نبدأ من حيث انصرفْتَ في السنوات الأخيرة إلى الاهتمام به. أعني مسألة الحاجة إلى القيام بتحليل ثقافي للظواهر في العالم المعاصر، أكانت في الإطار الكوني أم في الإطار الوطني. هل هذه الدعوة جديدة على انشغالاتك الفكرية. وهل هي تستعيد فكرة الحاجة إلى استدماج العامل الثقافي في منظومة التفكير فقط، أم تنطوي أيضاً على نقد لهيمنة المقاربات الاقتصادوية والسياسوية في رؤية الظواهر الاجتماعية والإنسانية والكونية؟

يسين : أولاً أنا في الأساس حقوقي، وحصلت على إجازة في الحقوق من كلية الحقوق جامعة الإسكندرية في العام 1957، ثم حصلت على ماجستير في القانون عام 1963 من جامعة القاهرة. بعد تخرجي مباشرة، تقدمتُ إلى امتحان مسابقة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قصد الالتحاق به لأنه كان ثمة طلب من المركز لتعيين باحثين مساعدين. نجحتُ في المسابقة، وعُيِّنْتُ باحثاً مساعداً عام 1957. كانت لدى مؤسس المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أستاذي الراحل الدكتور أحمد خليفة، نظرة موسوعية للعلم الاجتماعي. وقد أخضع جميع الباحثين المساعدين الجدد لبرنامج تدريبي لمدة عام على اختلاف خلفياتهم الأكاديمية. درسنا في هذا البرنامج علم الاجتماع، وفلسفة القانون، وفلسفة العلوم الاجتماعية وقد دَرَّسَهَا عبد الحميد صبره، الذي أصبح الآن أستاذ تاريخ العلم العربي في جامعة هارفرد، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وموضوعاتٍ شتى.

اكتشفتُ البعد الثقافي مبكراً حين درست الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولكن هذا كان على مستوى جزئي. كما استخدمتُ منهجية التحليل الثقافي لأبحاثٍ ميدانية. وقد كلفت سنة 1963 بمهمة الباحث الرئيس في بحث ميداني عن مجتمعات النوبة قبل بناء السد العالي، حيث تَشَكَّلَ فريقٌ بحثي وكان ضمنه المهندس المعماري الشهير حسن فتحي، وأخذنا مركباً في النيل عائداً للآثار المصرية، ومسحنا القرى النوبية جميعاً من أسوان إلى حدود السودان: قرية قرية. قمنا بمسح اجتماعي وثقافي ومعماري شامل.

 

 هل أخذ هذا المسح وقتاً طويلاً؟

يسين : نعم، حوالى السنة. وضعت خطة للتحليل الثقافي للثقافة النوبية، لأنها ثقافة فرعية بالنسبة إلى ثقافة المجتمع المصري. وفي سبيل وضع هذه الخطة، قرأت كثيراً من النصوص في مجال التحليل الثقافي وفي إطار الأنثروبولوجيا. وهكذا التقيت مبكراً بالتحليل الثقافي في سياق اهتمامات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية واهتماماتي الخاصة. ثم انشغلت بالتحليل السوسيولوجي بعد ذلك. وحينما انتقلت عام 1975 من المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إلى مؤسسة «الأهرام» مديراً «لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية»، انشغلت بالتحليل الاستراتيجي. وفي أول عدد من أعداد التقرير الاستراتيجي العربي ، الذي أسسته والذي صدر عام 1985، كتبتُ مقدمةً تحليلية بعنوان: «نحو رؤية عربية للدراسات الاستراتيجية»، وشدَّدتُ فيها على البعد الثقافي. إن الاستراتيجية بالمعنى الحديث لا تنحصر في الجوانب العسكرية، ولكنها تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية أيضاً. كان هذا واضحاً جداً لديّ منذ ذلك الحين.

 

 إذن، نقلتَ اهتماماتك بالإطلال على مسائل الاجتماع ثقافياً من إطار الجماعة والمجتمع المحلّي إلى الإطار الكوني عبر مجال الدراسات الاستراتيجية، وهذا سيوسّع من إطار المقاربة السوسيو ـ ثقافية.

يسين : هذا صحيح، لقد قمتُ بِنَقْلَةٍ كبيرة عندما جئت إلى «مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية». أصبحتْ وحدة التحليل هي المجتمع العالمي، ولم تعد المجتمع المصري، بل ولم تعد حتى المجتمع العربي كله. وهذا فتح أمامي آفاق الدرس المستمر، وأقنعني بالحاجة إلى المزيد من التكوين حتى أبلور منهجية خاصة لقراءة النظام العالمي في أبعاده المختلفة. ولقد ساعدني، في الحقيقة، التوجيه الأساسي للدكتور خليفة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. كانت وجهة نظره أن هناك علماً اجتماعياً واحداً وتخصصاتٍ مختلفة، لذلك حرص هو على التكوين الموسوعي للباحث في بداياته، من علم نفس، وأنثروبولوجيا، واقتصاد، وسياسة، واجتماع، وفلسفة. وهكذا عندما تتخصص بعد ذلك لا تنسى الخلفية العلمية الشاملة في عملك الفكري. ثم كان لديَّ في «مركز الدراسات الاستراتيجية» اهتمامٌ بعلم نفس العلاقات الدولية أيضاً، كما بالصور النّمطية الثابتة التي يكوّنها شعب عن شعب آخر (وهذا ما حدث بعد 11 أيلول/سبتمبر حينما تبيَّنتْ تلك الصورُ النّمطية عن المسلمين والعرب والإسلام والتي قام فيها التماهي بين المسلمين وبين الإرهابيين).

 

 ألم يطرح هذا الخيار الفكري لديك سؤال المنهج أو أدوات المقاربة المناسبة؟

يسين : أزعم أنّي بلورت منهجاً خاصاً في أبحاثي، أسمَيْتُهُ المنهج التاريخي النقدي المقارن. لا يمكن دراسة موضوع من دون تتبع جذوره التاريخية، ومن دون ممارسة النقد. أسعفني هنا علم ( La Sociologie de la connaissance )، أو علم اجتماع المعرفة، خاصة محاولة ربط هذا العلم بين البنية الاجتماعية والوجود، ومحاولة رد الخطابات المتعددة إلى أصولها الاجتماعية. هذه مسألة مهمة لكي نعرف من هو المتكلم وأي مصلحة يدافع عنها؛ ثم ما هي منطلقات خطابه وما هو المسكوت عنه في الخطاب، وما الذي لم يفكر فيه الخطاب ( Impensable )… إلخ. هذه الأبعاد كانت بالغة الأهمية في تكوين صورة متكاملة للمنهج الذي أريد أن أبلوره ومنها منهج علم نفس العلاقات الدولية ( Psychology of International Relations ) الذي كان أحد رواده هربرت كيلمان أستاذ علم النفس الأمريكي وهو صديق عزيز، وله كتب مهمة من أهمها: تحقيق نفسي علمي في مذبحة مايلاي ( Maylay ) في فييتنام وعنوان الكتاب جرائم الطاعة (Crimes of Obedience) . إذ أجرى بحثاً ممتازاً من الناحية الأخلاقية والنفسية على من نفذوا الجريمة البشعة في قرية مايلاي وذبحوا الأطفال والشيوخ والمسنين.

المسألة الأساسية مع كل هذه القراءات والخبرات أنني لم أضع التحليل الثقافي في المقدمة، اعتبرته جزءاً متكاملاً من منهجٍ متكامل. إنما نقطة الانقطاع حدثت عندما انتقلت إلى عمَّان عام 1990 لأستلم مهمتي الجديدة كأمين عام «لمنتدى الفكر العربي».

 

 ذهبت في الفترة الحرجة عربيّاً.

يسين : نعم، حظي أنني ذهبت في 1 آب/أغسطس 1990، فبدأتُ بحدث الغزو العراقي للكويت الذي انتهى إلى حرب ضد العراق، وما نجم عنها من تداعيات. نعم كانت هناك معركة، وكان الأردنيون متحمسين لصدام حسين. قبلها في عام 1989 سقط الاتحاد السوفياتي وانهار. كباحث في العلم الاجتماعي، أحسست ببلبلة فكرية كبرى، سقطت النماذج والنماذج القديمة ( Paradigmes ): سقطت في العلاقات الدولية والاقتصاد والسياسة والثقافة. انهار النموذج القديم ودخلنا في «أزمة النموذج» كما يسميه الفيلسوف الأمريكي توماس كون. في هذه اللحظة، طرحتُ سؤالاً على نفسي: كيف نفهم العالم؟ وأحسست بالحاجة إلى إعادة صياغة إطاري النظري بالكامل، حتى أستطيع فهم هذا العالم في تحولاته الجديدة. فعالم الثنائية القطبية ينهار، والحرب الباردة انتهت، والصراع الإيديولوجي الضاري توقف بين الشيوعية والرأسمالية، وثورة الإثنيات اشتعلت والخصوصيات الثقافية والدعوات للانفصال بدأت.

 

 والمسألة الدينية أيضاً.

يسين : والمسألة الدينية ظهرت، كما القومية في شكلها المتطرف…

كنت محظوظاً عندما ذهبت إلى عمان في تلك الفترة، إذ كان لدي وقتٌ طويلٌ للقراءة بعكس ما كانت تتيحه لي القاهرة. وأقمتُ جسوراً بيني وبين الناشرين في أمريكا وفي إنكلترا وفي باريس للحصول على أحدث الكتب. وإذْ كنتُ أعيد صياغة برنامجي النظري الجديد، اكتشفت ثلاثة مصطلحات: «العولمة» ( Globalization )، و«ما بعد الحداثة»، و«القومية» في شكلها الجديد. بحكم ثقافتي القانونية، لا أميل إلى خطف المعلومات خطفاً أو التأثر بالموضوعات الفكرية. أميل إلى التأصيل العميق للمفاهيم مكتشفاً جذورها الحقيقية. فعلتُ هذا في التعامل مع مفهوميْ العولمة وما بعد الحداثة. وأصبح فهمي للعالم يتوقف على إدراكي أن حركة ما بعد الحداثة تعبير عن نموذج حضاري جديد، وأن نقطة الانقطاع الحقيقية هي بين المجتمع الصناعي وما يسمى مجتمع المعلومات العالمي ( Global Information Society ). وهذه نقطة لم يفهمها الناس كثيراً في الوطن العربي. لقد كتب دانيال بل أستاذ علم الاجتماع في جامعة ييل منذ فترة طويلة كتابه المشهور: المجتمع ما بعد الصناعي (The Post Industrial Society) . في ذاك الوقت لم نكن نعرف ماذا يسمّى هذا المجتمع البازغ، فلم تكن معالمه قد اتضحت بعد. الآن أدركنا أن هناك ما يسمى مجتمع المعلومات العالمي، وخصوصاً بعد ثورة الاتصالات والبث الفضائي التلفزيوني وشبكة الإنترنت التي غيرت العالم. لقد بتنا نشهد تحولات عميقة في بنية المجتمع العالمي: أولاً من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي الذي يتحول ببطء، وإن كان بثبات، إلى ما يسمى مجتمع المعرفة ( Knowledge Society ) مترافقاً مع صعود ما يسمى اقتصاد المعرفة، وهذا هو التحول الأول. التحول الثاني والخطير كان من النظام الدولي ثنائي القطبية إلى نظام الأحادية القطبية التي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية. ثالثاً الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. رابعاً الانتقال من مجتمع الأمن النسبي إلى ما يسمى مجتمع الخطر ( Risk Society ). ومفهوم مجتمع الخطر بلوره أساساً عالم الاجتماع الألماني ايرليش بيك والذي كتب كتاباً عنوانه: (La Sociإtإ du Risque) : مجتمع التلوث، وجنون البقر، والبذور المسرطنة، والإرهاب إلخ.

 

 والاستنساخ؟

يسين : طبعاً والاستنساخ ومشكلاته. والاستنساخ معناه قدرة العلم على التلاعب بالمصير الإنساني لأول مرة في تاريخ البشرية. وبالتالي، شعرت أن هذه هي العوامل التي تصنع اليوم تشكيلة جديدة لبنية المجتمع العالمي.

 

 إذاً الثقافي ( Le Culturel ) كان في صلب هذه التحولات؟ واستدعاؤه في التحليل ضروري لفهم هذه الديناميات الجديدة التي يتحول بها العالم. ولكن، هل كان معنى ذلك أنه لم يعد ممكناً فهم العالم إلاّ من طريق التحليل الثقافي؟

يسين : أنا شعرت أنه لا يمكن فهم العالم إلا ثقافياً. كانت هذه نقلة كيفية في تفكيري في عام 1990 وعام 1992. أصبحت هناك أسبقية للتحليل الثقافي، أصبح إدراكي عميقاً بأن التحليلات الكلاسيكية السياسية والاقتصادية سقطت؛ ثم اكتشفت ـ وقد يكون ذلك متأخراً ـ أن السياسة نفسها مشروع ثقافي، وأن الاقتصاد مشروع ثقافي. لذلك أتى اهتمَامي شديداً في تلك المرحلة بتأصيل هذه الفكرة: منهجية التحليل الثقافي. كتبت في هذه الفترة مجموعة دراسات جمعتها بعد أن عدت من عمّان إلى القاهرة 1992 في كتاب سميته: الوعي التاريخي والثورة الكونية: حوار الحضارات في عالم متغير . واكتشفت حوار الحضارات مبكراً قبل الضجة الحاصلة، بسبب خبرة المؤتمرات العالمية التي قد تعطيك أشياء لا تعطيك إياها القراءات. ومما تعطيك إياه الاحتكاك بالعالم والانتباه إلى موضوعات جديدة غير مألوفة. دعيت إلى لشبونة في العام 1990 في مؤتمر ممثلاً «لمنتدى الفكر العربي». كان هناك باحث بلجيكي من المشاركين اسمه دراير قدم بحثاً عن حوار الحضارات في اليونسكو من 1949-1989، وطرح دراير أسئلة مهمة جداً عن حوار الحضارات وتحولاته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي . تأثرت جداً بدراير ولفت نظري بشدة إلى حوار الحضارات في هذا الكتاب. لقد نشرت كتاباً هو الوعي التاريخي والثورة الكونية: حوار الحضارات في عالم متغير [(1)] أعتبره أشبه ما يكون بالمانفستو الجديد للسيّد يسين في مرحلته الجديدة، لذلك تحدث البعض عن السيد يسين ما قبل 1990 والسيد يسين ما بعد عام 1990.

 

 ما موطن التمييز بين اللحظتين الفكريتين في مسارك؟

يسين : لأن كتاباتي السابقة موجودة متناثرة لا يجمعها مفهوم معين. إنما بعد أن اكتشفت الأهمية القصوى للتحليل الثقافي، أصبح هناك اتجاه واضح في اختيار الموضوعات وأجندة البحوث.

 

 ومنظومة مفاهيمية متماسكة بغير شك.

يسين : بالضبط. أنا اعتبر البحث الرئيس في هذا الموضوع هو « تغيير العالم ـ جدلية السقوط والصعود» . وفي هذا الإطار النظري الجديد، الذي صُغْتُهُ حتى أفهم العالم الجديد، تكلمت فيه عن سقوط الشمولية، وكتبت عن صعود الرأسمالية ووراءها علامة استفهام. هل صحيح كما قال فوكوياما أن الرأسمالية انتشرت وانتصرت انتصاراً حاسماً أم لا؟ وأخذت برأي غالبريث الاقتصادي الأمريكي الشهير، إذ يقول إن هذه أفكار يمينية تبسيطية مزعومة عن الانتصار النهائي للرأسمالية. وقد اكتشفت أيضاً كتاباً لبيتر برغر وقد صاغ مانيفستو للرأسمالية في كتاب بعنوان الثورة الرأسمالية يقول فيه: لن تستطيع الرأسمالية أن تصوغ مذهباً صورياً كالماركسية. وهو رغب في سدّ هذا النقص، فألف مانيفستو جديداً اسمه الثورة الرأسمالية ، يتضمن 50 مقولة مبنية بنية صورية متكاملة، يتكلم فيها عن أفضلية الرأسمالية، وقمت بنقده. وكان قد تناول في الكتاب مباحث هامة: الرأسمالية والحياة المادية، الرأسمالية والطبقات، الرأسمالية والديمقراطية، الرأسمالية والثقافة الفردية، الرأسمالية وتنمية العالم الثالث، الرأسمالية في شرق آسيا، إضفاء الشرعية على الرأسمالية إلخ.

أهم ما في كتاب الوعي التاريخي والثورة الكونية عن معالم الحضارة العالمية الجديدة، وحاولت أن أعمق فكرة التحليل الثقافي، وقدمت ما أسميته «الفرض التوفيقي العالمي» تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة، وأهم فكرة فيها في تصوري تلك التي ركز فيها ليوتار الفيلسوف الفرنسي على ما سماه بسقوط «السرديات الكبرى» (طبعاً المترجمون العرب ترجموها بسذاجة سقوط الحكايات الكبرى!) وهو يقصد سقوط الأنساق الفكرية المغلقة: على نحو ما تقول إن الماركسية هي الحل أو أن الرأسمالية هي الحل، وعندنا ثمة من يقول الإسلام هو الحل. هذه الأنساق المغلقة انتهت، وسقطت الثنائيات الزائفة التي سادت في القرن العشرين. إما الرأسمالية وإما الماركسية، إما القطاع العام وإما القطاع الخاص، إما العلمانية وإما الدين.

 

 وإما الديمقراطية السياسية أو الديمقراطية الاجتماعية.

يسين : بالضبط، سقطت هذه الثنائيات، وانتقلنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه الانساق الفكرية المفتوحة (The Open Systems) .

 

 وهي عبارة عن لحظة تركيبية.

يسين : نعم، الأنساق المفتوحة تعتمد على التركيب. لكن الجديد فيها كالآتي: سيحصل تركيب بين عناصر متضادة ما كان يمكن الظن يوماً أنه يمكن أن تَتَركب منها أطروحة واحدة. ولذلك قلت إنه تحت هذا التأثير ستكون هناك محاولات للتوفيق بين الفردية والجماعية على الصعيد الأيديولوجي والاقتصادي والسياسي، وقلت إنه ينبغي أن نضع في الاعتبار بعض الكتابات الفرنسية والإنكليزية المهمة حول إعادة النظر في مقولة الفردية. في كتابات بيتر برغر، ذهب الأخير إلى أن الإغراق في العلمانية في الحضارة الغربية الحديثة كان غلطةً استراتيجية، تدفع ثمنها الآن الثقافةُ المعاصرة في صورة عودةٍ عنيفة إلى الدين، والتي تأخذ أحياناً شكل قيام الجماعة المتطرفة. ستحدث محاولة للتوفيق بين عمومية مقولة الديمقراطية وخصوصية التطبيق، في ضوء التاريخ الاجتماعي الفريد في كل قطر، بين القطاع العام والقطاع الخاص. وستظهر صور مستحدثة من الملكية كما حدث في أوروبا الاشتراكية لم تكن معروفة من قبل بعد أن سقطت الاشتراكية، كتمليك العاملين، والملكية الإدارية، والملكية المختلطة، والملكية المدنية والملكية المهنية. وستحدث محاولات للتوفيق بين الاستقلال الوطني والاعتماد المتبادل، بين المصلحة القطرية والمصلحة الإقليمية، بين تحديث الإنتاج وزيادة الاستهلاك وتنويعه والبحث عن معنى للحياة في الوقت نفسه، في ضوء العودة إلى مفهوم التقدم بدلاً من مفهوم التنمية؛ بين الإعلام القطري والإعلام العالمي الذي ستكون له السيادة في الحقبة القادمة بفضل تكنولوجيا الاتصالات العالمية.

 

 هذه استشهادات من كتابك.

يسين : نعم. باختصار سيتسم النموذج التوفيقي العالمي الجديد بأربع سمات لو استطاعت قوى التقدم أن تنتصر على قوى الرجعية:

أولاً: التسامح الثقافي المبني على مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الأوروبية والغربية. النسبية الفكرية بعد أن تنتصر على الإطلاقية الأيديولوجية، إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سياق الديمقراطية على كافة المستويات، العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية وتقليص مركزية الدولة، إحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام، التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية. وبالتالي هذه المحاولة أو هذا الفرض يعتبر نتاج البحث عن إطار نظري جديد يحاول أن يضع التحليل الثقافي في مقدمة المناهج التي ينبغي الاعتماد عليها في فهم العالم.

هذه الأطروحة التي تجنح نحو القول بأن تفكيك الأنساق المغلقة يستتبعه تشكيلٌ «لمنظومات تجتمع فيها عناصر متضادة لم يكن يُحسب يوماً أن تجتمع، وهي الأطروحة التي تتخذها قاعدة ومنطلقاً، ألم تستوقفها مثلاً تجربة الصين؟ ألم يلفت نظرك واقع الصين الراهن وكيف تتجاورُ وتتعايش الرأسمالية في أكثر أشكالها تجلياً ووضوحاً في النظام الاقتصادي مع نظام سياسيٍّ شيوعيّ لم يكن يدور في خَلَد أمرئٍ أن يقود عملية تنمية رأسمالية؟ هذا مثال واحد. نستطيع أن نضيف مثال «الإسلام التركي» حيث تتجاور الفكرة الإسلامية مع الفكرة العلمانية، وفي مشهد سياسي لا تشهد فيه اضطراباً أو تنازعاً أو تضاداً أو تجافياً ما بين المبدأين هل تجد في مثل هذه النماذج بيِّنات لتلك الأطروحة؟

يسين : أعتقد أن الأمثلة التي ضربتَها أمثلةٌ في الصميم، لأنها تأكيد لهذه المقولات النظرية. من كان يصدق أن الحزب الشيوعي الصيني سيقود ثورة رأسمالية تحت ضوابط الاشتراكية؟ هذه توليفة جديدة. التجربة التركية ينطبق عليها الشيء نفسه. تَجَاوَزَ «حزب العدالة والتنمية» أخطاء الحركات الإسلامية السابقة والمعاصرة وَقَطَعَ مع الطقوس الشكلية في الدين وركّز على مضمونه، وأقام علاقة برجال الأعمال، ودخل البرلمان، ولم يعد حزباً دينياً، بل خلط بين الليبرالية وبين الإسلام دون أن يكون في ذلك تناقض. ولذلك هناك الآن مبحث جديد، حيث تَصْدُر أبحاث أمريكية بالغة الأهمية عن الإسلام والديمقراطية، تبحث في ما إذا كان بينهما تناقض أم لا؟ والاتحاد الأوروبي في آخر توجيه له يريد أن يُجْرِيَ حوارات مع تيارات الإسلام السياسي في الوطن العربي. وهكذا فالثنائيات القديمة إما الإسلام وإما الديمقراطية، لم تعد صحيحة، وحتى بعض قوى الإسلام السياسي بدأ يتخلى عنها.

لقد ضربتَ أمثلة جيدة عن الصين وتركيا على الصعيد العملي، أي على صعيد الممارسة السياسية العملية. أما على الصعيد الفكري، فهناك معارك فكرية كبرى ليست سهلة ومنها أن إعادة صياغة إطارٍ نظري من خلال النقد الذاتي مسألة بالغة الصعوبة، إذ ما زال هناك تشبث عاطفي بما درج المرء عليه. إن الماركسي الذي التزم الماركسية 40 سنة ليس سهلاً عليه أن يخرج سريعاً من نسقها الفكري حتى لا أقول من الجمود العقائدي. وهناك بعضٌ لديه إخلاص فكري ونزاهة فكرية يقبل النقد الذاتي، لقد قرأت ـ مثلاً ـ كتاباً مهماً لأستاذ علم الاجتماع الماركسي الأمريكي أرونسون عنوانه ما بعد الماركسية روى تجربته كماركسي. وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي قام بنقدٍ ذاتي، وتوصَّل إلى مقولة تستحق التأمل قال: «لم تسقط الماركسية كمنهجية ولكن سقط مشروعها الراديكالي لتغيير العالم». وإذا أردنا أن نحييها فعلينا أن نعيد صياغة مشروع جديد لتغييره.

 

 لماذا سقط مشروعُها. هل لأنه ينتمي إلى الطوبى؟

يسين : مشروعها الراديكالي العام سقط، لأنه قام على مفاهيم مغلوطة.

 

 لكن المؤلف لم يطعن في المقدمات النظرية للخطاب الماركسي.

يسين : هو لم يطعن وهذا نقص في كتابه. أنا أعتقد أن الخطاب ـ وهذا درس أخذناه من ميشيل فوكو ـ معناه المنطلقات النظرية والممارسة معاً. لا يوجد شيء اسمه النظرية فقط، وهل هي صحيحة أم خاطئة؛ لا ينفع هذا الكلام، وهو كلام يقال عن الإسلام وعن الماركسية. لا بد أن نصعِّد النقد إلى المقدمات النظرية، ونرى أين العطب.

لقد اشتغلت على هذا الموضوع شخصياً، أحببت أن أتأمل في الذي حصل؟ ما الذي حدث؟ اكتشفت أن العيب الجوهري في وجود نظرية ماركسية مثالية عن الطبيعة الإنسانية (Human Nature) . وبناء على هذه النظرية المثالية التي تقول: إن الإنسان ليس أنانياً بطبعه، وإنه يمكن أن يعمل لصالح الجماعة وليس لصالح نفسه، بناء على هذه الأفكار المثالية، تمت مصادرة الملكية الخاصة كأول مرسوم أصدره لينين في الدولة الجديدة وتحويل المزارع إلى كولخوزات إلخ. بعد التجربة، تبيَّن فشل الإدارة الجماعية وما اكتنفها من رشوة وسرقة ومحسوبية. حين جاء خروتشوف إلى السلطة بعد وفاة ستالين، قام بإصلاحات وقال إن الدولة ستعطي 5 هكتارات لكل فلاح ومن حقه أن يبيع الإنتاج إلى السوق. ثبت أن إنتاج الـ 5 هكتار أكثر من إنتاج المزارع بعشر أضعاف، لماذا؟ سؤال فلسفي: الإنسان لا يستطيع الإفلات من الميل إلى خدمة الذات، ومن الميل إلى فرديته. ثبت أن مثاليتنا طوباوية غير قابلة للتطبيق.

 

 لكنها أيضاً موروثة عن الفكر الليبرالي في جراثيمه الأولى خاصة في حديثه عن حالة الطبيعة، وأن الإنسان بطبعه طيب وخيِّر. وتعود الفكرة إلى النصوص التأسيسية الإسلامية أيضاً من حيث تشديدُها على فكرة الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان. فلماذا التركيز على الموقف الماركسي حصراً؟

يسين : لماذا؟ لأن الماركسية لم تكتشف ذلك بالنظر أو بالصيغة النظرية فقط، بل من خلال التطبيق أيضاً. إنها ليست مشروعاً فلسفياً فقط، بل مشروع تطبيقي أثر في ملايين البشر. أليس كذلك؟ هنا الفرق الجوهري، لا بدّ إذن من حل وسط. كيف تخدم الجماعة وكيف تخدم نفسك في الوقت نفسه؟ لذلك إن المشروع الراديكالي الجديد الذي يعمل عليه البعض لا بد أن يضع ذلك في الاعتبار. لا ينبغي لك أن تطلقه على إطلاق، وإلا ستتحول الرأسمالية إلى رأسمالية متوحشة وتسقط القيم الأخلاقية ويصبح التراكم الرأسمالي هو الهدف. أعود هنا إلى ما بدأنا به الحديث: إن التحليل الثقافي أصبح في نظري المدخل الأساسي لتحليل العالم المعاصر. وأنا كنت سعيداً جداً عندما اقتنيت من باريس مؤخراً كتاب آلان تورين الجديد: Un Nouveau paradigme pour comprendre le monde d’aujourd’hui ، أو: نموذج جديد من أجل فهم عالم اليوم [(2)]. يتحدث عن أولوية التحليل الثقافي لأنه انتهى عصر التحليل الاجتماعي كما يقول، فلندخل بعمق ونتوغل في التحليل الثقافي للمجتمعات.

 

 سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي مثَّلا مفصلاً تاريخياً كبيراً لبيان وجاهة هذه المقاربة التي تأخذ بالتحليل الثقافي. فالاتحاد السوفياتي الذي كان نظيراً في القوة للولايات المتحدة الأمريكية وللمعسكر الرأسمالي لم يسقط عسكرياً أو أمنياً، وقطعاً أيضاً لم يسقط اقتصادياً. إذْ لو نستعيد اليوم مشهد تلك الطوابير الهائلة من المواطنين السوفيات الذين كانوا يقفون لساعات لكي يشتروا مواد مثل الكوكاكولا وسجائر المارلبورو ووجبات الماكدونالد، لاكتشفنا بأن هذا هو موطن الخلل الذي دب في النموذج السوفياتي. لقد اختُرق ثقافياً بسبب الثورة الثقافية في المجال الإعلامي ومجال الصورة ومجال الاتصالات التي دخلت أحكامُها كل بيت سوفياتي. انهزم هذا المشروع ثقافياً. لذلك، ليس أيضاً صدفةً أن القوى التي كانت مخلب قط في المعركة ضد النظام الكُلاَّني في الاتحاد السوفياتي، اتخذت لمعركتها عناوين قومية، وعناوين دينية إلخ. ليس من شك في أن هذا التحليل الثقافي يجد ما يُسبغ عليه الشرعية من الوقائع الكثيرة.

يسين : لو سمحت لي إن مقدمات التحليل الثقافي بدأت قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، فعلاً، في ما يسمى نقد التجربة السوفياتية.

 

 تقصد كتابات شارل بيتلهايم مثل «الصراعات الطبقية في الاتحاد السوفياتي»؟

يسين : نعم، مثل شارل بيتلهايم. وهناك كتابات التفتت مبكراً إلى التحوّل الثقافي الذي يحصل للاتحاد السوفياتي. أنا أذكر أن ريمون أرون أعطى مقرراً رئيسياً (Cours magistral) درَّسه على مدار ثلاث سنوات ونشره في ما بعد. في أول سنة تحدث في «16 درساً عن المجتمع الصناعي»، وفي السنة الثانية تحدث عن «صراع الطبقات»، وفي السنة الثالثة تحدث عن «الشمولية والديمقراطية». وقام بمقارنة بين المجتمع الصناعي الأمريكي والمجتمع الصناعي السوفياتي ليس على أساسٍ إيديولوجي، بل على أساس أن كليهما مجتمع صناعي، النقطة الأساسية التي أثرتها وهي مهمة، أصبحت ثقافة الصورة والاتصالات مؤثرة وكان لها دورٌ كبير في ما حصل. إنما المشروع هُزِمَ من الداخل بدون تأثير خارجي.

 

 كان يحتاج إلى منبّهٍ خارجيّ كهذا.

يسين : طبعاً، لكن كان واضحاً أن رجال الحزب هيمنوا على الدولة وعلى الامتيازات، وكان لديهم محال يشترون منها السلع الغربية ويحرم منها باقي الناس. هناك عوامل من الضعف أثرت في المشروع مما أفسح في المجال أمام المقارنات الدولية ومحاولات الخارج. أما في النهاية، فيمكن أن نقول إنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفجار الخصوصيات والأعراف، تَبَيَّنَتْ أهمية التحليل الثقافي على أوضحِ نحوٍ.

 

 إلى أي حد تلتقي هذه الأطروحة وتصطدم مع الأطروحة التي أطلقها هانتنغتون عن صراع الحضارات؟ هل في وسعنا أن نقول أن هذا الهاجس الثقافي دخل إلى مراكز الدراسات في الغرب وخاصة في أمريكا من مدخلٍ سياسي، أي من هواجس السياسيين، أم بحسبانه هاجساً ثقافياً نما في الفكر الأمريكي نفسه؟

يسين : هذا سؤال مهم جداً: لأنني أعتقد أن هانتنغتون من مثقفي المؤسسة الأمريكية، وأنه قام بتوظيف استراتيجي للتحليل الثقافي. كانت لديه مشكلة هو والمؤسسة الأمريكية باعتباره من منظريها. والمشكلة هي غياب العدو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. التنشئة السياسية الأمريكية للشعب الأمريكي قائمة على أساس أن العدو هو الشيوعية والماركسية والاتحاد السوفياتي. يوجد خبراء بنوا مِهَنَهُمْ على أساس تحليل سياسات الاتحاد السوفياتي. ما هي القيم التي سَيُنْشِئُون عليها الجيل الأمريكي الجديد، أين العدو؟ لا بد من اختراع هذا العدو. ومن هنا وَظَّف هانتنغتون قدراته الأكاديمية الرفيعة المستوى توظيفاً استراتيجياً مدعياً أن هذا العدو موجود، وأنه سيفرض علينا حرباً قاتمة بين الحضارات. كما تكلم عن الإسلام والثقافة الإسلامية والثقافة الكونفوشيوسية والتناقضات بين هذه وبين الغرب.

لفت نظري بعد اجتياح العراق للكويت أن مجلة Esprit الفرنسية أصدرت عدداً خاصاً عنوانه الفرعي «الحروب الثقافية». وهذا قريب مما ذهب إليه هانتنغتون من أنه ستنشأ حروب ثقافية في المستقبل ليس بين قوى عسكرية بل أخطر: بين حضارات.

 

 في ما يتعلق بهذا الموضوع، السؤال الذي طرح نفسه على العقل الأمريكي والغربي آنئذٍ من خلال الحلف الأطلسي عمّن هو العدو وأين يوجد، هل مرده فقط إلى حاجة أمريكا إلى مثل هذا العدو حتى تستمر قائدةً مشروعاً كونياً وحلفاً دوليّاً، أم أن ثمة مخافةً من انفراط المعسكر الذي بنته الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية؟ مثلاً ستقول أوروبا إن العدو اختفى ولا مبرر لوجود خطر سياسي وعسكري ومظلة أطلسية على أوروبا. وكان الخوف أيضاً من أن يذهب منطق المصالح بأوروبا وروسيا ـ الجغرافي والتاريخي ـ إلى إقامة علاقات تصبح أوروبا بموجبها المنافس الاقتصادي المحميَّ بذراعٍ عسكرية روسية؟ وهناك أسباب أخرى سياسية وراء السؤال. أنت تفترض بأن هانتنغتون وفر جواباً لهذا السؤال في العقل الغَرْبي عن عدو.

يسين : تساؤلك مشروع. هذا كان محاولة لسد ثغرة في الجبهة الإيديولوجية الأمريكية هي غياب العدو. وفي الوقت نفسه هناك مشروع أمريكيّ عن «القرن الحادي والعشرين تقوده جماعة المحافظين الجدد يسعى إلى الهيمنة الكاملة على العالم». وقطعاً كانت المخاوف التي تكلمتَ عنها جزءاً من الموضوع: احتمال الانفلات الأوروبي. ولإثارة مخاوف أوروبا، أيضاً، جرى التشديد كثيراً على المخاطر التي يمثلها اليوم صعود الصين، ثم انتبهوا إلى أن لكوريا الشمالية أسلحة ذرية، وحذروا من صدام حسين الذي يمتلك سلاحاً ذرياً في زعمهم. توني بلير كذب وتعمد الكذب عندما قال: إن صدام حسين لديه إمكانية أن يشن حرباً غير تقليدية وشاملة بعد 45 دقيقة من إعطاء الأمر. نعم كلامك صحيح، فقد حصل انفراط في العقد، وزاد الخوف من انفلات أوروبا نهائياً وتصدّع حلف الناتو. ولذلك جرى ابتداع وظائف جديدة له، ومنها خوض الحرب ضد الإرهاب والدول المارقة.

 

 ألا تقدم نظرية صراع الحضارات لهانتنغتون مادة فكرية للنخبة السياسية الجمهورية المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية؟

يسين : أعتقد أنها تعطيهم ثقباً صغيراً فقط. فعندما تريد الولايات المتحدة العدوان على بلدٍ ما، تستخدم الدعاوى الخاصة بصراع الحضارات. أما جماعة المحافظين الجدد، فلديهم مشروع أيديولوجي متكامل، العدو جزء منه، أهم ما فيه هو شرعية وقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الهيمنة المطلقة على العالم إلى الأبد. هنالك بحث نشر على الإنترنت قامت به مؤسسة راند ( Rand )، (مؤسسة راند هذه أنشأها سلاح الجو الأمريكي منذ 70 سنة ثم تحولت إلى أكبر مركز دراسات استراتيجية أمريكية). البحث قام به عشرة من الأساتذة الاستراتيجيين الأمريكان ووصلوا إلى ما يلي: سنقدم توصيات إلى وزارة الدفاع لضرب أي منافس ينافس الهيمنة المطلقة لأمريكا في المهد، فكأن ذلك هو الهدف الأسمى لهم وهو ما أسميته: نوع من الهوس المجنون، أن يحكموا العالم منفردين إلى الأبد. هذه هي الإيديولوجية الكاملة. صراع الحضارات تسد نقطة في هذه الإيديولوجية، وليس كلها.

 

 لنتحدث في موضوع ما بعد الحداثة. صحيح أن فكرة ما بعد الحداثة أصبحت اليوم بلغة الشهرستاني مقالة. لكن لها جذوراً ومقدمات قد تبدأ منذ التحليل النفسي ومنذ الأنثروبولوجيا، ونتشه بل ويمكن العودة بها إلى نقد ماركس للمجتمع الرأسمالي وللفكر الليبرالي. ما بعد الحداثة تُدّشِّن قطيعة مع فكرة الأنساق الكلية المغلقة، وقد تكون هذه الثورة مطلوبة في السياق الثقافي للمجتمعات الغربية التي تشبعت بميراث الحداثة واستوعبته استيعاباً شاملاً، ونشأت حاجات جديدة لديها حَمَلَت عليها ظروف ومستجدات في تاريخها. أنا أريد تعريب هذا السؤال: هل ما بعد الحداثة مشروعٌ ثقافي مطلوب في المجتمعات العربية حيث لم تتأصل فيها بعد مطالب الحداثة التي بدأت منذ 400 عام؟ إذ لا العقلانية انتصرت، ولا النظرة الوضعية للعالم انتصرت، ولا المعرفة العلمية أصبحت في قلب ونسيج المعرفة في هذه المجتمعات. هل العلاقة بموضوعات ما بعد الحداثة ـ خارج إطار الشغف الثقافي لدى المثقفين العرب ـ يمكنها أن تتجاهل حقيقة أن مجتمعاتنا لم تَلِجِ بعد طور الحداثة حتى تُبشّر الإنتيليجنسيا العربية اليوم بما بعد الحداثة؟

يسين : سؤالك مشروع ومهم. أولاً على عكس ما يظن المثقفون العرب، هناك اتجاهان أساسيان في تيار ما بعد الحداثة: اتجاه عدمي ينكر الحقيقة الموضوعية وينكر التاريخ وينكر شرعية تعميم الكونيِّ على الخاص. وهناك تيار آخر تحرري يهدف إلى القضاء على الشمولية في السياسة والتفكير. ومثقفونا غير منتبهين إلى هذا الموضوع. سؤالك مهم، وسأتناوله مما سبق وقلته في البداية عن التحول الذي طرأ على بنية النظام العالمي الجديد. بالانتقال من المجتمع الصناعي إلى نموذج المجتمع المعلوماتي العالمي، هذا الذي ينتقل ببطء وإن كان بثبات إلى مجتمع المعرفة. المجتمع العربي لم يستكمل بعد مهمات المجتمع الصناعي ولكنه مضطر ومرغم على أن ينتقل إلى مجتمع المعلومات العالمي، لن ينتظرك أحد.

 

 عليه أن يتحرك بسرعتين.

يسين : نعم، لأنه لن ينتظرك أحد. أنت تلكأت في التطور، إنما أنت مرغم على التعامل مع أدوات ومفاهيم مجتمع المعلومات العالمي، والدليل أنه هناك الآن ما يسمى التجارة الالكترونية ( E-commerce ). انتهى عهد المفاوضات حيث نجلس ونتفق على صفقة. كل شيء موجود ومتوفر بواسطة الانترنت، وما عليك إلا الدفع. لا تستطيع كباحث علمي أن تعمل بأدوات المجتمع الصناعي، لا بد أن تعمل بالإنترنت، انتهى عهد الفاكس ودخلنا في عهد الـ إي. ميل ( E-mail ). كلامك صحيح، نعم، ولكن أنت مضطر إلى أن تعيش فترتين: لم نستنفد ولم نستكمل بعد مهام المجتمع الصناعي بما فيه من عقلانية وتخطيط وترشيد واحترامٍ للوقت وتقسيمٍ للعمل، وغيابٍ للمحسوبية، ما زلنا مجتمعاً ريفيَّاً شبهَ صناعي. هذا هو التوصيف الدقيق. غير أنك مضطر أيضاً إلى أن تعمل بلغة ومفاهيم مجتمع المعلومات العالمي. بالتالي، فالحُجّة التي تقول إننا لم نستكمل مرحلة الحداثة كي ننتقل إلى ما بعد الحداثة تُغْفل هذه الحاجة الموضوعية التي تفرض ما بعد الحداثة.

المسألة الثانية المهمة، ليست مسألة مفاضلة بين مراحل زمنية مختلفة، وأنا طرحت هذا الموضوع في كتاب وقلت هل الزمن العربي يختلف عن الزمن العالمي أم لا؟ أخطر ما في هذا الكلام تجربة القرن العشرين. تجربة القرن العشرين حافلة بأخطر ما مر على الإنسانية. فيها شهدنا الفاشية والنازية والشيوعية. خبرة القرن العشرين في نهايته تؤكد أن أية أيديولوجية تدعي أنها وحدها التي تملك الحقيقة المطلقة فاقدةٌ لِلشرعية وقولُها محض ادعاء. إذن، وقائع القرن العشرين في حد ذاتها لو استخلصناها وتأملناها، نجد أن ما تدعوه ما بعد الحداثة مستخلص في الواقع من خبرة هذا القرن، في محاولة لصياغةٍ نقدية أو لتأمل نقدي في الخبرة الإنسانية بأطر نظرية جديدة مستحدثة.

 

 الحداثة ظاهرة عامة. هي نظرة إلى الكون. وهي جملة من الحقائق التي أثبت التطور التاريخي أنها أصبحت الحقائق الكونية الكبرى. الشق الثقافي للحداثة له سمةٌ خاصة. سأستعير هنا مفهوم الزمن المعرفي لأقول إن زمن الثقافة وزمن الأفكار هو غير زمن الوقائع المادية والاقتصادية والسياسية والتقانية إلخ. على الصعيد الاقتصادي والسياسي نستطيع أن نقول إن هناك حركة كونية صاعدة لا تنتظر أحداً، إما أن تركبها وإما أن تحكم على نفسك بالخروج من التاريخ. لكن زمن الأفكار أو الزمن الفكري والزمن المعرفي أو زمن الثقافي له إيقاعٌ خاص. لذا، فهو لا يتحرك بمقتضى الإيقاع الزمني الكرونولوجي للحوادث. وفي هذا الباب، خاض العرب منذ مطلع القرن التاسع عشر مغامرة الانخراط في العصر من خلال التشبع بأفكار حديثة انتهلها العرب في سياق الغزوة الأجنبية لبلادهم. منذ الطهطاوي وحتى الآن تكرست لدينا تراكمات هائلة في مضمار الدفاع عن العقل، وفي مضمار الدفاع عن الإصلاح، عن العلم إلخ، هذه الحركة التنويرية التي شهدها الوطن العربي منذ مطالع القرن التاسع عشر وإلى ستينيات القرن العشرين انتكست وتراجعت. والآن ثمة زحفٌ مقابل ومعاكس لكل ذلك التيار التنويري: يُسقط مرجعية العقل، ويشكك في حُجّية العلم، ويسفِّه النظرة الوضعانية للأشياء، ويعيدنا إلى الموروث الثقافي، ويستعيد المدونة الإسلامية التقليدية بحسبانها مخزناً يحتوي كل الأجوبة الممكنة على «نوازل» العصر. واليوم لا نشك في أن الغلبةَ والفُشُوَّ لهذا التيار الفكري. الأخطر من ذلك، أن موجات الانقضاض على العقلانية في الثقافة العربية المعاصرة تركب مركب ما بعد الحداثة، ولا تجد ضَيْراً في ذلك: تستفيد من النقد الذي وُجِّهَ منذ أربعة عقود للعقلانية وللوضعية وللماركسية ولكل التراث الحداثي، وتجد في كل هذا النقد مورداً تستعيده في هجومها على العقل وفي هجومها على التنوير. واليوم الحركات الإسلامية هي أكثر الحركات التي تستهلك وتستعمل على الصعيد السياسي كل تقنيات ما بعد الحداثة: ثورة المعلومات وشبكة الإنترنت والاتصال والفضائيات وغيرها. فإذن، يمكن أن يتحالف اللاعقل مع ما بعد الحداثة إذا لم ننتبه إلى هذا الموضوع بشكل صحيح.

يسين : سأختلف معك في تعريفك للحداثة.

الحداثة لا تعبّر عن الحقائق الكونية.

 

 هي رؤية إلى العالم جديدة قطعت مع نظرة القرون الوسطى. والتطور المعاصر يثبت أن الكثير من الحقائق التي أنتجتْها الحداثة أصبحت كونية.

يسين : سأنطلق من تعريف آخر يقول إن الحداثة مشروع حضاري يقوم على عدة أسس: أولاً ، الفردية، استخلاص الفرد من شبكة الجماعية التي كان غارقاً فيها في القرون الوسطى. ثانياً ، العقلانية، وهي تقوم على الاعتماد على العلم والتكنولوجيا. هذا المشروع الحضاري عبرت عنه عمليات التحديث ( Modernization ). يلفت النظر من عشرين سنة أن عالِم الاجتماع دانيال بيل من جامعة ييل، كتب مقالة مهمة بعنوان « The Return to the Sacred » «العودة إلى المقدس»، قال فيها إن الحداثة وصلت إلى منتهاها وأثبت هذا، سواء في سوء استخدام العقل، أو سوء استخدام العلم والتكنولوجيا، أو الإفراط في الفردية، وبطلان التقدم المطرد في التاريخ الإنساني، وإلا لماذا قامت النازية والفاشية لو كان هذا صحيحاً؟ ماذا فعلنا نحن مع مشروع الحداثة العربي؟ تحدثتَ عن الطهطاوي وهو رائد التنوير في الفكر العربي الحديث. سأستعين هنا بعبد الله العروي في كتابه الايديولوجيا العربية المعاصرة ، تكلم عن ثلاثة أنماط من الوعي: وعي الشيخ (محمد عبده)، ووعي الليبرالي (أحمد لطفي السيد)، ووعي داعية التقنية (سلامة موسى). ثلاث استجابات لتحدي الغرب. سنقول إن الذي نجح وعيهُ هو الليبرالي، ونُحِّيَ وعي الشيخ. إذ نشأت طبقة ليبرالية سياسية في الوطن العربي حكمت في العراق وسورية وتونس ومصر، بين الحربين، واستفادت من الوعي التقني فأنجزت عملية تصنيع.

ما الذي حدث في الاحتكاك الفكري بين الغرب والوطن العربي؟ لم يستطع الطهطاوي أن ينقل كافة مكونات النموذج الغربي. هذا النموذج الغربي يقول: العقل هو محك الحكم على الأشياء. لم يستطع أن يفعل أكثر من أن يهرِّب المعنى. أقول إن الطهطاوي اتبع سياسة استراتيجية خطابية أُسميها استراتيجية تهريب المعاني. يكتب في مجتمع تقليدي ديني متعصب متزمت، فيُلبس بعض الأفكار عمامة إسلامية. يسوق فكرة جديدة، ثم يأتي بحديث أو آية قرآنية لكي يضفي شرعية على إدخال المعنى الجديد لهذه البيئة الجامدة. لأنه فشل في نقل النموذج بمكوناته، وفشلنا في تحقيق الثورة الثقافية التي حققها الغرب في القضاء على نفوذ الكنيسة وإبعاد هيمنة النص الديني الإلهي وسيطرته على مجمل الفضاء الثقافي، فشلنا في النهاية في أن نجعل المنهج العقلي هو الأساس. لم نستطع أن نجعل العقل محكاً للحكم على الأشياء، واضطررنا للتنازل تحت تأثير المجتمع المتزمت في عهد الطهطاوي من ناحية ونتيجة التواطؤ بين المؤسسة السياسية العربية المحافظة والمؤسسة الدينية. المؤسسة السياسية حاولت أن ترشو الجماهير بتواطئها مع المؤسسة الدينية، والمؤسسة الدينية أضفت الشرعية على عديد من الأنظمة السياسية، وحالة السعودية واضحة في هذا الشأن. وثمة حالة مصر وهي ليست دولة دينية بل علمانية، إنما حاولت أن ترشو المؤسسة الدينية وأن تستفيد من دعمها لإقناع الجماهير بأنها متدينة، لدرجة أن رئيس الوزراء ذهب مرة لكي يستفتي شيخ الأزهر في مسألة اقتصادية لا علاقة لها بالدين! إذن، قضيتنا في تنوع الأزمان واختلافها. أما عن فكرتك الأصلية القائلة بأن الزمن الثقافي غير زمن الوقائع، فأنا أقول أن هناك جدلاً بين الوقائع والأفكار، ولديَّ رؤية في هذا الموضوع. نظرياً، فقد استفدت من وقائع مؤتمر أعدته الجمعية التاريخية الفرنسية كان من شروط البحث فيه ألا يزيد البحث عن ثلاث صفحات. وفي ذلك استعادة لتقاليد الدكتوراه القديمة التي لا تتجاوز العشر صفحات والتي تقدم فكرة. أحد المؤلفين قدم أطروحة استفدت منها أن هناك إطاراً نظرياً لفهم العلاقات بين الأفكار والوقائع. هناك أولاً العلاقات بين الأفكار والأفكار، وعبَّر عنها مصطلح حديث في النقد الأدبي ( Intertextualitإ ) أي: التَّنَاصّ. عند تحليل الخطاب يجب أن تعرف ما هي النصوص التي أزاحها الكاتب، وما هي النصوص التي استدعاها، وما هي النصوص التي أسرف في الاعتماد عليها، وما هي النصوص التي يتجاهلها وذلك لكي تفهم بنية واستراتيجية الخطاب. عندك في المستوى الأول إذن تحليل العلاقة بين الأفكار والأفكار. وفي المستوى الثاني العلاقة بين الأفكار والوقائع. وأنا أعتقد أنك لا تستطيع أن تتكلم عن زمن ثقافي مفصول عن الوقائع، فهذه فكرة مثالية. والوقائع مفروضة من الخارج: من الاحتلال الأجنبي، والغزو الأجنبي، والتأثير الأجنبي، ووقائع الداخل. أنت لا يمكن أن تحكم على فكر إن كان صحيحاً أم لا إلا من خلال هذا الجدل بين الوقائع والأفكار. المستوى الثالث، وقد يبدو غريباً هو: العلاقة بين الوقائع والوقائع. أنا أعتقد أن هذا الإطار يسمح لي بفهم الزمن الثقافي والزمن الوقائعي إن صح التعبير.

 

 بعد مائة عام على وفاة محمد عبده (وهذا العام هو مئوية محمد عبده)، نستشعر مقدار التراجع الذي طرأ على مغامرة الإبداع الفكري في الوطن العربي خلال قرن. نجح الإصلاحيون الإسلاميون في القرن التاسع عشر، مثل الطهطاوي، وخير الدين التونسي، والأفغاني، وعبده، والكواكبي، ومحمد رشيد رضا، الذين صدمتهم المدنية الأوروبية الزاحفة على بلاد العرب والمسلمين، في استيعاب هذه الصدمة والتماسك أمامها، فأنتجوا السؤال الإشكالي الذي حَرَّك نصوصهم وكان في قلب الخطاب الإصلاحي: كيف نتقدم؟ وكيف نتوسل بالوسائل نفسها التي صنعت المدنية الأوروبية؟ انتهت هذه المغامرة وأعقبتها موجة نكوص وتراجع وانكفاء انتهت بنا إلى إنتاج سؤال الهوية: كيف نحافظ على الهوية؟ بدأ هذا مع الخطاب الإسلامي الإحيائي منذ حسن البنا وحتى اليوم. استراتيجية السؤال نفسها تكشف عن نمط العلاقة التي نسجها العقل العربي مع «الآخر». في السؤال الإشكالي النهضوي كيف نتقدم؟ يمثل «الآخر» جزءاً من الجواب عن السؤال. أما السؤال الإشكالي: كيف نحافظ على الهوية، «فالآخر» يوجد مقابل «الأنا»، وهو إما عدو واقعي أو افتراضي! إذن، نستطيع أن نقول إنه حصل انهيار مرّوع على صعيد العقل الإسلامي. كما أن الانتيليجنسيا العربية، ذات المنزع التحديثي التنويري غير المسكون بهواجس الماضي وبسؤال الهوية، الذي مثلته الليبرالية العربية والفكر القومي والفكر الماركسي، لم تستطع طيلة القرن العشرين أن تستأنف المشروع النهضوي من حيث انتهى في مطالع القرن العشرين. سيُتْرَكُ الباب للفقهاء وأنصاف الفقهاء لكي يدمروا ذلك المشروع النهضوي ويدمروا المشروع التنويري الجديد.

يسين : موقفك صحيح، ولكن أختلف معك قليلاً في التحقيب التاريخي الذي اقترحته. أتصور أن هناك ثلاث مراحل. وكل مرحلة لها سؤالها. اتفق معك في المرحلة الأولى التي يسميها العروي مرحلة النهضة. كان السؤال فيها لماذا تقدموا (أي الأوروبيون) وتخلفنا نحن. وكيف نكتسب أسباب التقدم؟ واعتماداً على العروي أيضاً، فإن المرحلة الثانية هي مرحلة النهضة العربية الثانية. وقد بدأت في الخمسينيات باستقلال الدول العربية. الخمسينيات شهدت انتهاء نظم الوصاية والانتداب والاحتلال المباشر. السؤال فيها اختلف وأصبح كيف نحكم: نطبق الليبرالية العربية أم الاشتراكية أم الإسلام؟ السؤال كان مبَّرراً لأن نخبة الثورة قضت على النظم الليبرالية، ولكن كان الإخوان المسلمون في مصر منافسين للضباط الأحرار، ويدافعون عن الإسلام كنظامٍ للحكم. حسم الضباط الأحرار أمرهم فانتهوا إلى تطبيق الاشتراكية بشكل ما، ونَحُّوا جانباً الحل الإسلامي. والسؤال: كيف نحكم؟ لم يكن نظرياً بل كان عملياً، لأن النظم الانقلابية العربية التي قامت: البعث والناصرية، قامت على أنقاض الحكم الليبرالي بعد فشله في إنجاز مهامه، وخاصة مهمة التحرر الوطني ومهمة تصفية الفوارق الاجتماعية الفاحشة بين الطبقات. وهو ما حاولت أن تنجزه الثورة حين قامت. المرحلة الثالثة التي نحن فيها هي مرحلة سؤال الهوية كرد فعل على العولمة، كيف نحافظ على خصوصيتنا الثقافية إزاء العولمة؟

 

 السؤال سابق في الوجود للعولمة، ويعود إلى نهاية العشرينيات من القرن العشرين.

يسين : صحيح، لكنه أصبح السؤال المحوري الرئيسي. أما لماذا أصبح السؤال الرئيسي، فبسبب فشل النظم الوضعية الاشتراكية في تحقيق المطالب الشعبية وفي تحرير الأرض. حزيران/يونيو 1967 تاريخ فاصل، ليس بالنسبة إلى مصر بل بالنسبة إلى كل الوطن العربي. هزيمة وعجز فادح في الدفاع عن الوطن، وفي تقديم الحلول للمشكلات المطروحة. وهذا أعطى الوقود للدعاية الإسلامية. النقطة الأخطر من هذا ثقافية. المثقفون العرب العلمانيون: القوميون والديمقراطيون الليبراليون، فشلوا في صياغة خطاب عصري يصل إلى الجماهير، الجماهير العربية جماهير أمية ومؤمنة، وهناك فراغ فكري كبير. عجزت المجتمعات العربية عن تكوين العقل النقدي، وعجزت نظم التعليم العربية عن تكوين العقل النقدي ولم تكرس غير عقل اتباعي. الأفكار الاشتراكية أيضاً اتباعية وليست نقدية. هذا كان المدخل الذي أدى إلى صعود التيارات الإسلامية السياسية بعد ذلك. جزء من المسؤولية هو العجز عن صياغة العقل النقدي. مثقفو النهضة ليسوا هم الذين يصوغون العقل الشعبي العربي، وإنما الفقهاء وأئمة المساجد. هناك خطبة جمعة كل أسبوع. نحن نكتب. نعم، ولكن كم نسخة تطبع من أي كتاب: 2000، 3000 نسخة؟ هناك الملايين الذين لا يرون هذه الكتب، ناهيك بالأمية الأمية الفكرية حيث الذي يعرف القراءة لا يقرأ! صعود الخطاب الديني المتشدد كَرَّسَ العقل التقليدي، لأن العقل العصري لم نستطع ترسيخ قواعده نتيجة القمع والحصار من الأنظمة السياسية العربية: رجعية كانت أم ناصريةً وبعثية. لقد قمعت المثقفين، ومنعت تواصلهم مع الجماهير لأسباب أمنية، وعزلتهم، ونَفَتْهُم في الداخل وفي الخارج. وسجنت وأعدمت. أليس كذلك؟ وبالتالي زاد ذلك من عزلتهم وهامشتيهم. اليوم من هو الذي يصنع العقل الشعبي؟ لسنا نحن المثقفين الديمقراطيين كما نصف أنفسنا. وبعد ثورة الاتصالات والكاسيتات، انظر كيف تُستَثْمَر هذه في خطب الجمعة، وفيها أشد أنواع التفكير الديني رجعية.

 

 وهناك فضائيات مكرسة لذلك اليوم.

يسين : نعم والفضائيات مكرسة لهذا. يجب إذن أن نمرحل هذا التطور في المراحل الثلاث؛ وأن ننتبه إلى أشكال القصور فيها. على سبيل المثال، المكتبة العربية في العصر الليبرالي لا يوجد فيها عشرة كتب عن الديمقراطية. لم تنتج كتباً أو مراجع أساسية عن الديمقراطية. هذه مشكلة! الأمرُ نفسُه ينطبق على الماركسيين. نصوصُهم أغلبها نُقُولٌ عن النصوص الماركسية الأجنبية من دون تطويع لهذه المبادئ وتفاعل مع الواقع.

 

وتكاد تكون خطاباً شعبويّاً.

يسين : نعم، خطاباً شعبويّاً بامتياز. إذن، كل مرحلة من هذه المراحل لها مشاكلها وتحتاج إلى مناقشات تفسر لماذا انحدرنا وتراجعنا وأخذتْنَا الرِدة إلى ما قبل العصر العقلي؟!

لو قمنا بعملية تحقيب خلال القرن العشرين لأنماط الخطاب الفكري والسياسي الذي أنتجه العرب، لأمكن أن نقول بإنها أربعة خطابات: الخطاب القومي، والخطاب الإسلامي، والخطاب الليبرالي، والخطاب الماركسي. وكل خطاب أنتج رؤية استثمرتها نخبةٌ سياسية وصمَّمَت مؤسسات سياسية على مُقْتَضَاها. فالخطاب القومي صارت له أحزاب قومية، والخطاب الإسلامي صارت له أحزاب إسلامية، والماركسي أحزاب ماركسية إلخ. وكانت الهيمنة في كل حقبة من القرن العشرين لخطاب دون آخر. كل خطاب يتقوَّمُ على مسألة رئيس تمثل الجوهر فيه. إشكالية الخطاب القومي قائمة على فكرة الوحدة العربية، وإشكالية الخطاب الليبرالي قائمة على مسألة الحرية والديمقراطية، وإشكالية الخطاب الإسلامي قائمة على مقولة الهوية، ثم إشكالية الخطاب الماركسي قائمة على قضية الاشتراكية. وما إن تصل كل نخبة من هذه النخب إلى السلطة حتى تعتبر أن حل المعضلة القائمة التي تعتبرها المعضلة الرئيس هي المفتاح السحري لحل مشاكل المجتمع العربي: إذا وأدنا التجزئة الكيانية وحققنا الوحدة العربية سنحل كل المشاكل. أو إذا حققنا النظام الديمقراطي سنحل كل المشاكل. أو إذا حققنا التنمية المستقلة وذات الأفق الاشتراكي سنحل كل المشاكل. أو إذا حافظنا على الهوية سنحل كل المشاكل. وكل نخبة أتت بعد التي قبلها تَجُبُّها جبّاً وتنطلق من الصفر وتعتبر أن إشكالية سابقتِها فاسدة، وأن الإشكالية الحقيقية هي إشكاليتها.

 

نحن اليوم بعد هذه المائة عام من تَعَاقُب وتَزَامُنِ أربعة خطابات، وأربع تجارب، نجد أن المسائل نفسها ما زالت مطروحة على العرب: لم يحققوا الديمقراطية ويستأصلوا الاستبداد والتسلط. ولم يحققوا الوحدة القومية ويتجاوزوا التجزئة. ولم يحققوا التنمية ولا استطاعوا أن يكونوا أنداداً للآخرين. المشكلات نفسها ما تزال مستمرة. الآن، وأمام هذه الحصيلة، هل في وسعنا أن نتحدث عن إمكانية نشوء خطاب ثقافي تركيبي يجمع بين كل هذه الإشكاليات وبين كل هذه المقالات؟ خطاب تتجاور فيه مطالب الوحدة مع الديمقراطية مع التنمية مع الاستقلال الوطني القومي مع التجدد الحضاري. كنا نتحدث قبل قليل عن ما بعد الحداثة وتكسير الأنساق المغلقة: هل نحن في حاجة اليوم إلى لحظة فكرية جديدة يَقَعُ فيها تركيبٌ جدليّ يستوعب كل هذه المطالب المطروحة على العرب منذ القرن التاسع عشر، أي منذ أن صَدَمَتْهُم المدنية الحديثة؟

يسين : طرحت سؤالاً مهماً جداً. لديَّ هنا فكرتان ومنطلقان. أعتقد أنه ينبغي في تحليل الخطابات الأربعة أن نركز على ما نسميه الأساطير السياسية التي قام عليها كل خطاب. تكلمت من قبل عن سقوط الأساطير السياسية ومنها مثلاً أنه يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية بغير حرية سياسية، ومن الواجب أن نستكمل تحليل الأساطير السياسية الأخرى.

 

 تقصد المؤسِّسة لكل خطاب من هذه الخطابات.

يسين : بالضبط، هذا جزء أساسي من التحليل. من الغريب أن سؤالك هذا حاصرني سنة 1983 عقب الندوة الكبرى التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في قبرص تحت عنوان « أزمة الديمقراطية في الوطن العربي »[(3)]. وهي ـ استطراداً ـ ندوة تاريخية. أولاً لأنها كما تعرف عُقدت في قبرص لأن أية عاصمة عربية لم تقبل عقدها فيها بما فيها القاهرة، ولأنها ثانياً جمعت مثقفين ومفكرين من كافة الأقطار، كانوا ممثلين تمثيلاً جيداً وحدث إجماع بينهم على أساس أن الديمقراطية هي المنطلق في أي حل قادم. الكل انتقد نفسه وخبرته. لو عدنا إلى هذه الندوة، لوجدنا أنه كانت هناك محاولات أولية لصياغة خطاب تأليفي من النوع الذي تتحدث أنت عنه. أنا حللت أعمال هذا المؤتمر في بحث قمت به، ووصلت إلى نتيجة من واقع المداخلات في الندوة، وسأقول لك ما هي النتيجة الرئيسية التي وصلت إليها. قلت التالي بالنص[(4)]: «وقد خلصت من واقع تأمل الأبحاث والمناقشات إلى أنه يبدو أننا نحلم بنموذج ديمقراطي شامل، يتكون من عناصر أساسية. أولاً، تحقيق الحريات الأساسية للإنسان مستقاة من النموذج الليبرالي. ثانياً ، تحقيق العدالة الاجتماعية مستقاة من النموذج الاشتراكي. ثالثاً ، تحقيق الأصالة الحضارية مستقاة من النموذج الإسلامي». استخلصتُ هذه الاستنتاجات من تحليل ما قاله سمير أمين، والطاهر لبيب وجلال أمين، وطارق البشري. أعتقد أننا في حاجة إلى هذا النموذج التأليفي. وهذا ليس إشباعاً لنزعة فكرية، بل من واقع الخبرة التاريخية. لقد جربنا في العصر الناصري أن نقايض العدالة الاجتماعية بالحريات السياسية، وفشلنا وكان ذلك خطأً تاريخياً، على الرغم من أن الناصرية خلقت طبقة وسطى، وساعدت طبقات أخرى فقيرة على العلم والتعليم والصحة والمسكن.

 ولكن نقطة ضعفها كانت المسألة الديمقراطية.

يسين : صحيح، لأنه ليس هناك عدالة اجتماعية بدون حريات أساسية.

 

 كيف السبيل إلى تركيب هذه المعادلة الجديدة التي تتوازن فيها الأهداف وتتجاور. ومن هي القوى التي يمكنها أن تنهض ببنائها؟

يسين : القوى هذه هي المفكرون وصناع القرار. والسبيل إلى تركيب تلك المعادلة هو الكف عن النظر إلى هذه الأهداف كما لو أن واحداً منها يلغي الآخر.

 

 انتهى إذن عهد المقايضات والمساومات بين الأهداف.

يسين : انتهى، لم يعد ينفع. في العصر الليبرالي حين قلنا ليس مهماً العدالة الاجتماعية، بل نريد الحريات والديمقراطية والانتخابات والبرلمان، تبيَّن أن كبار ملاَّك الأراضي هم أعضاء البرلمان، وهم من يحكم ويشرع ضد الفقراء. ثم قمنا بثورة عام 1952 ضد الطبقات المستغلة، ونحَّيناها جانباً، لكن أجهزة الأمن سيطرت على الموقف بالقمع السياسي للجماهير. تكوَّن لدينا هذا الإدراك من الخبرة الحياتية.

 

 ليس ترفاً فكرياً هو إذن.

يسين : نعم، ليس ترفاً فكرياً.

 

 هل نقول إنه جواب عن مطالب موضوعية.

يسين : بالضبط، هو جواب عن تلك المطالب.

 

 أمام وقائع الإخفاق المنهمر للمشروع العربي، وليس فقط المشروع القومي، للانخراط في العصر والإجابة عن مطالب المجتمع التحررية والاجتماعية والاقتصادية، ماذا في وسع المثقفين أن يقدموه من مساهمة لمجتمعات ينتمون إليها ويُفترض فيهم أنهم فئة من الطلائع التي ينتدبُها موقعُها في مجتمعاتها لأداء أدوار إزاء هذه المجتمعات؟

يسين : أولاً سؤالك الخاص بالحاضر والمستقبل، أنا ساهمت في التخطيط للمؤتمر الكبير الذي عقده مركز دراسات الوحدة العربية في المغرب.

 

 تقصد عن «المشروع النهضوي» في مدينة فاس.

يسين : نعم تحت عنوان: «نحو مشروع حضاري نهضوي عربي»[(5)]. تشكلت لجنة تحضيرية اجتمعت في القاهرة، كنت عضواً فيها، وكان فيها أستاذنا إسماعيل صبري عبد الله وكان فيها محمد عابد الجابري وفيها عبد الإله بلقزيز وآخرون[(6)]. ولم أحضر المؤتمر لظروف خاصة بي كما تذكر. وأعتقد أن هذا المؤتمر أنجز نقلة كيفية في الفكر العربي المعاصر نحو بلورة فكرة المشروع الحضاري: معناه ومكوّناته. ولكن بعد تفكير، تبيَّنْتُ أن المشروع الحضاري حلَّ محله الآن في أدبيات التنمية الحديثة مفهوم آخر هو الرؤية الاستراتيجية ( Strategic Vision ). التعريف المعتمد للرؤية الاستراتيجية هي صورة المجتمع الذي نريده بعد عشرين سنة من اليوم. سقف الاستشراف لا ينبغي أن يزيد عن عشرين سنة لاستحالة التنبُّؤ واليقين لأكثر من ذلك. لدينا هنا مشكلة هي من يضع الرؤية الاستراتيجية؟

لي مقالات في هذا الموضوع قلت فيها إن الرؤية الاستراتيجية لا ينبغي أن تنفرد بوضعها النخب السياسية الحاكمة، لأنها ستعبر شاءت أو لم تشأ عن مصالحها الطبقية وعن وجودها السياسي، وأن الرؤى الاستراتيجية لا ينبغي أن ينفرد بوضعها مجموعة من المفكرين الذين من الممكن أن ينجرفوا إلى عالم مثالي طوباوي يقوم على الينبغيات ولا يقوم على الوقائع. في رأيي أن الرؤية الاستراتيجية في صياغتها ينبغي أن تتمثل في ما أسميه العملية المجتمعية، تشارك فيها النخب السياسية الحاكمة، ويشارك فيها المفكرون والمثقفون ورجال الإعلام وطبقات الشعب العادية من خلال مؤسسات المجتمع المدني. ما الذي يدفع النخب السياسية الحاكمة إلى أن تصوغ رؤية استراتيجية جديدة؟ نوعان من العوامل: الضغوط الداخلية، وتمردات الشعوب وثورتها على الأوضاع السلبية، ورغبتها في التغيير والكفاح ضد الشمولية والسلطوية من ناحية، ثم الضغوط الخارجية التي انطلقت بعد 11 أيلول وتزايدت أكثر من ناحية أخرى. وبالتالي أصبحت النخب السياسية العربية في موقع الحاجة إلى صياغة رؤية استراتيجية جديدة. النخب السياسية العربية تتلكأ وترفع شعار الممانعة، أو شعار أهمية التدرج الذي يمكن أن يأخذ 50 عاماً. إنها اليوم تتفاوض مع نفسها: تتخلى أم لا تتخلى؟ وحين نقول السلطة، فمعناها النفوذ والثروة. والشعار الذي تتخفى وراءه النخب السياسية الحاكمة هو الخصوصية الثقافية، ورفض تدخل الأجنبي بزعم الدفاع عن الخصوصية، مع أن هذه الخصوصية الثقافية فكرة غامضة وغير معرَّفة تعريفاً دقيقاً، وكأنها جوهر بالمعنى الفلسفي للكلمة: ميتافيزيقي، استُخلص منذ قرون وينبغي الحفاظ عليه حتى لا يتغير. هذه فكرة ميتافيزيقية، الخصوصية الثقافية تتغير وتتبدل، هنا جدل بين الداخل وبين الخارج، بين الأنا والآخر.

إذاً في الوقت الراهن هناك ضغوط على النخب السياسية العربية كي تتغير وكي تصوغ رؤى استراتيجية جديدة. وكان هناك أمل في الحقيقة قبل اجتياح العراق للكويت. كانت النظم تتكلم عن المتغيرات العالمية الجديدة، وتطلب أبحاث المثقفين. وأذكر أن دولاً عربية كالكويت وكالسعودية عقدت ندوات وطلبت منا أبحاثاً ودراسات استراتيجية. وهذا يعني أنه كان هناك إحساس بأن العالم يتغير.

 

 هل هو طلب على المعرفة أو محاولة لاستيعاب المثقفين؟

يسين : لا، أحسوا أن العالم تغير ويتغير، فطلبوا المعرفة ونحن بدورنا ساعدناهم وكتبنا وقدمنا لهم أبحاثاً. إذاً النخب السياسية العربية الحاكمة في الوقت الراهن لديها استعداد لتقبل رؤى استراتيجية جديدة للمجتمع العربي وهذه نقطة إيجابية. ثانياً، يشعر المفكرون والمثقفون بأن العالم يتغير. وهم أيضاً في بلبلة فكرية، وقدموا حلولاً جزئية. لو ذهبت بعيداً مع هؤلاء، فستجد أن لا أحد لديه أيّ حلٍّ متكامل. لماذا؟ إما نتيجة الكسل العقلي وعدم المتابعة الفكرية، حيث لا يوجد تراكم معرفي؛ وإما بسبب العجز عن فهم متغيرات النظام العالمي، والارتداد إلى مقولات قديمة وشعارات قديمة.

يحتاج الأمر، إذن، إلى منهج تكاملي لقراءة دقيقة للنظام الدولي والمتغيرات. من يقرأ النظام الدولي سيعرف التالي: المعركة القادمة في 30 أو 40 سنة المقبلة معركة بين عالم أحادي القطبية، وعالم متعدد الأقطاب. من يقود المعركة؟ أمريكا تريد أن تسيطر على العالم كله. ومن يقود معركة متعددة الأقطاب؟ الصين؟ لقد اطلعت على الفكر الاستراتيجي الصيني، ورأيت نتائج دراسات 30 مركزاً استراتيجيّاً صينيّاً. لديهم نظرية متكاملة لعالم متعدد الأقطاب، وأدوار الدول الكبرى والدول المتوسطة والصغرى فيه. حتى مصر والبرازيل والهند لها دور في هذه الرؤية الصينية.

 

 والصينيون ليسوا مستعجلين على ما يبدو.

يسين : لا، يعرفون الإيقاع، هم عباقرة في الإيقاع التاريخي والزمني. الصيني يحضِّر نفسه بهدوء، لكي يصعد صعوداً ناجحاً. ثمة حاجة، إذن، لمثل هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة لعالم اليوم. ويحمد لمركز دراسات الوحدة العربية أنه التفت مبكراً إلى «استشراف مستقبل الوطن العربي». وهو عنوان المشروع الذي أطلقه المركز، وأشرف على التقرير النهائي فيه الدكتور خير الدين حسيب[(7)]. إنما هذا يعتبر مشروعاً تاريخيّاً، بمعنى أن الأحداث تجاوزته، حتى السيناريوهات فيه كانت متأثرة بالفكر القومي. سأضرب مثلين لمشروعين يقدمان الرؤية الاستراتيجية. مشروع مصري اسمه «مصر 2020» أطلقه أستاذنا إسماعيل صبري عبد الله في «منتدى العالم الثالث»؛ كاد أن ينتهي وخرج منه مجموعة من الدراسات الجزئية، لكن للأسف لم تخرج منه بعد الحصيلة النهائية. وهذه آفتنا، ننصرف إلى المشاريع الجزئية وبعد مرور عامين نقول لا يوجد لدينا تمويل لاستكماله! فهناك مشكلة في بنية المشروع. الأخطر من ذلك هناك مشروع إسرائيلي «إسرائيل 2020» قام مركز دراسات الوحدة العربية بترجمته في ستة أجزاء ـ وهو أمر محمود ـ ويقدم صورة كيف تتصور إسرائيل نفسها في العام 2020[(8)]. وهذا يعزز ذهابي إلى القول بأفضلية هذا المفهوم على مفهوم المشروع الحضاري الذي يتناول فترة من الزمن أطول بكثير، فضلاً عما فيه من نزعات طوباوية. الاستراتيجية مفهوم إجرائي وأكثر عملية لو طُبِّقَ تطبيقاً دقيقاً.

 

 هل تعتقد أن المثقف العربي قد فرَّط في أكاديميته أو ساوم عليها تحت عنوان الالتزام: الالتزام السياسي والاجتماعي؟ لدينا أجيال من المثقفين العضويين الذين ارتبطوا بمشاريع سياسية.. وحركات سياسية، وسخروا معارفهم للممارسة على حساب تراكم المعرفة وتقدُّمها.

يسين : لا، التعارض ليس بين الأكاديمية وبين الالتزام، التعارض بين الاستقلال الفكري والالتزام، وهناك فرق بين الأمرين. هل يمكنك أن تكون مستقلاً فكرياً وأنت ملتزم بأيديولوجيا؟ هذا سؤال خطير، وكل من دخل في حزب سياسي ـ أيَّاً كان لونه ـ يعرف هذه المصيبة وهذه الكارثة. كيف يستطيع المفكر والمثقف أن يحافظ على استقلاله الفكري وهو ملتزم التزاماً حزبيّاً؟

 

 أن يحافظ على سلطان الثقافة وهو في حضرة السياسة!

يسين : هذه مشكلة. وطبعاً المثقفون أنماط شتى. أذكر أننا تناقشنا مرة في عمَّان حول موضوع المثقف والسلطة، وأنا أفتتح المؤتمر الاستراتيجي العربي القومي هناك، وكان الأمير الحسن بن طلال ضمن الموجودين. وقلت إن المقولة الذائعة عن تجسير العلاقة بين المثقف والسلطة مقولة باطلة.

 

 وصاحبها هو الأمين العام لمنتدى الفكر العربي قبلك.

يسين : نعم، وقلت التالي: يظن الناس أن السلطة بلا مثقفين، وأن المثقفين بلا سلطة، وليس هذا صحيحاً. فهناك مثقفون في السلطة، وأنا مهمتي، كمثقف نقدي، أن أكشف وأحلل خطاباتهم وكيف يبررون للسلطة، وهنا يفقد المثقف الأكاديمي استقلاله الفكري، ويصبح تابعاً للسلطة ومبرراً لسياساتها. وهناك مثقفون يملكون سلطة فكرية وأثروا في المشاريع السياسية خلال 200 سنة من تاريخنا: من الطهطاوي إلى زكي نجيب محمود وإسماعيل صبري عبد الله. طبعاً هم لا يمتلكون أدوات السلطة التقليدية.

 

 لكن المعرفة سلطة في حدّ ذاتها.

يسين : نعم، المعرفة سلطة، وهذا ما عنيتُه حين قلت إن لها تأثيراً في السياسة. النقد هو السلطة بذاتها، وهو يهزم بعض السلطات أحياناً ويذهب بها إلى حتفها. لديَّ تفاؤل بأن هناك مناخاً ثقافياً عربياً عامّاً يدعو إلى التغيير. طبعاً، ما زال هناك قمع، والأنظمة برعت فيه مستفيدة من تقدم التكنولوجيا. لكني على يقين من أن القمع لا يستطيع أن يستمر إلى الأبد، كما لا يمكن للهيمنة الأمريكية أن تستمر إلى الأبد كما يظن بعض المهووسين الأمريكان. فهذا أمرٌ مستحيل. لأنه ضد منطق التاريخ. لنتذكر أن الصين صاعدة، وبالتالي فهناك مناخ تلوح فيه احتمالات التغيير والتجديد. يبقى أن على المثقفين أن يرسموا الطريق، وأن يقننوا المنهج، وأن يمارسوا هذا المنهج الجدلي في محاولةٍ للربط بين عناصر مختلفة ما كان يُظَنُّ من قبل أنه يمكن التأليف ما بينها.

 

 هل نشهد في العقود الثلاثة نهاية ما يمكننا أن نسميه بالمثقف الموسوعي؟ في القرن العشرين مثلاً، لدينا ـ عربياً ـ أسماء وعلامات كبيرة مثل: طه حسين، عبد الرحمن البدوي، قسطنطين زريق، عبد الله العروي، إدوارد سعيد… إلخ. أي نماذج من المثقف الموسوعي الذي يقف على مفترق طرق معرفية حيث تصب روافد علمية واختصاصات مختلفة: من التاريخ إلى الفلسفة إلى الأدب إلى علم الاجتماع. الأمر نفسه في أوروبا والغرب. ما عُدْنا نشهد ميلاد أسماء موسوعية مثل جان بول سارتر، أو لوي ألتوسير، أو ميشيل فوكو، أو جِيل دولوز، أو يورغان هابرماس، أو نعوم شومسكي… إلخ. هل ظاهرة تراجع المثقف الموسوعي ظاهرة أكاديمية صرف؟ بمعنى هل في صميم منطق المعرفة، وفي صميم منطق الأكاديمية، أن تَسْقُط الشمولية المعرفية مع الزمن، أم أن ثمة أسباباً أخرى ليست لها صلة بالتراكم الثقافي والتراكم المعرفي؟

يسين : هذه إشكالية جديرة بالتفكير والبحث. ولكن، دعني أقول إن الموسوعية الثقافية كان لها إيجابيات قليلة وسلبيات خطيرة. من إيجابياتها النظرة الشاملة إلى الأشياء والترابط بينها. المثقف العربي الموسوعي كان يعاني من ضعف خطير: لم يكن متخصصاً تخصصاً دقيقاً، وبالتالي حين كان يتناول بعض المسائل كان يتناولها بطريقة سطحية، بالرغم عنه، إن كان في علم النفس أو الاقتصاد أو الانثروبولوجيا أو القانون. من إيجابيات ما حدث في الوطن العربي ظهور التخصص في العلم الاجتماعي. لا شك في أن هناك علماء اقتصاد وعلماء سياسة وعلماء علاقات دولية، وعلماء في الثقافة وعلماء في الأنثروبولوجيا ظهروا في مناخ التخصص. ولقد حصل إنتاج متعدد فيه إيجابيات وفيه سلبيات. خذ مثلاً إنتاج مركز دراسات الوحدة العربية عبر 30 سنة، ستجد فيه فوائد التخصص: باحث متخصص في الاقتصاد يكتب عن اقتصاد النفط بمعرفة دقيقة، وآخر يكتب ـ من موقع علم السياسة ـ عن النظام الإقليمي العربي وعن النظام الدولي، كلاماً دقيقاً. لم يكن التخصص قد ظهر في بلادنا، ولا حتى في العالم عندما ذهبتُ إلى فرنسا في العام 1963 للدراسة، ولم يكن هناك مرجع في مناهج البحث، كلها كانت مراجع أمريكية منقولة. كان التخلف في كل شيء: في العلوم الاجتماعية، في علم السياسة، في العلاقات الدولية…، ما عدا الفلسفة.

وحين أرادت فرنسا أن تنشئ مركزاً حديثاً، تركت جانباً مركز البحوث السياسية القديم ـ على طريقتها في تجديد المؤسسات ـ وتركوا السوربون إلى: مدرسة الدراسات العليا (L’Ecole des hautes إtudes) حيث كل المتمردين يدخلون إليها. وعندما جاء بروديل، كُلِّفَ بإنجاز مؤسسة علمية تتعلق بالتكامل في المنهج، وهي «بيت الإنسان» (La Maison de l’homme) . وهذا كان إنجاز بروديل الحقيقي. إذاً فالتخصص مهم جداً والموسوعية كان لها دورٌ تاريخيٌّ. أما الآن، فتجاوزنا الموسوعية. شعار العولمة، يقول: فكر بطريقة كونية وفكّر بشكل محلي. ما نريده الآن ليس موسوعية ولا تخصصاً، نريد أن نعبر الثنائية هذه كما عبرنا الثنائيات في القرن العشرين. مشكلتنا كيف يتسلح المثقف العربي بنظرة كونية. لأن النظرة الكونية ستُحدث تركيباً ( Synthةse ) بين التخصص والموسوعية. بمعنى أنه لا بد للمثقف العربي أن يقرأ في تخصصات مختلفة. لم يعد هنالك فروق بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، لأن الظواهر نفسها أصبحت متداخلة.

خذ مثلاً الإرهاب، توجد أسباب سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية ونفسية لهذه الظاهرة، وبالتالي فإن الذي يتناولها يجب أن يعرف في علم النفس، والاقتصاد، والعلاقات الدولية.

 

 ظاهرة مركبة تحتاج إلى عقل تركيبي.

يسين : نعم، فأنت محتاج إلى عقل تركيبي لكي تتكلم عن ظاهرة الإرهاب أو الفكر المتطرف. إن الطموح هو أن ينشأ نسق كوني من القيم يَحْكُمُ سلوك الشعوب والمؤسسات. هذه الثقافة الكونية تحتاج إلى مثقفين كونيين، التحدي أمام المثقف العربي في حوار الحضارات هو ما أسميه اكتساب الكفاية المعرفية.

البعض يقول طالما لا يوجد نِدِّيَّة بيننا وبينهم لا ينفع الحديث عن حوار الحضارات. هذا غير صحيح. استحالة أن يكون هناك تكافؤ بين أطراف الحوار في الثروة والاقتصاد والتقنية تحصيل حاصل. فلا مجال هنا للحديث عن تكافؤ بين مصر واليابان، أو العرب وأمريكا. أما الذي ليس مستحيلاً، فهو التكافؤ المعرفي. المسألة الثانية أن نعرف كما قلت من قبل مصادر التفكير الجماعي. انتهى عهد المثقف والمفكر المنعزل الذي يؤلف كتاباً ويصدره.

 

 انتهى عهد المثقف الحِرَفِيّ تَقْصِد.

يسين : نعم، انتهى. لدينا تجربة اليونسكو. نظمت من حوالى عشر سنوات مؤتمراً علمياً، أشرف عليه رئيس وحدة الدراسات المستقبلية فيها جيروم بانديه، «حوارات القرن الحادي والعشرين»، وطُبع في كتاب. ركز المؤتمر على الإشكاليات المعرفية التي ستواجه القرن الحادي والعشرين. مصنع جماعي ثاني اسمه «المشروع الألفي» في جامعة الأمم المتحدة في اليابان أنتج تقريراً اسمه «حالة المستقبل»، ونحن في مركز الدراسات المستقبلية بجامعة القاهرة شاركنا في إنتاج هذا التقرير. حُدِّدَت 15 مشكلة ستواجه القرن الحادي والعشرين منها: الفجوة بين الموارد والسكان، الحاجة إلى قيم أخلاقية تحكم سلوك الأسواق، هل يمكن أن تنبثق الديمقراطية من التسلطية أم لا؟ ظهور أمراض جديدة مثل جنون البقر إلخ… والتقرير هذا موجود على الإنترنت. مهمة المثقف العربي أن يشارك في حل المشكلات الإنسانية في حوار الحضارات، في عصر يسمى عصر عولمة المشكلات الإنسانية. فليست هناك مسافة كبيرة بين المحلي والخارجي. الفقر مشكلة محلية وعالمية، وزيادة السكان مشكلة محلية وعالمية، والتلوث كذلك، وهكذا. ولذلك، لا مناص من مقاربة تنحو نحو الكونية لفهم ما يجري في العالم.

لم تعرف المجتمعات المختلفة فترات أمن وسلامة إلا بفضل تمتين جسر التواصل الثقافي وإرساء قيمة التسامح بين الثقافات. ذلك من شواهد التاريخ، ولا معوّل سواه في مسيرة المستقبل.

معرفةُ الآخر معرفةَ تنميطٍ وتحريف واختزال ـ على ما تفرّخ عنها من أيديولوجية عنصرية ومن نظرة تحقير واستنقاص ـ أصبحت ذريعةً مبررة لسياسات الإقصاء والتهجير، ومبعثاً شرعياً لشن الحروب وغزو الأوطان وتقتيل الأبرياء.

.. نعلم من حصيلة الحروب التي سمح بها حق التدخل في شؤوننا الوطنية طوال العقود الأخيرة أن الأنظمة الغربية المنفردة اليوم بتسيير شؤون البشرية لا تسير بنا في الطريق القويم المؤدية إلى التصالح بين بني الإنسان.

إن مركزية نظرة الإنسان الأمريكي إلى ذاته في رسالته التبشيرية وفي منزلته الكونية لا يمكن أن تجود بنصيب من التقدير للإنسان الآخر. إن هذه المركزية الفكرية تقوم على عقيدة إقصائية لا مكان فيها للاختلاف والتعدّد.

إن الحداثة بالمفهوم الغربي أساسها الإقصاء الثقافي والانفراد بالمجد، ووسيلتها الاجتماعية الحوار الإملائي الإستعلائي بين الأنا والآخر، أو بالأحرى بين الأنا والآخرين، ومن بقي منهم ونجا من الطوفان الحضاري!