يعدّ د. علي أسعد وطفة من بين المفكّرين العرب الأكثر إنتاجاً في مجال علم الاجتماع التربوي بخاصّة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية بعامّة. وهو سوري الجنسية من مواليد دمشق 1955، وأستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة دمشق ومعار إلى كلية التربية بجامعة الكويت حالياً. حصل وطفة على شهادة الليسانس في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة دمشق 1979، والماجستير في علم الاجتماع التربويّ من جامعة كان (Caen) في فرنسا عام 1985، وعلى درجة الدّكتوراه في علم الاجتماع التربوي من الجامعة نفسها، وذلك سنة 1988.

وكان وطفة قد حصل عدة جوائز علمية منها: جائزة الباحث المتميز لجامعة الكويت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية في عام 2009. وجائزة حميد بن راشد للعلوم الاجتماعية 2014.

بدأ وطفة ببناء ملامح مشروع فكريّ وسوسيولوجيّ شامل عن السوسيولوجا السورية من خلال الترجمة عن الفرنسية لكبار أعلام الفكر السوسيولوجي إذ قام بترجمة 5 كتب أبرزها كتاب التربية والمجتمع لإميل دوركهايم، وكرّس جهوده الأكاديميّة في مجال التأليف والكتابة السوسيولوجية العلمية (حوالى 34 كتاباً بين تأليف منفرد وتأليف بالمشاركة و81 بحثاً علميّاً محكّماً بصورة أكاديمية)، إضافة إلى مئات المقالات العلمية التربوية المنشورة في الدوريات العربية المتخصّصة والمحكّمة. ولم يتوان عن الانخراط في الثورة الإعلامية والرقمية، وهو التربويّ الخبير، كتابةً وإرشاداً، وتوجيهاً، إذ قام بتأسيس عدّة مواقع إلكترونية علمية متخصّصة، وانفتح على مواقع التواصل الاجتماعيّ، كالفايسبوك والتويتر وغيرها بفعالية. ناهيك بالمساهمة في لجان مناقشة الأطروحات الأكاديمية، والإشراف على كثير من البحوث الجامعيّة، فضـلاً عن تحكيم العشرات من المقالات والدّراسات العلمية، والكتب، ومشاريع الأبحاث المختلفة، والأعمال العلمية للترقية، والمشاركة في عشرات الندوات والمؤتمرات العلمية، والدورات التدريبية، والمحاضرات العامة في المنطقة العربية وخارجها. وراكم وطفة، خلال ذلك كلّه، خبرات تدريسية هامّة، تخطيطاً وتأليفاً وتدريساً وتحكيماً وإشرافاً.

  • بداية نودّ التعرف إلى شخصكم الكريم: من هو علي أسعد وطفة الإنسان؟

– يشرّفني في بداية هذا اللقاء أن أتوجّه إليكم بخالص الشكر والتقدير على تكريمي بهذا الحوار حول قضايا التربية والمجتمع وشجونهما، كما أغتنم هذه المناسبة لأعبّر عن امتناني وعرفاني بالجميل لمجلة «إضافات» التي استطاعت أن تحقّق إنجازها الفكريّ اللافت، وأن تتألّق فكريّاً وثقافيّاً لتأخذ مكانها كأحد أهم المنابر العلمية في عالم الفكر السوسيولوجي في البلاد العربيّة. وقد تشرّفت بالكتابة على صفحاتها في أكثر من مناسبة علمية. وأرجو أن تسمحوا لي، في هذه المناسبة، بأن أتقدّم بخالص الشكر إلى هيئة تحرير المجلة وهيئتها الاستشارية، وأن أخصّ بالشكر الجزيل د. ساري حنفي الذي استحقّ أن يكون أحد أقطاب السوسيولوجيا في وطننا العربي بما قدّمه من جهود كبيرة في الميدان تاركاً بصمته المميزة في مجال البحث السوسيولوجي في الوطن العربي.

أمّا في ما يتعلق بالسّؤال الخاصّ بالتّعريف الذاتي، فأنت تدرك جيّداً – وأنت تعمل في الحقل السوسيولوجي نفسه – أنّ تقديم الذّات يربك العاملين في هذا الحقل على وجه التّخصيص، ويحرجهم في كثير من الأحيان. فالباحثون والعاملون في ميدان السوسيولوجيا يجيدون الحديث في مختلف الأمور والقضايا، ولكنّهم غالباً ما يخفقون عندما يتحدّثون عن ذواتهم، ذلك أنّ الجانب الشخصيّ والذاتيّ كثيراً ما يختفي لديهم، ليأخذ مكانه القصيّ المهجور في تضاريس الهويّة الذاتيّة للباحث في علم الاجتماع. وعلى خلاف الأدباء والفنانين قلّما يخوض الباحث السوسيولوجي في الجوانب الذاتية لهويّته الخاصّة إلى الحد الذي اعتاد معه الباحثون في مجال علم الاجتماع نسيان معالم أنفسهم وخصائص ذواتهم. لقد تعلّمنا في قواعد المنهج وأصوله السوسيولوجية قاعدة هامة ألفناها مع الزمن، حتّى باتت لنا طبعاً أو هي كالطّبع، وهي: أنه يجب على الباحث الاجتماعيّ أن يضع حقائبه الذاتية بعيداً، وأن يقصيَ مشاعره في أبعد منطقة من الوجدان، طلباً للتجرّد والموضوعيّة، واعتدنا هذا الأمر حتى لم نعد قادرين على مواجهة النّفس أو مساءلتها أو تعريفها أو الخوض في خصائصها. ومن المؤكد في هذا المقام أنّني لن أنجح في الإجابة عن هذا الجانب الذاتيّ من شخصيتي المتواضعة، ولا سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّك ركّزت على الجانب الإنساني، وهو الجانب الذي يطرح مشكلات ترتبط بالمعاني والقيم، إذ إن الجانب الذاتيّ، كما تعلم، ينطوي على سمات وملامح قيمية يصعب معها أن تكون الذّات ناظرة ومنظوراً إليها، أو دارسة وموضوع درس في آن معاً.

وعلى غرار المنهجية السوسيولوجية في تناول الذات سأقدّم إجابة بسيطة حيادية قد تكون صالحة للردّ على سؤالكم، وكل ما استطيع قوله إنني ولدت وترعرعت في دمشق لأسرة متواضعة وفقيرة، وتابعت دراستي في جامعتها العتيدة: جامعة دمشق في مرحلة السبعينيات من القرن الماضي في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية. وكان من حسن حظّي أنّي تفوّقتُ في دراستي الجامعية، فعُيِّنت معيداً في كلية التربية، ثم تمّ إيفادي للدراسة في فرنسا في مجال علم الاجتماع التربوي، وهناك حصلت على الدكتوراه في جامعة «كان» الفرنسية حول موضوع تكافؤ الفرص التّعليمية في الجامعات الفرنسية، ثم عدت للعمل مدرّساً، فأستاذاً في جامعة دمشق إلى أن وقع إيفادي إلى جامعة الكويت عام 1997، وما زلت بها، أناضل أكاديمياً على منابرها وبين طلابها.

وفي هذا المقام أستطيع أن أقول إنّ دراستنا في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في جامعة دمشق قد تركت أثراً كبيراً في تكويني الإنساني والأخلاقي كما هو حال أغلب زملائنا في هذا القسم. فقد نهلنا من ينابيع الفكر الفلسفي وتشبّعنا بعطاءاته المتدفقة على يدي هامات فكرية وأخلاقية سامقة، تمثّلت بأساتذة رائعين واستثنائيين رحمهم الله جميعاً أمثال العلامة عبد الكريم اليافي والمفكر الكبير نايف بلوز، والمفكر الكبير صادق جلال العظم، وقد تعرّفنا في هذا القسم إلى أقطاب الفكر الإنسانيّ قديمه وحديثه أمثال سقراط وأرسطو وأفلاطون وابن رشد والفارابي والبيروني وكانط وديكارت ونيتشة وابن خلدون وماركس ودارون ودوركهايم وفلاسفة عصر التنوير، وإلى مختلف تيارات الفكر الفلسفي. وقد ترك هذا التّكوين الفلسفيّ المتين أثراً كبيراً في نسيجنا السيكولوجي والنفسي والأخلاقي والإنساني، فتأثرنا بعقلانيات ديكارت وابن رشد، وبالطاقة التنويرية لمفكّري القرن الثامن عشر، ونهلنا من أخلاقيات كانط، وتعرّفنا إلى سوسيولوجيا دوركهايم وماركس وأنغلز وفيبر وروسو وماركوز وبيير بورديو وغيرهم من المفكرين. وتأثّراً بهذه المنارات الفكريّة الإنسانيّة تشكّلت شخصيّتنا الإنسانيّة وتبلورت عشقاً للعلم والمعرفة وإيمانا بالعقل والإنسان وتعلّقا بالكرامة والحرية.

  • ما هو تقييمكم للوضع العام في سورية الجريحة؟ وما تأثير ذلك في مستقبل التّجربة السّوسيولوجية السّوريّة؟

– في ما يخص الشقّ الأوّل من السّؤال فإن سورية كما وصفتها يا سيدي جريحة مضرّجة بدماء أبنائها، وما يجري فيها مأساة يندر مثيلُها في تاريخ الإنسانية، ولا يمكن للكلمات أن تصف المأساة التي يعانيها الشعب السوري اليوم، هذا الشعب الذي وجد نفسه بغتة في مواجهة مفتوحة مع كلّ أشكال الفناء والبلاء في مختلف مستوياته الأخلاقية والإنسانية، حتّى بات وطناً مدمّراً حزيناً منكوباً مكلوماً بعد أن تآمرت عليه كلّ شياطين الإنس والجن، لتحوّله إلى جحيم يطبق على أبنائه بالمصائب والويلات. ولو حاولنا أن نصف أوضاع السوريين لعجزت الكلمات وقواميس اللغة عن بلوغ القصد. ولو تأملنا أحوال السوريين اليوم، لوجدناهم بين جريح وقتيل ومشرد ومهجّر. إنّها مأساة بحجم الكون، وما يجري فيها كابوس وجودي يندر نظيره في تاريخ الإنسانية المعاصر.

ولا أجد، في توصيف هذه الوضعية، أبلغ من عبارة عبقريّة تُنسب إلى المفكر والشّاعر السوري محمد الماغوط (رحمه الله) يقول فيها: «كل طبخة سياسية في المشرق العربي، أمريكا تعدّها، وروسيا تنفخ تحتها، وأوروبا تبرّدها، وإسرائيل تأكلها، والعرب يغسلون الصّحون». وهذه هي الحال في سورية اليوم، فقول الماغوط استشراف فلسفيّ عميق للوضعية في سورية؛ فكلّ ما يحدث يجري لمصلحة إسرائيل والصهيونية العالمية والقوى الاستعمارية التي ما زالت تقتسم المنطقة وتعيد المحاصصة في تقسيمها.

لقد تحولت سورية اليوم إلى حقل للصّراع بين القوى الإقليمية والدولية، وإلى ساح للتجارب العسكرية بين هذه الدول، والعرب غافلون إن لم يكونوا مشاركين في هذه الجريمة التاريخية ضدّ الإنسان والإنسانية في سورية. في هذه المحرقة التاريخية الكبرى تشترك كلّ صنوف الأسلحة وكلّ الجيوش والجماعات الإرهابية المتطرّفة، وكل صنوف رؤوس الأموال المتدفّقة لتغذية هذه الحرب التي يربح فيها الجميع، جميع الأطراف، ويخسر فيها الشعب السوري بأطفاله ونسائه ومستقبله. فالمؤامرة على سورية أكبر كثيراً من نظامها الدّكتاتوري، ونحن ندرك تماماً بأن قوًى إقليمية ودولية تريد أن تضع سوريا ضمن إطار الهيمنة، وأنّ تقسمها لأسباب استراتيجية تخصّ أمريكا والصّهيونية العالمية. كلّ هذا والشعب السوري الذي يتكلمون باسمه لا ناقة له ولا جمل في كلّ ما حدث ويحدث. ذلك أنّ ما يجري على الأرض السورية هو صراع إقليمي دوليّ أبعد ممّا يتصوّره الإنسان العادي، فالأزمة السورية تجاوزت حدودها المحلية لتصبح مفتاحاً لتفسير كثير من الصراعات الاستراتيجية الدولية والإقليمية المعاصرة.

أمّا في ما يتعلّق بالجانب الثاني من السؤال حول تأثير الوضع السوري في مستقبل التجربة السوسيولوجية السورية، فأقول بأنه يجب علينا قبل الحديث عن مستقبل التجربة السوسيولوجية في سورية أن نتحدث عن ماضيها وتاريخها. ويمكن أن نطرح السؤال بصيغة أخرى: هل هناك سوسيولوجيا في سورية؟ أميل إلى القول بأن السوسيولوجيا بمختلف أشكالها وتجلياتها غائبة في المشهد السوريّ (كما هو الحال في كثير من البلدان العربية). علم الاجتماع في سورية يعيش حالة عدمية. فالنظام الدكتاتوري في سورية لم يسمح لأيّ سوسيولوجيا نقديّة أو حتى عادية بالتشكّل أو بالتكوّن على مدى النّصف الثاني من القرن الماضي. لقد أنشئ قسم واحد للفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق، وهي الجامعة الوحيدة التي كانت تنطوي على هذا القسم. وتمّت محاصرة المفكّرين في هذا القسم على مرّ الزمن، ومن ثَمّ حوّله النّظام إلى قسم أمني بامتياز، حيث أوفد عددا كبيراً من عناصره الأمنية لتحصيل شهادة الدكتوراه في روسيا، ثم مكّنهم من الحصول على هذه الشهادات حتى تحوّل القسم بكامله إلى مؤسّسة أمنية خالصة، باستثناء بعض الشرفاء من المفكرين القدامى: أذكر منهم عبد الكريم اليافي، ونايف بلوز رحمهما الله، وصادق جلال العظم أطال الله في عمره… ومن المؤسف أن نقول إنّ أغلب العاملين في هذا القسم قد أصبحوا من رجالات النظام في مجال الفكر والممارسة… وعلى هذا النّحو استطاع النظام أن يقتل هذا الاختصاص العلميّ الفذّ في مهده ومن داخله، وتوصّل إلى تحويله من قوة فكرية نقديّة في المجتمع إلى قوة للمحافظة على النّظام السياسيّ أمنيّاً وفكريّاً.

ولا أدَلَّ على ذلك من أنّه خلال كلّ الأحداث الدامية التي شهدتها وما زالت تشهدها سورية، لم نلاحظ وجود أي دراسات سوسيولوجية لأساتذة الجامعات المتخصّصين في علم الاجتماع (دراسات تخصّ ما أصاب البنية المجتمعيّة، بحوث تتّصل بتحديد الفئات التي تحمّلت فعـلاً آثار الحرب، مواقف الطبقات الاجتماعيّة المختلفة ممّا يجري ومساهمتها فيه… إلخ) ولا أطروحات نقديّة تحلّل الواقع وتفتح آفاقاً للمستقبل من قبل المتخصّصين في الفلسفة، بل ما نُعاينُه هو بقاء العاملين في هذا الميدان تحت إشراف النظام، وغياب أي فاعلية لهم إلّا في مجال الدّعاية الإعلامية للنظام السياسيّ القائم، أو الانخراط في تأجيج الصّراع العرقي والطّائفيّ.

وممّا لا شكّ فيه أن القضايا السوسيولوجية في سورية اليوم أصبحت تحتاج إلى جيش كبير من المفكرين والباحثين، ومن تلك القضايا نذكر: الهجرة، والأمية الناجمة عنها، والأوضاع الاجتماعية للجرحى، ولعائلات الشهداء، والمفقودين، وعمالة الأطفال، وتجارة الأطفال، وقضايا العمل والبطالة، والهجرة إلى الخارج… ويضاف إلى ذلك كلّه القضايا والمشكلات التي تتعلق بعلم الاجتماع السياسي، مثل: قضايا الديمقراطية، وأوضاع الأقليات الإثنية والعرقية والدّينيّة، والمشاركة السياسية للمرأة… إلخ.

وتأسيساً على ما تقدم، نرى أنّ مستقبل هذا الاختصاص العلميّ سيكون رهن التحوّلات السياسية في المجتمع السّوري، وأنّ مسؤولياتٍ جساماً تنتظر الباحثين السوسيولوجيين السوريين وغيرهم، ونرجو أن يحقّق المجتمع السّوري وحدته وديمقراطيته، وعندها سيكون بإمكاننا أن نأمل لعلم الاجتماع أن ينطلق بقوة، ليحقّق بعض الإنجازات العلمية المرجوّة.

  • كيف تنظرون إلى وضعية البحث في سوسيولوجيا التربية في المنطقة العربيّة عامّة وسوسيولوجيا التربية السّوريّة بخاصّة؟

– ولدت السوسيولوجيا التربوية ولادة نقدية، واتّسمت، بوصفها فرعاً من علم الاجتماع، بطابعها النقديّ، والقضايا الكبرى التي انطلقت منها هذه السوسيولوجيا، كما هو معروف، هي قضايا الطبقات الاجتماعية، مثل تكافؤ الفرص التربوية، وديمقراطية التعليم، والحداثة، والإصلاحات التربوية… ولتأكيد السّمة النّقديّة لهذا الفرع العلمي، يكفي أن نذكّر بأنّ روّاد هذه السوسيولوجيا قد تميّزوا بروحهم النّقديّة في ما كتبوا وألّفوا… وأنّهم كانوا من أكثر المفكرين تميّزاً في ميدان النقد الاجتماعي والتربوي أمثال دوركايم وماركس وغرامشي وبودون وإيفان أليتش وبيير بورديو وسنيدر وغيرهم كثير… ولا يختلف اثنان في أنّ هذا اللون من التفكير يحتاج إلى بيئة ثقافيّة واجتماعيّة محبّذة أو غير معادية على أقلّ تقدير، وهذا يعني، في المقابل، أنه من الصعوبة بمكان أن يجد هذا العلم مكانته اللائقة به في مجتمعات تقليدية محافظة تأنف النقدَ وترفضه وتخشاه، كما هو الشّأن في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة المعاصرة ذات الطّابع الأبوي البطريركي والاقتصادات الرّيعية الإقطاعية التي تغيب فيها أنظمة الحكم الديمقراطية.

وهي، بخصائصها تلك، لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال مناسبة لظهور سوسيولوجيا نقديّة. ذلك أنّها – نعني السوسيولوجيا النقديّة – لا تستطيع أن تزدهر في بلدان شمولية، ولا في ظل غياب الأنظمة الديمقراطية والبنى الاجتماعيّة والذّهنيّة الحديثة. فالباحثون في هذا الميدان يحتاجون إلى هامش كبير من الحرية، وأغلب القضايا التي تتناولها هذه السوسيولوجيا قضايا حسّاسة مدرجة في دائرة الممنوع والمحرّم. ولمّا كانت مساحة اللّامفكّر فيه (l’impensée) والمستحيل التفكير فيه (l’impensable) أوسع كثيراً من مساحة المفكّر فيه بعبارة المفكّر الجزائريّ الرّاحل محمد أركون، فإنّ تطوّر علم الاجتماع في الفضاء الثّقافي العربي يبدو أمراً بعيد المنال إن لم يكن مستحيـلاً في المستقبل المنظور.

فعلى سبيل المثال يصعب جداً تناول قضايا ومفاهيم مثل: الثورة البيداغوجية، والطبقة الاجتماعية، والديمقراطية التربوية، وتكافؤ الفرص التعليمية، والمساواة بين الرّجل والمرأة، والاختلاط بين الجنسين، والحداثة التربوية في التعليم، والتكوينات الثقافية للعقليات، إذ هي كلمات ومفاهيم «تابو» ممنوعة من التداول العلميّ في كثير من هذه المجتمعات التي تسودها ثقافات تقليدية منغلقة، ويأخذ هذا المنع طابعاً سياسياً وثقافياً حيث تَعقِد السياسة الاستبدادية تحالفاً مع الثقافة السائدة من أجل منع هذه القضايا من التداول. ومنه كذلك أنّه لا يمكنك أن تناقش أو أن تبحث في قضية الاختلاط بين الجنسين في المؤسسات التعليمية في بلدان الخليج العربي حيث تأخذ هذه القضية طابعاً قانونيا ودينيّاً وأخلاقيّاً يحول دون مناقشته وتداوله. ولا نستطيع أيضاً أن نتحدث عن الحداثة التربوية أو العلاقة بين التعليم والعلمنة (الحداثة والعلمنة كفر وزندقة)، وهذا الأمر ينسحب على أغلب القضايا الحيوية في هذا الميدان.

وفي هذه الوضعيّة والذّهنيّة السّائدة، لم تستطع هذه السوسيولوجيا أن تزدهر إلا بمقدار التعريف ببعض مبادئها العامة. فالسوسيولوجيا التربوية في الوطن العربي ما زالت في طورها الأول، ولم تحقّق تقدّماً يذكر لا في مستويات البحث العلمي ولا في مستويات التّدريس. وما زالت حتى هذه اللّحظة تدرس كمقرر في أقسام علم الاجتماع تارة، وفي كليات التربية تارة أخرى. ولم تولد أية أقسام خاصّة بها أو كراسي أستاذية كما حدث في بداية القرن العشرين في كثير من الجامعات الغربية. ومن المؤكد أنّه لا توجد أي كليات إنسانية متخصصة في علم الاجتماع أو في أيّ فرع من فروعها، كما هو حال دوركهايم الذي تسلّم هذا الكرسيّ في جامعة السوربون في بداية القرن الماضي. وفي هذا السياق التّدريسي لا يمكن أن نتحدّث عن خريجين متخصّصين في هذا القسم في المراحل الجامعية الأولى أو في مستويات الماستر والدكتوراه. ولا يوجد، في حدود علمي، قسم باختصاص السوسيولوجيا التربوية في البلدان العربيّة كلّها، بل ولا توجد أيضاً برامج دراسات عليا في الماستر والدكتوراه في هذا الاختصاص، ولا توجد كراسي أكاديمية له في أي من الجامعات العربية التي تُعدّ بالمئات.

أما في مستوى البحث العلمي فالدراسات الجارية خجولة جداً وفي غاية النّدرة، نعم. توجد أبحاث تناولت قضايا العلاقة بين التربية والمجتمع، ولكن هذه الأبحاث لا تقوم على إرث سوسيولوجي، وغالباً ما تقوم على أساس مناهج تربوية أو سيكولوجية تقليدية عامة. وإن وجدت فهي مفرغة من المضمون النقديّ لعلم الاجتماع التربوي. وما يزيد الطّين بلّة هو أنّنا نجد تخصّص السوسيولوجيا في كليات التربية وأنّ المتخصّصين بتدريسها ليسوا من أصول سوسيولوجية، بل ينتسبون في أغلبهم إلى أقسام التربية التي تخرجوا منها فيها غالباً، وهذا يعني أنهم لا يملكون تكويناً فكريّاً سوسيولوجياً حقيقيّاً. فتتحول هذه السوسيولوجيا على أيديهم، نتيجة لذلك، إلى مجرّد مبادئ عامّة شبيهة بمبادئ التربية أو أصول التربية. ومن جهة أخرى فإن هذه السوسيولوجيا تُدرّس في أقسام علم الاجتماع بالطريقة نفسها التي تدرّس بها في كليات التربية، ولكن بصورة أفضل حيث يكون القائمون على هذا العلم أكثر صلة ودراية وتفهّماً لقضاياها من منظور سوسيولوجيّ خالص، ولكنّه يتمّ النّظر إليه في الغالب بوصفه فرعاً من فروع علوم التربية. وهذا ما أدّى إلى تفاقم الوضعية العامّة لسوسيولوجيا التربية في الوطن العربي وتواضعها.

ومن مؤشّرات هذا الضّعف الكبير والتقصير العجيب، في مستوى تطوّر هذا العلم، أنّ أغلب الأعمال العلميّة لكبار الرواد في هذا الميدان لم تُترجم، مثل أعمال ماركس وفيبر وسنيدر وإليتش وفرايري، ومن ضمنها أهمّ أعمال دوركايم التي تأخذ طابعاً تربوياً، ولا سيّما (التطوّر التربوي في فرنسا). هذا الكتاب الذي لم يُترجم حتى الآن، ولا نجد إلا كتاباً واحداً هو التربية والمجتمع الذي قمت بترجمته على نفقتي الخاصّة في عام 1993. وفي حقيقة الأمر نحن نحتاج إلى جهود كبيرة، وإلى مرحلة زمنية طويلة جدّاً من أجل أن ينمو هذا الفرع العلميّ في التّربة العربية الصّلبة.

أما عن الشقّ الثاني من السّؤال، وهو حال علم الاجتماع التربوي في سورية، فقد سبقت الإشارة إلى غياب السوسيولوجيا بعامّة في سورية، وهذا الغياب هو أشدّ وطأة ومرارة عندما يتعلّق الأمر بسوسيولوجيا التربية. من يقوم بتدريس مقرّر علم الاجتماع التربوي في كلية التربية بجامعة دمشق أو في شعبة علم الاجتماع في كلّية الآداب، أو التأليف فيه هم من غير المتخصّصين، ومن المؤسف أن نقول إنّهم من سماسرة النّظام الذين لا يحملون تأهيـلاً علمياً (شهادات مزوّرة)، ومن المؤلم أن أعترف بأنّ من يقوم بتدريسه اليوم والتأليف فيه هم من المتورّطين أمنياً، وبعبارة أخرى هم من الجماعات «الأكاديمية» الأمنية التي هيأها النظام السياسي للسيطرة على الجامعة وتفريغها من محتواها العلمي والنقدي.

  • انطلاقاً من تجربتك البحثية الغنية في ميدان السوسيولوجيا والتربية، ما هي الصّعوبات التي تواجه الباحث، وتحول دون تحقيق الفهم الموضوعي للظواهر المدروسة في هذا الميدان؟

– صعوبات جمّة تواجه الباحثين في مجال البحث السوسيولوجي وأغلبها ينسحب على مختلف حقول العلوم الإنسانية. ولعلّ أخطر ما يواجه الباحث الاجتماعي هو غياب الصدقية عند جمع المعطيات والبيانات. وقد لاحظت، من خلال خبرتي في هذا المجال، أنّ المبحوثين غالباً ما يغالطون في تقديم البيانات السوسيولوجية، وهم في كل الأحوال لا يبدون أيّ اهتمام بصدقية إجاباتهم… فأغلب الاستبانات تطبق بطريقة تحصيل الحاصل دون أي اهتمام بالدقّة والصدقية في الإجابة وتقديم البيانات الصحيحة. وهذا يعني أنّ ثقافة التفاعل مع المعطيات تفتقر إلى الصدقية، فالناس لا يقدّرون الأهمّية التي تكتسيها صحّة ما يدلون به من آراء أو بيانات، وينظرون إلى هذه العلوم على أنّها نوع من التّرف العلميّ الذي لا يحمل أي قيمة أو مضمون.

وكما أوضحنا آنفاً، فإنّه لا توجد سياسات علمية للبحث العلمي في مجال السوسيولوجيا التربوية أو غيرها، ولا يوجد أيّ تشجيع من قبل الدولة. والأخطر من ذلك كلّه أن الباحثين يتجنّبون كل القضايا الحسّاسة في المجتمع، في ضرب من ممارسة الرّقابة الذّاتيّة في ما يكتبون ويبحثون. فالموضوعات التي يتناولها الباحثون موضوعات جزئية شديدة الارتباط بالقضايا الثانوية في المجتمع مثل دراسة بعض العادات والتقاليد، ودراسة قضايا التّعليم والدروس الخصوصية، والإنفاق العام في التربية والتنشئة الاجتماعية، وقضايا التسوّق والعنف عند الأطفال. وهذا يعني أنّ الباحثين يتجنّبون، بحكم الثقافة السائدة، القضايا الحيويّة الكبرى في المجتمع مثل قضايا الديمقراطية، والطبقة، والجنس، والمرأة، والاستبداد، والرّشوة، والمناهج الخفية وكل ما من شأنه أن يصنّف ضمن المسكوت عنه في ثقافتنا. وفي اللحظة التي يقوم فيها باحث بدراسة أي من هذه القضايا تواجهه فوراً مشكلة النّشر العلميّ، فأغلب المجلات العلمية والدوريات ترفض، ولا تجرؤ في الأصل على نشر أي عمل يتناقض مع التوجّهات السياسية والثقافية السائدة. ونحن نعاني هذا الواقع في دراسة مشتركة عن التعصب في البلدان العربية والخليج مع الزميل يعقوب الكندري، إذ لم نستطع أن ننشره في أي مجلة أو مركز بحوث في المنطقة. ويأتي الاعتذار صراحة بأن البحث رائع، ولكنّنا لا نستطيع نشره، لأنه يفضح بعض الممارسات الطائفيّة والتعصبيّة في مجتمعاتنا.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى إشكالية التمويل، إذ ينعدم التّمويل المالي للأبحاث والدراسات الجارية في هذا الميدان. فالبلدان العربية هي أقلّ دول العالم إنفاقاً في مجال البحث العلميّ، وهذا الإنفاق يتلاشى تماماً عندما يتعلق البحث بالعلوم الاجتماعية ولا سيّما النقدية منها. ويُشار في هذا السّياق إلى غياب مراكز البحوث السّوسيولوجية في الوطن العربي، فأغلب هذه المراكز الموجودة يغلب عليها الطّابع الأيديولوجي والسّياسي والدّيني، ويندر أن نجد مراكز متخصّصة في البحث السوسيولوجي بالمعنى الحقيقيّ الدّقيق. وهذا يعني أن الغالبيّة العظمى من الباحثين يموّلون أبحاثهم على حسابهم الخاصّ، وهي بالأصل غير كافية لتأمين خبزهم اليومي. فلا غرابة أن نلاحظ أن نسبة كبيرة جدّاً من الأبحاث السوسيولوجية إنّما يجريها الباحثون الأكاديميون في الجامعات وفي أماكن عملهم، إذ لا يستطيع إلّا قلة منهم الإقدام على دراسة ظواهر مجتمعية عامّة، لأنّ تكاليفها باهضة جدّا، وتفوق الإمكانات المادية للباحث المنفرد.

وهناك أمور أخرى تتمثّل في قلّة عدد الدوريات العلمية المتخصّصة في علم الاجتماع، وهي، إن وجدت، تخضع للمزاج السوسيولوجي الخاص، وإمكاناتها ضئيلة نسبياً. وفي الغالب نلاحظ أن أغلب البحوث التي تُجرى، إنّما يجريها أكاديميون من أجل هدف محدّد هو الترقية العلمية. وهي غالباً ما تفتقد إلى الصدقية، بحكم غايتها البراغماتيّة المحدودة، ومثل هذه البحوث لا يُعتدُّ بأهميتها العلمية والبحثية على وجه الإطلاق.

  • بحكم مساركم التكويني والأكاديمي المتميز، أسستم مشروعاً فكرياً نقدياً يمتح من روافد معرفية مختلفة: العلوم الإنسانية والاجتماعية، والفلسفة، والترجمة، وغيرها. ما هي الخلفية النظرية لهذا المشروع؟وما ملامحها الكبرى؟

– اسمح لي في البداية أن استخدم مفهوم المشروع الفكريّ بدلالته الاصطلاحيّة الدّقيقة، وأعني بذلك جملة الجهود المنظّمة التي تبذل في مجال علميّ أو فكريّ محدّد لتحقيق غايات مستقبليّة فكرية أو مجتمعية منشودة. وبهذا التّدقيق المفهومي والاصطلاحيّ أرى أنه من الصعب على باحث اليوم أن يطرح مشروعاً ينفرد به مهما تكن طاقاته الإبداعيّة، وينسحب هذا الحكم، في تقديري، على المشاريع الفكرية التي طرحها بعض المفكّرين العرب. وأرى أنّ من أسباب إخفاقها تفرّدُها وذاتانياتها المفرطة. وأعتقد أنه من الضرورة بمكان أن نطرح مشاريع فكرية جماعية تقوم على نخب من المفكّرين النّشيطين في مجال علميّ محدد. وقد عرفنا مثل هذه التجربة الجماعية الرائدة لدى المفكرين الموسوعيين أمثال: ديدرو ودالامبير وفولتير وروسو… الذين أسّسوا عمـلاً فكريّاً متكامـلاً من أجل التنوير في القرن الثامن عشر في فرنسا ضمن الموسوعة التي شملت عدداً كبيراً من المفكرين الفرنسيين المتنوّرين. وضمن هذا التّصوّر المحدّد للمشروع الفكريّ نستطيع أن نقول إن أيّ مفكّر يكرّس نفسه لعلمه ومعرفته هو باحث أو مفكّر لديه مشروعه الفكريّ الخاصّ. وعندما نربط ما بين الجهود التي نبذلها والغايات التي نسعى إليها نستطيع أن نعتبر جهودنا السوسيولوجية مشروعاً فكرياً نقدياً كما وصفتموه ضمن سياق السؤال المطروح.

واسمح لي قبل الحديث عن الخلفية النّظريّة للمشروع أن أصف مشروعنا المتواضع بأنه يأخذ بثنائيّة النقد والتّنوير، إذ يهدف إلى تعزيز مسيرة الوعي النقدي بين أجيال الشباب والطلاب والباحثين، ومن ثَمّ إلى تعميق حالة التّنوير الثقافيّ من خلال الكتابة والنشر والحوار ومختلف الأنشطة الفكرية النّقدية. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن النقد والتنوير يتجلّيان في سياق علاقة جدلية ديالكتيية، إذ يقوم أحدهما بالآخر، ويقتضيه ويتكامل معه، فكلّ حالة نقدية تستوجب رؤية تنويرية، وكلّ تنوير يؤدّي فعـلاً نقدياً، ويتكامل الجانبان في بناء الوعي الخلاق الذي يمكن أن نستند إليه في تحقيق المشاركة الحيويّة في الحضارة الإنسانية.

أمّا في ما يتعلّق بالخلفيّة النظريّة للمشروع الذي نحن بصدده، فهو ينطلق من رغبة في تأصيل الفكر العالمي التنويريّ عبر الارتكاز على ما في التراث العربي من ومضات تنويريّة تسمح باستيعاب المدّ التنويريّ العالميّ. وهذا يعني أن مشروعنا يستند إلى خلاصات الفكر العالمي في مجال التنوير والنقد والفكر المتدفّق بالعطاء في كلّ مراحل التاريخ الإنساني دون تمييز. من ذلك أنّه يستلهم الأسسَ الفكريّةَ لابن عربي والجاحظ وإخوان الصفا وابن خلدون وابن طفيل وابن رشد، ويتّسع مداه إلى مفكري عصر التنوير ممثّلاً بأبرز رموزه، وأعني بهم: جان جاك روسو وكانط وفولتير، كما يتأصّل في الفكر السوسيولوجي الحديث بدءاً بأوغست كونت فدوركايم وماركس وأنغلز، ويَمْتَحُ من عبقرية الفكر النقديّ الحديث عند جورج سنيدر وبيير بودون واستابليه وبيير بورديو وإيفان وإليتش…

  • كل مشروع فكريّ نقديّ يسعى إلى غايات محدّدة. فما هي غايات مشروعكم التربويّ التنويري ورهاناته؟

– إنّ مشروعنا الثقافي التنويريّ قد انطلق ضمن مسار تشاركي، ولم يكن فردياً بأي حال من الأحوال، وهو فعالية فكريّة لنخبة من المفكرين والباحثين النقديّين في الوطن العربيّ، أطلقوا هذا المشروع تحت عنوان «نقد وتنوير» بهدف العمل على إحياء الثقافة النّقدية، والنهوض بالفكر التّنويري في التّربية والمجتمع.

ويهدف المشروع عمليّاً إلى توليد ثقافة تنويرية نقديّة، وتجديد المنظومات الثقافيّة السائدة في المجال التربوي من أجل تحقيق الحداثة التربوية في العمل التربوي، ومواجهة التحديات المصيرية التي تواجه المنظومات التربوية العربية المعاصرة. وضمن هذا التوجّه يعمل مشروعنا على تأسيس خطاب تنويري حداثي، يسهم في تغيير واقع التربية العربية، وينشد التغيير في العقلية العربية، وتحريرها من وضعية الجمود والقصور التي تعانيها في مجال الحضور الفكري والثقافي. وباختصار يهدف مشروعنا إلى تكوين قوة فكرية ثقافيّة تربوية من أجل خلخلة أسس الوعي المحافظ وزعزعة العقلية التقليدية السائدة في النظم التربوية سعياً إلى بلوغ عقلية نقدية تنويرية تستطيع أن تواكب الطفرات الحضارية القائمة في الأنظمة التربوية في العالم المتقدّم.

  • في سياق الثورة الإعلامية الراهنة، كيف يمكن للمواقع الإلكترونية، إلى جانب مراكز البحوث والدراسات، والجامعات، والمجلات والدوريات الورقية، وغيرها من المنابر الكلاسيكية، أن تسهم في نشر ثقافة العلوم الإنسانية والاجتماعية بوصفها ثقافة علمية ونقدية في مقابل«ثقافة»الجمود والتصلّب الفكريين، وخطاب الطائفية، والتّطرّف والعنف؟

– كنا نعتقد دائماً وما زلنا بأنّ أيّ مشروع فكري نقديّ لن يحقّق نجاحه إلّا من خلال التّكامل مع الأنساق الفكريّة النقديّة السائدة في عالم الفكر والثقافة. ولمّا كان الوطن العربي اليوم يعجّ بحركات ثقافية تنويرية في مختلف الميادين العلمية في الفلسفة والدّين والمجتمع والتاريخ وعلم الاجتماع… فإنّ الضرورة المنهجية تقتضي أن تتكامل هذه التيارات والحركات الفكرية العقلانية في مواجهة التحدّيات الثقافية الكبرى التي تتمثّل بجيش جرّار من «المفكرين» التقليديين الذين يبثّون ثقافة التخلّف والجمود والعداء للعقل والعقلانية والكرامة الإنسانية، وهم يشكلون في حقيقة الأمر جحافل من المفكرين الزّائفين الذين يروّجون ثقافة التعصّب والكراهية والعداء للإنسان، كما أنّهم، بما يملكون من امتيازات سياسية، يسيطرون بقوة على وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة وعلى وسائل الاتصال الاجتماعية بمختلف تجلياتها.

والرأي عندي، أمام الخطر الدّاهم الذي يمثّله هؤلاء «المثقفون» على مستقبل هذه الأمّة، أنّه يجب على أصحاب التّنوير ومؤيّديه وأنصاره أن يوظّفوا كلّ ما يستطيعون من قوى علمية وفكرية وإعلامية من أجل الوقوف في وجه هذا المدّ الطاغي للفكر التقليديّ، فوسائل الإعلام المتاحة ضرورية جداً من أجل هذه المواجهة، كما أنّ العمل على تطوير شبكات من مراكز البحوث التنويرية، وبناء المؤسسات العلمية، وتأسيس شبكة من المجلات والصحف الإلكترونية والمواقع الشخصية يشكل، بلا جدال، ضرورةً حيويّة في هذه المواجهة الثقافية لتطوير العقل والإنسان في مجتمعاتنا العربية.

  • من خلال تتبّعكم قضايا التّربية بالوطن العربي وإشكالاتها، ما هي العوائق التي تحول دون تحقيق الأنظمة التربوية العربيّة شرط التنمية الشاملة في الفترة الحالية؟ وما هي المداخل الممكنة لتجاوز قصورها ومعوّقاتها؟

– لا يمكن فهم طبيعة التخلّف الذي نواجهه في الوطن العربي إلا من خلال منظور شموليّ، وما يحدث في المجتمعات العربية لا يمكن فهمه إلا بطريقة الأواني المستطرقة، وهي قاعدة علمية تبيّن لنا أنّ ارتفاع منسوب الماء في مواسير مائية مترابطة سيكون على سويّة واحدة انخفاضاً وارتفاعاً.

وفي ضوء هذه القاعدة نجد أن المنسوب الحضاري يرتفع وينخفض بسوية واحدة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، فالتخلف الاجتماعي يكون في مستوى واحد في شتى القطاعات، وكذا النهوض يأخذ مساراً واحداً في مختلف المجالات. وهذا يعني أن التقدّم الذي نلحظه في قطاع اجتماعي يوازي التقدّم الذي يحققه المجتمع في مختلف القطاعات. وهذا يعني كذلك أنه لا يمكن لنا أن نتحدّث عن تربية متقدّمة في مجتمع متخلّف، مثلما أنّه لا يمكننا أن نتحدث عن اقتصاد متطوّر ضمن بيئة ثقافية متخلّفة، وعلى هذا النحو تترابط مختلف جوانب الحياة الاجتماعية وتتكامل وفق نسق واحد من الحضور والغياب في مستويات التقدم، والعلاقات التي تحكم هذه القطاعات الاجتماعية علاقات متكاملة متداخلة يكون فيها كل جانب سبباً ونتيجة في آن واحد، وذلك إلى درجة يستحيل علينا معها أن نميّز اللّحظات التي تكون سبباً من تلك التي تكون نتيجة. وضمن هذه الرؤية يمكن أن أقول بأن النظام السائد في هذه العلاقات يعتمد على دورة سببيّة متسارعة وخاطفة، لا يمكن تحديد أطرافها، بمعنى متى يكون هذا الجزء سبباً لكل الأجزاء المتفاعلة، ومتى يكون نتيجة من نتائجها. ومن هنا تبرز صعوية الكشف عن معطيات التّفاعل بين الأنساق الاجتماعية لتحديد جوانب التقدم والتخلف ومؤثراتهما المتفاعلة دائرياً وعمودياً وأفقياً في آن معاً.

وتأسيساً على ما تقدّم، يَسُوغ القول إنّ التربية العربية لا يمكنها أبداً أن تكون شرطاً للتنمية إلا إذا كان المجتمع نفسه حاضناً للتنمية، فالنظام التربوي شرطُ ضرورة لا شرطُ كفاية في العملية التنموية، فالمجتمع كل المجتمع معنيّ باستحضار الحاجة إلى التنمية والرغبة فيها، ومدعوّ إلى توفير الإرادة السياسية على إحيائها، وعند ذاك يأتي دور التربية شرطاً لازماً للحركة التنموية في المجتمع، حيث يمكن للتربية أن تغذّي نسغ الحركة التنموية في الوعي والسّلوك الاجتماعي. وهذا الأمر يخضع أيضاً لشروط تربوية تتمثل في أن تقدم الأنظمة التربوية، وبإرادة مجتمعية، على تحرير نفسها من مختلف أشكال الانكسار والتخلّف الذي تواجهه في بنيتها وممارساتها ووظائفها.

وفي هذا المقام نقول، إجابة عن سؤالكم، إنّ الأنظمة التربوية لن تستطيع تحقيق ثورة اجتماعية، ولن تكون مؤثّرة في التنمية الاجتماعية إلا متى استطاعت أن تحدث ثورة إيبيستيمولوجية في ذاتها. وهذا يعني أنه يتوجّب عليها أن تحدث التغيير المنشود في ذاتها قبل أن تتصدّى إلى إحداث تغيير حقيقي في المجتمع. وبعبارة أخرى يجب على الأنظمة التربوية في الوطن العربي أن تباشر عمـلاً بنيويّاً وهيكليّاً عميقاً لتغيير مناهجها وطرق عملها وآليات اشتغالها تكون به قادرةً على أداء الدّور التنموي المنشود في المجتمع، وهذا يعني مرّة أخرى أن المنظومة التربوية يجب أن تحقّق حداثتها قبل أن تشارك في تحديث المجتمع وترسيخ حداثته.

ومن ينظر إلى واقع المدرسة العربية اليوم سيجد، بلا جدال، أنّ هذه المدرسة ما زالت تجترّ ماضيها وتعيد إنتاجه إمّا عبر أساليب تدريسها أو عبر مضامين مقرّراتها الدّراسيّة، أو من خلالهما معاً. فهي، كما يجري وصفها مدرسة تقليدية، تقوم على التّلقين والاجترار. به تحشو أذهان النّاشئة حشواً، وتستدعي من التّراث أكثر جوانبه تجاوُزاً وماضويّة. لذلك كلّه نرى أنّ هذه المدرسة تحتاج إلى انتفاضة حقيقية تضعها في مسار المدرسة المعلوماتية المنتجة للعلم والمعرفة والثقافة، الدّافعة للخلق والإبداع، لا تلك التي تجترّ المعلومات، وتؤبّد الماضي، وتعمل على غرسه غرساً في عقول الأطفال والناشئة. إن المدرسة الحالية لن تستطيع النهوض الحضاري بالأمّة إلا من خلال وثبة حقيقية تنفض عنها غبار الزمن وأشباح الماضي. حينها ستكون قادرة على المشاركة في التنمية والنهوض الحضاري مستندة إلى ما توافرت لها من سياسات مجتمعية رشيدة تضمن لها دورها الحيويّ.

  • كيف تستشرفون مستقبل المجتمعات العربية ورهانات انتقالها إلى التنمية ومجتمعات المعرفة من خلال استثمار العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة وسوسيولوجيا التربية خاصّة؟

– عندما تنظر في واقع الحياة الثقافية والاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية ستصاب بحالة من الصّدمة والإحباط. فالمجتمعات العربية غارقة في التخلف الحضاريّ المزمن والشامل. وعندما نأخذ مؤشرات التنمية بعين الاعتبار، سنجد، مع الأسف الشديد، أنّ مجتمعاتنا في الدرك الأسفل من السلّم الحضاري الإنساني، وذلك في مختلف المستويات بلا استثناء واحد، ومن أجلى مظاهر ذلك التخلّف: الأمية والفقر وانخفاض معدلات القراءة والتعصب والكراهية والاستبداد وغياب العقلانية والإبداع في مختلف مظاهر الحياة ومجالاتها.

وعندما يفكر المرء في قضية النهضة الحضارية يصاب بحالة من القنوط واليأس، وذلك لأنّ هذه المجتمعات ما زالت تراوح مكانها، بل إنّها في تراجع مستمرّ، لأنّ من لا يتقدّم، لا يظلّ في مكانه كما يتوهمّ الواهمون، بل يتراجع ويتقهقر في حركة تتناسب عكسيّاً وتطوّرَ بقيّة المجتمعات في العالم، وآية ذلك أنّ الحياة الاجتماعية والثقافية كانت مع بداية مرحلة الاستقلال أفضل بمئات المرّات عمّا هي عليه اليوم. ومن ينظر اليوم في أحوال البلدان العربية المنكوبة مثل سورية ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا وتونس واليمن لن يتفاءل كثيراً. إذ هي مجتمعات تشقّها حروب طائفية مذهبية، وتعصف بها خلافات أيديولوجيّة عصفاً… والخشية كلّ الخشية أنّ تستمرّ حالة السقوط تلك فلا تقضي على الحاضر وحده بل تنسف المستقبل أيضاً، وتدمّر الأجيال القادمة تدميراً لا نهوض بعده.

ويكفي أن ننظر في مستوى واحد من مستويات الحرب الأهلية السوريّة، ونعني به مستوى التّكاليف المادّيّة (وهو أهون الخسائر) لنرى كيف ذهبت مئات المليارات من الدولارات هباءً، وكان يمكن، لو وُظّفت في البناء والتّنمية، أن تحقّق قفزة تنمويّة نوعيّة ترتقي بهذا البلد إلى مصافّ الدّول المتقدّمة. وقسْ على ذلك واقع الإنسان العربي في كلّ مكان من هذا الوطن الكبير الذي ما انفكّ الأمل في الحصول على حق الحياة والتنمية فيه يتآكل ويتقلّص يوميّاً.

ومن المؤلم أن نقول إنّ احتمالات تحقيق التنمية والنهوض الحضاري، وفق أكثر الاحتمالات تفاؤلاً، تحتاج إلى زمن يقاس بالقرون وليس بالعقود. وممّا يزيد دواعي اليأس والتّشاؤم أنّ القرون العشرة الماضية لم تكن كافية لتحقيق أي قدم في مسار النهضة في ما سُمّي بعصر الانحطاط.

أما عن دور العلوم والمؤسسات العلمية العربية في تحقيق هذه التنمية، فإنّ الواقع، مع الأسف الشديد، يؤكّد أنّ هذه المؤسّسات والعلوم لم تُفلت من براثن التخلف الاجتماعي الذي يسود المجتمع بكامله. ولا يغرنَّك التكاثر الحسابي لعدد الجامعات والمؤسسات التعليمية، فأغلب المؤسسات الجامعية أصبحت مراكز للتدجين والترويض السياسي والاجتماعي، كما أنّها تحولت إلى أدوات ممنهجة للاستلاب والاغتراب والهيمنة. فكان أنْ حادت عن الأدوار التنويريّة والرّياديّة التي نهضت بها في كلّ مكان من العالم المتقدّم شرقاً وغرباً. أمّا في وطننا العربيّ، فإنّه لم يعد لها من دور سوى إنتاج أكثر جوانب الحياة الاجتماعية ظلامية، وتكريس التخلّف ورعايته. ولا أدَلّ على ذلك من أنّ كثيراً منها يرعى الفساد ويعزّز مواقعه وآلياته. ومن المحزن المأسوي أن هذه المؤسسات التي كانت ولم تزل، تنشر العلم والنور في كل مكان من العالم، قد أصبحت منتجة للتعصب والفساد، مزوّرة للعلم والمعرفة بدءاً بتكوين شكليّ فارغ، وصولاً إلى منح شهادات وهميّة مزيّفة. قد أبدو متشائماً، ولكنّه تشاؤم مؤسّس على استقراء واقع عينيّ ملموس، ونابع من رصد دقيق لأوضاعنا العربيّة.

نحن نحتاج إلى عاصفة ثورية، إلى إعصار مدمر يهدم كل البنى، ويخلخل التكوينات الاجتماعية والأكاديمية القائمة، قبل أن نفكر بتحقيق نقلة نوعية في مجال العلم والمعرفة. المشكلة الكبرى التي نواجهها هي أن ما هو قائم لا يمكن تطويره، بل يجب هدمه من الأساس، واقتلاعه من الجذور من أجل إعادة البناء بروح جديدة تكون شرطاً لازماً لوثبة حضارية حيوية تدفع الروح من جديد إلى هذا الجسد المفرغ من الحياة، وتشحنه بطاقة جديدة وروح متوثّبة مُغامِرة.

اسمح لي في نهاية هذا اللقاء، أخي وصديقي الأستاذ رشيد المشهور، أن أرفع إليك خالص الشكر والتقدير إذ سمحت لي بالتعبير عن رأيي في قضايا لطالما أردت أن أبدي رأياً فيها. كما أنني أكرر شكري المتعاظم لمجلة إضافات وهيئة تحريرها على الاهتمام الطيب بنشر هذا الحوار المتواضع. وأجدد أسفي على ما انتهيت إليه من رؤية تشاؤمية في أوضاعنا العربية المؤلمة.