من الجواب على سؤالكم هنا. فلقد اهتممت بالفعل في مجمل أعمالي المتواضعة، بمحاولة الاجتهاد قدر الإمكان من أجل إيجاد صيغة تكاملية بين المسألتين المعنيتين هنا. ولعلي لا أجانب الصواب إذا أقررت لكونك من أوائل من نَّوه بذلك في قراءة تحليلية معمقة لهذه الأعمال. غير أن ما أريد التأكيد عليه هنا هو أن هذا الاجتهاد المشار إليه في ما سلف قد كان موجَّهًا – في إطار اهتمامي بـ «المسألة السوسيولوجية» باحترام قواعد وشروط الالتزام بدور وحدود مساهمة عالم الاجتماع في رفد وتطوير وإغناء سيرورات إنتاج المعرفة العلمية الموضوعية المدققة لواقع اجتماعي محدد في الزمان والمكان. وذلك لأن «المسألة الاجتماعية» هي جزء لا يتجزأ من هذا الواقع الاجتماعي المبحوث، ومن تاريخية علم الاجتماع ذاته: نشأة وتكوينًا وتطورًا وامتدادًا، وتوسعًا عبر ولادة فروع سوسيولوجية تخصصية جديدة، استجابة لمقاصد ومستلزمات علمية معرفية متجددة مكرسة لمواكبة مطالب «التخصص الوظيفي» في المجتمع الحديث معرفيًا واجتماعيًا، من جهة، ومتفاعلة من جهة أخرى، مع ما أصبح يعرفه هذا المجتمع الحديث من التسارع المتواتر في سيرورات المأسسة والعقلنة والتخطيط والتنظيم وأساليب الحكم والإدارة والتقانة وتدبير دواليب الشأن المجتمعي العام المركب المتشابك المكونات والمجالات والعلاقات والقيم والأفعال والفاعلين الجدد المتجددين.

بناءً على هذه الحيثيات المعرفية والاجتماعية، فإن اشتغال عالم الاجتماع على مكونات وقضايا هذه «المسألة الاجتماعية» يعد أمرًا طبيعيًا، ما دامت عناصرها ومشكلاتها تحيل مباشرة إلى تخصصه وعمله: «الظواهر الاجتماعية» بوجه عام. إلا أن هذا لا ينبغي أن يفهم منه تحول مهام عالم الاجتماع من موقع المساهمة في إنتاج المعرفة العلمية إلى مواقع الوعظ أو الإرشاد، أو الدعوة المباشرة إلى التغيير أو الإصلاح أو الثورة… إلخ. إذ تلك من المسؤوليات الموكولة إلى فاعلين وفعاليات وجهات أخرى. وبخاصة إذا كان المجتمع المعني مهتمًا في ذلك بدعم «المعرفة العلمية»، سياسات وخططًا ومشاريع وأساليب مأسسة وتنظيم وتمويل لمؤسسات البحث والتكوين والتوزيع والتداول العادل لـ «الرأسمال المعرفي»، بل واستثماره الممنهج في مسارات وبرامج وتوجهات التنمية والتحديث وتجديد مقومات وآليات اشتغال النسق المجتمعي العام.

هل وفقت في بعض جهودي هذه من أجل تدعيم سيرورة بناء «جدلية» تكاملية متناغمة بين المسألتين المذكورتين: «السوسيولوجية والاجتماعية»؟ سؤال مهم طبعًا، ولكني – والتزامًا مني بقيم ومواقف علمية وأخلاقية – أفضل أن أترك الإجابة عنه للباحثين المختصين وللمهتمين من القراء. فَهُمْ، في تقديري، أولى بأن يصدروا ما هو مطلوب أو ممكن أو متاح أو ذو مصداقية من الآراء والتقييمات والأحكام.

  • يلاحظ كل متتبع لإنتاجاتكم أنكم تنتقلون في التحليل من الميكروسوسيولوجي إلى الماكرو سوسيولوجي، في الوقت الذي أغلب الإسهامات السوسيولوجية تقوم بعكس ذلك، كيف تفسرون هذا «الانتقال المعكوس» الذي تقومون به؟

– يبدو مفيدًا أن أذكّر، في مستهل الإجابة عن هذا السؤال، بأن الملاحظة التي تشير إليها لا تنطبق دومًا على أسلوب التحليل المعتمد في جل أعمالي. ذلك أني أحاول جاهدًا أن أعالج كل إشكالية أو موضوع أو قضية ما – سواء في إطار بحث مستقل قائم بذاته، أو في محاضرة أو عرض أو درس أكاديمي أو حتى في حوار محدود أو مفتوح؛ وفق خصوصية الموضوع المبحوث، وكذلك مراعاة لشروط ومقتضيات «مطابقة الكلام لطبيعة المقام»، كما يقال.

لعل من أهم ما تعلمته من الاشتغال في حقل التربية والتكوين، بحثًا وتدريسًا وتأطيرًا وتواصلًا بيداغوجيًا محدد الأهداف، هو أن مجمل عمليات البحث العلمي وإنتاج الأقوال والخطابات، بل «وكل عمل كتابي»، هو بشكل ما وبقدر معين ورؤية ما، «منتوج بيداغوجي». يُفترض فيه، كي يحقق مقاصده، أن يعتمد بعض قواعد تداول «الخطاب»، التي تقتضي التكامل والتناغم بين أطرافه الأساسية: مصداقية وموقع مُرسِل/ باعث الخطاب، والإرسالية التي يتضمنها، وضعيات المتلقي، فردًا أو جماعة أو أوسع من ذلك.

وهكذا، واستئناسًا بخبرتي البيداغوجية الممارسية السالفة الذكر، فقد اعتمدت في الكثير من أعمالي «منطقًا استنتاجيًا» (Déductif)، يقوم على الانتقال من الماكروسوسيولوجي العام إلى الميكروسوسيولوجي الجزئي الخاص، الذي يقوم الانتقال منه إلى الماكرو العام على «منطق استقرائي» (Inductif)، فقد بدا لي بناءً على تجاربي التربوية المذكورة، أن «المنطق الاستنتاجي» الذي يسير على نهج الانتقال من «الماكرو» إلى «الميكرو»، أي من الكلي إلى الجزئي، هو الأكثر ملاءمة لخطاب معرفي ثقافي يسعى إلى اعتماد «بيداغوجيا فعالة منتجة»، تستهدف أساسًا «جودة» التبليغ والتواصل التفاعلي بين المُرسِل والرسالة والمتلقي. وسواء كان المقصود بهذا الخطاب بحثًا أو دراسة أكاديمية (رسالة أطروحة) أو عرضًا أو مقالة أو درسًا تلقينيًا محدد المضامين والأهداف…

ولتوضيح هذه المسألة بشكل تقريبي، نضرب لذلك مثالًا كالتالي: ففي مقاربتي السوسيوثقافية لـ «المسألة النسائية» في سياقنا المغربي والعربي، عملت على موضعة هذه المسألة، بدايةً في ظل أهم المتغيرات والمستجدات التي رافقت أبرز التحولات الثقافية والسوسيوقيمية والحضارية التي يعرفها المجتمع المعاصر على المستوى الكوني العام، ثم التركيز، بعد ذلك، على البعد الثقافي الذي يهمنا بالأساس في مقاربة المسألة، ليتم التدرج بالتحليل نحو ما هو خاص، أي أوضاع المرأة في مساق مجتمعاتنا العالمثالثية والعربية، ثم الانتقال إلى ما هو أخص، ليكون المجتمع المغربي مثالًا. ويستحسن أن نذكّر، هنا، بأن كل آنات ومراحل وتدرجات المقاربة المشار إليها لا يجب أن يتم النظر إليها كوحدات أو مكونات مستقلة متفارقة بعضها عن بعض، وإنما التعامل معها بما هي «منظومة نسقية» متفاعلة العناصر والمضامين، وذلك ضمن تكاملية خطوات المنطق المعتمد في التحليل.

ويبدو لي، من خلال تجاربي البيداغوجية المتواضعة – وهي ملاحظة لا ألزم بها أيّ أحدٍ أبدًا – أن انتهاج الأسلوب «الاستنتاجي»، أي الانتقال من الماكرو إلى الميكرو، من العام إلى الخاص، تلقينًا وبحثًا وتلقيًا، يساعد المعنيَّ في هذه الوضعيات على فهم الإشكالية أو القضية موضوع النظر والبحث في إطار سياقها العام، بشتى جوانبه ومكوناته، ويضمن له – ضمن حدود وعيه بذلك – ملاءمة الانتقال التدريجي في معالجتها مرتبطة بإطارها الشامل هذا. وهو ما يساعده ويُمكّنه من الوصول بهذه المعالجة: (الدرس/ البحث/ أي نص كتابي)، إلى الجزئيات الخاصة المتفرعة عن مستواها العام.

في حين تدعو بعض الملاحظات المنهجية والبيداغوجية إلى أهمية التزام «حذر نظري وعملي» مضاعف عند اعتماد المقاربة «الاستقرائية» طريقة في التحليل. فقد يؤدي تناول قضية أو إشكالية ما، عبر التدرج بها من الجزء إلى الكل، إلى أن يقع الباحث هنا في منزلق السقوط أو الانحباس في شرنقة الجزئي المحدود، متجاهلًا أو متناسيًا – بقصد واع أو بدونه – تلك الوشائج أو الروابط الجدلية التي تصِله بالكل الذي ينتمي إليه، ويكسب من خلال هذه الصلات المركبة، طبيعته ومعناه وخصوصيته المتميزة. الأمر الذي قد يُوقع التحليل في بعض أعطاب «التبسيطية والاختزال»، والنظر إلى الجزء المحدود، على عكس طبيعة معناه، أي كما لو كان هو الكل، يتضمن مجمل مكوناته، يُمثّله ويعبر عنه، مما يتنافى مع الواقع المبحوث، وما ينتظمه من «تفاعلية مستديمة» بين الجزئي والكلي والخاص والعام، وفي إطار منظور تحليلي تفاعلي متعدد الأبعاد.

كما أن من أهم الملاحظات التي يمكن التشديد على أهميتها في هذا السياق أيضًا هي أن مسألة الانتقال في البحث الاجتماعي من «الماكرو أو الميكرو»، أي من «منطق استنتاجي أو استقرائي» وفق التحديدات السابقة، ليست مسألة مفاضلة بين المنطقين أو الرؤيتين، أي لا تقوم – بالتالي، ومن الناحية المبدئية التي تستلزم تعاملًا حياديًا مع مجمل القضايا النظرية والمنهج في هذا المجال – على أي دعوة إلى تفصيل اعتماد منطق آخر. لأن ذلك الأمر يتعلق هنا بـ «الاختيارات النظرية والمنهجية» للباحث، وبما يعتمده من تبرير علمي لها، في سياق معرفي محدد في الزمان والمكان. ذلك أن «المسألة المنهجية» في تقديري تعَدّ مكوّنًا أصيلًا في سيرورة كل بحث علمي. إذ هي الدعامة المفصلية في إيصاله إلى «معرفة علمية» مدققة، ثمَّ تحصينها عبر آناته المتعددة بـ «عدة نظرية ومنهجية» من المفاهيم والمنظورات المنهجية، وأدوات وتقنيات البحث، ونماذج التحليل والتفسير والتأويل. وذلك في مقابل «المعرفة العامة أو العامية» أو «معرفة الحس المشترك»، التي تخضع في عمليات إنتاجها وإعادة إنتاجها وتطويرها وتبادلها إلى «آليات وميكانيزمات» تختلف في جوهرها عن مقتضيات وشروط المنهج العلمي.

غير أن الأهم عندي – إضافة إلى دور إجرائية وفعالية وصرامة وعقلانية «المسار المنهجي» للبحث – هو عملية وصدقية «المخرجات والنتائج» التي يخلص إليها، وكذا نجاعتها المعرفية والاجتماعية. علمًا بأن جل خلاصات العلوم الاجتماعية والإنسانية تظل موسومة دوما بـ «النسبية» وبكونها لا تستطيع – مهما اجتهد الباحث في تحصينها بالممكن من شروط ومعايير الموضوعية والحياد – تجاوز حدود «خطاطات معرفية» قابلة للنقد والتجاوز، كما أسلفنا. أي «شبكة/ شبكات» بيانات ومعطيات، ينتظر منها أن تشكل «دليلًا علميًا وعمليًا» مرشدًا لتقريبنا من التعرف إلى الواقع المبحوث وفهم تفاعلات بنياته وتحولاته المادية والرمزية المتعددة في مختلف مكوناتها ومستوياتها وديناميتها المسترسلة المجددة.

  • يقول البعض بأن السوسيولوجيا تبتدئ من الميدان وتنتهي عنده، فما رأيك في طبيعة وحدود علاقة السوسيولوجيا بالميدان عمومًا، وانطلاقًا أيضًا من جهودك وأعمالك الشخصية؟

– لا ريب في أن الميدان بمفهومه الموسع العام – أي مجمل جوانب وظواهر وقضايا وتفاعلات الواقع الاجتماعي الملموس موضوع البحث – يمثل مكونًا محوريًا في العمل السوسيولوجي. فإذا كان المؤسسون لعلوم الإنسان والمجتمع، ممَّن أشرنا إليهم آنفا، مثل: سان سيمون وأوغست كونت وماركس وماكس فيبر… إلخ، قد تركزت مساهماتهم في إطار ما يدعى بـ «البحوث النظرية الأساسية»، في مرحلة تأسيسية كانت فيها هذه العلوم تعمل على توسيع دوائر وهوامش استقلالاتها عن الفلسفة، التي كانت تعدّ آنذاك حاضنة مجمِّعة لكل العلوم والمعارف الإنسانية، فإن تطور وتائر تحقيق ذلك، من جهة، وتنامي أنماط ارتباط البحث السوسيولوجي بـ «المسألة الاجتماعية»، كما أسلفنا، من جهة ثانية، كل هذا ساهم بشكل ملحوظ في رفدِ وتعزيز تزايد الاهتمام بالميدان. ولعل هدفين أساسيين يكمنان وراء هذا التوجه والاهتمام:

أولهما، جعل العمل الميداني «محكًا عمليًا» لاختبار مدى صلاحية وثبات خلاصات ومقترحات البحوث النظرية المذكورة.

ثانيهما، إثراؤها بما يُنتظر استنتاجه، سَبْر واستقراء ظواهر وتفاعلات ومتغيرات الواقع المدروس، من بيانات ومعطيات هي خلاصات «معاينة ملموسة لواقع ملموس».

ومع تطور البحوث الاجتماعية عامة، في مسيرة مواكبتها لتطور وتجدد آليات اشتغال بنى ومؤسسات ومجالات المجتمع الحديث، وتصاعد حاجاته إلى ربط هذه البحوث – ولا سيما في القرن العشرين – بقضايا التنمية والتحديث، والإصلاح، والدمقرطة، وأساليب «اتخاذ القرار»، وعقلنة شروط حكامة وتدبير الشأن المجتمعي العام… إلخ، سيغدو لـ «العمل الميداني» مكانة محورية في البحث السوسيولوجي، على وجه التحديد.

وفي إطار تفاعلات شرطيات وموجهات هذا السياق المذكور، برزت إلى السطح الممارسات البحثية في هذا الحقل مجموعة من الأفكار والرؤى والمواقف المغالية، التي بالغت – بفعل تأثير بعض العوامل الآنفة – في إيلاء «العمل الميداني» أكثر من مكانته ودوره المنهجي في سيرورة البحث وإنتاج وتطوير المعرفة العلمية في هذا المجال. إذ سقطت هذه التصورات والأفكار المغالية في الكثير من أنماط ومستويات «التبسيط والاختزال والوثوقية» الضيقة الأفق والرؤية. وهذا ما أدى – حسب بعض خطابات مدارس فكرية نقدية متباينة البراديغمات والنظريات والنماذج الإرشادية – إلى تصدّر ما غدت تنعته هذه الخطابات بـ «نزعة أمبريقية/ اختبارية تجريدية» (Empirisme Abstrait). مما ساهم في تحويل الاهتمام بالميدان في البحوث الاجتماعية إلى ما يشبه «أسلوب عمل» (Mode d’Emploi)، هو أقرب إلى التعامل الموضوعي منه إلى توجّه منهجي عميق مؤَصَّل.

وهذا بالذات هو ما انتقده أحد أقطاب علم الاجتماع المعاصر رايت ميلز C. W. Mills)). فقد اعتبر مجرد الارتكان إلى معطيات الميدان، دون ربطها جدليًا بمكونات الأطر النظرية، بما هي مرجعية ومرشد عمل موجّه، موقفًا «مثاليًا» في عمقه، قد يفضي بالباحث والبحث معًا إلى الوقوع في ما يَدْعُوه «كبحًا منهجيًا» يقف عائقًا أمام محاولات الوصول إلى معرفة معمقة بالواقع المبحوث. ويقترح (ميلز)، تجاوز ما يشكله هذا «الكبح» من «عوائق معرفية واجتماعية» مركبة، أن يتوجه البحث الاجتماعي، نظرًا ومنهجًا، إلى إنضاج ما يُسمّيه «الخيال السوسيولوجي»، أي مجموعة متكاملة من الإمكانات والكفايات وقدرات الفهم والإدراك والحجاج والبرهنة والاستدلال، مما يُمكنه من تخطي العوائق السابقة، والانخراط المنظم الهادف في سيرورة المساهمة في إقامة «ملاءمة دينامية» بين معطيات الميدان ومقتضيات النظرية، ويساعد أيضًا على دعم إيجابي منتج لجهود الباحث في مجالات التحليل والتفكيك والنقد والشرح والفهم والتفسير والتأويل وإعادة بناء المعرفة المنشودة، مضامين ودلالات ومعنى. إلا أن النقاش، حول هذه القضية المتجددة الأبعاد والسياقات الإيبيستيمولوجية والاجتماعية، سيظل جدلًا مستمرًا ومتواترًا على أكثر من واجهة وصعيد.

أما في ما يتعلق بتجربتي الشخصية في ميدان الممارسة السوسيولوجية، بحثًا وتدريسًا وتأطيرًا وإشرافًا أو مشاركة «خبرية» استشارية أو بحثية ما، فإني قد بقيت، منذ المرحلة الطلابية وما تلاها، كثير الاهتمام بالعمل الميداني، مقدرًا لجهود فاعليه، مُثمِّنا لمعطياته ومخرجات بحوثه المتعددة. ولكن ذلك ظل دائمًا في إطار التحصن بالاحترازات النظرية والمنهجية المسُوقة في ما سلف، أي بذلك «الحذر المعرفي»، الذي يستلزم «خيالًا سوسيولوجيًا نقديا»، كفيلًا، ضمن حدود ومواضعات معينة – بأن يجنب الباحث، ومعه أيضًا مُتلقي المعرفة الاجتماعية، من الوقوع في شرك تصورات وقناعات أو فهوم «دغمائية وثوقية» محدودة الأفق التساؤلي النقدي. وهو ما يؤدي بالمتعاملين مع «مخرجات العمل الميداني» كما لو كانت تتّسم بصلاحية تامة مطلقة. وهو موقف «مثالي» اختزالي وتبسيطي كما سبق الذكر. يساهم، إما بقصد ووعي أو من دونهما، في تدعيم تلك «الاختبارية التجريدية» – التي انتقدها رايت ميلز وغيره من رواد المدارس السوسيولوجية النقدية المعروفة – والتي يفضي تبنيها، توجّهًا وممارسة، إلى «إسقاط» اعتباطي مجاني لبعض مقتضيات الميدان على جوانب من الواقع الاجتماعي، لتجبره على الامتثال لمعطيات قد لا تتوافق بل قد تتناقض معه تمام التناقض. إنها وضعية تتنافى مع النظر الموضوعي إلى المعرفة العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما هي معرفة «نسبية»، ومجرد محاولة للاقتراب من الواقع وفهم أبعاده ومكوناته، والتعامل معه وفق ما تستوجبه الشرطيات المعنية من مواقف وإجراءات وتدخلات مختلفة الأنماط والمستويات.

وارتباطًا بما ورد في سؤالك هذا، فإني أعتقد أن الناظر في أعمالي كلها، ميدانية كانت أو نظرية تحليلية، وكذلك في مضامين البحوث التي أشرفت عليها، وبخاصة في «مركز التوجيه والتخطيط التربوي» في الرباط، والتي كانت كلها «ميدانية تطبيقية»، سوف يلاحظ تمسكي الشديد ببعض أهم المفاهيم والنماذج الإرشادية للتوجهات النقدية المنوه بها في ما سبق، ولا سيما أني لم أكن أنظر إلى مسؤولية الإشراف وتأطير البحوث كما لو كانت مجرد مواكبة تتبعية للبحث والباحث، وإنما كنت أحاول عيشها بما هي «معاناة فكرية وإنسانية» عميقة، أواكب فيها، على هذا المستوى المعرفي والوجداني، مجمل آنات البحث ومشكلاته وتعثراته وجوانبه الإيجابية، ومن لحظة التفكير فيه كموضوع للعمل إلى نهاياته المفترضة أو المنشودة. ما شكل، بالنسبة إلي، تجربة تربوية وبيداغوجية وعلمية وإنسانية فريدة. ولذا، فهي تستحق، في تقديري، أن يفرد لها حوار موسع خاص، وذلك لمناقشة ظروفها وسياقاتها وأبعادها ودلالاتها وموجهاتها القيمية والتواصلية والتفاعلية والاجتماعية، وبخاصة في ظل شروط الظرفية الراهنة، التي تعيشها مؤسساتنا التكوينية والأكاديمية والبحثية من شروط وأوضاع وقضايا على هذه المستويات الآنفة جميعها.

وهكذا، فإن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من كل ما سبق هي أن سيرورة بناء المعرفة السوسيولوجية لا تبتدئ دائمًا من الميدان وتنتهي عنده، وإنما هي، في عمق مدلولها وطبيعتها «جدلية ديناميكية» متواترة بين الفكر والعمل، والعقل والتجربة والنظرية والممارسة. وذلك شرط أن ينظر إلى هذه الجدلية الحيوية المسترسِلة اعتمادًا على «الحذر النظري والمنهجي» السالف الذكر، وعلى ذلك «الخيال السوسيولوجي» لـ رايت ميلز، الذي يمكنه – متى تمَّ استلهامه في إطار «حس نقدي معرفي مفتوح» – أن يجعل سيرورة بناء المعرفة العلمية الاجتماعية عملية إيجابية منتجة مبدعة، وواعية، في الآن ذاته، بحدودها النسبية، وبعوائقها الإيبيستيمولوجية والسوسيولوجية، الذاتية والموضوعية المتعددة.

  • ربطًا مضمونيًا بما قدمتموه – د. مصطفى محسن – من رؤى نقدية في الجواب المدرج قبلًا، نود مساءلتكم عمّا تدعونه في اسهاماتكم الفكرية بـ «النقد المتعدد الأبعاد». فهل هو رؤية أو منظور، أو نموذج إرشادي (براديغم)، أو مشروع فكري، أو غير ذلك؟ ثم لماذا وسمته بالذات بـ «التعددية»، وليس بأي خاصية أو توصيف آخر خلافًا لذلك؟

– سؤالك هذا مهم جدًا في أي حديث عن الأسس المعرفية، النظرية والمنهجية، لـ «منجزي السوسيولوجي» المتواضع. غير أنه بما أني قد سبق أن أفضت في عرض الكثير من ملامح ومكونات توجهاتي النقدية المنفتحة «المتعددة الأبعاد». وذلك في الكثير من مؤلفاتي، كما في بعض حواراتي، ودراساتي ومداخلاتي المتنوعة الأهداف والمحتويات والسياقات، فإني أفضل الآن، إجابة عن سؤالك القيم، أن أركز على ما هو أهم دلالة وتعبيرًا، وأُجمل ذلك في الملاحظات الأساسية التالية:

إن مفهوم «النقد المتعدد الأبعاد» (Multidimensionnelle)، هو عندي في مضمونه العام، يستدمج كل المفاهيم الواردة في السؤال. إنه رؤية ومنظور وبراديغم إرشادي ومشروع بحث ونظر فكري. مع اعتبار ما بينها من فروقات أو تمايزات دلالية، يختلف حجمها وتأثيرها من نسق فكري إلى آخر. وإذا كانت عبارة «مشروع» (Projet) هي الأكثر تداولًا في هذا المساق، فإن ما أودّ أن يُفْهَم منها، في جهودي النقدية بالذات، ليس ذلك «المنجز الفكري أو الثقافي أو التربوي» المكتمل التام، وإنما هو تلك السيرورة المتطورة المتجددة، المتفاعلة، في مرجعياتها وميكانيزمات اشتغالها، مع غيرها من نماذج العمل الفكرية والتطبيقية التي تتجادل وتتنامى وتتكامل باستمرار، وعلى هذه الصُّعُد والمستويات كلها.

إن هذا النقد المعني هنا هو، في تقديري ومقصديتي، نمط من التجاوز النظري والمنهجي لبعض ما أمسى يكتسح ساحتنا الفكرية العربية تحديدًا من توظيف أو اعتماد مجاني ساذج للكثير من أفكار وتوجّهات ونَزَعات ونُزُوعات التقليد والاتباعية الدوغمائية أو الإسقاطية ذات الطابع الاختزالي الضيق الأفق والرؤية والوعي النقدي الحذِر. إذ أصبحنا أمام الكثير من نماذج الاستجلاب أو «الاستيراد» لعدة مفاهيم ونظريات وآليات تحليل وتطبيق غربية المنشأ. وذلك بغرض الاستئناس بها في تجديد وتطوير وإصلاح أوضاع ومكونات واقع مغاير سياقًا وثقافة وآليات هيكلة وتدبير وتنظيم واشتغال. وبدون وعي نقدي عميق بالمقومات السوسيومعرفية والتاريخية التي أفرزتها، ولا بخصوصيات النظام الاجتماعي الذي نُقلت إليه بهدف المساهمة في تنميته وعقلنته وتحديثه وترشيد مسارات تحوله نحو الأفضل. ولنا في مآلات هذا «النقل التبعي» في مجتمعنا بالذات، وفي عجزه عن تحقيق ما كان منشودا منه من إصلاح أو تجديد ما يقوم دليلًا قويًا على بؤسه وتهافته. ولنستحضر هنا طبيعة ما استجلبناه من «عُدَدٍ نظرية وعملية» غربية في ميدان التربية والتعليم والتكوين وبناء الإنسان، وفي حقل العمل السياسي، وفي مشاريع وبرامج وخطط التنمية والتحديث، وفي ميادين الإدارة والحكامة وتدبير المقاولات والشراكات… إلخ، لنقف على مردوديتها الضعيفة على مستوى تطبيقها في الواقع المعْني في سياق بلداننا العربية والنامية. ذلك أن هذا التطبيق لهذه «العُدَد» لم يتم في إطار «وعي نقدي» سليم بمجمل أهدافها ومضامينها، سواء في السياق السوسيوتاريخي الذي أنتجها، أو في السياق الجديد المغاير الذي نُقِلت إليه، والذي «أُسْقِط» جلها عليه في ظِّل غياب أو هشاشة هذا الوعي النقدي المذكور.

أما لماذا وصَفتُ هذا النقد بكونه «متعدد الأبعاد» وليس «أحادي أو ثنائي أو مزدوج البعد» أو غير ذلك؟ فإن الهدف الرؤْيوي والمعْني يتمثل في محاولة تخطي مزالق وعوائق ما تمت الإشارة إليه من «نزعات اختزالية تبسيطية» مفقرة للواقع، وكذلك لأي نقد يتجه إليه. ولذا كان مقترحنا أن ينصبّ هذا «النقد المتعدد» على ما يلي:

أولًا، من حيث موضوع اشتغاله، يفترض أن يكون:

نقدًا للذات/ الأنا/ النحن، ماضيًا وحاضرًا وتوجهات نحو المستقبل، وكذلك تراثًا فكريًا ومعرفيًا وقيميًا وحضاريًا وتاريخيًا متعدد الأنماط والأفعال والفاعلين ومستويات التعبير والتطور والتفاعل والفعل والاشتغال.

نقدًا «محايثًا» لنقد الآخر/ الغرب/ المختلف الثقافي والحضاري، وفي كل المكونات والأبعاد الآنفة الذكر.

نقدًا للحظة الحضارية بما هي «بوتقة» تاريخية، «تكْثيفية» لعلاقة الذات بالآخر. وذلك ضمن جدلية دينامية من سيرورات تبادلية للفعل والانفعال والتفاعل المتباين الخلفيات والأهداف والآليات والسياقات.

ثانيًا، من حيث جوانب وآليات اشتغاله، فيُفتَرض أن يكون:

نقدًا إيبيستيمولوجيا، يَنْصَبُّ تحديدًا على التحليل النقدي لمجمل الشروط والميكانيزمات والمساقات المعرفية والتاريخية، التي يتم في حضنها إنتاج وإعادة إنتاج مختلف العلوم والمنظومات المعرفية في فضاء مجتمعي محدد في الزمان والمكان.

نقدًا سوسيولوجيًا وحضاريًا، يستهدف الكشف الممنهج عن أهم السيرورات والتفاعلات الاجتماعية، التي تتولد فيها ديناميات تبلور مفاهيم وآليات وأوضاع ومكونات السلطة والنفود والهيمنة والحكم والتحكم. في مجمل تراتباتها ومؤسساتها وممارساتها ومستوياتها… إلخ، أي «المجال السياسي» في مدلوله العام. كما يستهدف، في ذات الآن، كيفيات تكوّن البنى والهياكل والفئات والشرائح أو الطبقات والتراتبات الاجتماعية المختلفة… إلخ، أي «المجال الاجتماعي» بوجه عام. وهو نقد يتجه أيضًا، على هذا الصعيد، إلى معرفة تبلور نمط أو أنماط إنتاج وتوزيع واستهلاك الخيرات المادية وأشكال ومراتب الاستفادة المادية… إلخ، أي «المجال الاقتصادي» بمكوناته المختلفة. وأخيرًا، هو كذلك نقد يسعى إلى معرفة عمليات ومؤسسات ومصادر إنتاج القيم والمعايير والرموز والعادات والأعراف والتقاليد والمعتقدات الاجتماعية، التي تمثل مضمون «الثقافة» بمدلولها «السوسيوأنثروبولوجي» الشامل. وكذلك الوقوف على أساليب تداولها ونشرها وتبنّيها وترسيخها مؤسسيًا واجتماعيًا في كيان مجتمعي متعين في الزمان والفضاء. ويقصد بذلك جل مكونات «المجال الثقافي» بالمعنى الشامل الآنف.

إلا أنه من المفيد أن ننّوه، هنا، بملاحظة محورية مفادها أن المدلول الذي نفهم به «العمل النقدي» ضمن هذا التوظيف أو الاستئناس، هو مدلول مختلف كليًا عن بعض المدلولات والفهوم التي تمنح للنقد، في إطار منظورات أو رؤى «انتقاصية» (Péjoratives)، يُدرك عبرها كما لو كان عمليات هدم أو نقض أو دَحْض أو تخريب أو ذم وانتقاصٍ وتجريح أو مواقف إقصاء واستبعاد وإلغاء. ذلك أن «النقد» الذي نتبناه هنا، دلالةً واستعمالًا، هو ذلك «النقد المنهجي» الذي يتغيّى، بالأساس، تناول موضوعه الذي يشتغل عليه بما هو مطلوب أو ممكن ومتاح من آليات وجهود التحليل والتفكيك، بل وحتى هدم المتداعي والمهترئ من جوانب الموضوع ذاك. إنه ذلك الفعل «الشبيه بالحفر الأركيولوجي». ولكن ليس فقط من أجل النبش والتعرية وكشف المستورات والعورات والعيوب. وإنما كي يتجه إلى تلك المظاهر أو الجوانب المُعْتِمة في مكونات «المتن المنتقد» فيقاوم عتمتها، ويعيد صوغ بنائها لِجَعْلها مُتّسِمَة بما يمكنها من أن تغدو إيجابية منتجة جلية الدلالة. إنه أيضًا ذلك النقد، الايجابي دومًا، الذي يتناول تلك «العناصر المضيئة» في ذات المتن فيُنافح كي يُثريها لتمسي أفضل إشراقًا، مظاهر تشكل ودلالة مضمون. هكذا إذًا، يمكن أن نتلمس فيما سلف ذكره، بعض عناصر الإجابة عن ما ورد في هذا السؤال من حوار من تساؤل عن مبررات نعت ما أعتمده من منظور نقدي بكونه «نقدًا متعدد الأبعاد، تكامليًا، حواريًا، وتواصليًا، دينامي الانفتاح» على مختلف تجارب وخبرات النقد، وعلى الرؤى والتصورات المتعددة للذات والآخر والعالم. كما أوردنا ذلك، بتركيز شديد، في أهم الحيثيات الإيبيستيمولوجية والسوسيولوجية والفكرية المسُوقة في ما سبق.

أما في ما يتعلق بالمقصدية التي تشكل خلفية اهتمامنا بالانخراط في مواصلة هذا المسار النقدي، فإنها ترتبط، إضافة إلى ما سلف، بهدفين أساسيين مؤسِّسَيْن هما:

ضرورة الاستفادة من «منجزات» التراث الفكري الغربي الحديث والمعاصر معًا. وذلك في محاولة جادّة ومتحفزة للتعلم، قدر المستطاع، من التوجهات الفلسفية والإيبيستيمولوجية والاجتماعية النقدية التي عبرت عنها جهود رواد وأعلام مؤسسين مؤثرين. وذلك من أمثال: سان سيمون، وأوجست كونت، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وإيميل دوركايم، وألتوسير، وهربرت ماركيوز، وموريس غوديليي، ونيكوس بولانتزاس، وتالكوت بارسونز، وروبير ميرطون، وكلود ليفي ستراوس؛ وصولًا إلى ريمون أرون، وألان تورين، وبيير بورديو، وأنطوني جيدنز، وغيرهم كثير.

الاستفادة المماثلة، من موقع وضعية التعلم السابقة، من أهم مبادرات ومشاريع وجهود النهضة والتحديث والتنوير في التاريخ الفكري العربي الحديث والمعاصر أيضًا، التي تمتد منذ جذورها الأولى إلى ما يناهز القرنين، والتي تطورت لتتبلور راهنا في نماذج رائدة من «الأنساق والمشاريع الفكرية» التي تؤثت الفضاء الفكري العربي الآن. وبمجرد غاية التركيز ليس إلّا، يبدو مفيدًا أن نذكّر هنا بأهمها تكاملًا وتداولًا وحضورًا، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر: «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري، و«النقد التاريخاني» لعبد الله العروي، و«النقد المزدوج» لعبد الكبير الخطيبي، والطروحات النقدية لمحمد جسوس، و«النقد الحضاري» لهشام شرابي، و«نقد الاستشراق» لإدوارد سعيد، و«نقد الفكر الديني» لمحمد أركون، و«نقد الاستعراب» لحسن حنفي، إضافة إلى المشاريع والمنظورات النقدية لمفكرين كبار من عيار طيب تيزيني، وحسين مروة، وأنوار عبد الملك، وسمير أمين، وفهمي جدعان، وعلي الوردي، وصادق جلال العظم، وغيرهم ممن أثرَوْا الفكر العربي المعاصر بالكثير من عناصر الجدّة والجودة والإبداع.

واتكاءً على هذه الاستفادة التعلُّمِيَّة من فكْرنا وفكْر الآخر في آن، نحاول، في اجتهاداتنا السوسيولوجية والفكرية والتربوية، تشكيلها وتنظيمها وبوتقتها أو بالأحرى «نَسْقنتها» في إطار رؤية أو منظور أو براديغم أو مشروع «نقد متعدد الأبعاد»، كما قدمنا بعض ملامحه ومقوماته في ما سبق. غير أننا نؤكد من جديد أن فهمنا لكلمة «مشروع» يقوم على ضرورة النظر إلى أي مشروع، فكريًا كان أو سياسيًا أو اجتماعيًا، لا على اعتبار أنه «عمل» مكتمل تمام الاكتمال، وإنما على أساس أنه «سيرورة جدلية دينامية من التطور والتنامي والتكامل والتفاعل المستديم». إنه، وكما يبدو من دلالة الكلمة نفسها، «نمط من الاستباق التوقعي، أو من الارتماء في أحضان الفعل المستقبلي». الأمر الذي يبقيه مفتوحًا/ منفتحًا على آفاق/ احتمالات، ومصائر وإمكانات ومآلات مختلفة متعددة من مستويات الأداء والإنجاز.

غير أن الغاية الأساسية الكبرى المحفزة والمحركة لهموم واهتمامات وانشغالات جهودنا النقدية هذه – وبعيدًا من أي تنطّع أو ادِّعاء أي سبق أو تميز أو أي فرادة متخيَّلة، بل من أخلاقيات وقيم ومسلكيات المتعلِّم أو القارئ المجتهد – كما سبق الذكر – هي السَّعي المتواضع للبحث عن موطئ قدم ضمن ذلك «المنجز الفكري» المائز، مغربيًا وعربيًا، مما ننتظر منه أن يمنحنا التمكين المطلوب والفرص المواتية للمساهمة برْفدٍ فكري نوعي ذي قيمة جديدة مضافة لتلك المشاريع الفكرية والنقدية الرائدة المؤسسة المنوه آنفًا بأبرز أعلامها وعناوينها المشِعة، وطنيًا وقوميًا وعالميًا، وحتى لو كان ذلك ممهورًا – كما هو شأن أي معرفة في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية – بالكثير من الشروط والمواصفات والحدود والمحدوديات النسبية لهذه المساهمة الفكرية النقدية المنشودة.

إلا أن ما يؤسف له حقًا، ويبعث على الكثير من مشاعر التذمر والإحباط، ومن الاستفهام وعلامات الاستغراب. هو أن هذه المشاريع الفلسفية والسوسيولوجية والفكرية العربية الراهنة، في الوقت الذي أَضْحَتْ فيه موضع عناية واهتمام، بل وحتى ميدان دراسات وبحوث من طرف مؤسسات أكاديمية وتكوينية، ومراكز بحوث وخبرة واستشارة، ذات مستوى ومكانة ومصداقية عالمية معتبرة، فإنها ما تزال تعاني – في السياق العربي الذي تم إنتاجها وبلورتها فيه، من أجل معرفته وفهم آليات اشتغاله، وترشيد جهود ومسارات تنميته وتحديثه ودمقرطته وتنظيم مختلف مكوناته البنيوية وديناميات تطوره وتغيره. من الكثير من أوضاع الإهمال والتهميش والتجاهل والتناسي، لتظل مركونة في رفوف المكتبات، تطالها آثار ومحدَثات وتنكيل الزمان والمكان والإنسان.

إنها حالة كارثية محزنة، تعرِّي وتفضحُ هذه «الفصامية العميقة المركبة» التي تشْمُخ كوضعية «لا سواء لعلاقة باتولوجية» خطيرة مدمِّرة في مجتمعاتنا العربية، بين المعرفة والسياسة، والعلم والمجتمع، و«القرار العلمي»، الذي تعبر عنه خلاصات ونتائج البحوث العلمية المختلفة و«القرار الاجتماعي»، الذي يتم استصداره وصنعه وتنزيل مقتضياته بعيدًا من أي استهداء أو استرشاد بأي معرفة علمية أو توجهات عقلانية موثوقة الصدقية والنجاعة المعرفية والاجتماعية، بقدر ما يتم ذلك اعتمادًا على الأهواء أو التعليمات الفوقية أو على المواقف والمواقع والمصالح الذاتية الفردية والجماعية منها معًا. ومن هنا نفهم لماذا غالبًا ما يكون مصير بعض توجهات وبرامج الإصلاح التربوي والثقافي، وبعض السياسات العمومية، ومشاريع التحديث والتنوير والتنمية والتجديد.هو النصيب الأوفر من التعثر والتيه بل والفشل الذريع أحيانًا كثيرة.

إنه لرهان كبير وتحدٍّ أكبر وأعظم ذلك الذي يَنتظر أن يَنخرط في المسارات والجهود العلمية والاجتماعية الهادفة المنظمة و«المُمَأسسة» لكل المربين والمثقفين والأكاديميين، وكل الفاعلين والفعاليات والهيئات المدنية والسياسية في مجتمعاتنا العربية. وذلك من أجل تكوين «مشروع شراكة وطنية وقومية» جديدة متحفزة للتصدي لتلك «الفصامية» المشار إليها آنفًا، انطلاقًا من إرادة فكرية وسياسية واجتماعية معقلنة، واضحة المرجعيات والمعالم والمقاصد ومناهج الاشتغال. الأمر الذي يُفترض فيه، على المستوى العلمي، أن يساعد على تأسيس «كتلة ثقافية واجتماعية» قوية، قادرة على إيجاد البدائل والآليات والآفاق الممكنة لإقامة «مواءمة أو مصالحة» عميقة متناغمة ممكنة، بين مطالب ومطامح المعرفة والعلم، من جهة، وحسابات وتموضعات وأغراض السياسة، من جهة ثانية. أي بين الفكر والفعل في الواقع، وبين مقتضيات النظر وتجارب الممارسة السوسيوتاريخية، بشكل أعم وأشمل.

  • شكرًا، على ما منحتني من وقتك وجهدك في هذا الحوار الفكري المفتوح الشائق معك. ولكن، ماذا أنت قائل، لو طلبت منك كلمة مركزة نختتم بها حوارنا هذا؟

– أشكرك، بدوري، على جهودك البحثية المميزة، وعلى اهتمامك بمساهماتي السوسيولوجية والتربوية بشكل خاص. ويبدو لي مفيدًا، في مستهل هذا الجواب، أن أذكّر بأني قد اهتممْت، في ما سبق من إجابات، بالتركيز على ما هو دال وأساسي، مما يُنتظر منه أن يجعل من مضامين هذا الحوار مجرد أرضية مدخلية للاقتراب من تجربتي المتواضعة في حقل الكتابة السوسيولوجية تحديدًا. غير أن هناك عدة انشغالات وهواجس معرفية وتربوية – أشرت إليها بشكل مُبَاطِنٍ لمظَانِّ ما سلف – ما تزال تساورني وتلح عليّ باستمرار. ويتعلق الأمر هنا، بما يمكن نعته بـ «شروط ومستلزمات تأهيل وإعادة بناء وتأهيل البحث السوسيولوجي» وطنيًا وعربيًا. إلاّ أنه إذا كان الحديث عن هذه «المسألة/ المهمة/المهام» يتطلب مقامات أوسع مما يُتيحه هذا الحوار، فإنه لا أقلّ من أن نشير، بإيجاز دالّ، إلى بعض أهم هذه الشروط والمستلزمات الآنفة، وتجمل ذلك في ما يلي:

– لعل من أبرز ما يُفترض تصويب التوجه إليه في جهود علمية إعادة التأهيل المذكور فيما سلف، هو الحقل الأكاديمي، وفي البؤرة منه المؤسسة الجامعية، «نواته الصلبة» وقطبه المركزي، وما يرتبط به أو يتوازى معها من معاهد ومراكز ومدارس وفضاءات تلْقين وتكوين وتأطير. وبخاصة في ميادين علوم الإنسان والمجتمع. فإذا أخذنا، كنموذج لذلك، «كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية» المستحدثة، وكذا الشعب والمسالك التي ما تزال تهتم بتدريس هذه العلوم في «كليات الآداب والعلوم الإنسانية» حسب التسمية القديمة، البيداغوجي والعلمي والمؤسسي العام أصبح يَطرح، أكثر من أي وقت مضى، كثيرًا من الأسئلة والتحديات على مستويات عديدة متباينة.

وهكذا، فإذا كنا نثمِّن غالبًا هذا الاهتمام المتنامي بإدراج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وما في حُكمِهما من تخصصات، ضمن شعب ومسالك هذه الكليات، فإننا يمكننا إزاء ذلك أن نتساءل: ما هي مبررات هذا الاهتمام/ المعرفية منها والاجتماعية تحديدًا؟ وما هي الأساليب المعتمدة في تنظيمها: فروعًا تخصصية، ومشاكل تطبيقية أو مهنية، وجسورًا مَمَرّات واصلة بينها دون إفقاد بعض التخصصات «هويتها العلمية» في نهاية التكوين، مثل مسار هذا الخريج الجامعي الذي تَنقّل فيه من إجازة في الأدب، إلى ماستر في أحد تكوينات الدراسة الإسلامية، إلى دكتوراه في أحد تكوينات علم الاجتماع؟ وهو وضع أمسى يطرح الكثير من المشكلات والمصاعب أمام إدماج واندماج الكثير من مخرجات الجامعة في سوق الشغل ومجالات الاقتصاد والمجتمع بوجه عام. وذلك على الرغم مما يمكن أن نرصد من ترابطات، أو من «قرابة» ما بين بعض التخصصات، سواء في الموضوع المعرفي أو في مجال الاشتغال، وما يمكن الإقرار به أيضا من توفر بعض الدارسين على «كفايات» ذاتية خاصة تمكنهم، خلال مساراتهم العلمية، من المحافظة على «هوية تخصصية» معينة، أو من بلورة هوية أخرى جديدة، وبالكفاءة العلمية المطلوبة. وفي السياق ذاته يمكن أن نطرح إشكالية الطرائق والمعايير المتبنّاة في بناء وتصريف «المقررات والبرامج والمناهج الدراسية» المعتمدة، وما هو دور السلطة التربوية الوصية والفاعلين الأكاديميين والاجتماعيين المفترضين في صياغة توافقات متكاملة حول مضامينها وأهدافها وخطط تعريفها على مستوى الواقع التربوي العملي؟ وهنا يمكن أن نفكر أيضا في توفير الشروط الملائمة لجهود بلورة «بيداغوجية مؤسَّسْيَّة جامعية» تنهل من المرجعيات النظرية والمنهجية في مجال العمل الأكاديمي الحديث، ومحاولة فهمها والإفادة منها عبر الاستئناس النقدي بتجاربها العالمية، ثم العمل على توطين معقلن هادف مدروس لمفاهيم ونماذج هذه التجارب في سياقاتنا التربوية الخصوصية. وذلك تفاديا للوقوع في أيّ تقليد أو نقل أو «إسقاطية ساذجة»، مما يمكن أن تكون له استتباعات سلبية على مسارات اعتماد تدخلات هذه البيداغوجيا المعنية هنا، والتي من بين غاياتها المحورية توفير بعض المقوّمات الضرورية لـ «مأسسة معقلنة» للفضاء الأكاديمي المؤسسي: تنظيمً وتقاليد وأخلاقيات سلوك وعمل وتعامل وقواعد ومساطر وقوانين وآليات اشتغال. والمراد هو «نسْقَنة» العناصر السابقة ضمن منظومة «ثقافية جامعية» مؤطرة وموجهة بمعاييرها ومبادئها لـ «إثيقا مهنية»، وكذلك لما كان يسميه عالم الاجتماع المغربي محمد جسوس بـ «العقل الجامعي»، سواء على صعيد التفكير أو على مستوى العلاقات الاجتماعية والإنسانية أو المُمَارسة التاريخية بشكل عام.

كل هذه الشروط والمقومات – وغيرها كثير مما لم تتم الإشارة إليه نظرًا إلى محدودية هذا الحوار – يُفترض أن يكون استحضارها بوعي تربوي وفكري عميق من أهم عوامل إعادة «تأهيل المؤسَّسة الجامعية»، لتصبح أفضل عملًا وتواصلًا وجودة في «المخرجات» العلمية والإنسانية. ولتمتلك بذلك مقومات الانفتاح التبادلي الإيجابي المنتج على «محيطها اللامؤسسي»، أي على المستوى السوسيواقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري الشامل.

– إذا كانت المستلزمات الآنفة مقومات وشروطا أساسية للنهوض بالجامعة، توجهات وميكانيزمات اشتغال، فإن الأمر يتطلب بالموازاة مع ذلك «إعادة تأهيل» وتجديد واستنهاض أسس «محيطها السوسيواقتصادي العام». الأمر الذي يجعله قادرًا على القطع المنهجي المعقلن مع مجمل القيم والآليات والعلاقات والأساليب التقليدية المتجاوزة والمتناقضة مع مواصفات مجتمعات التنمية والحداثة والعقلانية والديمقراطية، وذلك من قبيل استمرار الاعتماد على بعض الولاءات القبلية والزبونية والمحسوبية والرشوة والفساد وضعف حكامة التدبير والتسيير. إن تجاوز هذه الاختلالات والأعطاب يُنتظر منه أن يَمنح هذا المحيط ما هو مطلوب من «التمكين» بهدف إِقْداره على فرز «طلب اجتماعي» معقلن على «مخرجات» النظام الجامعي والتربوي يكون بمنزلة إطار توجيهي لبنائها، معرفة وتخصصات وجودة تكوين. وفي الوقت نفسه يساعد «مؤسسات وبنيات الاستقبال» الاجتماعية من مقاولات ومجالات وأسْواق للتشغيل/ الشغل والاستخدام، بل وكل فضاءات المجتمع عامة، على تطوير مكوناتها وأدائها وتوسيع قدراتها لتصبح مؤهّلة لإدماج أو اندماج عقلاني رشيد للمخرجات المقصودة هنا. وذلك تفاديًا للزّج بها في متاهات البطالة، وعرضة لعواقب هدرها كـ «رأسمال إنساني» مهم، أُنفقت على الاستثمار التربوي فيه «أكلاف» ماديّة ورمزية واجتماعية هائلة. ويُنتظر من هذا التأهيل المزدوج للجامعة ومحيطها أن يعمل على «تمكينهما» من التوفّر على قدرات التدبير العقلاني الهادف لتوجهات وجهود «الانفتاح» التبادلي بينهما، من «شراكات وتعاقدات وتوافقات، واتفاقات، ودفاتر تحمُّلات، وتكوينات بالتناوب، وأشكال تمويل للخطط والبرامج والمشاريع، وأنماط تقييم لأدائها الإنجازي… إلخ». ويستطيع كل من الطرفين المعنييْن هنا أن يُسْهِم بإنتاجية في إغناء وتطوير تجارب الآخر، نظرية وممارسة.

وأعتقد أن التأهيل التمكيني المنوّه به قبلًا، والذي يخص الجامعة ومحيطها، سيظل في حاجة ماسّة إلى تأهيل مكون آخر مرتبط به، ألا وهو حقل البحث العلمي عامة. وأقترح – بغرض تركيز منهجي دال ليس إلا – أن يشتغل هذا التأهيل، على الأقل، على واجهتين واسعتين أساسيتين، وهما:

الواجهة الأولى، وأقترح أن يتم العمل في إطارها على المراجعة النقدية التفكيكية لإواليات اشتغال هذا الحقل. مما يسمح، افتراضًا، بالتدخلات التصحيحيّة والإصلاحية الرامية بالذات إلى «مأسسته»: بنى وهياكل، ومساطر تقنين وتنظيم، وقواعد وتقاليد وقيم وأخلاقيات بحث علمي، وكذلك أنماط تمويل وتدبير وتقييم لجودة المنتوج. والقصد هنا هو أن تُشكِّل هذه «المأسسة» المشار إليها «نسقًا مرجعيًا موجهًا» لأسُسِ وتدخلات هذا الحقل. وذلك حتى لا يظل – كما هو شأن الكثير من الفضاءات البحثية التابعة لقطاعات اقتصادية أو مالية أو إدارية أو خدماتية أو تكوينية مختلفة – ممهورًا ببعض مظاهر التشتت واختلالات التبعثر والفوضى والتنافر في التوجهات والأهداف وأساليب العمل والتعامل.فيرتقي بفضل ذلك إلى مستوى المساهمة الإيجابية في رفْدِ وتجديد المعرفة العلمية، وتوسيع دوائرها وآفاقها المَرْجُوّة.

الواجهة الثانية، وأفضل أن أُقْصِرَ الحديث فيها عما أصبح يدعى بـ«بحوث الخبرة أو الاستشارة»، والتي أمسى «الطلب الاجتماعي» لها متزايدًا من طرف جهات أو قطاعات اجتماعية واقتصادية وتنموية محلية، أو من طرف هيئات ومنظمات ومراكز تمويل أو قرار إقليمية أو دولية متعددة، مثل (البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي/ صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية/ المنظمة العالمية للصحة/ اليونيسكو/ اليونيسيف… إلخ)، بل اعتادت أن تطلق عليها هذه الهيئات ومتعاونوها: «بحوث التنمية». ولعل من بين متطلبات إعادة النظر في هذه البحوث هو الدعم المكثف والمتواتر لتمتين علاقات انفتاحها التفاعلي على الحقل الأكاديمي الجامعي، واجتراح الآفاق الممكنة لجعلها تتلاقح وتستفيد باستمرار مما يعتمدُه البحث السوسيولوجي والعلمي بعامة من قواعد وأعراف وقيم وأطر نظرية ومنهجية موجّهة لمجمل منطلقاته وسيروراته وخلاصاته ونتائجه العلمية. وذلك حتى تتمكن من الانتقال، من وضع راهن ينتقدها البعض فيه بكونها أقرب في مجملها إلى «التقارير الإدارية» منها إلى البحوث العلمية المعمقة، إلى وضع أفضل تغدُو فيه ممتلكة لبعض ما هو منشود ومتاح لها من مواصفات «الصدقية» المعرفية والاجتماعية معا. وإذا كانت الوظائف والأهداف الأساسية لـ «بحوث الخبرة والاستشارة» عمومًا تتمثل بأن توفر للمؤسسات والجهات «الطالبة لها» ما تريده من معطيات ومعلومات كمية ونوعية مختلفة، أي من «معرفة علمية استعمالية» يمكن أن يتم الانتفاع بها في فهم أبعاد ومدلولات ظواهر وأحداث وقضايا ووقائع ومشكلات وأزمات أو كوارث أو تحولات سوسيوسياسية واقتصادية معينة، وكذلك في بلورة استراتيجيات أو خطط للتعامل معها ومجابهتها أو إيجاد حلول أو مخارج لبعضها. إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا لا يمنع أن تشكل هذه المعرفة أرضيات ومداخل لميادين ومواضيع وإشكالات وفرضيات بحوث علمية جديدة، يمكن أن تكون أوفر صدقية وثباتًا ونجاعة معرفية وأكاديمية واجتماعية متكاملة. وبهذا تمسي «بحوث الخبرة» هذه رافدًا رئيسيًا مُثْريَّ للبحث السوسيولوجي ولسيرورة تطويره وتجديده وإنمائه باستمرار، فضلًا عن وظائفها البراغماتية الأساسية المفيدة.

ونحن ننحو بهذا الحوار نحو ما تفرضه حدوده ومقتضياته من نهاية ممكنة، فإني أودُّ ألّا يفوتني قبل ذلك ابتهال هذه الفرصة للتذكير المعبّر بهذه الملاحظة المحورية التالية. ويتلخص مفادها في أن «الزمن الراهن» المُعَولَم، المتسارع التحول والتقلب على أكثر من صعيد، يشهد، منذ عقود خلت، أحد أكبر التحولات الحاسمة في تاريخنا المعاصر، حسب ألفين توفلر. ويتعلق الأمر بما يسميه «تحول السلطة». ويقصد بذلك، في عمله الموسوم بذات العنوان، انتقالها مما كانت تقوم عليه من مقومات والإمكانات المادية والمالية والعسكرية والتكنولوجية.، ليجعل من «المعرفة بكل مشتقاتها ومنتجاتها» مستندًا محوريًا لأسس صَنعتِها وقوتها وتصدرها، مكانة وفعلًا في سياق هذا العالم الجديد، الذي لم يعد يتخذ من «اقتصاد المعرفة» دعامة مفصلية، لاقتصاده وحسب، وإنما محركًا لديناميات تطوره السوسيوحضاري الشامل.

ولذا، فإننا لو أدركنا بوعي نقدي تاريخي عميق منفتح، من قبيل ما نجتهد في الدعوة إلى تبنِّيه ونهجه، مضامين وأبعاد ومدلولات التحولات المعرفية والحضارية المنوه بها في ما سلف، فإننا سنقف على قيمة وأهمية المعرفة العلمية والتقانية، وبخاصة في أهم منتوجاتها وتجلياتها الرقمية والتواصلية السريعة التطور والتجدد. كما سندرك بالذات راهنية وملحاحية الاعتناء بـ «المعرفة السوسيولوجية» بكل روافدها، والتي كانت موضوع هذا الجهد التحاوري المتواضع، ولا سيما في ما يخص تكثيف النوايا والإرادات والجهود «المؤسسية واللامؤسسية» بهدف تأهيل هذه المعرفة، مأسسة وتوجيهًا فلسفيًا وأطرًا مرجعية مرشدة لقوى ومشاريع وآليات التكوين والبحث والتواصل المنتج مع المحيط.

ونعتقد أن السير في هذا التوجّه، القائم على بوصلة «مشروع مجتمعي» متناغم الأهداف وأدوات التحرك والفعل، سوف يكون قمينًا بأن يمنح مجتمعاتنا «البازغة المتنامية» بعض ما هو مرجوّ من مقومات ومواصفات الأهليّة والجدارة والكفاءة والاقتدار على كسْب رهانات ما تنخرط فيه من تجارب ومسارات الإنماء والدمقرطة والتحديث. وذلك سعيًا منها إلى تحقيق «تموقع» مستحق تحت شمس هذا العالم المعولم المتحول الجديد.

وهكذا إذًا، وعطفًا على كل ما سبق، فإن الكثير من دروس التاريخ وتجارب الأمم والدول والشعوب – ولا سيما ما يمثّل منها نماذج للنهوض والإقلاع – تُعلمنا أن المجتمعات التي أسَّست «مشروعها المجتمعي الإنمائي» على «مشروع إصلاحي تجديدي» لمنظومات التربية والتكوين والبحث العلمي وإعداد «الرأسمال المعرفي والإنساني» في سياقاتها الذاتية، بما هو «نواة صلبة» لتوجهاتها الكبرى، هي التي ربحت الرهان. كما استطاعت أن تجعل من «نموذجها المعرفي والتربوي» مدخلًا أصيلًا لاستنهاض وتجديد خصوصيات وإمكانات الذات، وكذلك مستندًا فكريًا فاعلًا على مستوى الانفتاح أو التحاور التواصلي المنتج مع مشتركاتها الإنسانية والحضارية والكونية الشاملة والمتنوعة التحديات والمراهنات والتدافعات ومحاور التوتر أو الصراع أو الجذب والاستقطاب المتعدد الأهداف.

وفي مختتم هذا الحوار، نجدد هذا التساؤل الذي باطن كلّ آناته: هل تمكنت هذه المساهمة الفكرية المتواضعة من تحقيق بعض غاباتها ومقاصدها المنشودة، ولو في حدود وموضعات «نسبيتها المعرفية» التي قدمت بها مضامينها للمتلقّين المنتظرين، من باحثين وطلاب ومربين ومهتمين.؟ ذلك ما ننشده، وما نأمل بصدق أن يجد فيه جميع هؤلاء، على اختلاف المرجعيات وهدفيات التلقي، بعض مقومات الجودة والنجاعة، وشروط «القيمة الفكرية المضافة» لبعض ما يُثري وينفع ويفيد، كمداخل إرشادية لتوجيه وتجديد النظر والممارسة في آن. وسواء كان ذلك في ميادين البحث العلمي، أو في مختلف مجالات المجتمع على نحوٍ أعمّ وأشمل.

يسعدني أن أقدم جهد ومضمون هذا الحوار إلى الباحث السوسيولوجي الواعد د. محمد الدحاني. وذلك تقديرًا لجهوده القيمة، وامتنانًا له على اهتمامه الجادّ بأعمالي المتواضعة، متابعة وقراءة بحثية هادفة معمقة، متمنيًا له المزيد من العطاء العلمي النافع المفيد. (مصطفى محسن – الرباط في 30 أيلول/سبتمبر 2023)